حين يهتدي المجتمع المدني إلى أنوثته

 

بطرس الحلاق

كل ما لا يُؤنَّث لا يُعوَّل عليه.
ابن عربي

قول عريق، يبقى على قدمه حديثًا في كل عصر، يتجلى الآن في الحراك المدني العربي، بينما يزول ما نلوكه من قصائد مدح وهجاء وفخر، هي زبدة ما تعلَّمناه في مناهجنا الدراسية.

انبهر جيلنا بجميلة بوحيرد، المناضلة الجزائرية الشهيرة، كما سكرت أجيال لاحقة بسناء محيدلي وغيرها من شهداء المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. افتخرنا ببطولة فتيات من قومنا جديرات بكل الإعجاب، دون أن يبدل ذلك من نظرتنا إلى المرأة. وكأننا أُعجبنا فيهن بميزة ذكورية على الإطلاق: الرجولة، وقد أقول الفحولة. إنهن "أخوات رجال"، كما يقول مثلنا الشعبي، لم يعدم تاريخنا من أمثالهن. نساء "أخوات رجال"، فالرجولة في حرز أمين ما دامت تُسند إلى الذكر. أما الأنوثة فبقيت مرادفة للنسل والمتعة و"الوطأ" ولمساندة الرجل (لا عظيم إلا ووراءه امرأة، تغنينا إثباتًا لتقدميتنا)، وحتى لممارسة سلطة فعلية لا ضير فيها ما دامت خفية صاغرة. ولا يغير في الأمر شيئًا إعلاؤنا لبعض أعلامنا النسوية البارزة منذ عصر النهضة، ولا مشاركة قطاع من خريجات الجامعات في الحقل العام وفي النضال السياسي، ولا بالتأكيد صور تملأ التلفزات والمجلات لزوجات ملوك ورؤساء دول ترفع شعارًا على حداثة المرأة العربية بينما هي في الواقع غشاء لتزوير القمع والاستبداد، من جيهان السادات إلى آخر دمية تتناقلها الوكالات العالمية لتغييب الواقع النسائي.

وتنبَّهنا، ذات يوم شتائي من ربيعنا العربي، وإذا بالفتيات وبعدهن النساء يملأن الشارع، يزاحمن الفتيان والرجال، يفرضن الأنوثة ندًا للرجولة، لا رديفة لها ولا طلائع "ثورية" ولا بطولات فردية. اندفقت الأنوثة وانداح عطرها المحبوس دهورًا، فتفتق الوجه الآخر من المجتمع المدني. أنوثة بحقيقتها الكاملة، لا طليعة تغيب أغلبية النساء ولا "جنسًا لطيفًا" ولا نعومة وإغراء ودغدغات و... و... انفجرت أنوثة بلباس عصري في تونس حيث الفتيات تتصدرن المظاهرات أحيانًا أو تغنين ألحانًا مبتكرة بصوتهن وأجسادهن الفائرة. أنوثة بلباس "محتشم" في القاهرة تنادي بالحرية وتستنهض المواطنين دفاعًا عن كرامتهم. أنوثة محجبة في اليمن تهدر للثورة: سيل من المحجبات والمنقبات لا يبدو منهن طرف ولا بقعة من جسد ولا حتى خصلة شعر، ومع ذلك تنفر أنوثتهن من عينين جمرتين ومن قبضة مرفوعة تندد بالظلم وتفجر ينابيع الحرية. ومهما كان الشكل واللباس، تحتل الأنوثة الحيز العام، وربما لأول مرة في تاريخنا. صحيح أن حضورها كان أمرًا واقعًا، ولكنه اقتصر على الحيز الخاص العائلي الحميم، وإن تمدد في بعض المجامع وفي بعض الظروف الاستثنائية فظهر إلى العلن (حالات المقاومة في لبنان أو فلسطين) ففي خفر كبير وفي مساحات محدودة. أما الآن فتنزل الأنوثة إلى الساحة، تحتل الميدان. بذا تهشم المخيلة التقليدية بقيمها وأخلاقيتها، تحرر الرجل – والمرأة أيضًا – من السدود التي فرضها على المرأة وعلى نفسه بنظرته المحددة بالجنس كمعيار ثابت. وها الأنوثة شيء آخر، لها مذاق آخر. وها الرجل يزدهي بها على خفر، كما لو كان، في لاوعيه، يشتهيها هكذا، فلا يطاوعه وعيه ولا رجولته، ولا هي تستجيب له. وها هي الآن منتصبة أمامه، تفرض وجودها وتكمل وجوده.

جميلة أنت، أيتها المرأة، مهما كان حظ قامتك وملامح وجهك وتضاريس جسدك من الجمال؛ نعم، مهما استترت بأطباق من القماش أو تعرَّيت! أشادت أغانينا العاطفية بجمالك وبنار تلفحينا بها، فيما نحن لا نراك، وحين ننظر إليك نحلم بصورة عنك تعوضنا عن واقعك لنبقى في وهمنا الجميل خارج أنفسنا. حلمنا بك لأننا لا نعيشك. انشطرت حياتنا بين الواقع والوهم. فلم نجد أنفسنا، حين لم نجدك. بقينا مجتزئين في إنسانيتنا نبحث عن جزئنا الآخر، الذي كثيرًا ما نعوض عنه بشهوة السلطة والمال والجنس الرخيص، أو بتهويمات رومانسية كثيرًا ما تقارب العُصاب. مع أنك هنا، أُمًّا منك ولدنا، وزوجةً بك نبني وبك ننبني، ومعك نعيش أختًا أو زميلة أو رفيقة درب قصير أو طويل.

هل يقع المتصوف الآخر جلال الدين الرومي فريسة المثالية إذ يقول: "المرأة صورة الله على الأرض"؟ لا أفهم قوله بمعنى أنك صورة عن المطلق، بل بمعنى أن الرجل المعتد برجولته، حين يخرج عن اكتفائه الذاتي ليعي البعد الإنساني الذي تمثلينه، يحفر في ذاته شعورًا بفجوة وجودية ونزوعًا غير محدود إلى الاكتمال، هما حركية صيرورته ودفقة حيوية تنعشه. فهو لا يكتمل، لا يهتدي إلى ذاته، أي لا يتألَّه، إلا بك. والعكس صحيح: فهو أيضًا صورة الله، هو غدك كما أنت غده. إن كان في الوجود معجزة، خارج نطاق الإيمان، ففي هذا التكامل. أنتِ مآلي وآفاقي وصيرورتي ومحركي بقدر ما أنا كذلك بالنسبة إليك. وإن لم أجدك، لن أجد نفسي – في حالة الزواج كما في حالة حياة العفة الطوعية. وبهذا المعنى، وبعيدًا عن أية مثالية رومانسية، أفهم أيضا قول شاعرنا أنسي الحاج في إحدى خواتمه: "أجمل ما في الرجل المرأة!".

من معجزات ربيعنا العربي أنه أجلى لنا وجه الأنوثة. تجلَّت لنا الأنوثة في ساعة سعد، تجلِّيًا يرهص بمستقبل جديد مهما كثرت العثرات. ويبشر بوجه آخر للرجولة. ألا ترى معي، يا صديقي، أيًا كانت رؤيتك للمرأة، أن الشاب أيضًا في هذا الربيع العربي ازدهى بشيء من الأنوثة؟ لم يتخنَّث، لا ولم يفقد رجولته. بل اكتشف البعد الأنثوي فيه، فاكتملت به رجولته. كما أن الفتاة لم تسترجل، لا ولم تفقد سرَّ أنوثتها. بل عبرت عن البعد الذكوري فيها، الذي به تكتمل أنوثتها. "يا أختي العروس" يتغنى الحبيب في نشيد الأناشيد. "تعال يا من ولدته أمي"، تجيبه الحبيبة. صنوان ندان متشابهان مختلفان، يكتملان بالتشابه المختلف. جعلتِني أكثر ذكورة حين جعلتني أكتشف بعدي الأنثوي.

-       قالت: "وماذا فيَّ من الحسن؟".

-       قلت: "تسعينني حتى ما تساورني خارجك رغبة".

-       قالت: "ولذا أحببتني؟".

-       قلت: "إنني شغفت بك".

-       قالت: "وما شغفك؟".

-       قلت: "أترحَّل فيك".

-       قالت: "وراء الشوق؟".

-       قلت: "وراء العماء".

-       قالت: "وأنا النعمة لبطنك، وصدرك، ويديك، وشفتيك؟".

-       قلت: "اشتبه عليَّ الإثنان".

-       قالت: "أحببني لينفصل جوهري عن جوهرك".

-       قلت: "أنت عالم لا تتأجج له في الوجدان عاطفة واحدة".

-       قالت: "وما شأنك؟".

-       قلت: "أترحَّل فيك". (من قصة رجوع الشيخ... لعبد الحكيم قاسم).

وبعد هذا الزلزال الجميل، هل نعود، إذ تستقر أمورنا ونبني مؤسساتنا الجديدة، إلى تساؤل حول حكم المرأة في المجتمع ودروها وحقوقها؟ وهل نعود بعد قرن مضى على قاسم أمين وجبران، وبعد قرن ونصف على خطبة في تحرير المرأة لبطرس البستاني، إلى الحديث عن "تحرير المرأة"؟ لا، انقضى عصر تحرير المرأة وأتى عصر التحرُّر: تحرُّر المرأة ذاتيًا لا بنعمة يسبغها الرجل المنفتح، وتحرُّر الرجل من فحولته ومن وهمه بأنه هو القادر على تحرير المرأة. وهل نرضى، مهما كانت الذرائع، بالعودة إلى نقاش فلسفي عن العلمانية ووجوهها، أو فقهي-لاهوتي عن الصيغ المناسبة للمساواة بين المرأة والرجل؟ حراك الشبيبة يدعونا إلى موقف صريح فج لا لبس فيه، يقول بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، بدون تسويغ أو تبرير أو وأوأة فلسفية أو دينية. قول مطلق: الرجل والمرأة متساويان. شأنه شأن ذلك القول المطلق، الذي جعل من الثورة الفرنسية رمزًا إنسانيًا شاملاً (بخلاف أكثر من ثورة ديمقراطية سبقتها، مثل الثورتين الانكليزية والأميريكية)، قول جهر به الإنسان لأول مرة في تاريخ البشرية: "يولد البشر أحرارًا ومتساوين"، بدون شروط ولا سياق ولا تأويل. ولنا أن نصرِّح: المرأة والرجل متساويان على الإطلاق. تنتصر ثورة المجتمع المدني في هذا التصريح غير المشروط. وعلى السياسيين العقلاء منا، بعد ذلك، أن يتدبروا بحكمتهم الصيغ التطبيقية المرحلية التي يجب أن يعتمدوها لكي يسري هذا القانون بدون عنف وبالتدرب على طعم الحرية.

أجل، "كل ما لا يُؤنَّث لا يُعوَّل عليه".

*** *** ***

السفير

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود