|
حول إمكان السعادة في عالم بلا ممكنات
لقد أصبحت قيمة السعادة تشكِّل يومًا بعد يوم موضوعًا يكتسي أهمية خاصة بالنسبة للإنسان المعاصر، الذي بدأ بالفعل يشكِّك فيما تقدمه له الحضارة من أشياء تدعي أنها السبيل الوحيد لتحصيل السعادة، وهذه الأشياء بالخصوص هي مجموع المعدات التي تسهل حياته وتخلق له نوعًا من الراحة والرفاهية مثل التلفاز، المحمول، السيارة... وهذا هو ما يمكن تسميته بالسعادة المدجنة، بالإضافة إلى الأكل والملبس وكل ما له علاقة بالحياة الرغدة، وكلها أمور أصبحت الحضارة المعاصرة تتفنن في توفيرها للجميع وبثمن قد يكون في متناول أغلب الناس. - فهل السعادة المرتبطة بالمظاهر المادية والعدد التقنية من شأنها أن تمثل بالنسبة للإنسان سعادة حقيقية؟ - هل تكمن السعادة فقط في إرضاء الجانب المادي أم أن هناك جوانب أخرى ينبغي استحضارها حتى تكتمل سعادة الإنسان؟ - كيف يستقيم القول في السعادة وهي من الكمالات في عالم كثرت فيه المآسي والأحزان والكوارث وأصبح فيه الإنسان تائهًا حيرانًا كالطفل الضائع كما وصفه بودلير؟ حكاية قميص السعادة هناك حكاية تروى في الأوساط الشعبية تقول بأن ملكًا أصابه مرض غريب جعله لا يعرف النوم ولا الراحة مهمومًا بئيسًا، فاستشار أطباءه الذي وصفوا له الأدوية والعلاجات المتنوعة ولكن دون أن يتمكنوا من شفائه، فبدأت صحة الملك تتدهور وفقد شهيته ورغبته في الحياة، وبدأ ينزوي وينطوي على نفسه وكأنه يستسلم لمرضه، وفجأة جاءه أحد الحكماء المقربين من حاشيته بنصيحة تماثل في غرابتها غرابة مرضه، إذ قال له: أيها الملك الجليل إن مرضك لا يمكن أن تشفى منه بالأدوية التقليدية التي يصفها لك أطباؤك، بل إن شفاءك يمس الجانب النفسي منك، لذلك لابد أن تقوم بعلاجه بطريقة مغايرة، ابحت عن رجل سعيد في مملكتك واطلب منه أن يمنحك قميصه ثم ارتديه لمدة من الزمان وبعد ذلك سوف تشفى منه بإذن الله تعالى. فانطلق الملك يجوب مملكته باحثًا عن هذا الرجل السعيد ولكنه كلما سأل شخصًا إلا وأجابه: أنا يا مولاي سعيد ولكن ليس إلى الدرجة التي تطلبها، إذ لي مشاكل تتعلق بالأطفال أو المال أو ما إلى ذلك من أمور الحياة. وظل الملك يبحث ويبحث، ويسأل رجلاً بعد آخر ولكنه لا يسمع إلا مثل هذا الجواب حتى ظنَّ أنه لن يعثر على مثل هذا الرجل السعيد فقفل عائدًا إلى قصره وقد أعياه البحث وسيطر عليه اليأس، غير أن ذلك الحكيم أشار عليه بنصيحة أخرى قائلاً: أيها الملك الجليل ثمة رجلاً يسكن في ذلك الجبل البعيد وهو رجل سعيد ولا شك وسوف لن يبخل عليك بقميصه. فانطلق الملك مرة أخرى إلى الجبل تساعده حاشيته حتى وصل إلى ذلك الرجل فوجده شيخًا طاعنًا في السن يسكن كوخًا متواضعًا ويقوم بحراثة قطعة من الأرض. فحكى له الملك قصته وطلب منه قميصه كما أوصى بذلك الحكيم. فقال الرجل: أيها الملك الجليل أنا بالفعل رجل سعيد، حياتي كلها بهاء وصفاء وغبطة وسناء، ولكنني كما ترى لا أملك قميصًا يليق بمقامك أمنحه لك، لأن كل ما أملكه هو هذا الكوخ وهذه الأسمال البالية فلو أردتها وقبلتها مني فهي لك. فهم الملك ما قصده الحكيم بعلاجه هذا، وهو أن السعادة لا تتعلق بالحياة الرغدة والخدم والحشم، فهذا الرجل المسن سعيد ولكنه مع ذلك لا يملك حتى قميصًا كاملاً يضعه فوق ظهره. ومعناه أيضًا أن هذا الضيق والقنوط الذي يعاني منه الملك سببه أنه لم يعد يشعر بحافز داخلي يدفعه إلى الحياة، وأنه استكن على حياة الكسل وقلة الحركة مما يسبب له هذا الاكتئاب. إن حكاية "قميص السعادة" هذه تنطبق بشكل كبير على وضعية الإنسان المعاصر الذي غرق في هذا الترف القاتل الذي تمنحه السعادة البيتية، وأصبح يعتقد أن السعادة تكمن فقط في الجانب المادي متناسيًا الجوانب الأخرى الفكرية والروحية والجمالية. لا تقوم السعادة إذن في غياب معاناة الحياة، إذ أن مثل هذه السعادة المطلقة ليست إلا جوهرًا ميتافيزيقيًا ينتمي إلى نظام المعرفة أكثر مما ينتمي إلى عالم المعيش. أو بطريقة أخرى ستكون السعادة المطلقة مقولة من مقولات الذهن وليست مقامًا من مقامات الوجود، لذلك فإن السعادة تكمن في امتلاك المرء من الزاد المعرفي ومن الثقافة ما يمكنه من تقبل ضربات الواقع وإيجاد التبريرات الملائمة لما ينغص عليه حياته. السعادة كامتلاء بالرغبات عادة ما نعتبر أن الإنسان كائن عاقل، أي كائن يتحكم فيه بالأساس العقل والمنطق سواء في تفكيره أو في سلوكه، ولكن الإنسان مع ذلك يمتلك طبيعة مزدوجة لأنه في نفس الوقت لديه ميول تجعله يتجاوز الحدود التي يفرضها عليه العقل والمنطق. هذه الميول تدفعه إلى معانقة الممكن ضد ما هو واقعي، والتحليق في الخيال مقابل ما يفرضه المحسوس، والاندفاع إلى رحابة المستقبل رغم ضيق مساحة اللحظة. السعادة إذًا هي هذا الإحساس بالامتلاء الروحي والوجداني الذي يمنحنا حب ما نريد أن نفعله. هناك فرق أساسي كما هو معلوم بين الرغبة والحاجة، فالحاجة لها علاقة بالجانب المادي من الإنسان، أي أنها تشبع الجهاز الفيزيولوجي بالأساس، الحاجة إلى الطعام مثلاً. أما الرغبة فلها علاقة بالجانب النفسي: الرغبة في سماع الموسيقى. ثم إن الحاجة قابلة للإشباع بمجرد الوصول إلى موضوعها، فالحاجة إلى الطعام مثلاً تنتهي بمجرد الأكل، أما الرغبة فهي لامتناهية الإشباع، حتى وإن استمعت إلى الموسيقى فأنت تظل دائمًا في رغبة إلى المزيد منها، وحتى لو سافرت تظل دائمًا الرغبة في السفر قائمة لديك، وحتى لو طالعت الكتب تظل كذلك الرغبة في مطالعة المزيد من الكتب مستقرة فيك. أخيرًا تختلف الرغبة عن الحاجة في طريقة تفاعل الإنسان معهما، إذ الحاجة يمارسها الإنسان مرغمًا إما بدافع الضرورة البيولوجية: الحاجة إلى الطعام، أو بدافع الضرورة الاجتماعية: الشغل والحاجة إلى المال. أما الرغبة فيميل الإنسان إليها من تلقاء نفسه دون أن يشعر بأي ضغط خارجي عليه حتى وإن كان ما يفعله مرهق من الناحية الجسدية. أن تتحول الرغبة إلى حاجة فهذا هو ما يميز طبيعة حضارتنا. أصبح الإنسان يشبع ذاته من الناحية المادية ويهمل الجوانب النفسية والمعنوية، كما أنه يعيش حياته برمَّتها يمارس ما يقوم به مكرهًا عليه، لذلك نجده دائمًا ضجرًا متبرمًا يوزع شكواه ذات اليمين واليسار، يعوزه الإحساس بعمق الحياة ودفئها. إن الشعور بالفراغ الذي أصبح يميز شخصية الإنسان المعاصر مرده إذًا أن الناس تحولت الرغبات بالنسبة إليهم إلى مجرد حاجات، فالأسرة والعمل والمقهى أصبحت اليوم مقابر غير معلنة أو منافي اجتماعية، أحيانًا اختيارية وأحيانًا قسرية، يدفن فيها الإنسان نفسه وينسى ذاته حتى يتحول إلى كائن مستسلم منبطح. غير أن الإنسان كما يقال هو: "باقة من الرغبات" ولا يمكن أن يترك هذه الباقة تذبل أمام الرياح الجافة للواقع المعاصر. نحن نعيش حاليًا حضارة حاجات لا حضارة رغبات، وهو أمر يتضمن اختزالاً شديدًا للكائن البشري في قواه ومداركه الحية. السعادة إذًا هي امتلاء روحي عميق وشغف ورغبة دفينة بالحياة. إنها الأمل الذي نتشبث به حين نواجه الإحباط بثقة في المستقبل، ذلك أن الرغبة تجعلنا أحرارًا نسمو فوق ذواتنا ونتجاوز الحدود الضيقة التي وضعتنا فيها الطبيعة. السعادة وتعالي الذات يرى فرويد أن هدف الحياة هو بلوغ السعادة، وأن هذه الأخيرة تتحقق من خلال مبدأ اللذة، غير أن الواقع بكل قساوته يبدو أنه موجه ضدَّ هذا المبدأ، لا بل الكون برمَّته يظهر وكأنه ركب حتى لا يكون الإنسان سعيدًا. يقول: تساورنا الرغبة في القول أنه لم يدخل في خطة "الخلق" البتة أن يكون الإنسان سعيدًا[1]. ولكن رغم هذه النظرة التشاؤمية ألم يكن التحليل النفسي في مجمله نظرية موجهة من أجل السعي لتأسيس سعادة الفرد عن طريق الاهتمام بمسألة السمو والتعالي التي كان يسميها بالتسامي. السعادة إذًا هي تعالي الذات عن المادة، ولكن التعالي الذي لا يؤدي إلى المفارقة لأن الإنسان كيفما كان الحال لا يمكنه أن يستقل كلية عن المادة، لأنه لا يمكن أن يضمن لنفسه عيشًا كريمًا بدون المادة، ولكننا نقصد بالتعالي هنا التحكم في المادة حتى لا تنقلب ضدنا فنصبح عبيدًا لها مدمنين عليها. إن السعادة ستكون ضمن هذا السياق فن التوازنات، فن أن تكون سعيدًا، هذا الفن الذي رأى ألان أنه ينبغي تدريسه للأطفال[2]. ترتبط السعادة إذًا بضرورة السمو الفكري للإنسان، ونحن لا نقصد أن يكون المرء مطلعًا بعمق على مجموع الإشكالات المعرفية والعلمية لعصره، ولكننا نقصد أنه من الضروري أن يمتلك نوعًا من الرجاحة العقلية التي تجعله متماسكًا من الناحية الفكرية، وكما قال نيتشه: "إن صيغة سعادتي هي نعم، لا، خط مستقيم هدف"[3]. إن الأمر يتعلق إذًا بنوع من الوضوح في الموقف، فالرفض يعني الرفض والموافقة تدل كذلك على الموافقة، ولا يمكن للمرء أن يكون الإنسان حاسمًا في قبوله ورفضه، وواضحًا في المنهجية التي يضعها لحياته والهدف الذي يسعى إليه. إن الفكر هنا لا يعود مجرد نظريات وتصورات نحشو بها دماغنا، بل سلوكات وتصرفات تنعكس علينا وعلى طبيعة علاقتنا بالآخرين، بمعنى أن المعرفة تتحول هنا إلى فن للحياة. فالسعادة تقتضي أن يمتلك الإنسان ما يمكنه من تقبل إحباطات الحياة. بطريقة أخرى ليست السعادة أن يفكر الإنسان بمنطق في الحياة، ولكن أن يفكر في منطق الحياة، وأن تكون له القدرة على تفهم هذا المنطق. أليس لهذا السبب الكثير من المثقفين والمفكرين ليسوا سعداء في حياتهم بل إن العديد منهم انتهى نهاية مأساوية، ذلك أنهم كانوا يعيشون في فضاء خاص هو فضاء الأفكار التي صنعتها الكتب والمذاهب، وكان الأحرى بهم أن يدركوا أن السعادة تقتضي الانخراط في تيار الحياة. إن من المفارقات الغريبة التي يمكن أن نذكرها في هذا السياق أن ديل كارينجي صاحب الكتاب الشهير دع القلق وابدأ الحياة، وهو كتاب موضوعه الأساسي هو السعادة والصحة النفسية المؤدية إليها، قد أنهى حياته منتحرًا. لا بل يمكن أن نتحدث هنا عن اللائحة الطويلة للمنتحرين التي تضم كتَّابًا وفنانين ومشاهير لم تغنهم ثروتهم أو شهرتهم أو الأضواء المسلطة عليهم من السقوط في الاكتئاب والانهيار النفسي، نذكر منهم على سبيل الذكر فقط: فرجينيا وولف، خليل حاوي، مارلين مونرو، هيمنغواي، ومؤخرًا المغنية الإنجليزية الشهيرة إمي واينهاوس. ليست السعادة كذلك ذلك المطلق الذي ينتظرنا بعد نهاية مشوار طويل نقطعه من التعب والمعاناة، بل إنها مجمل النشاط الذي نقوم به في بحتنا عنها هنا والآن في هذه اللحظة، وهنا تكمن قوة الأبيقورية التي تنظر إلى السعادة كاكتمال في الحاضر وليس السقوط في حالة سلبية انتظارية. يكون الإنسان سعيدًا وهو يكافح من أجل مستقبل ابنائه، ويكون سعيدًا وهو يناضل من أجل مستقبل سياسي أفضل لبلده، ويكون سعيدًا أيضًا وهو يقاوم من أجل إثبات ذاته في المجتمع وانتزاع الاعتراف به... هكذا. فالسعادة تكمن في البحث عن السعادة، وفي تقبل معاناة السير نحوها. يختزل عصرنا السعادة في التمتع الحسي والمرح العابر والمتع المادية، وبالتالي فهو يصور لنا السعادة كما لو أنها الوصول إلى الحالات الخالية من الآلام والمعاناة، الحالات التي لا يسودها سوى الراحة والفراغ. والحال أنه ليست هناك سعادة دون ألم، فنحن لا نكتشف قيمة السعادة إلا حينما نختبر ما يتناقض معها، مثلاً لا نعرف قيمة الصحة إلا حينما نمرض، ولا نعرف قيمة المال إلا حينما يصيبنا العوز، كما أن الأم لا تعرف أيضًا قيمة الأبناء إلا عندما تكون مصابة بالعقم، وليس هذا دعوة إلى أن يبحث الإنسان عن الآلام والمتاعب وينغمس في ضنك العيش وهو يتغنى بالسعادة، بل معناه بكل بساطة أن يمتلك القدرة والإرادة على تخطي الصعاب، والسمو فوق العقبات. بعض الناس يؤسسون عوائق التخلف الذاتي لأنفسهم ولا ينتظرون من يسبب لهم ذلك. هم دائمًا متجهمين ساخطين ناقمين على الأوضاع، لا يرون أبدًا الجانب المشرق من الأشياء وكأنهم بذلك يريدون الظهور للآخرين بمظهر المثقف العارف ببواطن الأمور التي لا يستطيع العامة رؤيتها. مثل هؤلاء في نظر ألان هم أعداء أنفسهم، يقول: لا يوجد رجل لا يستطيع أن يجد في هذا العالم عدوًا أخطر منه غير ذاته هو[4]. بدل ذلك فليكن الإنسان دائمًا منشرحًا بشوشًا وليمتنع عن الحديث عن مآسيه ونشر غسيله أمام الآخرين. إن المرء بذلك يعتقد أنه يبحث عن تعاطف الآخرين معه، لكن هؤلاء في الحقيقة لا يزيدون إلا نفورًا منه حتى وإن أبدو ذلك التعاطف أمامه ضمن ما يصطلح عليه حاليًا بالنفاق الاجتماعي. ضمن هذا المنحى فإن السعداء هم من يبدون السعادة ويرسمون البسمة على وجوههم حتى وإن كانت الملمات تحيط بهم[5]. إن الاعتقاد بأن السعادة مطلق يسقطنا بالإضافة إلى ما سبق في موقف انتظاري، في حين أن السعادة كما الشقاء تصنعهما أشياء صغيرة وتفاصيل قد تكون أحيانًا تافهة في حياتنا اليومية. إن جلسة شاي حميمية مع أصدقاء الأمس بإمكانها أن تنسيك هموم الحياة، وكلمة مجاملة من زوجتك قد تمسح عنك تعب يومك، وابتسامة شكر من زبون خدمته بإخلاص من شأنها أن تزيل عنك شقاء الروتين اليومي لوظيفتك. والعكس صحيح أيضًا بعض الفروقات الصغيرة قد تعكر صفاء يومك بدءًا من محرك سيارتك المتهالك والذي لا يعمل إلا بمشقة، إلى الصديق الذي لا يحترم مواعيده معك، ومرورًا بالأبناء الذين لم يحصلوا على نتائج حسنة في امتحاناتهم. يبدو أن الإنسان كائن هش أمام ما يفرحه أو يحزنه، ولكن كيفما كان الحال فإن السعادة لا تسقط علينا من فوق كنعمة سماوية. وقد قال راسل في هذا السياق إن السعادة ليست إلا في حالات نادرة جدًا: "شيئا يسقط في الفم مثل الثمرة الناضجة"[6]. إن السعادة إذًا تتعلق برغبتنا وإرادتنا في أن نكون سعداء، وفي المجهود الذي نبذله من أجل إخضاع الواقع وابتكار أشكال المقاومة الخاصة بكل موقف، فالسعادة لن تكون ضمن هذا السياق شيئًا آخر غير ترويض الذات على تقبل الإهانة بصدر رحب كما تقول حكمة طاوية. لكن في المقابل فإن تقبل ضربات الواقع لا تعني أن يتحول الإنسان إلى الاستكانة لنوع من السلبية التي تحول دونه ورد الفعل، لأن أمرًا مثل هذا سيجعل هذا الإنسان مثلما وصفه نيتشه "الحيوان ذو الوجنتين الحمراوتين"، وهو الموقف نفسه الذي يمكن أن تنتهي إليه الرواقية التي تدعو الإنسان إلى تقبل الشر وعدم التذمر من الحياة. بالنظر إلى انحطاط النوع البشري، وتدهور قواه ومداركه الحية، وتراجع الحس النقدي لديه، فإن العمل على تحفيز النشاط الإدراكي لديه، ورفع درجة الإنتباه والقدرة على بلورة الرفض الواعي تبدو رهانات مصيرية إذا ما أردنا أن ننقذ الإنسان من هذه الحياة الشكلية أو هذه اللاحياة كما يصفها إريك فروم[7]؛ فالإنسان المعاصر أصبح في قبضة الآلة والنظام البيروقراطي، إنه خاضع لما يمليه عليه الكمبيوتر من قرارات، والنتيجة هي أن الإنسان نفسه تحول إلى مجرد قطعة غيار في هذه الآلة الكبيرة التي ندعوها بالمجتمع. النتيجة التي ننتهي إليها هي أن الإنسان مات نفسيًا حتى وإن كان يحيا هذه الحياة المادية المليئة بالإشباعات الحسية، هذه هي وضعية الإنسان المعاصر، فهو يعيش في عالم بلا ممكنات حيث البديل الوحيد المطروح أمامه هو المزيد من الاستهلاك والاستلاب، وهي ظاهرة تزداد انحطاطًا حينما تحضر في سياقات عالم ثالثية، إذ تصبح عبارة عن بلادة قومية عارمة، ويحل الوهم محل الطموح واللامبالاة محل المسؤولية والحرمان محل الإشباع. لكن، ورغم ذلك، يعتبر بحث الإنسان عن السعادة بحثًا عن الممكن، أي وعيًا نقديًا موجهًا للواقع رغم أن هذا الأخير اليوم تكتنفه اليوم الكثير من الاستحالات، ولكن في المقابل نحن لا نعرف ما هو الممكن إلا بمجابهتنا للمستحيل. إذا ما ظل الإنسان المعاصر يطابق بين تحقق السعادة والواقع القائم، أي أن السعادة في نظره ما هي إلا انغماس فيما توفره حضارة الاستهلاك، فإن السعادة من ثمة ستخرج لديه من نطاق الممكن والإمكان لتصبح مراكمة للملذات الحسية واستزادتها. إن السؤال الذي يُطرح اليوم هو ما هي السعادة، والجواب هو: هي ما ينبغي الحصول عليه، جاه، سلطة، مال، أو بضائع يتم استهلاكها... بينما قديما كان الجواب حول نفس السؤال هو: هي ما ينبغي فعله، أي أن السعادة كانت مرتبطة بالعمل، وليس المقصود هنا العمل بمعنى الوظيفة التي يمكن أن يمارسها الإنسان داخل المجتمع، وإن كان العمل بهذا المفهوم من أسباب السعادة خاصة إذا كان مصانًا بظروف إنسانية، ولكن العمل الذي نرمي إليه ههنا هو ذلك الذي ركزت عليه الفلسفة اليونانية ومن بعدها الإسلامية، وهو المرتبط بالمجهود الداخلي، أي فضيلة بناء الذات، فسواء عند أفلاطون أو الفارابي أو ابن سينا يظهر أن الإنسان السعيد لا بد أن يكون فاضلاً، والفضيلة هنا هي حكمة عملية موجهة من أجل نحت الذات وتأثيثها داخليًا بكل معاني القيم والجمال والخير. السعادة ومسألة العودة إلى الطبيعة لا عجب إذًا إذا كان الفكر الفلسفي المعاصر يحاول أن يعيد بناء عقلانية جديدة تتجاوز صلف العقلانية الأنوارية التي لم تفرز سوى دمار الطبيعة والتسلط على الشعوب الأخرى بدعوى التقدم والحضارة، حتى أضحت السعادة من المثل التي لا يمني الإنسان بها نفسه اليوم. لذلك تبدو الحياة المعاصرة هائجة اليوم أكثر من اللازم، فالمرء يمضي من الوقت في سماع ضجيج الآخرين أكثر مما يمضي من الوقت في سماع أنين ذاته. إن أيامه تجري في تسارع عجيب وهو يهرول في كل الاتجاهات في سباق محموم مع الحياة، لذلك لا غرابة إذا كنا قد فقدنا الإحساس بالزمان، وإذا كنا قد اعتدنا أن نقول لأنفسنا ولغيرنا: إن الحياة تمضي بسرعة. فذلك لأننا أمضينا كل وقتنا ونحن نجري هنا أو هناك دون أن نتمكن من لقاء أنفسنا. ومن كثرة الهموم والتوترات التي يحملها هذا الإنسان على كاهله لا يجد راحة حتى في نومه، وهو يقول كما قال الشاعر البرتغالي فرناندو بيساوا: آوي إلى فراشي بدونما حلم، بدون رفقة، بدون طمأنينة، بمد وجزر وعيي المشوش مثل اختلاط بحرين في الليلة السوداء، عند نهاية غايات الشوق الأسى[8]. لقد أصبح هذا الإنسان صيدلية متحركة فهو لا ينام ولا يستيقظ ولا يأكل ولا يجامع إلا بواسطة العقاقير. إن لا إنسانية المدنية المعاصرة أدت بالإضافة إلى ما سبق إلى فقدان الإحساس بالطبيعة، فليس من الغريب أن يصف الشاعر الإسباني لوركا ناطحات السحاب في نيويورك مشبها إياها بأعمدة من وحل، يقول:
لفجر نيويورك إن الحضارة المعاصرة يمكن اختزالها ضمن هذه المعادلة البسيطة: إنها زحف الإسمنت على الخضرة، فالإنسان ما هو إلا سرطان الكرة الأرضية كما يقول فلم ماتريكس. ولكن ماذا نعتقد: هل المدينة هي التي ستنقذ القرية أم أن القرية هي التي ستنقذ المدينة؟ هنا أيضًا يكمن الحجر السعيد للبهجة: أن تضع يدك في التراب قبل أن يوضع التراب عليك. إن من أجمل الأمثلة التي سمعتها من صديق والتي طالما تمنيت أن أكون صاحبها، أن الإنسان إذا أراد أن يكون سعيدًا لبضع شهور عليه أن يتزوج، وإذا أراد أن يكون سعيدًا لبضع سنين عليه أن ينجب أطفالاً، أما إذا أراد أن يكون سعيدًا طوال عمره فعليه أن يعتني بالبستنة والغرس والطبيعة. إنها لمفارقة عجيبة تلك التي كشف عنها جان جاك روسو: كلما تقدمت الحضارة البشرية كلما تراجعت سعادة الإنسان، فروسو عكس فلاسفة القرن الثامن عشر الذين كانوا يؤمنون بفضائل التقدم الحضاري. انتصب لوحده بينهم كي يشك في طبيعة هذه الحضارة ونادى بضرورة العودة إلى الطبيعة. ولكن علينا أن ننتبه هنا لأن العودة إلى الطبيعة عند روسو ليس المقصود بها ترك الحضارة والعودة إلى الحياة البرية بل المقصود بها العودة إلى الطبيعة الإنسانية الأساسية التي افتقدناها في زحمة التقدم والمتمثلة في الحرية والطيبة والسعادة. واضح إذًا أن الإنسان إذا فقد العلاقة بالطبيعة سيفقد أيضًا العلاقة بذاته، واليوم كما لدينا تلوث طبيعي هناك أيضًا تلوث بشري، أي تلوث يصيب النفوس البشرية المنهارة والتي ما عادت تعرف طريقها نحو صفاء السريرة. بمعنى آخر أنه إذا لم يمتلك الإنسان وعيًا بأنه ينتمي إلى مجتمع الحياة الأوسع حيث يكون الإنسان ليس هو سيد مملكة الكائنات وسيد الطبيعة كما كان يقول ديكارت، بل هو كائن ضمن مملكة الكائنات تربطه بها علاقات تجاور بل ومساواة كما يقول البيئويون اليوم. إنه ما لم يقع عمل جدي من أجل الرفع من درجة هذا "الوعي الأخضر" فإن النفوس البشرية ستزداد كآبة وحزنًا. لهذا الأمر علاقة بمسألة أخرى وهي أن يكون الإنسان سعيدًا لا يعني أن يعيش تجربة باطنية معزولة عن الواقع وعن الآخرين. إن البحث عن السعادة يقتضي نثر بدورها حواليك حتى يستفيد منها الآخرون، لذلك تفترض السعادة التزامًا أخلاقيًا بسعادة الآخرين بكل ما يقتضيه ذلك من مسؤولية وتضحية والتزام. إذ لا يمكن أن أكون سعيدًا على حساب أسرتي أو على حساب وطني، السعادة الأولى قد تقود إلى عدم المسؤولية الاجتماعية، أما الثانية فليس لها اسم آخر غير الخيانة. يمكن أن نقول في الختام إن السعادة ممكنة في عالم أصبحت فيه الممكنات نادرة شريطة أن يلعب الإنسان بمرونة على حبلين متقاربين هما العقل والفضيلة بطريقة مبدعة، إذ كيفما كان الحال يبدو أنه ليست هناك وصفات للسعادة يمكن أن تنطبق على الجميع وإنما هي إبداع فردي وتجربة خاصة ينشئها الإنسان بما يتلاءم مع خصوصياته الاجتماعية وشروطه الحضارية. *** *** *** [1] فرويد، قلق في الحضارة، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1977، ص 23. [2] Alain propos sure le bonheur éditions Gallimard 1928 p 270. [3] فريدريك نيتشه، أفول الأصنام، ترجمة حسان بورقية، محمد الناجي. افريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 1996، ص 16. [4] ألان، مرجع سابق، ص 56. [5] ألان، المرجع السابق، ص 207 - 208. [6] راسل، غزو السعادة، تعريب سمير شيخاني، دار الأمير، 1995، ص 175. [7] اريك فروم، ثورة الأمل، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، مكتبة دار الكلمة، الطبعة الأولى، 2010، ص 18. [8] فرناندو بيسوا، كتاب اللاطمأنينة، ترجمة المهدي أخريف، منشورات وزارة الثقافة والاتصال شتنبر، 2001، ص 109 - 110. [9] لوركا، الديوان الكامل الجزء الثاني، ترجمة خليفة محمد التليسي، الدار العربية للكتاب، 1992، ص 138 - 139.
|
|
|