جمالية المكان في الأثر التشكيلي
 للفنان نادر بن إسماعيل

نجوى قولاق

 

"بدون عنوان" هي لوحــة للفنان التشكيليِّ نـادر بن إسماعيل أنجـزها سنة 2007 مثلت منطلقًا لطرح مسألة الهامشيِّ والفنيِّ بما أن الفنان انطلق من حيٍّ شعبيٍّ. حضورها كأثر مــاديٍّ له أبعاد متعددة يحقِّق من خلالها وظيفة جمالية وينتج معنى مغايرًا من خلال إنشائية لها خصوصيتها.

وبما أن كلَّ أثـر فنيٍّ له إنشائيته ومرجعياته الفكـرية فـهو حتــمًا ينطلق من فكـرة، والفكـرة التي أُنجـــز بالاعتماد عليها هذا العمل الفنيُّ تتمثـَّل فــي استعارة مـادة فنية مستـوحـاة مــن فضاء شعبيٍّ وهو حيُّ "وادي النحل". إذًا منبع العمل الفنيِّ ضمن هذه التجربة هو مكان له خصائصه التي تجعله يعرف عزلة ما، لأنه ينتمي إلى محيط تحصل داخله تفـاعلات نظرًا إلى ما يختزنــه من علامـات متباينـة. هذا النـوع من الأحياء الشعبية بالرغم مــن صــورته السلبـية التي انطبعت في الذاكرة الجماعية فهو يكشف عن انتشار بعض الممارسات والاهتمامات ذات الجوهر الثقافيِّ مثل الوشـــم ومـوسيـقـى الـراب والسـلام Slam والرقــص والكـتابة والتـصوير على الجدران ومخـتلف ألوان ثقافة الهامش الأخرى.

"وادي النحل" هو حيٌّ يقع على تخــوم مدينـة الحمامات وهو طبعًا مــن الأحـياء الشعـبية التي لها تسميات متعددة مثل الأحياء الأقل حظًا والأحياء الساخنة والأحياء المهمَّشة والأحياء القصديرية، وتختزل جميع هذه التسمـيات واقـــع هذا المكان فهو يتشكــل تلقائـيًا وبأسـلوب فوضويٍّ.

إذًا تبدأ رحلة الفنان بمجازفــة ضمن هذا الفضاء المجهول. ولكــي يتمكَّن من استكشافه اعتمد على قيمـة اجتماعية لمتساكني الحـيِّ القائمة على ثــقافـة "ولد حــومتي" وبالتالي فقد اختار أن يكون له مرافقًا طوال تنقلاته. ومثل هذا الشخــص أول موضوع رسـم قام به الفنان في بداية هذه التجربة، لأنه اختار أن تتخلَّـل الرحــلة رسوم أنـجــزها عن طريـــق الأقلام أو الألوان المائية في دفتر يقوم أيضًا ضمنه بتدوين بعض الأفكار أو الملاحظات كتابيًا.

عاش نادر بن إسماعيل تجربة أدرك من خــلالها الأبعاد الجمالية للمكان. كانت هـــذه التجــربة الحسِّية متعـددة الأبعــــاد. حيث عـــطور الحــدائق، رائحة الخــشب، روائــح الطبـخ ورائــحة الرطوبة، آثار الزمن عـــلى الجـــدران وما تهـمــس بـه من أصوات تنــزع عــن الحياة العائــلية حميميتها. مما جعل هذه التجربة الحسِّية تجمع بين مختلف الحواس: البـــصريُّ، السمعيُّ، الشميُّ والملموس.

وخلال هذه الرحلـة التي تحـددها الخصوصية الوظـيفـية للمـكان فــــي علاقـتها بالفعـل التشكيليِّ يطرح نادر بن إسماعيل إشكالية العياني والمتـخـيَّل حين يتوقـف لرسم مشـهد مما يدفع صديقه إلى التساؤل عن العلاقـة بين ما يرسمه وما يشاهده. وهـــذا يدلُّ على حاجة المبدع إلى لغة بصرية مناسبة للتعبير عن تمسرح التفاصيل المطلوب التعـبير عنها، لذلك نجد أن السطوح التصويرية للوحة هي عمـلية تـأويــل، حيــث تتشكــل المــساحات اللونية المتضمنة للحدث التصويريِّ وفـق عـرض منـتـظم يسـرد التفاصيل بخصوصيــة ذاتية تبيِّن العلاقــات بين العناصـر التشكـيلـيـة التـي تـمَّ رسمـها والتي قـام بإحضـارها حسب ما تقتضيه الضرورة الفنية. اللوحة تكاد تكون أحادية اللــون لكنه ضمـنـها مساحة صغيرة بلون أحمر: لون الممنوعات استقرَّ في زاوية نافذة لا تسمح بالنفـاذ إلا لما يتخلل أرضية اللوحة من مادة تصويرية مما يجعل النافذة تُفتح على اللوحة ذاتها.

ضمن هذه اللوحة التي أنجزها بعد أن أنهى رحلته لينتقل إلى ورشـتــه محمَّلاً بمخــزون ذاكراتي للمكان وحاملاً أشــياء ومـواد كان قـد جـمـعـها من أزقــَّة الحيِّ. قــام بعملية اختيار للعناصر التشكيلية ثم بتوزيـع الأشكـال والمـواد الـتي أحضرها والمحافظـة علــى نظامها الواقـعيِّ لتحقـيـق معـيار صـدق بعيد عـن المطـابقـة لما قـد شاهـده، مسنـدًا بـذلك الواقـعيِّ بعـدًا فنيًا. إن حضور هــــوائي تـلـفاز وأسـلاك حديدية وقطـــع من البلاستـيك مضافة إلى خطـوط عمـودية وأفقية - تحـاول الثبات - يخلق لا توازنًا مقصودًا يدعم هشاشة الهندسة المعمارية المنتجة لجمالية التلقائيِّ.

هذا الفعل الإبداعي متجذِّر في مرجعـياته النظـرية، فهـو يسائـل قاعـدة المنظـور الخـطيِّ التي تعتمد على مبدأ نقطة التلاشي تتجه نحوها، وتتحـدد جميع عناصــر العمل الفني، والتي ظلت لعدة قرون مرجعًا في تشكيل الأعمال الفنـيـة ولم يتـم تجاوزها إلا في المحاولات الأولى لفناني الانطباعية، الذين أسندوا قيمة للمنظور اللونيِّ والانطباعيِّ مؤسِّســين بـذلك لغة بصـرية جـديدة تطـوَّرت مع أعمال المدرسة التكعيبية، عندما ابتكر جـورج براك Georges Braque مفـهـوم الكـولاج ليؤسِّس وعيًا مضافًا لتطور مفهوم الفضاء التصويريِّ، معتمدًا على الصفة الملمسية التي أنتجت فعلاً إبداعيًا يتحرك خارج حدود السطح الثنـائـيِّ الأبعــاد وبعيدًا عن الانسجام بين الفنـيِّ والواقعـيِّ. وبذلك يلتقي هذا العمل الفني مع المكتسبات المعرفية الأكاديمية للفنان من منطلق اعتماده علـى تقنية تجمع بين فعل الرسم والكولاج والإحضار، وباعتماده فعل الإحضار لما هو جاهز يتجاوز المرجعـية السابقـة نحو الدادائية التي من مؤسِّسيــها الفنان الفرنسـي مارسيل دوشان Marcel Duchamp والـتـي مثـَّلت وعـيًا جديـدًا للعـمل الفنـيِّ بتوظـيـف الجـاهز والصنـاعيِّ والمجسـَّم والمتـداول بعيدًا عن الأبعاد التقليدية للوحــة.

لوحة نادر بن نادر إسماعيل تختزل محطات تاريـخية للـفـنِّ في علاقـة بفـعل الاستعارة لما هو متداول ومستهـلك للتعـبير عما هـو فـكري. هـذا الفـكـر المتـمرِّد الـذي ابتكر مفهومًا جديدًا للفضاء أسهم في بناء الأسس المرجعـية للـوحة نـادر بن إسماعـيل ضـمــن سياق مغاير مما حقق أصالتها وفرديتها.

اللوحة هي نتاج ممارسة فنية تعتمد على فعل فنيٍّ مركَّب يجمع بين التمثيل والإحضار، عن طريق التبـنِّي وإعـادة التوظـيـف، مما يسمـح للمـبدع من تـأويل ما يحملـه من صـور تنتمي للذاكرة، وأحداث الواقع، واستشراف ما هو مقبل ضمن المسار الإبداعيِّ، وتوقُّع الحاجة إلى نماذج جمالية محدَّدة، عبر الاشتغال عليها في عمله الفـنيِّ الذي يعـتـمد تمشيًا ضمن زمنية يختصُّ بها. فهو يقوم بالرسم ثم إدماج المواد ثم العـودة إلى الـرسم بحثًا عن تواصل لونيٍّ وحيـاكات متنـوعة تعـالج مفـهوم الـلا مكـتمل الـذي استوحاه من المشهد المعماريِّ ليتحوَّل إلى قيمة جمالية.

طبيعة العلاقة الوثيقة التي شدَّت الذاكرة الفردية للفـنـان إلى الـذاكرة الجماعـية لما أنتـجه متساكني الحيِّ من جمالية ذات بعد تلقائيٍّ، والبحث عن لقاء بين قـيم مختلـفـة، والرغـبة فــي الاستثنائيِّ بمساءلة اليوميِّ والعاديِّ، وبناء الجـماليِّ بتـوظـيف مكونـات المشـهـد المعماريِّ في تجاور مع الشيء الجاهز الذي تم إحضاره من الحـيِّ ذاتـه جـعـلـت من هذا العمل يغير وجهة المادة اليومية إلى مادة فنية.

ليس هذا العمل سوى علامة لحضور المتناقضات ضمن الفضاء الواحد. فهو يقـوم علــى إعادة النظر في كل ما يحيط به. حضور المتناقضات يعتمد خصوصًا على علاقة إشكالية بين الفرد وعالمه بين الفنان والمادة الجمالية التي أنتـجها فضاء لا منتـظم ليحقـِّق نظامـه حسب موقف جمالي يعبر عنه المبدع بتأطير لوحة أنجزت على قطعة من الـورق وبمــواد مهملة بصريًا يسلــط عليـها الضـوء ويدعــو المشاهـد بالاعتماد علـى هذا الاختيار إلـى الوعي بالأبعاد الجمالية لما هو مهمل بصريًا ثم إنسانيًا.

كما أن ازدواجية المعالجة الفـنـيـة للمادة البصـرية التي تبـنَّاها ساهـمت في خلـق تمشٍّ إبداعيٍّ يتعدَّى الاختيار التقنيَّ والمنهـجيَّ الـواحد. لأن استعارة بعـض مكونـات فضاء الحيِّ والأشياء الجاهزة تمت بأفعال فنية متنوعة عن طريق مـعالجة الأشياء أو التحـوير في خصائص المواد على المستوى البصريِّ واللمسيِّ.

الاستعارة تحيل إلى فضاء خارجي مفتوح وهو السماء. اللـون استعـمل خـارج الإطار الحكائيِّ وضمن فضاء يكاد يكـــون متــجانـسًا، فكانـت وظيـفـة اللون ربــــط العلاقات بين المساحـات والأشياء، فاللــــون لم يعــد مجـــرد إدراك بصريٍّ بـل هو عنـصر أساسيٌّ في تكـوين الفـضاء التصويريِّ كبعد فكريٍّ أكثر مما هو حسيٍّ.

إن المرجعيات المقتبسة من الحيِّ تؤكد على الصلـة القـوية للعـمل بالأبـعاد الذاتـيـة للفنان ومكتسباته. ثمَّة إشارات رمزية أخرى إلى الرحلة من التشخيص نحو التجريد. إذ أخـــذ الفنان بعين الاعتبار وضعية انفصاله عن المكان - الهامشيِّ.

وإنه بذلك انتقل إلى وضعيـة البـاحث عن هويتـه كـفنان تشكيـليٍّ، بما أنـه يمـثِّـل كيانًا يتـفاعل منتجًا لعمل فنيٍّ يحـمـل من خلاله نظـرة ذاتـيـة تبحـث عن القـطـع مع اليومي بتوظيفه متجذرًا فيه.

عن تصوُّر غير مألوف لإنجاز عــمل فنــيٍّ يسائـل خـلاله إشكاليات مرتبطـة بمجمـوعة من المتناقضات تجمع المنتـظم واللامنتظم ، يعالجها بتــقنيات وأساليــب مختلفة منتجًا بذلك فضاء بصريًا يلـعب من خـلاله دور الباحـث عن هـويـــة فردية.

مسألة الذاكرة هي العنصر الأساسي في هذه التجربة، حيث أن الذاكرة ليس لها حــدود واضحة ونهائية، لذلك تتعدد منابعها وتجد بذلك اللوحة مرجعيات مختلفة وإحــالات متعددة، إذ يتحول الفضاء الفنيُّ إلى لا مكان بما أنه لا يمكننا من تحديد هوية معينة ولا تاريخًا محددًا.

تعدد الأزمنة - أي زمن الرحلة وزمنية إنشائية العمل الفنيِّ - تدعم معنى اللامكان الذي يرتبط بمفهوم الذاكرة، وبذلك هـذا العـمل الفنـيُّ أنتـج جماليـة متواشجـة تتأسَّس بالاعتماد على مفهوم اللقاء. اللقاء هو لحظة منفردة وخارجة عن نطاق المعتاد، وهو حدث نادر يتطور ضمن سياق إبداعيٍّ، ويمكن أن يحـدث صـراعًا أو تفـاعلاً.

هذه التجربة الفنية المعاصرة ترتبط في مكامنها بإرثٍ بصريٍّ ورمــزيٍّ. حـيث كلما انغمست ذات الفنان في زوايا المكان المتَّصلة حتمًا بالذاكــرة الجماعية، كـانت هذه التجـربة ذات عمق ومحقِّقة لمعنى الأصالة. على هذا الأساس، إن المبدع قد عالج المادة الفــنية التي اختارها من خلال إحداث علاقات قيمية ترتبط برغبته في كشف ما تخفيه طيات لحـــظات ما قبل الفعل الإبداعيِّ في علاقتها بما بصمته التجـربة الحسِّية لديه خــلال رحلته داخـل الحيِّ.

الفنان يستعـمـل هذه الوسائل التقنية ليس من أجـل إثراء عملـه شكـليًا أو تغيير ملامــح المشهد الذي اختاره فحسب، بل لإعادة صياغة مفاهيمه الأساسية التي يستغلـها لغاية التــواصل مع الآخر، من أجل مساءلة ما هو سائد من قيم ثقافية – اجتماعية.

إذًا، شكل ومضمون كلِّ أثر فنيٍّ هو وليد تمشٍّ إبداعيٍّ ومعنى ذلـك أنه لا منـاص من اعتبار الدور الذي تلعبه الوسائل التقنية كيفما كانت بسيطة أو معقدة.

هذا العمل الفنيُّ يرتبط بما يؤسس من إمكانيات تواصل بين الفنان والأشـياء المـــدركة وأيـضًا بين المبـدع والمتلقــي عبـر ما يتجلَّى ضمن الأثر الفني من امتثال الأشياء لموقف المبدع منـها ضــمن عـلاقات رمــزية بين الأشكال والعلامات والأبعاد الحسِّية والخيالية.

هذا الانفتاح يؤسِّس لما عبر عنـه الفيلســـوف الإيــطالي أومبرتو إيكو Umberto Eco بالأثر المفتوح، الأثر الذي يسمح بالتفاعل نظرًا لما يوفـِّره من إمكانية الولوج إليه نظـريًا انطلاقًا من زوايا نظر مختلفة. على هذا الأساس فإن هذا العمل الفنيَّ يحـمل في طيـَّــاته إمكانات متنوعة للقراءة والتأويل تتشكَّل حسب الثقافة البصرية للمتلقي ووفق ما أراد الفنان أن يعالجه ويقدِّمه من رؤية فنية وما يقترحه من قيمة جمالية.

*** *** ***

الأوان

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني