أنسي في اثنين من أوجه ابتكاراته المديدة

 

جهاد كاظم

 

كتب أنسي الحاج الكثير، شعرًا وفكرًا ومقالات. وبالرغم من ضغوط الصحافة وما في الكتابة الأسبوعية من إكراهات، كان دائم الحرص على أن يسبغ حتى على أبسط مقالاته لغة شعرية وأن يهبها طبيعة فكرية عالية. كتب الشعر بلغة مشاكسة ذهب فيها أحيانًا، عن وعي وإرادة، إلى تخوم اللامعنى، واعتنق في الكثير من أشعاره غنائية شيِّقة تجعل اللغة السائرة، لغة الكلام اليوميِّ، تحبل فيها بمعانٍ فذَّة. كرَّس أغلب شعره للمرأة، لجسدها خصوصًا بما هو مرآة لروحها ولشيء آخر قد يكون هو الكون، صانعا منها ألوهة ثانية، دون أن يحرم نفسه متعة التجديف بها، تجديف مفارق لعلَّه الشقيق التوأم للعشق المتولِّه، لا بل قد يكون من آياته، مثلما قال إليوت بخصوص بودلير إنَّ تجديفًا بالله يتخلَّل أشعاره بمثل هذه الكثافة وهذا الإلحاح يكاد يكون تعبيرًا مستترًا أو مفارقًا عن الإيمان.

وعلى ما حظي به شعره، على مرِّ الأعوام، من تلقٍّ واسع مستحَق، ومن محاكاة هي بلا شكٍّ أمر طبيعي في نشوء الأجيال الشعرية، أحسب أنَّ شعر أنسي قد أساء إليه كثيرًا بعض مقلِّديه. حوَّل بعضهم نزعته الاستفزازية، أو التهكُّمية، التي لا تشكِّل إلا إحدى نبرات صوته المتعدِّد الأداءات، أقول حوَّلوها إلى موضة. أمَّا "تكسيره" المتعمَّد والحاذق لنحو اللغة ومنطق الكلام، وممارسة الحذف التي لا يلجأ هو إليها، وببراعة، إلا كعنصر بين سواه من عناصر عدَّته الفنية، هذا كلُّه استحال لديهم إيماءات مكرورة وتذاكيًا مقصودًا لذاته. وإنما يمارس أنسي الحذف لا عن رغبة في الإثارة (شعر وإثارة؟!)، بل على سبيل الإضمار، وليترك لمخيلة القارئ أن تملأ فراغًا سيكون في تعبئة الشاعر له نافلةٌ في المعنى وتضييقٌ للكلام. كتب في قصيدته عندما يفتحونه عندما يغلقونه:

سأطبع كتابًا
لتعرفي أنَّكِ
سأطبع كتابًا
ليقولوا عندما يفتحونه:
"كنَّا نحسبه شخصًا آخر"
سأطبع كتابًا
ليقولوا عندما يغلقونه:
"لم نكن نعرف أنَّه/ كنَّا نظنُّ أنَّه"
سأطبع كتابًا
لأنَّ عينيكِ لأنَّ يديكِ
سأطبع كتابًا
لأنِّي لا أصدِّق
لأني لا أصدِّق
لأنِّي لا أصدِّق[1].

شاعر حقيقيٌّ يعرف بالضرورة صنعة الشعر، أو الفنَّ الشعريَّ، ويثبت قدرته على التعبير عنه لا في إنشاء تهويميٍّ سقيم بل بمفردات مخصوصة. منذ مقدِّمته الشهيرة لمجموعته الشهيرة لن، هذه المقدِّمة التي لا يتَّكئ فيها على كتاب الفرنسية سوزان برنار قصيدة النثر من بودلير إلى أيَّامنا بالقدر الذي يتصوّره البعض أو يريدون الإيهام به، وضع أنسي فاصلاً دقيقًا بين قصيدة النثر وما سبقها من أنماط شعرية. أدرك بادئ ذي بدء أنَّ مشكلة تلقِّي العرب للشعر (ولعلَّ الأمر نفسه في كلِّ الثقافات التقليدية) كان وما يزال إلى حدٍّ بعيد كامنًا في الحاجة المتوارثة إلى "التطريب". كتب أنسي متكلِّمًا عن قصيدة النثر:

ولعلَّك إذا قرأت قصيدة من هذا النوع (هنري ميشو، أنطونان آرتو...) قراءة لفظية، جهرية، للالتذاذ والترنُّح، لعلَّك تطفر وتكفر بالشعر لأنك ربما لا تجد شيئًا من السِّحر أو الطرب. التأثير الذي تبحث عنه ينتظرك عندما تكتمل فيك القصيدة، فهي وحدة، ووحدة متماسكة لا شقوق بين أضلاعها، وتأثيرها يقع ككلٍّ لا كأجزاء، لا كأبيات وألفاظ[2].

من تجارب أنسي الحاج العريضة، التي توقَّفتْ عندها أجيال من النقَّاد، أودُّ التوقُّف هنا وقفة بسيطة أمام جانبين اثنين، هما بمثابة حديقتي السريَّة التي اخترتها لنفسي في أعماله، مثلما لديَّ حدائق سريَّة في أعمال من أتردَّد على كتبهم من شعراء وكتَّاب.

مترجم استثنائيٌّ

قليلة هي ترجمات أنسي الحاج، يكفي لاحتوائها كلِّها كتيِّب واحد. على أنها ثريَّة بممارسة ترجمية بالغة الرهافة ومدعَّمة، إلى ذلك، بوعي نقديٍّ حادٍّ يُحسن بفضله تقديم ما يترجم، ويجيد تعيين فرادته والتعقيب عليه.

ولئن جاز لي الرجوع بذاكرتي إلى سنوات الفتوَّة الأولى، فأنا لن أنسى أبدًا كيف وقعتُ يومًا، بمحض الصدفة، وأنا في سنِّ الخامسة عشرة، في أول عهدي بقراءة الشعر وتجريب كتابته، على قصيدة الاتحاد الحرِّ لأندريه بروتون ترجمها أنسي الحاج هي واثنتي عشرة قصيدة أخرى للشاعر ذاته. لم أستوعب يومذاك صوَرها الدفَّاقة كلَّها، لكن فرادتها أسرتْني. قصيدة غريبة تُستهلُّ أغلب عباراتها بصيغة "زوجتي التي...". ولأنها بقيت تسكن ذاكرتي، كان البحث عن نصِّها الأصل من أول ما قمت به في أعقاب انتقالي إلى باريس. ما زال الشوق يحدوني إلى إعادة قراءتها بين الفينة والفينة، لكن ضربًا من عالم سحريٍّ كان قد انفتح لي بصورة صاعقة وغامضة في ذلك الأصيل البعيد الذي وقعتُ فيه على ترجمتها الأنسية:

زوجتي التي شَعرها نارُ الحطب
التي أفكارها بُروق الحَرِّ
التي قامتها ساعة رملية
زوجتي التي قامتها ثغل مائيٌّ بين أسنان النَمر
زوجتي التي فمها شارةٌ وباقةُ نجومٍ من أكبر طراز...[3]

ولقد رجعت البارحة إلى الكلمة التي أرفق بها أنسي ترجمته، فوجدت من جديدٍ، في حرارته ذاتها، فهمه الدقيق للصورة الشعرية، يعرِّفها بأنها:

لا تفسيرية ولا منطقية وقبل كلِّ شيء غير محدَّدة. يجب أن تكون التباسية وتحتمل مئة مدلول كلُّ واحد منها قد يكون عكس الآخر. يجب أن تضرب الفهم العاديَّ وتزعج العرف وتغيم على العقل. صورة مجانية وصاعقة؛

ثمَّ يحيل على قولة بروتون الشهيرة:

يكون الجمال تشنُّجيًا أو لا يكون[4].

إلى هذا أضيف وعي أنسي المبكِّر والصاحي بـ"لا جدوى الشعر" وبضرورته المطلقة في آنٍ، وهذا كلُّه انطلاقًا من فهمه العميق والذي لا محاباة فيه لتجربة بروتون الشعرية:

وضع بروتون شعرًا يرسل الشرر ويقذف الحمم، بعدما كان قد أُشرب كلُّه بالتنافر والتناقض. لكن ما همُّ؟ وهل من نجاح للشعر؟ ألم يفشل - كما يقال - رامبو؟ وماذا تخطَّى بودلير؟ ولماذا مات آرتو؟ ما همُّ؟ ألم يغنِّ بروتون أعظم الأشواق؟ ألم يجعل هذه الأشواق في حالة دائمة من الاستنفار والتهيُّج؟[5]

الخطوة الحاسمة التالية لأنسي في ترجمة الشعر (ولعلَّ له ترجمات أخرى لم يتسنَّ لي الإحاطة بها) تتمثَّل في نقله إحدى عشرة قصيدة لأنطونان آرتو، تصحبها دراسة مسهبة وعميقة لكلِّ عالم آرتو المعقَّد، الرهيب، الموَّار. يصعب أن أقاوم رغبة الاستشهاد بإحدى هذه القصائد، قد تكون هي أكثرها تمثيلاً للغة آرتو، بترجمة أنسي. هي قصيدة بلا عنوان. يبدأها آرتو بضربات متوالية تصوِّر فصامًا جذريًا وفعَّالاً لعلاقته بجسده:

كنتُ حيًا
وكنتُ هنا دائمًا
هل كنتُ آكل؟
كلا
لكن عندما كنتُ أجوع كنتُ أتراجع مع جسدي ولا يأكل بعضي بعضًا.
لكن ذلك كلَّه تفكَّكَ
حدثت عمليَّة غريبة
لم أكن مريضًا
سوف أعود فأغزو العافية
دائمًا بإرجاع الجسد إلى الوراء...
هل كنت أنام؟
كلا لم أكن أنام
يجب أن يكون الواحد طاهرًا ليعرف ألاَّ يأكل.

ثمَّ يختتم بقراره المتواتر في أشعاره و"هذياناته":

سوف أعيد بناء الإنسان الذي أنا هو[6].

هنا يكمن سعي آرتو كلِّه إلى ضرب من إعادة تربية الأعضاء توقَّف عنده دريدا في إحدى دراساته عنه، يجرِّبه الشاعر لا من أجل متانة هرقلية بل لاكتساب ما يدعوه آرتو نفسه "جسدًا بلا أعضاء"، هذه الصيغة التي يعْلم قرَّاء جيل دولوز وفيليكس غواتاري كيف أقاما بالاستناد عليها فلسفة كاملة في العلاقة بالجسد وبالرغبة.

وهنا أيضًا، ترجع إلى الدراسة التي أرفق بها أنسي ترجمته فتقف على فهم شامل يؤسفني أن يضيق المجال أمام عرضه بكامله. كتب أنسي:

هذى السورياليُّون وتشنَّجوا لأنهم اشتهوا الحياة فمُنعوا عنها، ثمَّ راحوا يشنُّون هجماتهم على الأسوار. إنَّ ذلك هذيان الطالب لا الرافض، هذيان رافض الشيء والمطالب بشيء آخر، من نوعه. أمَّا آرتو فقد هذى هذيان الميت، وكان تشنُّجه الموتيُّ الدلالة الوحيدة على أنَّه "حيٌّ" يتنفَّس[7].

ويضيف:

هكذا يتعذَّر علينا أن نحاوره. لقد قطع السبيل عندما رفض العلائق والصلات واندلق خارج الكون، والكلمة، إلى الفراغ. وما كتبه هو ما تمكَّن من إحرازه على العدم، ولذلك يبلغ الشعر معه حدَّ الامتناع عن الانتقال، عن الفهم، ولا يُرَدُّ تخلُّفنا عنه إلى انعدام الدلالة فيه بل إلى ضعفنا عن التقاط مبلغ الدلالة في الصرخة...[8]

صانع خرافات وحكايا شعرية

الجانب الآخر الأثير عندي في شتَّى تجارب أنسي يتمثَّل في قدرته على التخييل السردي البارع داخل القصيدة، وعلى ابتكار أمثولات أو حكايا وخرافات تجد أمثلة شيِّقة عليها في شعر ماكس جاكوب وهنري ميشو بخاصة، وأحيانًا لدى أندريه بروتون ورنيه شار. هاكم قصيدة الذئب، ولعلَّها القصيدة الوحيدة لأنسي الحاج المكتوبة شعرًا تفعيليًا، والأرجح أنَّه جعلها كذلك لأنه ألفى الإيقاع التفعيلي أوفر أداءً للغتها الطفلية الظاهرية. تصوُّر القصيدة في الحقيقة، وكما ترون، انسحار الطفولة الذي لا ينفكُّ يسكن الكبير، حاسَّة الخطر لديه تبكي لاضمحلاها، والخوف الذي استحال شوقًا وحنينًا جارفَين:

في قصص الكبار للصغارْ
ذئبٌ يكون دائمًا
وراء أحجارٍ
وراء أسفارٍ
وراء أشجارٍ
وراء بستانٍ من الأزهارْ.
ويهجم الذئبُ
في قصص الكبارْ
ليأكل الصغارْ
وذهبَ الكبارْ
وأقبل الصغارْ
وذهبَ الصغارْ
ويوم لم يعدْ
يأكلني الذئبُ لكي أنامْ
بكيتُ عشرين سنةْ
ومتُّ من شوقي إليكْ
يا ذئبُ
من شوقي إليك![9]

ولعلَّ أطرف حكايا أنسي الشعرية، وفي الأوان ذاته أكثرها إيلامًا، القصيدة المعنوَنة الدينار القمر. هي حكاية تتوالد من ذاتها أكتفي بذكر مقطعها الأخير الذي ينهض بمفرده بثقل حكاية شائقة تنتهي نهاية مفاجئة تنوِّه بعظمة الحبِّ وتساميه:

رجلٌ اسمُه حافظ
علَّقوا عليه الآمال فوقعتْ
وقعت عليه امرأة
علَّقت عليهم آمالها فوقعت
وقعت عليه امرأة
حفظها كالدينار
صار الدينار بحجم القمر
صار القمر تعليقة
علَّق عليها حافظ حبَّه
علَّقت عليها المرأة حبَّهما
فوقع من التعليقة
حجرٌ
شقَّ الأرض
تحتُ
احتقارًا[10].

لعلَّ التصوُّر الجادَّ والمبدع لقصيدة النثر، لا كما فهمتها سوزان برنار، التي أكل الدهر على كلامها وشرب، بل كما تضافرت لتعريفها أجيال متعاقبة من الشعراء والمحلِّلين، يكمن ههنا، ويواجهنا وهو في حالة عمل، أي رهن الممارسة: لغة سائرة، قوَّة مفارقة، تخييل بارع، وإيقاع ولا أرهف.

*** *** ***

السفير


 

horizontal rule

[1]  ماذا صنعتَ بالذهب، ماذا فعلتَ بالوردة، بيروت، 1970، ص 133.

[2]  مقدمة لن، بيروت، 1960، ص 10.

[3]  مجلَّة شعر، العدد 24، خريف 1962، ص 73- 74.

[4]  نفسه، ص 104.

[5]  نفسه، ص 106.

[6]  مجلة شعر، العدد 16، خريف 1960، ص 72 – 73.

[7]  المصدر نفسه، ص 95 – 96.

[8]  نفسه، ص 99.

[9]  ماذا صنعتَ بالذهب، ماذا فعلتَ بالوردة"، ص 96 – 97.

[10]  نفسه، ص 120 - 121

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني