علم الطبيعة في الفلسفة اليونانية
معاذ قنبر
يعتبر
الفلاسفة اليونان الأوائل مؤسسي حركة التفكير المادي بمعناه العلمي
الفيزيقي، ويعود لهذه الفلسفة الفضل بانطلاقها البدئي من المادة لتفسير
قوى وألغاز الطبيعة، وإن بدت نظرتهم متواضعة إلا أنها تشكل قفزة جبارة
في محاولات تتبع الإنسان للعالم من خلال المادة نفسها الأمر الذي لم
يكن واضحًا في المجتمعات الأخرى.
فقد تميزت هذه الفلسفة وبشكل خاص في حلتها الهلنستية بالنزعة التجريبية
حيث نجد علماء هلنستيين أمثال إراتوستين واسترابون وبطليموس قد وضعوا
أسسًا منهجية للبحث العلمي الذي غلب على الفكر اليوناني طيلة تربعه على
منارة الفكر العالمي، كذلك فعل قبلهما أرسطو الذي وقف على الحد الفاصل
بين الثقافتين اليونانية والهلنستية وقد استطاع أن يحول قوة الفكر
الفلسفي الإغريقي إلى نسق متماسك منطقي وقد قدر لهذا النسق أن يمارس
تأثيرًا هائلاً على التفكير العلمي ومنهجياته لمدة ألفي سنة قادمة،
ولعل ذلك التأثير البالغ للفلسفة اليونانية على العلم خاصة يعود أساسًا
إلى البنية المادية للفكر اليوناني وذلك يبدو منذ تتبعنا لأفكار
الفلاسفة اليونان الأوائل التي تحتوي على ثروات مادية واضحة على الرغم
من الطابع الروحاني الميتافيزيقي الذي تتلبسه، فهؤلاء الفلاسفة قد
نظروا إلى كل شيء من زاوية المادة على الرغم من أن تصورهم كان مختلطًا
على اعتبار أن العناصر التي قالوا بها كمبادئ مكونة للعالم الطبيعي
كانت عندهم عناصر مادية وروحية معًا. وهو ما سنحاول دراسته في الصفحات
التالية.
الطبيعة عند الفلاسفة اليونان قبل سقراط: وإذا بدأنا من
الفيلسوف الأول المعروف عند اليونان وهو طاليس فإننا نجد عنده إرهاصات
لفكر مادي فلسفي حيث رفض التفسير الميتافيزيقي للعالم السائد في
الميثولوجيات المصرية والبابلية واليونانية محاولاً تقديم مفهوم مادي
جديد للعالم جاعلاً من الماء جوهر للعالم، فهي المادة الأولى الذي نشأ
عنه العالم المادي، من ذلك المنطلق نعتبر طاليس مؤسس الفلسفة الأيونية
المادية في العالم اليوناني مؤكدًا على أن كل العمليات في الطبيعة
تتلخص في خلخلة المادة وتكاثفها، تلك المادة التي اعتبرها ماهية متحدة
وموحدة للعالم ويمثلها الماء، وقد زعم أرسطو فيما بعد أن طاليس نسب
الروحانية إلى الأجسام المادية الجامدة مستندًا إلى المغناطيس
والكهرباء حيث رأى طاليس أن الروح هي مصدر الحركة في الطبيعة تلك الروح
هي تعبير أولي عن مفهوم الطاقة في العالم، ولعل نجاح طاليس العلمي في
ميدان الفلك والهندسة المغناطيسية قد ضاعف مطامعه الفكرية، فهو من حيث
أنه أول عالم في العالم الغربي قد سبق مذهب التفاؤل المتطرف الذي ساد
لدى علماء الطبيعة في العصر الفكتوري، فلم يقنع بتعقيل الهندسة
العملية، بل أراد أن يفسِّر العالم نفسه، لا كما يفعل الصبيانيون من
السابقين عليه بالالتجاء إلى الخرافات، بل بصيغ حسية يمكن تحقيقها[1]. وبذلك يكون طاليس
أول مفكر سعى إلى تفسير طبيعة المادة بانطلاقه من المادة ذاتها، وما
يميز فكرته تلك ويعطيها طابعها المادي مقارنة بالميثولوجيات السابقة
التي انطلقت من الماء كأصل للعالم هي أنها دعِّمت عنده بالدليل العقلي
فقال بأن النبات والحيوان يتغذيان بالرطوبة ومبدأ الرطوبة هو الماء،
وما منه يتغذى الشيء فهو يتكون منه بالضرورة، ثم أن النبات والحيوان
يولدان من الرطوبة، فالجراثيم الحية رطبة وما منه يتكون الشيء فهو
يتكون منه، وما يشاهد في هذه الأحوال ينطبق على الأرض بالإجمال، فإنها
خرجت من الماء وصارت قرصًا طافيًا على وجه جزيرة كبرى في بحر عظيم وهي
تستمد من هذا المحيط اللامتناهي العناصر الغازية التي تفتقر إليها
فالماء هو أصل الأشياء. وقد استفاد طاليس بشكل أو بآخر من المفاهيم
التي اكتشفتها الحضارات السابقة آخذًا منها الطابع العلمي فقد تأثر
بالهندسة الفرعونية والفلك البابلي لإثبات مجموعة من الحقائق العلمية
الفذة في عصره، حيث يُظن أنه أثبت بأن قطر الدائرة هو الخط الذي ينصفها
وأن زاويتي قاعدة المثلث المتساوي الساقين متساويتان حيث أمكن قياس أي
ظاهرة طبيعية بما في ذلك الضوء والصوت في فراغ هندسي محض، وبما أن
طاليس كان على اطلاع على علوم الشرق القديم في بابل ومصر وفينيقية -
تعلم على يد كهنة مصر الرياضيات والفلك - فإنه اعتمادًا على فلك الشرق
ذي الطابع الأسطوري - لكنه الناجح على امتداد قرون من الأرصاد الفلكية
– استطاع أن يرصد التعاقب الدوري للخسوف والكسوف، كما استطاع أن يتنبأ
بكسوف الشمس الذي وقع في أيونيا حسب الفلكيين المعاصرين في 25 أيار من
العام 585 ق.م[2]، ولعل أفضل ما جاء
به الفكر الفلسفي لطاليس هو أنه أدخل ولأول مرة أهمية المعرفة
الاستقرائية للعالم كما قدم لأول مرة معارف تعتمد على البراهين الأمر
الذي لعب دورًا في التطور العلمي فيما بعد. حيث يقول في حكمته:
أقدم ما في الوجود هو الإله لأنه غير مولود، وأصل الأشياء هو العالم
لأنه خلق الإله، وأكبر الأشياء هو المكان لأنه يتسع لكل شيء، وأقوى
الأشياء هي الحتمية لأنها تسود على كل شيء، وأحكم الحكماء هو الزمن
لأنه يكشف عن كل شيء، ابحث عن حكمة واحدة واختر واحدًا من الخيرات.
وبعده جاء الفيلسوف إنكسمندر الذي يعتبر أول من كتب بحثًا عن الطبيعة
باللغة الإغريقية متابعًا التصورات المادية لسلفه معتبرًا أن جوهر
الوجود هو مادة غير محدودة ولامتناهية وعنها نشأت المواد الجزئية
المحسوسة، ويبدو أنه كان مأخوذًا بالصراع القائم بين الأشياء المتضادة
من بارد وحار ويابس ورطب فأعلن بأن الأشياء في حرب دائمة مع بعضها
البعض وهذه الحرب مطبوعة بضروب الظلم التي تفرضها عندما يطغى بعضها على
بعض، ولهذا لا يمكن عنده أن نسلم بأن جوهر الوجود هو الماء كما اعتقد
طاليس إذ إن الظلم سيتغلب عندها وتكون الغلبة للبارد والرطب على الحار
واليابس وهذا يخالف سنن الطبيعة، وبالتالي لا يمكن للجوهر أن يكون
واحدًا من الحدين المتضادين بل يعود لطابع جدلي أعمق من ذلك تنشأ فيه
الأضداد وتتلاشى، وهو يزعم أن الأرض محاطة بحلقات عملاقة مليئة بالنار،
وحلقة الشمس أكبر من الأرض بثمان وعشرين مرة، وحلقة القمر أكبر من
الأرض بتسع عشرة مرة، والشمس أعلى الكرات تحتها يأتي القمر وتحت القمر
نجوم ساكنة لا تتحرك، ويحدث خسوف القمر عندما تنغلق الفتحة الموجودة
على سطح حلقة القمر، على الرغم من تلك المعلومات الخاطئة بالجملة إلا
أن مأثرة إنكسمندر تتلخص في أنه رد الوجود لطابع جدلي ديناميكي وهذه
سابقة مهمة في تطور الفكر الفلسفي العلمي في ذلك العصر.
ثم جاء إنكسمانس بتصور أحادي جديد للعالم المادي رافضًا التصورات
الجدلية معيدًا العالم مرة أخرى لجوهر واحد هو الهواء الذي منه تنشأ
الأشياء من خلال تكثفه وتخلله حيث يقول بأن "الجوهر الأول واحد لانهائي
ولكنه محدد الكيف، إنه الهواء، منه نشأت الأشياء الموجودة والتي كانت
موجدة والتي سوف تكون، ومنه نشأت الآلهة وما هو إلهي وتفرعت باقي
الأشياء"[3]،
فالعالم يعود مرة أخرى إلى علة واحدة هي الهواء بحيث ينشأ تصور آلي
للعالم قائم على الوحدة والبساطة. وإذا ما تساءلنا عن سبب رفضه لتصور
سلفه وأستاذه برد المادة إلى اللامحدود، فربما تخيلناه يعلل سبب ذلك
بأن أية مادة أولية لامحددة هي مجرد عدم لا يمكن أن يُكتشف فيه شيء،
ومن المستطاع قول شيء على الأقل بالفعل إذا نحن استعضنا بالمادة
اللامحدودة الأولية بالهواء.
وعلى الرغم مما يقال عن تصورات هؤلاء الفلاسفة الذين يمثلون ما يعرف
باسم المدرسة الأيونية يبقى لهم فضل أكيد على إعادة بنية التفكير
البشري في طبيعة المادة عندما أعادوا البحث عن بداية الأشياء وأصلها،
وإن كان هذا الاتجاه ليس جديدًا تمامًا، لكن الجديد الحقيقي ليس في
الحديث عن أصل العالم بل في كيفية انبثاق هذا العالم وهنا الجديد الذي
قدموه في تعريف كلمة البداية، ففي كل الكونيات الأسطورية كانت كلمة
الأصل تعني الحالة البدائية التي اتصف بها الماضي الأسطوري السحيق الذي
زال وانتهى لتحل محله الأشياء، في حين نجد أن هؤلاء المفكرون الطبيعيون
الأوائل قد أدركوا البداية إدراكًا مختلفًا كما عرفوه تعريفًا مختلفًا،
فما كانوا يبحثون عنه ليس واقعة عرضية، بل علة جوهرية، ولم تكن البداية
عندهم مجرد نقطة بدء في الزمان بل هي المبدأ الأول، إنها شيء دال على
السبق المنطقي أكثر منه دال على السبق الزماني، حيث اتفقوا على تصور
العالم شيئًا متمايزًا قائمًا في مادة أولية متجانسة[4].
ومن هنا نستنتج الأهمية التاريخية لتصورات تلك المدرسة في النظر
الفلسفي للعالم المادي.
وإذا ما عدنا إلى تتبعنا التاريخي لتطور النظر الفلسفي للعالم المادي
نصل الآن إلى فيلسوف قلب التصور الأحادي الجامد للعالم الذي تحدث عنه
آخر أقطاب المدرسة الأيونية، هذا الفيلسوف هو هيرقليطس الذي أعاد
الطابع الجدلي للعالم بصيغته الأكثر تطورًا، وهو وإن كان أظهر جهلاً
علميًا معرفيًا كبيرًا للعالم عندما ظن أن غروب الشمس سببه انطفاؤها
بالماء وهي تتجدد كل يوم وبأن قطرها قدم واحدة كما يبدو للنظر، إلا أن
هذا الجهل المعرفي عوضه تصور فلسفي خالد للطبيعة أثر تأثيرًا عميقًا في
التصور الفلسفي للعالم فيما بعد، فهيرقليطس أعلن بأن الأشياء هي دائمًا
في تغير متصل وصيرورة دائمة وبدون تلك الصيرورة لم يكن هناك شيء
فالصيرورة والجدل ليسا مفهومان ناتجان عن مادة لامتناهية كما عند
إنكسمندر بل هما يشكلان قوام العالم، بتلك الفكرة يعتبر هيرقليطس واضع
ديالكتيك نظري للطبيعة، ومن ذلك التصور الجدلي الديالكتيكي قدم
هيرقليطس تصوره لأصل الكون وهو تصور ميتافيزيقي ليس له ما يبرره سوى
العصر ذي البنية الفكرية الميثولوجية التي لم يكن قد تخلص منها تمامًا
بعد، حيث اعتبر أن النار هي المبدأ الأول الذي تصدر عنه الأشياء وترجع
إليه، وليست هذه النار هي تلك التي ندركها بالحواس، بل هي نار لطيفة
أثيرية أزلية تشكل حياة العالم وقانونه، ومن مفهومه هذا عن النار وضع
نظريته لتشكل العالم المادي فتلك النار يعتريها الوهن فتصير نارًا
محسوسة تتكاثف بدورها فتصير بحرًا يتكاثف فيصير أرضًا ويرتفع من الأرض
والبحر بخارًا رطبًا يكون سحبًا تبرق وتعود نارًا من جديد، هكذا يقدم
هيرقليطس تصوره الجدلي للعالم معتبرًا أن التغير الدوري يجري دائمًا
وفق طريقتين هما من أعلى لأسفل ثم من أسفل لأعلى مع بقاء كمية المادة
النارية الأولى واحدة.
ولو عدنا ودققنا النظر بأفكار هؤلاء الفلاسفة نجد لديهم عنصرًا مشتركًا
يتمثل في نظرتهم للمادة لا على أنها مادة معطلة بل باعتبارها مادة حية
ذات روح؛ فالنار عند هيرقليطس، والماء عند طاليس، والهواء عند إنكسمانس
هي في النهاية عقل كلِّيٌّ، هذا على الرغم من أنهم فهموا أن جوهر
الوجود المادي إنما ينبع من المادة نفسها وبذلك فإن نقطة الأصالة في
نظريتهم تكمن في أنهم أرجعوا القانون إلى قوة تكمن في طبيعة الأشياء أي
في قلب المادة وليس إلى قوة خارجها.
وبالتوازي مع هذا الفكر الاستقرائي دخلت التصورات الرياضية في فهم
العالم من خلال فيثاغورث فتحولت المادة عنده إلى عناصر تخضع لقانون
العدد لتغدو منظمة تنظيمًا متناسقًا، فالعدد عنده هو تعبير عن التناسق
في كل شيء وبالتالي فهو يكون جوهر الأشياء التي تشكلت من العنصرين
الذين يتكون منهما العدد هما المحدود واللامحدود وبالتالي تتحول
الأعداد عند فيثاغورث ومدرسته إلى نموذج كلي يعبر عن جوهر الأشياء
فتغدو الأعداد بمثابة المبادئ الخالدة التي تعيش في قلب التناسق، بل هي
التي تكون التناسق نفسه[5].
بذلك التصور ساهم فيثاغورث ومدرسته في إدخال التصورات الرياضية للعالم،
فأقام العالم المادي على أساس تصورات العدد المجردة حيث يرى أن الواحدة
(الجزء) هي مبدأ كل شيء وتخضع للواحدة بصفتها سببًا ثنائية غير محددة
بصفتها مادة، ومن الواحدة والثنائية غير المحددة تنبثق الأعداد، وعن
الأعداد تنبثق النقاط، وعنها تنبثق الخطوط، وعن الخطوط تنبثق الأشكال
المستوية التي ينشأ عنها الأشكال الحجمية، وعن الأشكال الحجمية تتشكل
الأشكال المدركة بالإحساس التي تحمل بذاتها أربعة أسس هي النار والماء
والأرض والهواء، وإذ تتخالط هذه وتتحول فإنها تُنتج العالم حيًا عاقلاً
وكرويًا في وسطه الأرض التي هي بدورها كروية ومسكونة من مختلف أرجائها،
وبالتالي فلا عجب في أن فيثاغورث وأفلاطون الذي تبنى الرؤية نفسها فيما
بعد كما سنرى قد مارسا أقوى نفوذ على الفلسفة الطبيعية في العصور
الوسطى وبشكل خاص عصر النهضة حيث خلق عقل فيثاغورث النظام من الفوضى من
خلال بنية رياضية متماسكة بحيث لم يكتفي بالتأمل الخارجي للمادة بل بحث
بمفهوم الصورة – الجوهر أو البنية أو القانون – التي تميز المفهوم
القانوني الكامن خلف الظاهرات المادية والتي تقبل القياس الرياضي على
اعتبار أن العلاقات الرياضية تميل إلى أن تظهر بساطة أساسية مدهشة فهي
تتضمن قوانين أساسية محدودة العدد نسبيًا تكمن خلف الحشد اللانهائي من
التفاصيل القابلة للملاحظة، فأعاد التعقيد الاستقرائي إلى مجموعة من
القوانين الرياضية البسيطة ومن هنا نرى أن اكتشاف فيثاغورث للكون
المقونن رياضيًا تشكل واحدة من أعمق الاستبصارات الأولى في النظر
للمادة فلسفيًا، حيث استطاعت تلك المدرسة بالانطلاق من مفاهيمها
النظرية أن تتوصل إلى معلومات ثورية احتاج الفكر البشري إلى أكثر من
ألف وخمسمائة سنة ليعيد اكتشافها، ويكفي أن نعرف أن الفيثاغورثيين هم
أول من توصل للقول بعدم مركزية الأرض عندما أكدوا أن مركز العالم لا بد
وأن يكون مضيئًا بذاته لأن النور خير من الظلام كما يجب أن يكون ساكنًا
لأن السكون خير من الحركة، والأرض مظلمة وفيها نقائص كثيرة فلا يصح أن
تكون مركزًا للكون الذي هو عندهم نار أبدية تمد الشمس بالحرارة التي
تعكسها بدورها على الكواكب، هذه النار الأبدية كانت فكرة ميتافيزيقية
حاولا من خلالها تفسير العنصر المادي وتلك الفكرة بالذات عدلت عن طريق
مفكر جاء من تلك المدرسة ذاتها هو أرسطرخوس الذي استبدل تلك النار
الكونية بالشمس نفسها لتبقى تلك الفكرة الثورية طي النسيان حتى مجيء
كوبرنيكوس وإحيائها من جديد مع إحياء العلم الحديث كما سنرى لاحقًا،
لذلك يمكننا القول إن الفيثاغورثية تشكل أول قفزة فكرية في طريق فهم
العالم وفق قوانين مجردة بسيطة جعلتهم يجرؤوا على التفكير بنظام فلكي
لا يرتكز على الأرض فقدمت بذلك تصور عن نظام عقلاني رياضي كامن في
الطبيعة كان بمثابة شرارة أولى انتظرت عصر النهضة لكي يفجرها من جديد.
والواقع هو أن فيثاغورث كان محظوظًا، فتأملاته الفلسفية تصل إلينا من
خلال عقل أفلاطون، فعالم المثُل الأفلاطوني كما سنرى يعد تهذيبًا وصورة
منقحة لمبدأ فيثاغورث في أن العدد يعتبر أساس العلم الحقيقي، كما أن
تصور فيثاغورث قد تكرر في الفيزياء الحديثة عند أينشتاين عندما جعل
المكان والزمان يتحددان عن طريق موضوعات فيزيقية لا نعرف عنها سوى
أرقامها فقط كالجاذبية والطاقة مثلاً، وهذا ما جعل فيلسوف كهوايتيد يرى
أن أفلاطون وأستاذه فيثاغورث يعدان أقرب إلى العلم الفيزيقي من أرسطو
نفسه.
وبالتوازي مع الفيثاغورثية ذات التفكير الرياضي عادت النزعة
الاستقرائية مع أنبادوقليس الذي تصور العالم بتركيب رباعي مرجعًا
العالم إلى أربعة عناصر خالدة أساسية تكون العالم هي الماء والهواء
والتراب والنار، بتلك النظرة نحا أنبادوقليس منحًا ماديًا صرفًا
منطلقًا من أزلية المادة بعناصرها الأربعة الأساسية التي تشكل العالم
والحياة، فباجتماع هذه العناصر تتولد المادة والحياة وبانفصالها يحدث
الموت والفناء، وقد تعمقت تلك النظرة المادية بصورة أكثر وضوحًا
ومنهجية في تصور الفلاسفة الذريين ممثلين بليقبوس وديمقريطس، فليقبوس
يعتبر أول فيلسوف قد أعلن مبادئ المدرسة الذرية رغم التحدث عن أصول
فينيقية وهندية لهذا التصور، حيث افترض ليقبوس أن ثمة في الكمون عدد
لامتناه من الذرات التي لها عدد لامتناه من الأشكال، كما يرى بأن
الوجود ليس موجودًا بدرجة أكبر من العدم حيث يعد هذا وذاك علتين لنشوء
الأشياء، فالوجود هو الذرات ويقوم جوهر هذه في الكثافة المطلقة
والازدحام المطلق، وتنتشر الذرات في الفراغ، في العدم الذي له وجود
واقع وحقيقي كحقيقة وجود الوجود، كما تبنى لوقيبوس بدايات مفهوم
الحتمية الصارم فقال:
لا يظهر أي شيء بغير سبب وكل شيء ينشأ عن أساس ما وبفعل الضرورة،
والعالم ليس حيًا ولا يخضع لعناية إلهية، ولأنه مبني من الذرات فإنه
يخضع للحتمية الطبيعية غير العاقلة[6].
وقد تابع تلك النظرة ديمقريطس الذي حاول أن يتبنى منهجًا تجريبيًا
تأمليًا بوقت واحد فقال بأن الوجود كله امتلاء والحركة ممتنعة دون
الخلاء الذي هو لاوجود، لكن من جهة أخرى فإن الكثرة والحركة ظاهرتان لا
تنكران؟ هذا التساؤل التناقضي عند ديمقريطس قاده لمحاولة الخروج منه عن
طريق تصوره لوجود ذرات مادية غاية في الدقة تتلاقى وتفترق فيحدث
بتلاقيها وافتراقها الكون والفساد، هذه الذرات قديمة أزلية على اعتبار
أن الوجود لا يخرج من اللاوجود وهي دائمة خالدة على اعتبار أن الوجود
لا ينتهي إلى اللاوجود، وهي متحركة بذاتها وواحدة، والجوهر الفرد أو
الجزء الذي لا يتجزأ هو امتلاء وامتداد غير منقسم، وهذه الجواهر الذرية
غير المنقسمة متشابهة في الطبيعة تمام التشابه ليس لها أية كيفية ولا
تتمايز إلا بخاصتين لازمتين هما الشكل والمقدار، فمن حيث الشكل نجد
المستدير والمجوف والمجرف والمحدب والأملس والخشن، أما من حيث المقدار
فيتفاوت من حيث القسمة والثقل[7]،
بذلك حاول ديمقريطس أن يفسر العالم من منظور مادي فوضع قوانين آلية
تشكل أساس لتصور العالم ممهدًا بتلك النزعة لتصور آلي حتمي للعالم يمكن
وصفه والتحكم فيه من خلال نماذج وانقسام لذرات غير منقسمة تكفي معرفتها
للسيطرة على العالم وفهمه، وبذلك وصل الفكر اليوناني على يد ديمقريطس
إلى تصور واضح صريح للمادة شكل أساسًا للكثير من القوانين الرئيسية
التي سيطرت فيما بعد على الفيزياء بشكل واضح ولفترة طويلة كعدم فناء
المادة وحفظ الطاقة ومن ذلك قوله أن لا شيء يصدر عن لا شيء ولا شيء
يعود إلى لا شيء، كما أرجع جميع المظاهر المادية إلى ظاهرة واحدة هي
الحركة مؤكدًا ومرسخًا سيطرة القوانين الآلية على العالم، وقد امتدت
أفكاره الآلية من بنية المادة إلى الفكر حيث تبنى الاتجاه الحسي في
المعرفة فاعتبر أن الفكر هو الحركة الباطنية التي تحدث الإحساسات في
المخ أو هو الصورة المحسوسة ملطفة جاعلاً من الإحساس المصدر الوحيد
للمعرفة.
من هذا المنطلق يمثل ديمقريطس في فلسفته ذروة ما وصل إليه العلم
والفلسفة عند الطبيعيين اليونان عندما حاول أن يفسر كل ما في الطبيعة
تفسيرًا آليًا صرفًا. وفي الواقع نجد أن تعاليم لوقيبوس ومن بعده
ديمقريطس الذرية لم تكن تعاليم كاملة، فديمقريطس مثلاً أباح التباين
بين أحجام الذرات وهو ما يتساوق بصورة سيئة مع موضوعته في عدم قابلية
الذرات للانقسام، وقد انتقد أرسطو أفكارهما عندما بيَّن أنه إذا كان
الزمان والمكان والحركة متواصلة ومتواترة دون انقطاع فإنها لا يمكن أن
تتألف من ذرات لا تنشطر، لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تكون في هذه
الحالة سوى نقاط معزولة وحسب.
وعلى النقيض من تلك النزعة المادية التجريبية الحسية انطلق الفيلسوف
انكساغوراس الذي مثَّل الجانب العقلاني المثالي في تصوره للعالم حيث
اعتبر أن العقل هو مصدر الفعل الوحيد وهو ألطف الأشياء وأصفاها وأبسطها
مفارق للطبائع كلها وعليم بكل شيء ومتحرك بذاته، فالعقل الكلي هو أصل
الوجود لا المادة التي تعتبر انعكاسًا أو تجليًا لهذا العقل الكلي. حيث
نجد أنه وإن ماثل سابقيه من الطبيعيين في بعض آرائهم إلا أنه تميز عنهم
بالقول أن القوة الحيوية والمحركة للعالم هي شيء مميز ومغاير للجسم
المادي الذي تحركه، هذا القوة هي العقل أو الفكر الذي وظيفته ترتيب
وتنظيم الأشياء بواسطة حركة دائرية ينتج عنها ذلك النظام الأزلي. بذلك
التصور العقلاني حاول انكساغوراس أن يعطي تفسيرًا طبيعيًا للظواهر
الفلكية والطبيعية كظاهرة خسوف القمر وكسوف الشمس، فرأى في الشمس
جلمودًا حجريًا ناريًا قائلاً بأن الشمس والقمر والنجوم هي حجارة
ملتهبة يطوقها دوران الأثير ويتوضع القمر تحت الشمس وهو أقرب إلينا،
ويحدث خسوف القمر لأن الأرض تحجبه عن الشمس، أما كسوف الشمس فإنه يقع
عندما يحجب القمر الشمس وقت مولده، كما أكد بأن القمر يستمد ضياءه من
الشمس وهو مملوء بالوديان والهضاب[8].
هكذا كان الوضع عندما جاء الثلاثي الكبير سقراط وأفلاطون وأرسطو، حيث
نجد أن اتجاهات هؤلاء الثلاثة تلخص بأسلوب منهجي التضاد الجدلي الثنائي
الذي طبع الفلسفة اليونانية بطابعه هو التيار العقلاني الذي شكل سقراط
وأفلاطون قمته المثالية والتيار العقلاني الاستقرائي الذي تجلى بوضوح
ظاهر عند أرسطو. فكان سقراط من طليعة ممثلي الفكر العقلي الفطري في
المعرفة عندما أكد على أن النفس مفطورة على العلم، والعلم يعبر عن
طبيعة النفس العاقلة ذاتها لدرجة أنه يمكن القول بأن هذا العلم يكمن في
داخل النفس منذ البداية.
الطبيعة عند أفلاطون:
مع أفلاطون تصل العقلانية بصورتها المثالية الموضوعية إلى ذروتها، حيث
يعتبر الخصم الرئيسي للاتجاهات المادية العضوية لا سيما الذرية منها
حيث يقول أنه ما من شيء أمعن بالخطأ من النظر إلى العناصر المادية التي
تتركب منها الأشياء على أنها علَّة لهذه الأشياء، فهذه الأشياء أو
العناصر عنده ليست أكثر من شرط لا يمكن للعلة الحقيقية أن تعمل من
دونه، في حين أن تلك العلة التي تؤدي إلى وجود الأشياء هي كمالها الذي
تتجه إليه، وهذا الكمال هو كمال المثال الذي تجهد الأشياء من أجل
محاكاته[9]،
بذلك أفرغ أفلاطون المادة من واقعيتها لصالح تصور عقلي لمثل تصورية
مجردة ابتدعها جاعلاً من المادة مجرد خيال أو انعكاس وهمي إن صح
التعبير لهذه المثل، وهذا ما عبَّر عنه في أسطورة الغار التي تكلم عنها
والقائلة بأن العالم الذي نعيش فيه ونراه ليس إلا وهم وخيال وأن ما
نعتبره واقعيًا إنما هو في الحقيقة انعكاس للواقع الحقيقي، بمعنى أن
الحواس تخدعنا، من تلك الأسطورة يبدو أنه قدم التمهيد المنهجي للشك
بوجود العالم الحسي وإنكار المحسوس، مقابل البحث عن العقلي الحقيقي
فيما وراء هذا العالم، على اعتبار أن أساس الحقيقة هو الفكر العقلاني
المجرد لا الظواهر المحسوسة المتغيرة والتي لا يمكن الاعتماد عليها في
فهم العالم، فرفض على لسان سقراط المعرفة المبنية على أساس الحس حيث
برهنت وجهة نظره على أن التوحيد بين المعرفة والإحساس هو توحيد خاطئ،
على اعتبار أن الإحساس لا يكون علمًا، أما العلم الذي يكون المعرفة
الحقيقية لديه فهو المستمد من التعقل المباشر الذي يقع على المبادئ أو
الماهيات المتمثلة بعالم المُثل[10]،
بهذا الشكل تصور أفلاطون عالمين متقابلين ومتعارضين أولهما عالم المادة
الحسي وهو عالم وهمي ضبابي وفي مقابل ذلك يوجد عالم المثل العقلي
الحقيقي والمطلق الذي أعطاه كل معاني الوجود والكمال.
ولكن ذلك لم يمنعه من محاولة تقديم نظرة مادية للعالم المادي عبَّر
عنها في محاورة طيماوس حيث يؤكد في تلك المحاورة بشكل قاطع بأن العالم
كروي برمته وهو يقبل ضمنًا بأن الأرض نفسها تجاري ذلك الشكل الكلي، وقد
احتلت منه موقع المركز، مما جعل أرسطو يستوحي دائمًا في كتابه "السماء"
استنتاجات طيماوس التي يقول فيها أفلاطون على لسان طيماوس الفيثاغورثي
موضحًا صفات العالم لديه:
إن تنسيق العالم وإنشاءه قد استوعب كلاً من العناصر الأربعة بجملته لأن
منشأه قد أنشأه من النار بأسرها، ومن الماء برمته، وكذلك الهواء
والتراب، ولم يدع خارج العالم ولا ذرة واحدة ولا أية طاقة من أحد تلك
العناصر وهكذا كانت نواياه، أولاً لكي يكون العالم حيًا شاملاً
متكاملاً غاية التكامل ومؤلفًا من كامل الأجزاء، وعلاوة على ذلك لكي
يكون واحدًا فريدًا إذ لم يتبق ما يمكن أن ينشأ عن عالم آخر مماثل،
وأخيرًا لكي لا يشيخ ولا يعقل معتبرًا أن كل عوامل الحرارة والبرودة
وكل العوامل الأخرى ذات المفاعيل العنيفة إذا حدقت من الخارج بجسم مركب
ودهمته فهي تفككه وتجلب له الأمراض والهرم، ولأجل هذا هندس الله العالم
وجعله فريدًا وشاملاً متكاملاً من جميع أجزاء العناصر فلا يهرم ويصيبه
داء، وقد أعطاه الشكل الملائم المنسجم وهو الشكل الكروي يبعد مركز قطره
عن سطحه بعدًا متساويًا من كل الجهات وأداره تدويرًا وجعله أكمل
الأشكال وأشبه شيء بذاته وهو الشكل الكروي[11].
وفي محاوراته نجد ترجيح قدم العالم والمادة لديه، إذ إن تأكيده الدائم
على أولوية الروح على البدن (المادة) أو أسبقيتها على الجسد ليست
دليلاً على أن الإله الأفلاطوني قد أوجد المادة من العدم، بل إن لتلك
الأسبقية أساسًا منطقية تثبت بأن أفلاطون كان صاحب اتجاه روحاني مثالي
مطلق، وهذا الاتجاه قد تغلغل في كل فلسفته حتى أنه جعل للمادة طابع
روحي يبرر وجودها الظاهري على الأقل فقد جعل للأرض نفسًا، وقال بأنها
الإلوهية الأولى وهي أقدم من الإلوهيات الموجودة في السماء، لذلك نجد
أفلاطون يصف الإله بالصانع أكثر من وصفه بالمبدع للعالم القديم والأزلي
عنده[12].
وحسب أفلاطون فإن ثمة نموذج هندسي بدئي واحد ووحيد للعالم، ولذلك ليس
هناك سوى عالم واحد وحيد يحاكيه، ولا يمكننا أن نفهم تقسيم الجسد
الكوني الموحد لدى أفلاطون إلا إذا أخذنا بالحسبان صلته بالتقليد
الفيثاغورثي لرمزية الأعداد، فقد أخذ أفلاطون متواليتين عدديتين بين (1
– 3- 9 – 27) و(2 – 4 – 8) ووضع لهما مغزى هندسي محدد، فالعدد واحد
يشكل وحدة مطلقة غير قابلة للانقسام، والعدد ثلاثة يشكل ضلع المربع،
والعدد تسعة مساحة المربع، والعدد سبع وعشرين حجم المكعب مع الضلع
يساوي (3)[13]،
وبما أن الكون ليس مجرد وجود هندسي وحسب إنما وجود فيزيائي أيضًا، فإنه
صورة تنعكس أيضًا عبر جملة من الأعداد (2 – 4 - 8) وتتوضع في نسق مشترك
متجاورة مع الأعداد التي تمثل البنية الهندسية له، وعلى هذا النحو فإن
الجسد الواحد للكون يعكس سلسلة الأعداد السابقة وهذه هي بنية المجالات
التي يتشكل منها الكون، وثمة بين الأعداد السباعية السابقة الذكر ثلاثة
أنماط من النسب الحسابية والهندسية والتواؤمية (الهارمونية) وهو ما
يتوافق مع التعاليم الفيثاغورثية عن النغمات الموسيقية لمدارات
الكواكب، وعلى هذه الصورة يكون كون أفلاطون قد بني أيضًا وفق مبدأ
التناغم الموسيقي الهندسي الحسابي، ولكن خلافًا لفيثاغورث نجد أن
أفلاطون يقيم فرق بين العدد والشيء المادي، حيث يرى أن الأعداد منفصلة
عن الأشياء على عكس فيثاغورث الذي قال بأن الأعداد هي الأشياء نفسها.
ومن ذلك المنطلق يمكن لنا أن نعتبر أفلاطون بأنه الأب الأكبر لكل فلسفة
روحية مثالية بما قدمه من إلهام أثر في الكثير من فلاسفة ومفكرين
العصور اللاحقة..
لكن ذلك التصور المغرق في مثاليته لم يعترف به أرسطو الذي قدم تصوره
للعالم المادي بطريقة جديدة أعادت له أهميته المحسوسة وشكَّل ذلك كسبًا
جديدًا لصالح التصور المادي للعالم الذي اعتبره الحقيقة الوحيدة التي
لا تعلوها حقيقة.
الطبيعة عند أرسطو:
يمثل أرسطو ذروة الفلسفة اليونانية في إبداعاتها العظيمة وصياغاتها
الباقية لأسس العقل النظري، وقد مكنته عبقريته من أن يمثل خير تمثيل
تلك الذروة المبدعة لتلك العقلية اليونانية، وعلى الرغم من نزعته
الواقعية وتجريبيته التي جعلته يوصي قواد تلميذه الاسكندر الكبير بجلب
عينات من البلدان المفتوحة وذلك ليكمل بحوثه في علم الأحياء، وعلى
الرغم من إشارته إلى أهمية الحواس في الوصول إلى المعارف مؤكدًا على
دور الاستقراء العلمي في الفكر المنطقي فإنه مع ذلك قد جسَّد الروح
الإغريقية القائمة على تأكيد أولوية النظر العقلي الخالص[14]
على التصور المحسوس للعالم، فأرسطو حين يقارن بين الطريقتين
الاستقرائية الحسية والاستنتاجية العقلية يقول بأن الثاني أكثر اتساقًا
وأكثر مطابقة للنظام الموضوعي للأشياء في حين أن الاستقراء أقرب إلينا
ورغم أنه أقل اتساقًا إلا أنه أكثر وضوحًا وعينية، كما نراه يؤكد على
الأهمية المنهجية للعلم التأملي العقلي عندما يقول:
إذا كان المرء يمتلك تجربة في الحياة فإنه يعد أكثر حكمة من أولئك
الذين ليس لديهم سوى المدركات الحسية، أما من يمتلك المهارة فإنه أكثر
حكمة ممن يمتلك التجربة، والمرشد أكثر حكمة من الحرفي، والعلوم
التأملية أرقى من مهارات الخلق[15].
وقد ألف أرسطو كتاب الفيزياء (الطبيعة) وهو ليس أول مؤلف يحمل هذا
العنوان في الفلسفة القديمة، لكنه أول مؤلف من نوعه تُدرس فيه دراسة
منظمة مبادئ الأجسام الفيزيائية والحركة، حيث يرى فيه أرسطو أن
الفيزياء يجري فيها تقصي أولاً مبادئ أي ماهيات طبيعية، وثانيًا
المسائل العامة للحركة، ويشغل مفهوم المبدأ عند أرسطو مكان ما نسميه
القانون اليوم، والمعرفة التجريبية عنده تبقى في داخل إطار المراقبة
السلبية البحتة حيث يقول:
إننا على يقين من أننا نعرف هذا الشيء أو ذاك عندما نتبين أسبابه
ومبادئه الأولى ونفككه وصولاً إلى عناصره المكونة له، فإنه من الواضح
أنه ينبغي علينا في علم الطبيعة أيضًا أن نحاول تحديد ما ينتمي إلى
المبادئ أولاً وقبل كل شيء[16].
وأرسطو يؤكد على العناصر الأربعة للمادة التي تحدث عنها الفلاسفة
السابقين خاصة أمبدوكليس، فعند أرسطو ما يسمى بالمبادئ هي عبارة عن
مواد بدئية تؤدي تحولاتها بالتركيب والتفكيك أو بأية طريقة أخرى إلى
النشوء والفناء، وهذه العناصر في كوننا هي أربعة ممثلة بالنار والهواء
والماء والتراب، وما عدا هذه العناصر الأربعة لا يوجد أي مادة جسمية
معزولة. كما يصوغ من هذا المنطلق بعض الموضوعات العامة لنظريته عن
الحركة، وتنتمي إلى تلك الموضوعات على وجه الخصوص الموضوعة التي تقول
بأن كل حركة تفترض وجود محرك ومتحرك والمحرك على وجه العموم يتحرك
أيضًا، وبما أنه يتحرك فإنه يدفع الحركة في المتحرك بالتماس المباشر
معه، إن المحرك هو الذي يدخل دومًا نوع الحركة، وهو بهذا يكون مبدأ
الحركة وعليه يضيف أرسطو "تحدث الحركة من جرَّاء مس المحرك للمتحرك،
ولذلك فإن المحرك يتعرض بالوقت عينه للتأثير". وكما نرى فإن بعض التصور
عن قانون نيوتن الثالث القائل بأن لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار
ومعاكس له في الاتجاه كان موجودًا بشكل ضبابي لدى أرسطو.
ومن جهة أخرى نجد أن أرسطو قد ربط ربطًا محكمًا بين المادة والصورة
التي تقابل العالم والمثال الأفلاطوني، ففي حين أن أفلاطون فصل بين
التصورين تمامًا نجد بأن أرسطو جعل من المادة والصورة لفظان متضايفان
ينشأ عن اتحادهما العالم الموجود، فلا وجود للعالم المادي دون الصورة
التي تعتبر كجوهر مقابل للوجود، وعليه فإن المادة ليست عدمًا خالصًا
كما صرح أفلاطون، بل هي حقيقة لها وجودها الفعلي، هنا نجده قد تباعد عن
المثالية ليقترب من صف الماديين الأوائل للفلسفة اليونانية، لكنه في
الواقع لا يلبث أن يتباعد عن هؤلاء الفلاسفة أيضًا عندما يؤكد أن
الوجود الحقيقي للمادة هو وجود وضيع ضعيف يوجد بالقوة حيث لا تستطيع
المادة أن تقف بمفردها أو تكفي نفسها بنفسها[17]،
لذلك يمكن النظر لتصوره هنا كاتجاه متوسط وتوفيقي بين أفلاطون
والفلاسفة الطبيعيين الأوائل حيث اعترف للأول بعالم مثالي دون أن يعطي
قدرة مطلقة ودون أن ينفي وجود العالم المادي الذي حرمه من قدراته على
التخليق أو الوجود المطلق.
لذلك فإننا لا يمكننا أن نخرجه عن التيار المثالي العام المعتدل حيث
بقي يعطي للعقل الريادة ويقدمه على التجربة، حيث ينتقد النظرية
التجريبية للمدرسية الذرية مؤكدًا على أن التجربة تقوم على أساس من
الذاكرة وإن عدة ذكريات نكونها عن شيء واحد تؤلف تجربة ما، بيد أن
العلم عنده يفترض تكوين فكرة عامة تصدق على الحالات الجزئية كلها، في
حين أن التجربة تقدم لنا وجود الشيء لا علة هذا الوجود، في حين أن
العلم ذاته يجعلنا نعرف العلل التي وجدت بها الأشياء، فالعلم هو معرفة
العلل، والفلسفة هي أولى العلوم لأنها معرفة العلل الأولى، تلك العلل
عند أرسطو ليست المثل العقلية الأفلاطونية بل توجد في العالم المحسوس،
وبالتالي لا بد للفلسفة من أن تتجه إلى العالم المحسوس وأن تبحث فيه
بالذات عن علل الصيرورة[18].
وبهذا الصدد يقول أرسطو:
التجربة أعلى من المعرفة الحسية البحتة، والفن أعلى من التجربة (يقصد
به العلوم العملية كالطب والكيمياء)، والعلوم النظرية أعلى من العلوم
العملية، ذلك لأن العلم بالكلي أعلى من العلم بالواقع فقط[19].
فعندما نظر أرسطو للعالم المحسوس وجد فيه المثال الذي تحدث عنه أفلاطون
وأبعده عن هذا العالم المادي إلى العالم المعقول، لذلك توحيد العالمين
المحسوس والمعقول تبدو مأثرة من مآثر أرسطو الخالدة، فالواقع أي الجوهر
الحقيقي للأشياء هو عند أرسطو الماهية أو الصورة المتحققة في المادة
وعلى هذا ليس المعقول والمحسوس عالمين وضع أحدهما فوق الآخر، بل ما
عنصرين متداخلين في موجود واحد كل منهما بحاجة للآخر ليؤلفا معًا
العالم المادي الواقعي[20].
والعنوان الثاني البارز لفلسفة أرسطو في المادة هي في إقراره التفسير
الغائي للعالم المادي، حيث أكد على فكرة الغائية في الطبيعة رفضًا
الاتفاق والمصادفة رفضًا باتًا في الأبدية، فلما كانت السماء عنده
أبدية فهي ضرورية، وبذلك أقام تعارضًا بين الأبدية والمصادفة فلا شيء
عنده فيما يتعلق بالأبدي يمكن أن يكون موضوع للمصادفة أو التلقائية،
وهذا ما يفسر الحرب التي شنها بلا هوادة على الذريين لوصفهم المنطقة
السماوية بالتلقائية، حيث المصادفة عند أرسطو تتضمن وجودًا متقطعًا
بالضرورة أما السماء فهي أبدية، فالطبيعة عنده تتبع غاية ما وكل ما
تحدثه الطبيعة فهي تحدثه في سبيل غاية ما، والطبيعة التي هي صورة الشيء
هي المبدأ الداخلي للحركة التي توجه الكائنات نحو كمالها. هذا التصور
أدى به للوصول إلى وثوقية غائية مطلقة حيث أكد بأن الأمر واحد بالإضافة
إلى منتجات الطبيعة ومنتجات الصناعة الإنسانية، فهذه وتلك موجودة من
أجل غاية ما، فالصناعة تحذو حذو الطبيعة، والطبيعة تحذو حذو الصناعة،
لكن الطبيعة تسعى إلى غايات دون أن تكون بحاجة إلى قصد تأملي[21].
وعليه فإن كل شيء في النظام الأرسطي متفق ومترابط مع بعضه ومتسق رغم
تنوعه الذي يسهم في جمال مجموعه حيث تظهر عظمة الطبيعة المتسقة
والمنسجمة والمتكاملة، وإذا ما أقر أرسطو بالصدفة أو بوجود اتفاق فإنه
يعتبره مجرد علة عارضة أو قائمة على ما هو عارض، فكما أن هناك موجودًا
في ذاته أي الجوهر، وموجودًا بالعرض، كذلك فإن هناك علة بذاتها وهي
العلة الحقيقية وعلة بالعرض وهي تمثل الاتفاق والمصادفة، بحيث يسيطر
على العالم نظام غائي مطلق لا مجال فيه للاتفاق والصدفة إلا بحوادث
عرضية بحتة.
وبخصوص منهجية المعارف العلمية قدَّم أرسطو أول تصور متكامل لفلسفة
العلوم وطريقة المعرفة العلمية حيث أقر أرسطو بالبرهان كوسيلة وحيدة من
وسائل المعرفة، ولكنه أقر بأن هناك مقدمات أولية لا تفتقر إلى برهان
ولا تحتمل البرهان وإنما هي تشكل أصول البراهين، وتلك المقدمات تتألف
من ثلاثة أقسام:
- الأولى هي أولية بالإطلاق مثل مبادئ العقل كعدم التناقض الذي ينص على
أنه لا يمكن للشيء أن يوجد وألا يوجد في الوقت والجهة نفسها، ومبدأ
الثالث المرفوع القائل بأن الشيء إما أن يوجد وإما ألا يوجد ولا ثالث
لهذين الاحتمالين، ومبدأ العلية المعروف، وتلك المبادئ عند أرسطو ليست
غريزية بالعقل، ولكن العقل يكتسبها بالحدس فتبدو كالغريزية.
والثانية هي مقدمات تسمى أصولاً موضوعة وهي ليست أولية، ولكن المتعلم
يسلم بها عن طيبة نفس وهي ما يسمى بالمسلمات.
أما القسم الثالث فهو مقدمات تدعى مصادرات يُطلب من المتعلم أن يسلم
بها فيسلم بها مع عناد في نفسه إلى أن تتعين له في علم آخر[22].
ويرى أرسطو أن حركة العالم أبدية وأزلية لا بداية لها ولا نهاية، وإن
رأينا أن المحركات والمتحركات قد ابتدأت في وجودها في لحظة معينة، فإن
إحداثها هو حركة سابقة على حدوث الحركة نفسها، لهذا فإن الحركة لا يمكن
لها أن تفنى، بل إن فناء الحركة لا بد وأن يكون هو ذاته حركة وهذا هو
ما نراه بالضبط في حركة السماء الأبدية[23].
وعليه نرى أن أرسطو يقول بقدم العالم وقدم الحركة المادية، والعالم
عنده كروي لأن الدائرة هي أكمل الأشكال ولأنها الشكل الوحيد الذي يمكن
معه للمجموع أن تترك حركة أبدية وأزلية، والأرض عنده ساكنة وهي مركز
للعالم لأنها من تراب والمكان الطبيعي للتراب هو الأسفل، لكنه قال
بكروية الأرض، ففي المعنى المعرفي التفسيري لم يخرج هنا عن معلومات
سلفه أفلاطون، وبهذا الفكر الغائي العقلي حاول أرسطو تقديم نظرته
الفلسفية للعالم المادي، وهو بذلك قدَّم الكثير للفكر العلمي منهجيًا
لكنه في الوقت نفسه أفقده الكثير من دينامكيته عندما أخضع المادي
لمفهوم قبلي غائي حيوي الأمر الذي أبعده رويدًا رويدًا عن التجربة
ليفسح المجال فيما بعد لفكر وثوقي متزمت ظل مسيطرًا على الفكر العلمي
والفلسفي لقرون عديدة، وبالمقابل لا يمكن أن ننكر أن أرسطو استطاع
بطريقة المنطق الاستنتاجي والاستقرائي الذي وضع أسسه أن ينشئ منهجًا
جديدًا للتفكير يقود الإنسان من مشاهداته المحدودة إلى حقائق كلية حول
الطبيعة والمادة[24].
وبعد هذا الفيلسوف الكبير بدأت الفلسفة اليونانية بالمراوحة وإعادة
الصياغة حيث عبَّر عنها تياران كبيران الأول مثلته الأبيقورية والثاني
الرواقية.
الطبيعة في الفلسفة الأبيقورية والرواقية: تعود المدرسة
الأولى للفيلسوف أبيقور الذي تبنى النظرة المادية الحسية في تفسيره
للعالم متابعًا نظرة المدرسة الذرية لديمقريطس، فعند أبيقور لا وجود
إلا للأجسام التي تتكون من جزيئات عنصرية وذرات لامنقسمة عديمة الحركة
ومن صفاتها العظم والشكل والوزن ويفصل بين هذه الذرات الخلاء، وهذا
الخلاء هو ما يجعل الحركة ممكنة، وتلك الذرات مستقلة عن بعضها البعض
ولا يوجد بينها من العلاقات إلا ما عساه أن تؤدي إليه اتفاقات الصدفة
والحركة مخالفًا بذلك أرسطو الذي رفض المصادفة والاتفاق، ولهذه الذرات
عند أبيقور ثقل طبيعي تتجه بحسبه في نفس الاتجاه وبنفس السرعة منذ
الأزل[25].
بذلك تميز أبيقور بالنزعة الحسية المخالفة لنزعة أفلاطون المثالية
وأرسطو العقلية حيث أرجع الحقائق كلاً إلى الإحساس، وهو يميز بين
المعنى السابق والظن أو الفرض أي التفسير الخرافي للأشياء، ففي حين أن
المعنى السابق الذي لا يضيف شيئًا للإحساس هو حقيقي دائمًا كالإحساس
ذاته، فإن الفرض يمكن أن يكون حقيقيًا أو غير حقيقي عندما يكذبه الحس
أو لا يكون مُؤيدًا بالحس، وبالتالي فقد أرجع كل معرفة فيزيائية لطبيعة
الأشياء إلى الحس رافضًا الفرضيات في التفسير العلمي للوقائع، حيث أكد
بأن خطأ الحواس لا يقع في الإدراك، ولكن في الحكم الذي يضفيه العقل على
الإدراك، فنحن لا نخطئ عندما نقول عن برج بعيد أننا نراه مستديرًا،
لكننا نخطئ إذا اعتقدنا أن مستدير بالفعل وبأننا سنراه كذلك إذا ما
اقتربنا منه. فالخطأ هنا ليس فيما نراه حسيًا، بل بما نؤوله عقليًا
انطلاقًا من معطيات الحواس، وبالتالي إذا ما وقع تناقض في الحواس فمرد
ذلك ليس إلى الحواس نفسها، وإنما في الأحكام التي تضاف إليها[26]،
فأبيقور يثق بالإحساس دون العقل ليخرج عن التيار المثالي الأفلاطوني،
فأعلى من شأن اليقين الحسي معتبرًا إياه قاعدة أساسية لمعارفنا وجاعلاً
الإدراك العقلي تابعًا متعلق بالحس تعلقًا كاملاً، وهو يرى أنه إذا صح
بأن كل ما هو موجود يرجع - لكونه جسميًا – إلى الإدراك الحسي فإن
العناصر الأخيرة للأشياء تفر مع ذلك من إدراكنا وتبقى غير مرئية وهذه
هي الجواهر المفردة أي الذرات التي هي أساس العالم ومبدأ لكل حقيقة[27]،
وهنا نجد تناقض في التصور الأبيقوري الذي أكد على أسبقية الحواس في
معرفة العالم الحقيقي، واعترافه بأن أساس هذا العالم لا يمكن إدراكه
بالحواس وهو الجواهر المفردة، لذلك نجده اضطر لإيجاد تبرير عقلي لإثبات
وجود تلك الذرات متناسيًا أنه بذلك وقع في دور منطقي حيث أثبت وجود
الذرات بمفهوم كان قد رفضه مسبقًا وهو العقل والإدراك العقلي حيث يقول
بأن:
قوام العالم الأجسام والخلاء، أما وجود الأجسام فتشهد به الحواس، وأما
الخلاء فهو موجود بالضرورة إذ إنه لو لم يوجد خلاء لما كان للأجسام
مكان توجد فيه أو تتحرك فيه.
ولكن كيف نثبت وجود الخلاء إلا بالعقل؟ هنا اضطر أبيقور للقول بأهمية
العقل مضيفًا أنه عدا هذين الأمرين (الخلاء والأجسام) لا يمكن للعقل أن
يدرك شيئًا موجودًا، فالجسم والخلاء هما الجوهران الحقيقيان الوحيدان.
بذلك يكون أبيقور الممثل الأبرز في الفلسفة اليونانية النزعة الذرية
بصيغتها الحسية وهو بذلك من رواد الاتجاه الحسي التجريبي في المعرفة
العلمية.
وبالتوازي مع تلك المدرسة نشأت مدرسة معارضة للاتجاه الحسي الأبيقوري
باتجاه عقلي تجريبي هي المدرسة الرواقية المادية النزعة وكل معرفة
عندهم هي معرفة حسية ترجع إلى الحس، والعلم لا يخرج عن دائرة المحسوس
وليست معانيه الكلية إلا أنا الإحساسات التي تحدث عفويًا في كل إنسان
دون قصد ولا تفكير، فهي معرفة غريزية فطرية، والمنطق الرواقي استقرائي
يقوم على أساس أن العالم مؤلف من ظواهر مرتبطة مع بعضها البعض وبذلك
عارضت المنطق الأرسطي القائم على ارتباط الماهيات[28].
وفي علم الطبيعة سلَّم الرواقيون بمبدأين هما المبدأ الفاعل والمنفعل،
والمبدأ الأخير هو المادة متصورة على أنها جوهر خال من كل الصفات، أما
المبدأ الفاعل فهو العقل الموجود في المادة والذي يحدث الأشياء كلها
بإعطائها صورها، بذلك رجح الرواقيون التصور العقلي في معرفة الطبيعة
لكنهم خلافًا لأفلاطون وأرسطو أعلنوا بأن المبدأ العاقل لا يكف عن أن
يكون جسميًا، إنه جسم لطيف يختلط بالمادة في كل مكان وينتشر فيها
انتشار السائل في أجساد لكائنات الحية[29].
كما تأثر الرواقيون بآراء هيرقليطس ووحدوا العقل مع النار الكلية التي
وبسبب لطافتها تنتشر في العالم أجمع وتحرك المادة وتشكلها بأشكالها
البارعة، وبالتالي تكون الأساس والجوهر الكلي الذي تصنع منه الأشياء
جميعًا. بذلك أرجع الرواقين التصور المادي لمفهوم تأملي عقلي. وبذلك
نجدهم انفصلوا عن التيار التجريبي الحسي. فهم وإن سلموا مع أبيقور
والفلاسفة الحسيين في جعل الإحساس مصدرًا للمعارف، لكنهم خالفوهم
بالقول إن العقل الكلي يشكل أساسًا نافذًا في الطبيعة وهو ما استبعده
أبيقور تمامًا في تصوراته عن المادة.
مع تلك المذاهب الفلسفية تشكلت نزعتان تمثلان أواخر مرحلة الفكر
اليوناني: الأولى تبني منهج شكي والآخر وثوقي إيماني.
أما أصحاب نزعة الشك فنجدهم تكونوا كمدرسة متكاملة في تلك الفترة رغم
وجودهم في أوائل الفلسفة اليونانية، وقد تعرضت تلك النزعة لمشكلة
الاستقراء قبل أن يتعرض لها هيوم بقرون عديدة، ونذكر منهم سكستوس
أمبيريكوس الذي يقول بأن الاستقراء إذا لم يتناول سوى بعض الجزئيات فإن
نتيجته الكلية غير منطقية وذلك لعدم جواز الانتقال من البعض إلى الكل،
وفي الوقت نفسه نحن لا نستطيع أن نتناول جميع الجزئيات لأن عددها غير
محدود، وبالتالي فإن الاستقراء تامًا كان أم ناقص هو ممتنع بحيث يغدو
البرهان ممتنع أيضًا[30]،
نداء لم يلبث أن لقي صدى عنيفًا وهامًا جدًا في الفلسفة الحديثة.
وفي مقابل تلك النزعة الشكية تشكلت وبقوة نزعة وثوقية لاهوتية تبنت
نظرة ميتافيزيقية عن العالم بإنكارها للمادة، وقد عبَّر عن هذا الاتجاه
الأفلاطونية المحدثة ممثلة بأفلوطين الذي أعلن بأن العالم خُلق من فيض
إلهي وهذا الخلق تم بالوساطة، فالأول الذي هو مثال الخير خلق العقل
بفيض من ذاته كما تخلق الشمس النور، ونقل للعقل قدرته على الخلق الذي
خلق بدوره النفس التي هي صورته وتتحرك حوله فهي النور الذي يحيط به وعن
هذه النفس نشأ العالم المادي المحسوس، بمثل تلك الأفكار المغرقة في
صوفيتها رد أفلوطين وجود العالم ليفرغ حتى المفهوم الأفلاطوني للعالم
من دينامكيته الرياضية والعقلية معلنًا عن أنه لا حقيقة في العالم
المادي حيث قال:
إنه حتى إذا أصبحت المادة التي تتكون منها الأجسام شيئًا ثابتًا
محددًا، فإنها تظل مع ذلك خالية من الحياة عاجزة عن الفكر، فهي إذًا
ميتة على الرغم من جمالها المستعار، وعلى العكس من ذلك فإن المادة
المعقولة تتمتع بوجود حقيقي وهي حية ومفكرة، المادة المعقولة هي مادة
العالم المعقول وهي وحدها الحقيقية على عكس المادة المحسوسة في العالم
المادي[31].
أليس هذا الكلام قولبة جديدة لعالم المثل الأفلاطوني مع إضفاء صفة
صوفية عليه؟ هذا ما يمكن أن نقوله عن إسهام الأفلوطينية في الفكر
الفلسفي للمادة.
بشكل عام يمكننا القول أن الفلسفة اليونانية في جهدها الدائب الذي
بذلته في فهم العالم المادي استطاعت أن تقدم أول منهجية منطقية لفلسفة
العلوم الطبيعية تجاوزت أساطير الشعوب التي سبقتها، فنظرت للأشياء
بمنظور مطلق من التناسق والكمال يوجهها نحو غاية ويخلع على العالم
معنى، ولهذا السبب بالذات استمر تأثير الفلاسفة اليونان لفترات طويلة
جدًا، حتى أن مفاهيمهم التي وضعوها لا تزال تؤثر وإن بشكل غير مباشر
على مفاهيم الفيزياء الحديثة والمعاصرة.
*** *** ***