قصص مختارة
مصطفى تاج الدين الموسى
الفيديو المسرب لقبلتنا الحلوة
كم هو بشعٌ هذا العالم...
أتذكرين تلك القبلة الحلوة التي زرعتها على شفتيك أثناء جلوسنا في
حديقة (العائدي) بجامعة دمشق، منذ ثلاث سنوات.
يومها – وبكل جرأة – أمام عشرات الطلاب، انحنيت وقبلتك فمال رأسك إلى
كتفي، ثمَّ مررت أنفي على رقبتك، عندئذٍ... أصابعك تشبثت بقماش قميصي
الرخيص، ورغم هذا سقطتِ في آهةٍ طويلة وناعمة.
على باب الجامعة همستِ لي:
-
لأجل قبلتك الحلوة سأغفر لك كلَّ أخطائك السابقة...
ثم ابتسمت وذهبت، لأبقى مع ظلِّي على الرصيف، قلت لـ ظلِّي:
-
عن أية أخطاء تتحدث هذه المسطولة؟ هل فناجين القهوة والشوكولا التي
اشتريها لها أخطاء؟ ليتها ترتكب بحقِّي مثل هذه الأخطاء. والدها لديه
معمل، أما والدي فلديه سرطان فقط...
بعد يومين زرتك في غرفتك بدمشق القديمة، ثم قلت لك مرتبكًا:
أنا أحبكِ... أنت أجمل برشلونة في حياتي...
ثم انتبهت لوجود الكثير من الدببة الصغيرة المعلقة على الجدار فوق
سريرك،
قلت في سري: (هذه المسطولة تحب
الدببة). لهذا حاولت أن أقبلك تمامًا كما تقبل الدببة بعضها لتحبيني
أكثر، فصرخت بحنق عليَّ:
-
يا دب...
-
لكنَّك تحبين الدببة!!
وأشرت إلى الجدار.
-
أحبها كشكل وليس كسلوك...
تأففتُ منك ثم أشعلت سيجارة وأنا أقترح عليك أن تعلقيني كدبٍّ آخر مدى
الحياة إلى جانب تلك الدببة على جدارك، لم أفهم لماذا ضحكت وقتها، أظن
أنك كنت موافقة، لكن تلك الدببة لم توافق، كما أفهمني ظلِّي فيما بعد.
ومضت ثلاث سنوات، ولم نعد نرى بعضنا، أخذتنا الحياة مجانًا إلى جهاتها
المعتمة.
قال لي قصي ليلة البارحة على الهاتف:
-
أبو تاج... عثرت على فيديو لك وأنت تقبِّل فتاة على اليوتيوب... نفس
الفيديو لكنَّه موجود أكثر من مرَّة تحت عناوين مختلفة.
لم أستطع النوم، كنت سعيدًا... البشرية كلها سوف تشاهد قبلتي، وسوف
تتصل بي مونيكا بيلوتشي بعد أن سحرتها قبلتي، لتعرض عليَّ بطولة فيلم
معها فيه ألف قبلة وقبلة وأشياء أخرى.
لو أنَّني انتبهت في ذلك اليوم إلى أن أحد الطلاب يصورنا خلسةً، لكنت
علقت لوحة على الشجرة خلف مقعدنا عليها:
-
هذا الشاب اسمه مصطفى. رقم هاتفه الجوال هو (......). حسم خاص
للسمراوات.
في الصباح جاء قصي وقام بتنزيل المشاهد على لابتوبي.
شهقت متعجبًا بعد دقيقتين، المشهد ذاته، قبلتنا ذاتها في سبع نسخ
مكررة، لكن الذين نسخوها على اليوتيوب أعطوها عناوين غريبة:
-
شاهد قبل الحذف... أخ وأخته يمارسان الرذيلة في حديقة منزلهما ببلاد
الكفار الدانمارك.
-
خطير جدًا... داعش تعتقل شاب وخطيبته بوضعيَّة مشبوهة في حديقة
بالرَّقة وتطبق عليهما حدَّ الزنى.
-
زواج المتعة عند الروافض في إيران +24.
-
مريع للغاية... شبيح قذز يغتصب معتقلة في حديقة فرع الأمن.
-
مجاهد من لواء التوحيد يمارس جهاد النكاح في حديقة بحلب.
-
للكبار فقط... متظاهر ومتظاهرة في خلوة مع بعضهما بعد المظاهرة.
-
فيديو مسرب من الجنة لـ ابن تيمية مع إحدى الحوريات.
كم هو بشعٌ هذا العالم الذي خلقته يا الله... أولئك الأوغاد، أطلقوا
على قبلتنا الحلوة أسماء أعدائهم.
***
أنا والقذائف والعصفور... وكتفك العاري
أتذكرين صورتك المثيرة التي أرسلتها لي عبر التشات منذ أسابيع؟
الصورة الرابعة، تلك التي ترتدين فيها بلوزة ضيقة، قماشها الرقيق يغطي
كتفك الأيمن لكنه يتقلص جنوبًا ليترك كتفك الأيسر عارٍ.
وفيها وجهك يميل بلطفٍ إلى كتفك هذا، وكأنك في سرك تنحازين له، وليس
لذلك الذي يحتله القماش.
وقتها كتبت لك: "جسدك جميل".
فكتبت لي:
-
أرجوك، لدي روح... لا تعاملني كجسد (مع سمايل منزعج). كل الرجال هكذا.
لا يفهمون الأنثى إلا كجسد (سمايل غاضب).
-
حقك عليّ... في صورك التي أرسلتها لي، أنا شاهدت تنانير قصيرة وقماش
ضيق ومكياج كثيف (سمايل قبلة ذات الغمزة) لكن لم أشاهد روحًا، في أي
صورة تحديدًا توجد الروح؟ أخبريني لأدقق بها جيدًا. بصراحة نظارتي لا
تلتقط الأرواح بسهولة، يمكن لأنها رخيصة.
-
تفكيرك هو الرخيص (سمايل يشتم).
ضحكت، لم أهتم لكلماتك، تذكرت هيفاء وهبي عندما قالت ذات لقاء بحزن:
-
هنالك من يعاملني وكأنني مجرد جسد.
وكما توقعتُ كتبت لي عن معاناتك مع المعجبين، مستعينة بمظاهرة سمايلات.
صورتك ذات الكتف العاري، سحبت نسخة مكبرة عنها، وضعتها في إطارٍ جميل
ثم علقتها أمامي.
وهكذا... كل ليلة، قبل القذائف أزرع على كتفك العاري قبلات كثيرة
واستنشقه بمتعة، ثم أمرر لساني عليه.
وأثناء القذائف أحفر فيه قبرًا يناسبني، وبعد القذائف أمسح عليه بكفي
كما يمسح أحدهم على عيني ميت ليغلقهما إلى الأبد.
استيقظت منذ ساعتين وذهبت لأعد فنجان قهوة، وعندما رجعت إلى غرفتي
انتبهت إلى أن عصفورًا قد تسلل من الشباك ثم اقتحم صورتك ليحط بكل
وقاحة على كتفك العاري.
شهقت والفنجان الكبير للقهوة يسقط من يدي، قلت له بحنق:
-
إذا سمحت اخرج الآن من هذه الصورة. كتفها لي.
-
انصرف من أمامي. كتفها ليس لك.
-
أيها العصفور الحقير، هذه الجميلة تحبني، لهذا أرسلت لي هذه الصورة،
و.....
-
يا أحمق... هي لا تحبك، لكنها عرفت أن صديقتها ترسل لك صورها عبر
التشات. لهذا أرسلت لك أيضًا صورها، حتى تطرد صديقتها من خيالك. هذا كل
ما في الأمر.
الآن فقط فهمت سر إرسال صورك لي، مع أنني لا أنا ولا قصصي ننال إعجابك.
أسرعت إلى غرفة الكراكيب حيث نرمي الثياب البالية، وبدأت بتمزيقها
لقطعٍ صغيرة، تصلح أن تكون لعنات قماشية أصبها بغضب على كل الأكتاف
العارية في هذا العالم.
فجأةً... انفجرت قذيفة جانب البيت، تحطم الشباك فوق رأسي، لتنغرس في كل
جسدي شظايا الزجاج.
نزفت كثيرًا. وأنا أحتضر، قفزت أنت عن صورتك ليظل العصفور معلقًا في
فراغها، وتتبعت آثار خطواتي الملوثة بالقهوة على السجاد حتى غرفة
الكراكيب.
انحنيت عليَّ لتقبليني برقة، ثم همستُ لك بوصيتي الأخيرة. بعد أن متُ..
دفنتني – مشكورة – داخل القبر الذي كنت قد حفرته سابقًا في كتفك، وكما
أوصيتك... كتبت على شاهدت قبري ما يلي:
(هنا يرقد جثمان الهدف الرائع الذي سجله اللاعب وليد أبو السل في مرمى
المنتخب الفرنسي عام 1987 وقد عاش هذا الهدف حتى أواخر عام 2013 حيث
قتلته الحرب).
***
اثنان وسبعون عامًا في لوحة تشكيلية
في عام 1864 ثمة رسامٌ مخمور رسمني خلال أيام على القماش في لوحةٍ
تشكيلية كبيرة، ثم باعها لأحد النبلاء الباريسيين.
هذا النبيل نقلني بعربته التي تجرها الأحصنة – وأنا داخل لوحتي – إلى
قصره في الريف الفرنسي حيث علَّقني في البهو.
ومرت عقود وأنا أراقب من لوحتي النبلاء والنبيلات ورقصاتهم في حفلاتهم
الجميلة، وهم يتأمَّلونني بإعجاب مع ابتساماتهم اللطيفة، ثم مات هذا النبيل بعد أن هرم، وصار القصر
مهجورًا لعقودٍ أخرى، لتتشاجر ألواني طويلاً مع الغبار.
فجأةً... جاء الأسبوع الماضي عدد
من الخدم وشرعوا بتنظيف القصر، أحدهم ساعدني لتهزم ألواني للمرة الأولى
غبار عقود، فهمت من أحاديثهم أنَّ هناك حفيدًا شابًا لذلك النبيل
القديم يريد أن يأتي إلى القصر ليمضي الصيف فيه مع عشيقته الصغيرة
الجميلة.
وفعلاً وصلا في المساء،
ليستقبلهما الخدم على الباب بحفاوة، مشى هذا النبيل عبر البهو ليصعد مع
عشيقته الجميلة للأعلى دون أن ينتبها للوحتي، أمَّا الخدم فنزلوا إلى
قبوهم في الأسفل.
بعد منتصف الليل ورغم العتمة
انتبهت لشبح العشيقة الصغيرة وهي تتجول في البهو على رؤوس أصابعها،
وكأنها تبحث عن شيءٍ ما، وعندما يئست زفرت بحنق،
ثم اقتربت من
طاولة الشمعدان لتشعل الشموع، وصدفة التفتت لتصير أمامي،
وتصطدم عينها بعيني.
شهقتُ... ما أجملها، لم يكن على
جسدها سوى منشفة تغطيها من أعلى نهديها بقليل حتى أعلى ركبتيها بقليل،
كل ألواني ارتعشت ونحن نتأمل بعضنا لدقائق بصمت.
رفعت كفها لتدس أصابعها بشعرها،
فجأةً... سقطت المنشفة على الأرض، فلم تكترث هي للأمر.
داخت فيَّ كل ألوان الكون، شهقت
شهقة عظيمة، وضوء الشمعة يسيل على نهديها حتى ركبتيها، لم أحتمل لمعان
هضابها أكثر من ثوان معدودة، وكمخمورٍ ملت ببطءٍ عن القماش مثل بابٍ
ثقيل يغلق بهدوء، ثم سقطت عن لوحتي من هول ما شاهدت.
حدث هذا في عام 1936، ولا أزال
حتى الآن في سقوطٍ مستمر، ولم أرتطم بعد بأي أرض.
لم أكن أعرف أن المسافة بعيدة كل
هذا البعد بين لوحتي... وأرضكم.
***
تمثال رخامي لـ امرأة جميلة في براغ
عندما دخلتُ هذه الحانة في أحد الأحياء المتواضعة بـ "براغ"، لم يطردني
مالكها فورًا كما ظننت، رغم تضايقه من شكلي، لهذا أيقنت في سري أنه لم
يعرف من أنا.
طلبت الكثير من النبيذ وظللت أشرب حتى ساعة متأخرة من الليل.
ضحكت بجنون وأنا أخبر مالك الحانة بأنني لا أملك نقودًا... فركلني إلى
الخارج لأسقط تحت المطر في بركة ماء، نهضت وأنا أضحك ومشيت في أزقة
براغ.
لا أعرف لماذا كلما شربت يضيع مني الجسر الذي أنام أسفله، لهذا صرت
أنادي جسري بصوتٍ عال بين الأزقة وأنا أترنح علَّه يعثر عليَّ.
فجأةً، وبجانب نافورة قديمة في تلك الزاوية، شاهدتُ تمثالاً رخاميًا
لامرأة جميلة وعارية، جالسة على مقعد بلا خجل.
ركضتُ إليها وأنا أخلع معطفي الرث لأرميه على كتفيها لأحميها من المطر،
نظرتُ إلى نهديها الناعمين فارتعش جسدي.
جثوت أمامها ثم حضنتُ ركبتيها وأنا أقبلهما بنهم. شخصٌ ما من بعيد بدأ
يعزف على البيانو.
أمعنتُ نظري في ركبتها اليسرى على ضوء مصباح الزقاق، شهقتُ... يا الله
ما أجملني!
وجهي كان واضحًا على رخام ركبتها، كل الناس يقولون إنَّني بشع، كل
المرايا التي أنظر فيها تقول إنَّني بشع، ركبة هذه المرأة الجميلة هي
المرآة الوحيدة الصادقة في كل هذا العالم. رجعت لتقبيل ركبتيّها بحب.
عندئذٍ... انحنت هذه المرأة عليَّ لتذكرني – همسًا – كيف ماتت أمي
بردًا، منذ زمنٍ بعيد وهي تتسول لتشتري لرضيعها حليبًا.
ثم دست أصابعها الرخامية في شعري، وراحت تفلِّيه من القمل.
لماذا اختفى عازف البيانو؟ ابتعدْ يا بكاء...
***
عندما تعثر الزمن في هذا القبو الموحش
نعيش في هذا القبو أنا وقطٌ صغير وبضع أشباح داكنة، ولا نخرج منه خوفًا
من الاعتقال، نعتمد على الطعام الذي تجلبه أمي كل بضعة أيام.
أنا والقط والأشباح لا نعرف متى يكون اليوم ليلاً أو نهارًا. لأننا تحت
الأرض بأمتار عدة. لكننا نعرف كم الساعة لوجود ساعة كبيرة وقديمة معلقة
على ذلك الجدار.
منذ قليل أغاظني أحد الأشباح وهو ينتقد قصصي بشكل سلبي، فطاردته بحنق
لألكمه. قفزت خلفه على الأريكة ولكمته. فجأةً... اختفى من أمامي لتخبط
قبضتي بالساعة فتكسر بندولها وأنا أتآوه.
عندئذٍ توقفت عقارب الساعة عن الدوران، لأنها تعمل على حركة البندول.
هذا ما كان ينقصني! أن يتوقف الزمن هنا.
أنا والقط والأشباح وكل القبو سقطنا في الفراغ، الذي افترس ملامحنا
وكأنها وجبة شهية لسكونه.
حاولت إصلاح البندول ففشلت، أشعلت سيجارة وأنا أفكر كيف أعيد الزمن
لهذا القبو.
أثناء هذا كنت أتسلى بترديد
الأغاني التي أحفظها، فاكتشفت أن الأغاني التي أحبها لا أحفظها، وأنه
لا يوجد في ذاكرتي سوى ثلاث أغنيات، اثنتان هابطتان، وواحدة في تمجيد
القائد... شتمت ذاكرتي.
كان الفراغ يخنقني ببطء عندما لمحت القط يتثاءب، فخطرت ببالي فكرة يمكن
أن تنقذنا من هذا الفراغ.
أسرعت إلى القط والتقطته من رقبته ثم خنقته، سرعان ما مات بعد أن غرز
مخالبه في كفي. ربطت جثته بحبل ٍ من رقبتها ثم علقتها مكان البندول،
ونقرت عليها بلطف. لتبدأ الجثة بالنوسان ذهابًا وإيابًا.
ابتسمت وأنا أرى عقارب الساعة ترجع للدوران مع تكات جميلة لعقرب
الثواني.
تنفست الصعداء. نعم... بهذه الجثة الصغيرة هزمت الفراغ. لا أعرف كم
استغرق هذا الفراغ، لكنني متأكِّد أنه ليس أكثر من ساعة ولا أقل من نصف
ساعة.
أظن أن العالم في الخارج يسبقني بالزمن قليلاً. لا مشكلة... المهم لدي
زمن هنا.
ثمَّة شيء واحد تغيَّر في هذه الساعة. سابقًا كانت عند تمام كل ساعة،
يخرج من أعلاها عصفورٌ شاحب ويزقزق لدقيقة كاملة. بعد أن أصلحتها اختفى
ذلك العصفور نهائيًا. وعند تمام كل ساعة، جثة القط أسفل الساعة –
ولدقيقة كاملة – تموء بحقد.
*** *** ***