أطوار صورة الله في التوراة 4: إله موسى

 

فراس السواح

 

في سياق تحليلنا لشخصية الإله التوراتي كشفنا عن الطابع المركب لشخصيته باعتبارها نتاجًا لتعددية الآلهة الكنعانية، وعن الانقسامات الداخلية في هذه الشخصية القلقة وميولها المتناقضة، وعن الطريقة التي عبَّرت بها عن كل جانب من جوانبها في علاقتها مع البشر. وقادنا التحليل إلى اكتشاف خمسة مستويات متراكبة في داخله أضفنا إليها في الدراسة السابقة مستوى يعود إلى أكثر أشكال الحياة الدينية للصحراوية بدائية، وهو الاعتقاد بالجن وقواها الغامضة. وفي الحقيقة فإن هذه المستويات جميعًا قد تراكبت فوق المستوى التحتي الأكثر قدمًا، والذي ينتمي إلى يهوه إله البراكين الذي جاءت به جماعة الخروج من الصحارى الجنوبية، حيث كان يُعبد من قبل الجماعات الرعوية ومن قبل سكان المحطات التجارية عند الواحات، الذين كانوا يكسبون عيشهم من خدمة القوافل التجارية الصاعدة من مصر ومن بلاد العرب. وباستخدام مصطلحات التحليل النفسي الفرويدي يمكن وصف هذا المستوى التحتي القديم بأنه "اللاشعور" أو "الخافية" التي تحتوي على كل ما هو سلبي ومكبوت، والتي قد تقتحم عناصرها ساحة "الشعور" أو "الواعية" وتتسبب في شتى أنواع الاضطرابات النفسية للإله التوراتي الذي لم ينجح بعد في لم شتات انقساماته الداخلية.

لدينا في الكتاب إشارات واضحة إلى الموطن الأصلي الذي جاء منه يهوه، وإلى الظواهر الطبيعانية التي تترافق مع ظهوره: نيران، زلزلة وتشقق في الأرض، دخان مثل دخان الآتون، جبال وآكام تُخسف وتُدك. وجميعها مما يترافق مع ثورة البراكين النشطة:

-        يا رب. بخروجك من سعير، بصعودك من صحراء آدوم الأرض ارتعدت... تزلزلت الجبال من وجه الرب، وسيناء هذا من وجه الرب إله إسرائيل. (القضاة 5: 4-5)

-        جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران. (التثنية 33: 2)

-        اللهم (= إيلوهيم) عند خروجك أمام شعبك، عند صعودك في القفر، الأرض ارتعدت، السماوات أيضًا قطرت أمام وجه الله. (المزمور68: 7-8)

-        الله جاء من يتمان والقدوس من جبل فاران. جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور، له من يده شعاع... وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم ودُكت الجبال الدهرية وخُسفت آكام القِدم... رجفت شقق أرض مديان. (حبقوق 3: 3-7)

هذه المواضع المرتبطة بيهوه والتي منها "جاء" و"خرج" و"أشرق"، تقع في سيناء وفي آدوم المنطقة الصخرية الجرداء الواقعة بين البحر الميت شمالاً وخليج العقبة جنوبًا، وفي منطقة مديان حول خليج العقبة، والمناطق الشمالية الغربية لبلاد العرب. وتدلنا الظواهر الطبيعانية الخارقة المترافقة مع ظهوره على طبيعته الأصلية باعتباره إلهًا بركانيًا مرتبطًا بجبل معين سوف يدعى على ما سنرى بجبل الله أو جبل سيناء أو جبل حوريب. ولكن النص التوراتي لا يعيننا كثيرًا على تحديد موقعه بدقة. غير أن دراسة الطبيعة الجيولوجية للمناطق المذكورة توجه أنظارنا إلى المنطقة الجبلية في أقصى الشمال الغربي لشبه الجزيرة العربية حيث تكثر التكوينات الجبلية البركانية. ومن المرجح أن يكون في مديان على الطرف الشرقي لخليج العقبة. أما بقية المناطق المذكورة في المقتبسات أعلاه فقد كانت مقرات لعبادة هذا الإله وفيها شيِّدت له المعابد الصحراوية.

على الرغم من أن إله سفر التكوين قد دُعي بالاسم يهوه إلى جانب أسماء أخرى مثل إيلوهيم، وإيل، وإيل شداي، وشداي، وإيل عولم. وعلى الرغم من أنه قد أظهر في عدد من المواقف خصائص الإله البركاني، إلا أن البداية الحقيقية لدين إسرائيل ولإله إسرائيل لا تتوضح في عصر الآباء وإنما في سفر الخروج. ففي مطلع ذلك السفر أعلن يهوه لموسى عن نفسه لأول مرة عند جبل حوريب عندما كان يرعى غنم حميه يثرون في مديان بعد هربه من مصر، وأعلن عن اسمه الذي لم يكن الآباء الأولون يعرفونه. وفي ظهوره الأول هذا أعلن عن طبيعته النارية عندما كلمه من وسط نارٍ تشتعل في نبتةٍ شوكية صحراوية، وأخذ على نفسه عهدًا بتحرير بني إسرائيل من العبودية في مصر وقيادتهم إلى أرض كنعان ليكونوا شعبًا خاصًا له ويكون لهم إلهًا:

وأما موسى فكان يرعى غنم حميه يثرون كاهن مديان، فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب. وظهر له ملاك الرب (= شبح الرب) في لهيب نارٍ من وسط عُلَّيقة. فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار وهي لا تحترق. فقال موسى: أميل الآن وأنظر هذا المنظر العظيم، لماذا لا تحترق العليقة؟ فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى، موسى. فقال: هأنذا. فقال: لا تقترب إلى هَهُنا. اخلع حذائك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله. فقال الرب: إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مُسخِّريهم. إني علمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأُصعدهم من تلك الأرض إلى أرضٍ جيدةٍ وواسعة... فالآن هلم فأُرسلك إلى فرعون وتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر. فقال موسى لله: من أنا حتى أذهب إلى فرعون وحتى أُخرج بني إسرائيل من مصر؟ فقال: إني أكون معك وهذه تكون لك العلامة أني أرسلتك: حين تُخرج الشعب من مصر تعبدون الله على هذا الجبل. فقال موسى لله: ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإذا قالوا لي ما اسمه فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى: أهيه الذي أهيه (بالعبرية: أهيه أشر أهيه. وتعني أنا الذي أنا). وقال: هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه (=أنا) أرسلني إليكم. وقال الله لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل. يهوه إله آبائكم أرسلني إليكم. هذا اسمي إلى الأبد. (الخروج 3: 1-5)

وبعد ذلك في الإصحاح السادس يعود يهوه إلى الموضوع نفسه عندما يقول لموسى:

أنا الرب. وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء (بالعبرية: إيل شداي). وأما باسمي يهوه فلم أُعرف عندهم. (الخروج 6: 1-3)

من الواضح في هذا النص أن موسى لم يكن يعرف من هو هذا الإله الذي تجلى له في نار العليقة، مثلما لم يكن معروفًا أيضًا لدى العبرانيين، ولذلك سأله موسى عن اسمه لكي يعلنه لبني إسرائيل. وهنا يتقدم يهوه بإجابة ملتبسةٍ عندما يقول: "أنا الذي أنا" و"أنا أرسلني إليكم". أي أنه في البداية أراد التعبير عن جوهره بدلاً من الكشف عن اسمه. ذلك أن الله هو الموجود الوحيد القادر على النطق بكلمة أنا لأنه الوجود السرمدي، أما أنا أفراد البشر فوهمٌ ناجم عن صيرورة لا عن وجود، وهذه الصيرورة مآلها إلى الانطفاء والزوال. وبالطبع فإن هذا التأمل اللاهوتي الشديد التجريد هو من نتاج عصر التوحيد المتأخر، أسقطه المحرر التوراتي على هذه الفترة المبكرة من حياة يهوه، عندما كان ذلك الإله شاعرًا بوحدته في صحاريه ولكنه لم شاعرًا بوحدانيته. ولإدراك المحرر بصعوبة مثل هذا المفهوم الذي يطرحه على سامعه، فقد تدارك الأمر في الفقرة التالية وجعل يهوه يُفشي اسمه على أنه يهوه. وبما أن هذا الاسم كان غريبًا على سمع موسى وجماعته، فقد أكد يهوه لموسى أنه الإله نفسه الذي ظهر لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأنهم عرفوه بالاسم إيل شداي وأما بالاسم يهوه فلم يُعرف عندهم. وقد أراد المحرر من وراء ذلك عقد الصلة بين عصر الآباء وعصر الخروج من خلال مماهاة هذا الإله الجديد بآلهة ذاك العصر. ومن أجل مزيدٍ من التوكيد على هذه الصلة فقد استخدم المحرر في خطاب يهوه لموسى الأسماء الثلاثة: إيلوهيم (الله)، ويهوه (الرب)، وإله أبيك أو إله آبائكم إشارة إلى إله عائلة إبراهيم. وبذلك تم إدخال هذا الإله المنسي من آلهة الصحراء إلى البيئة الثقافية لكل من مصر وكنعان.

ولا أدل على جدة هذا الإله على المسرح الثقافي للشرق القديم، من أن اسمه لم يرد في أي وثيقةٍ مكتوبةٍ في ثقافات الشرق القديم قبل وفوده إلى فلسطين، وتحوله إلى إله أعلى لسكان مناطق المرتفعات الفلسطينية حيث تشكلت فيما بعد دولتي إسرائيل ويهوذا. على أن الاسم قد ورد في وثيقةٍ مصريةٍ من القرن الرابع عشر باللفظ نفسه ي هـ و ه في إشارةٍ إلى منطقةٍ جغرافيةٍ تقع إلى الجنوب من فلسطين وليس إلى اسم إلهٍ ما. ويبقى الاحتمال قائمًا في أن تسمية هذه المنقطة قد جاءت من اسم الإله المعبود فيها[1].

في التجلي الثاني ليهوه في صحراء سيناء بعد الخروج من مصر أعلن بأكثر الطرق إثارةً للرعب عن جوهره البركاني، عندما نزل على جبل سيناء من أجل إعطاء الشريعة لموسى:

فقال الرب لموسى: ها أنا آتٍ إليك في ظلام السحاب لكي يسمع الشعب حيثما أتكلم معك فيؤمنون بك أيضًا... فانحدر موسى من الجبل إلى الشعب وقدَّس الشعبَ وغسلوا ثيابهم... وحدث في اليوم الثالث لمَّا كان الصباح أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل وصوت بوقٍ شديد جدًا، فارتعد كل الشعب الذي في المحلة. وأخرج موسى الشعب من المحلة لملاقاة الله فوقفوا في أسفل الجبل. وكان جبل سيناء كله يدخِّن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الآتون وارتجف كل الجبل جدًا. فكان صوت البوق يزداد اشتدادًا وموسى يتكلم والله يجيبه بصوتٍ. (الخروج 19: 7-19)

ونحن هنا أمام وصفٍ معبِّرٍ لبركانٍ ثائر. فالجبل كله يرتجف ويدخِّن ويصعد دخانه مثل دخان الآتون، وتصدر عنه أصواتٌ تصمُّ الآذان شُبِّهت بصوت الأبواق. ولا شك أن يهوه قد وُلد في ثورة لإحدى تلك البراكين النشطة الواقعة إلى الشرق من خليج العقبة والتي تبدو لنا اليوم براكين هامدة، وأن ذلك الجبل اعتبر إلهًا من قبل سكان المنطقة يجب عبادته واسترضاءه لكي يكف أذاه عنهم. وقد بقيت هذه الظواهر البركانية ترافق يهوه بعد أن أقام في خيمة وسط بني إسرائيل أثناء ترحالهم اعتبرت بمثابة مقام ديني له. فكانت غمامة تغطي المسكن نهارًا، وفي الليل كانت النار تتوهج داخل هذه الغمامة (الخروج 40: 38). ولدينا هنا إشارة واضحة إلى قمة البركان النشط التي تنبعث منها الأبخرة الكثيفة في النهار وفي الليل تتوهج النار داخل هذه الأبخرة. وكان بنو إسرائيل إذا تحركوا أن الرب يسير أمامهم في عمود من الغمام نهارًا وفي عمود من نار ليلاً لكي يهديهم الطريق (الخروج 13: 21). والأرض ترتج لظهوره وترتعد (القضاة 5: 4). ويظهر له نور ولمعان من يده يخرج شعاع، وإذا نظر إلى الجبال دُكَّت وإلى الآكام خُسفت (حبقوق 3: 4-6).

وقد بقي يهوه مرتبطًا بهذا الجبل وما يتصل به من ظواهر حتى بعد سكناه في هيكل أورشليم. وها هو النبي إيليا بعد أن ضاق به الأمر في صراعه مع آخاب ملك إسرائيل وزوجته إيزابيل ورأى أنه ميت لا محالة، لجأ إلى موطن الرب في الصحراء وقصد جبل حوريب لا هيكل أورشليم، فسار أربعين يومًا وأربعين ليلة حتى وصل إلى الجبل فصعد ليبيت في مغارة:

وكان كلام الرب إليه يقول: ... أُخرج وَقِفْ على الجبل أمام الرب. وإذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد شقت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب ولم يكن الرب في الريح. وبعد الريح زلزلة ولم يكن الرب في الزلزلة. ويعد الزلزلة نار ولم يكن الرب في النار. وبعد النار صوت منخفض خفيف. فلما سمع إيليا لف وجهه بردائه وخرج ووقف في باب المغارة، وإذا بصوتٍ إليه يقول: مالك ههنا يا إيليا؟ (1 ملوك 19: 1-13)

ورد الاسم يهوه بحروفه الأربعة ي هـ و ه نحو 6828 مرة في النص العبري للتوراة. وعندما جرى إدخال الحركات الصوتية على النص الساكن في القرن التاسع الميلادي، عمد الربانيون القائمون على هذا المشروع إلى استبدال اسم الإله بلقب أدوناي الذي يؤدي في العبرية وبقية اللغات السامية الغربية معنى الرب أو السيد. ولم يُترك الاسم على حاله بحروفه الأربعة غير المصوتة إلا في الموضع الذي يعلن فيه يهوه عن اسمه لموسى (الخروج 3: 15، و6: 3). وهذا ما أدى إلى مشكلة تتعلق بتشكيل الكلمة في اللغات الأوروبية، وإلى ظهور قراءة مغلوطة للاسم هي Jehova. ولكن الاتفاق تم بين الباحثين الكتابيين على قراءته كما نفعل في اللغة العبرية أي: يَ هْـ وِ ه/ Yahweh.

على أن صيغة مختصرة للاسم بقيت في الكتاب وهي ياه. وهذه الصيغة تستخدم عندما يرد الاسم بشكل مركب مع كلمة أخرى أو مع اسم علم، كما في كلمة هليلوياه وهي كلمة للتسبيح تعني المجد ليهوه، وكما في أسماء العلم التي تحتوي في أحد شطريها على الاسم المقدس مثل: أدونياه، وعزرياه، وأمصياه، ويوشياه. وقد تحذف الهاء الأخيرة في بعض الحالات ليغدو الاسم: يوشيا، أمصيا.. الخ. ولدينا أيضًا صيغة أخرى للاسم هي ياهو ترد مدمجة أيضًا في أسماء العلم مثل: يهورام/ يهوياداع، يهوآش..الخ. وخارج كتاب التوراة وُجد الاسم في بعض النقوش الكتابية بمنطقة يهوذا بصيغة ي هـ و ه، وهي ترجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد. كما وُجد بصيغة ياهو في مخطوطات جزيرة الفيلة بمصر العليا قرب أسوان، والتي تَرَكَتْها لنا جالية يهوذية عاشت هناك بين القرن السادس والقرن الرابع قبل الميلاد. ووجد بصيغة ي هـ و ه في نقش ميشع ملك مؤاب الذي عُثر عليه بمنطقة شرقي الأردن والذي يعود بتاريخه إلى أواسط القرن التاسع قبل الميلاد.

أما عن معنى الاسم وجذره اللغوي، فإن الباحثين ما زالوا في خلاف بشأنه. فبعد أن تبين لهم عدم وجود جذر له في اللغة العبرية، راحوا يبحثون عنه في اللغات الكنعانية الأخرى، في الأوغاريتية، والفينيقية، والمؤابية، والعمونية، ولكن دون جدوى. ثم بحثوا في الآرامية ولكنهم لم يتوصلوا إلى شيء. وحتى العربية لم تكن بمنأى عن هذه المحاولات، حيث قال البعض أن الجذر يعود إلى فعل هوى- يهوي. فهو الإله الذي يهوي بصواعقه على الأرض، على اعتبار أنه شكل من أشكال إله الصاعقة هدد- بعل. ويبدو أننا لن نستطيع التوصل إلى رأي قاطعٍ بهذا الخصوص، لأن أسماء الآلهة غالبًا ما تكون أقدم بكثيرٍ من الديانات التي استخدمتها، والتصورات الخاصة بإلهٍ ما قد تتغير مع الإبقاء على الاسم نفسه.

هذا الإله مولود سفر الخروج لا يشبه في شيءٍ إله عصر الآباء. فلقد كان إله إبراهيم إلهًا شخصيًا لمجموعة رعويةٍ صغيرة، يحرص على أمنها ورخائها ويدخل في علاقة حميمية مع أفرادها ويساعدهم على حل مشاكل، ولا يستنكف عن تأدية أصغر المهام من أجلهم، ويظهر لهم ويكلمهم عن قرب. أما هذا الإله الذي ابتدأ تاريخه عندما أعلن عن اسمه لموسى، فإنه على قربه من الشعب وسكناه في خيمةٍ بينهم ومسيره أمامهم، إلا أنه في الوقت نفسه أبعد عنهم من قبة السماء. فعندما تجلَّى على الجبل حتى كاد أن يجعله دكًا قال لموسى:

... وتقيم للشعب حدودًا من كل ناحية قائلاً: احترزوا من أن تصعدوا إلى الجبل أو تمسوا طرفه. كل من يمس الجبل يُقتل قتلاً. لا تمسه يدٌ بل يرجم رجمًا أو يرمى رميًا، بهيمة كان أم إنسانًا لا يعيش. (الخروج 19: 12-13).

وعندما رأى الشعب:

الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخن ارتعدوا ووقفوا من بعيد وقالوا لموسى: تكلم معنا فنسمع ولا يتكلم معنا الله فنموت. (الخروج 12: 18-19)

أما خيمة المسكن فقد نُصبت في مكان بعيدٍ عن مضارب بني إسرائيل، ولم تكن مقامًا دينيًا يقصده الشعب من أجل التعبد لإلههم كما هو الحال في بقية المقامات الدينية. فكان محرمًا على أحدٍ الاقتراب منها، ولا يدخلها إلا موسى والكهنة من أولاد هارون الذين أُفرزوا للخدمة فيها. وحتى هؤلاء فقد كان عليهم التعامل معه بحذر شديد ويحرصون على أداء الطقوس التي اسْتَنَّها لهم بدقةٍ شديدة، لأن الخطأ في أدائها على الوجه الصحيح كان يُعرض صاحبها للموت الآني.

إن قرب الرب من بني إسرائيل لم يخلق لديهم إحساسًا بالحميمية معه كما كان حال الآباء مع إلههم، وإنما ولَّد لديهم إحساسًا طاغيًا بحضورٍ قدسيٍ ينطوي على تهديدٍ دائم. حضور لا تستطيع الاطمئنان إليه أو محبته بل الخوف منه. وهذا الخوف هو الذي سيغدو ناظمًا للعلاقة بين الطرفين على ما يتردد في جنبات الكتاب المقدس: "رأس الحكمة مخافة الرب" (الأمثال 9: 10). "مخافة الرب رأس المعرفة" (الأمثال 1: 7). "ولذته في مخافة الرب" (إشعيا 11: 3). "يا خائفي الرب سبحوه" (المزمور 22: 23). "ما أعظم جودك الذي ذخرته لخائفيك" (المزمور 31: 19). "هو ذا عين الرب على خائفيه" (المزمور 33: 18). "أعطيتَ خائفيك راية" (المزمور 60: 4). "اعبدوا الرب بخوف" (المزمور 2: 11). "مخوف أنت يا الله" (المزمور 68: 35). "وأقطعُ لهم عهدًا أبديًا وأجعل مخافتي في قلوبهم." (إرميا 32: 40).. الخ.

من المقاطع القليلة التي ورد فيها تعبير "حب الرب"، سواء أكان من هذا الطرف أم ذاك (وهي لا تزيد عن عشرة مواضع في الكتاب)، نقرأ المقطع التالي: "اسمع يا إسرائيل، إن الرب إلهنا رب واحد. فأحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك. ولتكن هذه الكلمات التي آمرك بها اليوم في قلبك وكررها على بنيك". (التثنية 6: 4-6). وكما نلاحظ فإن حب الشعب للرب هنا هو وجه آخر للانصياع لأوامره. إنه شكل من أشكال الإذعان. والرب عندما يقول أحببني فإنه يعني بذلك: نفذ مطالبي منك. ولكن إذا لم تفعل فإن هذا الرب الذي يُفترض أنه أحبك أولاً لكي تبادله الحب سوف يجعلك: "تُستعبد لأعدائك الذين يرسلهم عليك، بجوعٍ وعطش وعري وفاقة إلى كل شيءٍ حتى يُفنيك." (التثنية 28: 48)

إن الخوف من هذه الألوهة الظلامية لا يقتصر على كونه رهبة من هويةٍ ماورائية غامضة، وإنما يتعدى ذلك إلى توقع انبثاقها في عالم الواقع بأكثر الأشكال انفلاتًا، وإحداث أكثر أشكال الرعب المادي هولاً. فإله بني إسرائيل ابتدأ الفتك بشعبه وأفنى منهم الآلاف المؤلفة قبل أن يلتفت إلى الشعوب الأخرى. ذلك أن الطبيعة المتفجرة والقوة العمياء لإله البراكين هذا، قد رشحته منذ البداية لدور أمير الحرب، وهو دور سوف يلعبه حتى النهاية عندما نراه نحو أواخر القصة التوراتية في سفر إشعيا وهو عائد من مجزرة الشعوب وقد تلطخت ثيابه بدمائهم حتى صار كخائضٍ في معصرة عنب.

على أننا قبل أن نتتبع سيرة أمير الحرب، سوف نتوقف لاستجلاء لغزين. الأول لغز موسى والثاني لغز العبرانيين.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  بخصوص هذه الوثيقة راجع:

W.F. Allbright, Yahweh and the Gods of Canaan, New York. 1969, P.171

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني