التفكير السِّياسيُّ "الدريديّ": من سياسة الدول إلى سياسة الصداقة

 

سامية بن عكوش*

 

كثيرًا ما شغلت علاقة دريدا بعصره نقاد وفلاسفة عصره، فانتقدوا أحيانًا صمته فيما يخصُّ العديد من القضايا الدولية الهامَّة كالقضية الفلسطينية وقضية الغزو الأمريكيِّ للعراق. كما انتقدوا غموض أفكاره وآرائه في أحيان أخرى. وبرَّر دريدا صمته بأنَّه لا يجد ما يقوله في كثير من الأحيان، وأنَّه لا يملك سلطة التأثير ولا التغيير أمام سلطة الإعلام الموجَّه الذي يؤثِّر في الرَّأي العام بقوة.

هذا لا يعدم انشغال دريدا بالمجال السِّياسيِّ، ويندرج ضمن إستراتيجيته التفكيكية التي وجَّهها إلى العقل السِّياسيِّ الغربيِّ وكشف التناقضات في مفاهيمه عن الديمقراطية والحوار والحرِّية، رابطًا ذلك بالأصل الذي نبعت منه هذه المفاهيم، ألا وهو الأصل الإغريقيُّ الذي لا تصلح بالضرورة كلُّ معانيه للغرب المعاصر، وللأقاليم المجاورة للغرب. ومثل هذا التفكيك السِّياسيِّ تشهد عليه كتب دريدا: "أطياف ماركس" و"مارقون" و"سياسة الصداقة" وكذا محاوراته الصحفية الكثيرة التي شكَّلت محاضرات ألقاها في كلِّ جامعات العالم، وخاصة في السنوات الأخيرة من حياته. فماذا قال دريدا أو ماذا استبق من أفكار في الشأن السِّياسيِّ؟

أطلق دريدا صافرة الإنذار حول خطورة الأوضاع العالمية منذ كتابه أطياف ماركس؛ حيث انتقد الديمقراطية الغربية التي تكيل بمكيالين، وتراعي مصالح وسيادة الدول الغربية على حساب مصالح وسيادة الدول الضعيفة. كما انتقد مفهوم الديمقراطية المبنيَّ على مفهوم "الدَّولة الأمَّة"؛ حيث تعني الديمقراطية في الأصل الإغريقيِّ الأصل والارتباط بالأرض، وهو ما شكَّل حسب دريدا دولاً غربية ذات سلطة؛ والسُّلطة تستفيد من امتيازاتها مجموعة دون أخرى. وإنَّ الدوَّل المرتبطة بالسُّلطة تصنع مجتمعات طبقية؛ أي ينعدم العدل فيها. وإنَّ السُّلطة تصنع التسلُّط أيضًا لفئة على أخرى داخل المجتمع الواحد، فتؤول العلاقات إلى مصالح ظرفية ليس إلاَّ. وبالتالي تنتفي الروابط الإنسانية. وينتقد دريدا الدولة-الأمة الذي انبنت عليه الدول الغربية المعاصرة، لأنَّها تكشف في داخلها عن الاحتكار والتسلُّط لفئة اجتماعية على حساب أخرى، ويتعدى التسلُّط إلى علاقة الدوَّل الغربية مع آخرها الأوروبيِّ "دول الشرق وحوض الأبيض المتوسط".

يحتاج العالم حسب دريدا إلى "ديمقراطية مستقبلية"، فصَّل في مفهومها وإمكان تفعيلها في المستقبل، بين مختلف الغرب من جهة ودول الشَّرق وحوض البحر الأبيض المتوسِّط من جهة أخرى، وخاصة بين الغرب والدوَّل الإسلامية. ذلك ما تضمَّنه حواره الطويل مع الفيلسوف الجزائريِّ مصطفى الأشرف، في الكتاب الذي تضمَّن المحاورة الطويلة بعنوان: الإسلام والغرب.

ينطلق دريدا في تصوُّره لديمقراطية المستقبل من اعتباره الغرب متعدِّد والإسلام إسلامات. فتكون "ديمقراطية المستقبل" هي النَّموذج الذي يحافظ على التعدُّد والاختلاف لمكوِّنات العالم، داخل وحدة مستقبلية ضرورية. فوجب على الغرب التوجُّه للحوار مع العالم المسلم دون أفكار جاهزة مسبَّقة عن الإسلام ولا عما يجب أن يكون عليه الآخر المختلف. كما وجب على البلدان الإسلامية التوجُّه للحوار مع الغرب في آخريته المطلقة. ويدعو دريدا إلى إحياء اللَّحظة الأندلسية، حيث حدث التطعيم بين الثقافة العربية واليهودية والإغريقية. وإنَّ مسؤولية كلِّ مثقف حسب دريدا هي إحياء هذه اللَّحظة وخلق الفرص والإمكانيات اللازمة لفعل ذلك. وإنَّ إمكان الحوار بين الثقافات وارد، إن ارتكَّز الحوار على قبول الآخر واحترامه في آخريته المطلقة، وإن لم تتدخل القوَّة التي تجعل الدوَّل الغربية تفرض دومًا لغتها وأهدافها على الدول الضعيفة. وإنَّ هكذا حوار أو كلام بين الثقافات – كما يحلو لدريدا تسميته – يحدث في أفق مستقبليٍّ خارج الأنظمة السِّياسية الحالية، أي خارج مفاهيم الدَّولة والأمَّة والدِّين. إنَّها ديمقراطية مستقبلية، تتجاوز حتى دعاوي الدولة الكوسموبوليتية. لأنَّ نموذج الدولة الكوسموبوليتية أحاديٌّ، يجعل العالم كلَّه يتحدَّث لغة واحدة ويسير وفق إيقاع حضاريٍّ واحد. وهو ما يقضي على التعدُّد والاختلاف.

لا تحتاج ديمقراطية المستقبل حسب دريدا إلى الدول، ولا يقصد دريدا تفكيك الدول وتدميرها، بل تفكيك عنصر السُّلطة الذي يحدث طبقية في المجتمع، وبالتالي ينعدم العدل، فيستحيل بذلك تحقيق الحوار بين الأفراد، إلاَّ بهدف المصلحة، وهو ما يقضي على البعد الإنسانيِّ في العلاقات. وينسحب الأمر ذاته على العلاقات الدوَّلية. فيشدِّد دريدا على تفكيك المفاهيم التي انبنت عليها الدولة، وليس تفكيك الدولة كما أساء البعض فهمه. فالدولة حسبه مهمَّة للوقوف قبالة الطوائف الدِّينية وقبالة الاقتصاد الدوليِّ الطاغي.

لا تحتاج ديمقراطية المستقبل إلى الدِّين، لأنَّ الدِّين كما يقول دريدا يقرُّ بالأخوة لا الصداقة. الأخ يعني الشبيه والمماثل، أما الصديق فهو المختلف وهو الآخر في آخريته المطلقة. الأديان كلُّها حسب دريدا تخاف من المختلف وتدعو إلى المماثل والشبيه. وهو ما يقلِّص فرص الحوار والتفاهم بين البشر. ولا يقصد دريدا إلغاء الأديان في الدوَّل، بل البحث عن حوار ممكن بينها، دون الوقوع في الطائفية أو الإخوانية.

لن تتحقَّق ديمقراطية المستقبل حسب دريدا ما لم يتوجَّه العالم نحو أممِّية جديدة. وتتحقَّق الأممِّية الجديدة بتشكيل حلف عسكريٍّ جديد خارج الحلف الأطلسيِّ. لأنَّ الحلف الأطلسيَّ يشكِّل قوَّة مدعِّمة لمصالح الدول الكبرى، على حساب مصالح الدول الضعيفة. فأينما تدخل الحلف بداعي الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان خلَّف حربًا طاحنة لا تخمد، مثلما هو الأمر في ليبيا. كما أنَّ الأممِّية الجديدة تحتاج إلى قوانين دولية جديدة، تحمي سيادة الدول. والأممية الجديدة تحتاج إلى تغيير مكان تواجد الأمم المتحدة، من نيويورك إلى مكان آخر. فالأمم المتحدة أضحت لعبة في يد الدول الكبرى، تمرِّر عبرها خططها ومشاريعها ومصالحها.

إنَّ حلَّ العالم حسب دريدا هو التوجُّه إلى ديمقراطية جديدة "ديمقراطية المستقبل" وأممية جديدة، يستغني فيها العالم عن مفاهيم الأمَّة والدِّين والدولة التي أثبتت أنَّها تصنع الهوِّيات المتصارعة والثقافات المتصادمة، وتعزل البشر المختلفين في عقيدتهم وثقافتهم عن بعضهم البعض. فهي لم تفلح سوى في جمع عنيف للمتماثل. وإنَّ مسؤولية العالم حسب دريدا هي في تجاوز الخلافات للاجتماع على الجواهر الإنسانية المشتركة، أو لنقل بالمصطلح الدريديّ "التحوُّل من سياسة ما بين الدول إلى سياسة الصداقة".

*** *** ***

جريدة الوسط الجزائرية، 8 مارس/آذار 2015


 

horizontal rule

* أستاذة جامعية وكاتبة من الجزائر.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني