حوارات في نقد الخطاب الديني

 

حوار مع حمزة رستناوي
حاوره: عبد الرحمن شرف
*

  

قرأتُ كتابكَ أضاحي منطق الجوهر (تطبيق مقايسات المنطق الحيوي على عينات من الخطاب الإسلامي المعاصر)[1] لأكثر من مرة، وقد أثارَ في ذهني العديد من التساؤلات عن هذا العمل العميق، والذي أيضًا وفي الوقت نفسه أخذني إلى أبعاد وجوانب أخرى في الحياة كانت غامضة في حياتي ورؤيتي، والتي أعمل عليهما بشكل مستمر، وهذا ما جعلني أدوِّن العديد من الأسئلة والملاحظات النقدية عقب قراءتي للكتاب، ويسرني أنَّ أطرحها عليك في هذا الحوار.

عبد الرحمن شرف

***

السؤال الأول: لماذا ترمي تخلُّفنا على مشجب أرسطو؟ في كتاب أضاحي منطق الجوهر تريد أن تنفي وتدحض منطق الجوهر عند أرسطو أو تدعو إلى إعادة فهمه. أليس ما كتبَهُ وأسسَّ له أرسطو كان وليد عصره وبيئته! هل نلوم مؤسس منطق الجوهر في الماضي، أم نلوم الشعوب والمفكرين والحكومات في سياسات أحادية منطق الجوهر، وما ينبني عليها من ازدواجيَّة معايير وبقائها داخل عباءة القديم الجامد؟

حمزة رستناوي: الفكر عمومًا يتأثر بالأبعاد المختلفة للكينونة الاجتماعية ومنها بعد الزمن، فالفكر كائن تاريخي. إنَّ نفي منطق الجوهر أو نفي وجود هوية جوهرانية للكائن ليس بجديد في تاريخ الفكر الإنساني، ولكن هذا النفي غالبًا ما كان يقترح جواهر بديلة، أو صيغ عدمية شكوكية، أو يعترف بوجود جوهر ولكن مع استحالة الوصول إلى معرفته! ليستْ القضية لوم أو تحميل وزر بقدر ما هي وجود مصالح وصلاحيات فكرية عقائدية سياسية اجتماعية اقتصادية تتحوَّى مصالح منطق الجوهر، وتستند إليه في مشروعيتها، سواء صرَّحتْ بذلك أم لا، وسواء عرفَتْ بوجود منطق أرسطو أو كانت جاهلة به.

هناك الكثير من رجال الدين المسلمين والمسيحيين واليهود تاريخيًا كفَّروا أرسطو طاليس وحظروا تدريس المنطق والفلسفة، ولكنَّهم - بعلم أو بجهل - كانوا يتبنُّون منطق الجوهر، عبر النظر إلى عقائدهم الخاصة كجوهر ثابت قائم بذاته مختلف تفاضليًا عن جواهر وهويَّات الآخرين، فالمسألة لا تتعلق بشخص أرسطو ولكن تتعلق بمنظومة ونسق فكري وُجد ما قبل أرسطو وما يزال حاضرًا في العالم، كان أرسطو أحد أبرز المنظِّرين له (وفقًا لرائق النقري مكتشف المنطق الحيوي).

السؤال الثاني: لماذا تنتقي ما يناسبكَ فقط من أعمال أرسطو؟ ركَّزت في طرحكَ على منطق الجوهر عند أرسطو، ولكن أرسطو لديه أعمال أخرى علمية وفكرية اعتبرها حيوية، بما يحث بها العامة من قيم مختلفة، كالتأمل وإعمال العقل والفضيلة والعدالة وغيرها. لماذا لم تعطِ الجوانب الأخرى من أعمال أرسطو أيَّ اهتمام! أليسَ يمكنني القول بأنَّ عدم تركيزكَ على الجوانب الحيوية الأخرى التي طرحها أرسطو هو من باب ازدواجية المعايير؟

حمزة رستناوي: بالطبع لا يمكن اختصار أرسطو أو أعمال أرسطو الموسوعية في منطق الجوهر والهوية الجوهرانيَّة، ولكن طبيعة موضوع البحث في كتاب أضاحي منطق الجوهر تطلَّبتْ منِّي ذلك، حيث أن المنطق الحيوي يقوم على نقض مفهوم الجوهر الثابت عند أرسطو وتجاوز مصالحه وصلاحيَّاته باتجاه أشمل وأكثر حيويًّا، وكذلك حيث أنَّ منطق الجوهر ما يزال مُهيمنًا في المصالح العقائدية والسياسية خاصة. من المناسب هنا التمييز ما بين تأويلين للمنطق الأرسطي: تأويل عام يرى في المنطق الأرسطي نظرية في العلم تقوم على مبدأ الجوهر، وتأويل خاص لا يرى فيه غير نظرية في القياس الاستنتاجي والمنطق الصوري. وهذا الأخير ما أراهُ مفيدًا وصالحًا في عصرنا وكل العصور، وفي كتابي قيد الطبع (في البحث عن منطق الحياة: لماذا الأمُّ تحب أولادها وتكره الفلاسفة؟) يوجد تفصيل في ذلك.

إنَّ العلم يقوم على التراكم وما يبدو لنا بديهيًا ومُسلمًا به، لم يكن في الماضي كذلك، ولا شك بأن أرسطو هو واحد من مؤسسي العلم التجريبي في التاريخ، لنتذكَّر بأن أرسطو عندما وضع نظريته الفلكية عن الكون ومركزية الأرض لم يكن يملك مرصدًا! وعدَّته لم تكن لتتجاوز المسطرة والبوصلة ربما! (راجع كتاب قصة الفلسفة لول ديورانت) وينبغي ألا ننسى الإسهامات الحيوية في السياسة وعلم الجمال والأخلاق. لكن أرسطو، في المقابل، يؤسس عنصريًّا للفروق الجوهرانية بين الكائنات، كان يقول بوجود جوهر منحطٍّ للعبيد والمرأة مقارنة بالرجل الإغريقي، ويُنسب له القول مثلاً:"إن المرأة من الرجل كالعبد من السيد، وكالعمل اليدوي من العمل العقلي، وكالبربري من اليوناني، والمرأة رجل ناقص تُركت واقفة على درجة دنيا من سلَّم التطور، والذكر متفوِّق بالطبيعة، والمرأة دونه بالطبيعة، الأوَّل حاكم والثاني محكومة"[2].

السؤال الثالث: هل تحتاج المعرفة إلى منطق مستقيم؟ هل تحتاج المعرفة إلى منطق لتستقيم؟ هل من ضرورة للمنطق في معرفة الذات والوجود؟ هل سيؤدي بنا المنطق إلى نتائج سليمة في القياس وعمل المعرفة؟

حمزة رستناوي: في الحقيقة إنَّ مشروعيَّة وجود منطق وقانون هي نفسها مشروعيَّة وجود العلم الذي هو بحث لاكتشاف منطق وقانون ناظم في شرطهِ العامِّ والخاصِّ، مع التذكير بكون المنطق هو مناطق، والقانون هو قوانين. بالتأكيد إن المعرفة تحتاج إلى منطق علمي تجريبي موضوعي لكي تستقيم، وهنا نميِّز ما بين المعرفة والمعرفة العلمية، فالمعرفة العلمية مشروطة بالمنطق أو القانون أو المنهج العلمي، مع التأكيد على أنَّ القصور في اكتشاف أو فهم القانون العام لا يعني عدم وجود قانون، ومع التذكير بكون القانون العام يوجد بشكل تعينات خاصة، ومع التذكير بالصفة الحركية الاحتمالية الاحتوائية النسبية للقانون، أي قانون كان.

السؤال الرابع: لماذا تُقايس الخطاب الإسلامي المعاصر وليس الإسلام؟ هل تقيس الخطاب الإسلامي والفقه الإسلامي، أم تقيس الإسلام من خلال النصوص المقدسة؟ إن الشخص المعتنق للعقيدة الإسلامية يحمل هذا الخطاب باسم الإسلام بغض النظر عن مدى حيويته أو ازدواجيته، ونحن نعرف أن الإسلام أصبح إسلامات كيف ستواجه كباحث هذا الانقسام سواء ضمن المذهب الشيعي أو السني؟ بمعنى آخر هل يستطيع القياس الحيوي على الخطاب الإسلامي المعاصر في كتابك أضاحي منطق الجوهر أن يجمع الإسلام والمسلمين على نهج يتفق بالأسس والأهداف من ناحية لاهوتية ام من ناحية سياسية في إطار المجتمع المدني؟!

حمزة رستناوي: الإسلام هو المسلمين والمسلمين هم الإسلام، لا يمكن القول بإسلام جيد ومسلمين سيئين أو بالعكس! فالإسلام كبعد عقائدي للكينونة الاجتماعية لا يمكن فصله ولا يمكن أن يوجد أصلاً خارج الأبعاد الأخرى للكينونة الاجتماعية وهي أبعاد تاريخية جغرافية ديمغرافية اقتصادية سياسية علمية ادارية، وبالتالي فإنَّ مقولة (الإسلام غير المسلمين) تتحوَّى فهمًا جوهرانيًا منافيًا للبرهان الحيوي. الإسلام كذلك ليس بأصل حقيقي ونسخ زائفة! فالإسلام شكل عقائدي يتشكَّل في أشكال وصيغ وتعبيرات مختلفة تتشابه في كونها شكلاً عقائديًا وتختلف في طرائق وخصوصيات وظروف التشكُّل فقط. جوابًا على سؤالك بالخاصة أقول إنَّ الإسلام كعقيدة يتحوَّى تعبيرات وخطابات وسلوكيات وطقوسًا وفهومًا ونصوصًا متعدِّدة ومختلفة قديمة وحديثة، لا يمكن تجريدها عن الإسلام. في كتابي أضاحي منطق الجوهر: تطبيق مقايسات المنطق الحيوي على عينات من الخطاب الإسلامي المعاصر لا أدَّعي أنِّي أقايس العقيدة الإسلامية بالمجمل أو أقايس مصالح النصوص القرآنية أو النصوص المنسوبة إلى النبي محمد، عنوان الكتاب صريح، كُنتُ أقايس عينات تمثِّل المصالح التي تعرضها، يمكن اعتبارها عينات عشوائية إذا أردتَ، ولكنها تعبِّر عن شخصنات إسلامية ذات حضور وهيمنة ضمن أوساط مختلفة، إنها نصوص تتناول أهم مقولات الخطاب الإسلامي المعاصر، وأفكار إشكالية تواليها فئات واسعة من المسلمين، هي:

-       أسامة بن لادن: إشكالية الحرب الدينية والصراع مع الغرب.

-       الخميني: إشكالية الحكومة الدينية كمشروع إلهي، وعلاقة الدين بالوطنية.

-       القرضاوي: العلاقة بين الإسلام والاستبداد.

-       البوطي: إشكالية علاقة الإسلام بالعلم والعلمانية.

-       التيجاني السماوي: مرجعية آل البيت واعتمادها مرجعية وحيدة ومُدشَّنة.

-       عبد العزيز بن باز: مقولة الولاء والبراء في الإسلام.

-       جودت سعيد: البعد الأخلاقي للتعاليم الإسلامية، ونبذ العدوان وحماية الكرامة الإنسانية.

-       محمد شحرور: ضرورة الإصلاح الديني وعلاقته مع السياسي.

-       فرج فوده: رفض مقولة الدولة الدينية، من داخل المنظور الديني.

-       كريم شاه "الآغاخان": ثقافة التنوع والاختلاف في الإسلام - الصفة الرعوية والولاء للإمام.

أخيرًا ينبغي التنويه إلى أنَّ الفصل الأول من الكتاب (المدخل إلى مقايسات المنطق الحيوي) والفصل الثاني (ملخص مقايسات المنطق الحيوي) يقدِّمان مدخلاً نظريًا ومعايير وتقنيات للقياس الحيوي، وهو قياس ليس حكرًا على مصالح النصوص الدينية، وليس حكرًا على مصالح النصوص المكتوبة بشكل عام، بل هي مُقايسات موضوعها أي مصالح معروضة سواء أكانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية. وفي الكتاب المذكور اخترتُ تطبيق نظرية المنطق الحيوي والقياس الحيوي على عيِّنات من الخطاب الإسلامي المعاصر.

السؤال الخامس: لماذا تُهمل مناقشة ظاهرة الدين ونشوء الأديان؟ هل يمكننا أن نتحدث عن عقيدة دون الحديث عن الدين؟ وهل يمكننا أن نتحدث عن الدين دون الحديث عن تصور للآلهة أو على الأقل مناقشة شخصيات الذين أسسوا الدين وما جرى على الدين تاريخيًّا.

هل يمكن اجراء قياس مربع المصالح كما جاء في أضاحي منطق الجوهر على الدين، من دون وجود تصوُّر واضح عن الله والألوهيَّة لدى الحيويين؟! وورد في أضاحي منطق الجوهر أنك ركزت في القياس على الخطاب وليس النص، وقد ورد إشارات سريعة فقط في الكتاب عن كيفية كتابة النصوص المقدَّسة ونشوء الدين. في الأبحاث العلمية وكما تعرف لمعالجة ظاهرة اجتماعية يجب إحاطة هذه الظاهرة من كافة جوانب والتركيز على أسباب ونتائج وتأثير الأشخاص وتأثُّرهم بالظاهرة.

حمزة رستناوي: يوجد عقائد دينية، وعقائد غير دينية كالعقائد الشخصية والسياسية والقومية (الأيديولوجيات الأحادية)، وكلا النوعين من العقائد سواء أكانت دينية أو غير دينية يسلك سلوكًا اجتماعيًا متشابهًا من الناحية العملية. لا يهتمُّ المنطق الحيوي بوضع تصوُّر أو الدفاع عن تصوُّر محدَّد للعقائد الدينية أو اللا-دينية، ولكنَّه يؤكد على مخاطر منطق الجوهر الثابت في العقائد ودوره في إنتاج وتوليد ازدواجية المعايير والعنصرية.

يميز المنطق الحيوي ما بين مرجعية البداهة الحيوية الكونية للمصالح المشتركة، وبين مرجعية العقد الفئوي التي هي تعريفًا مرجعية فئوية غير ملزمة لعامة الناس، ولا يشترط فيها تأكيد برهان الحدوث العلمي التجريبي، ولكن يشترط فيها تأكيد برهان الفطرة الحيوية في الحياة والعدل والحرية.

السؤال السادس: عن تديُّن الفرد الشرقي. ذكرتَ في الصفحة الثامنة من أضاحي منطق الجوهر بأن من يؤمن بمنطق الجوهر فإنه عمليًا يرتكب جريمة موصوفة في القوانين الدولية والمعاصرة. ألا تجد مجتمعاتنا بأساسها الفكري واللغوي لا تملك تعريفًا واضحًا للإيمان الذي يبعث الوعي! أنا أؤمن بأن منطق الجوهر موجود في أدياننا المختلفة وكتبنا وموروثنا وعلاقتنا بين بعضنا، ولكن إيماني ليس دوغمائيًّا أو مرتبطًا بولاء مفرط وأعمى! ألا ترى بأن هذه المصطلحات يجب إعادة تعريفها كالدين، والتاريخ، العدالة، الحرية، السعادة، من أجل إيمان فاعل وحر عند الفرد الشرقي؟

حمزة رستناوي: قد لا يكون من الضروري إعادة تعريف الدين والعدالة والسعادة والحرية، ولكن ينبغي وضع معايير عامة لها، معايير مقبولة بمرجعيَّة عامة الناس عبر العصور والمجتمعات، ما قصدته هو العودة بمصالح الدين والعدالة والسعادة والحرية إلى البداهة الكونية/الاجتماعية المشتركة للبشر. مثلاً لا يستقيم الكلام عن الحرية بدون إطلاق الحرية السياسية للفرد، بينما نجد في تجربة النظام البعثي في سوريا والعراق قمع شديد للحريات السياسية، على الرغم من كون الحرية هي أحد الشعارات الثلاثة المُعلنة لحزب البعث العربي الاشتراكي.

كذلك السلفيات الإسلامية السنية والشيعية تدَّعي التزامها بالحرية وأنَّ الإسلام دين الحرِّية، ومع ذلك لا ترى فيما يُسمَّى بحدِّ الردة انتهاكًا خطيرًا للحرِّية ، ولا ترى في تشريع تعدُّد الزوجات اعتداء على حرِّية المرأة! وهي تسعى في تقديم تبريرات عرجاء لحجب نور البداهة الكونية/الاجتماعية المشتركة بين البشر.

السؤال السابع: عن علاقة الاستعمار بمنطق الجوهر العنصري. ورد أيضًا في الصفحة الثامنة من الكتاب أنَّ المستعمرين يحاولون تبني ايديولوجيا منطق الجوهر العنصري ضد شعوب العالم الثالث. بناء على الكينونة وتشكُّلها فإنه يوجد أبعاد أخرى مؤثرة للاستعمار وأهداف أخرى ليس فقط يحركها منطق الجوهر العنصري. هل نستطيع أن نحسم بهذا الشأن إن لم نعرف أصحاب القرار وإيمانهم ودوافعهم للاحتلال؟ ومن ثمَّ علاقات المصالح بين الدول والسياسات الخارجية التي قد يتحكَّم بها أشخاص من غير المؤمنين بدين أو منطق أو إيديولوجيا.

حمزة رستناوي: مصالح الاستعمار والاحتلالات تتحوَّى منطق الجوهر الثابت، بعلم أو بجهل، بتصريح أو بدون تصريح. إن مصالح الاستعمار تتحوَّى ازدواجية معايير، فليس من مجتمع أو فرد يقبل احتلاله والتحكُّم به لصالح مجتمع أو فرد آخر. وهذا مبدأ عام وبدهي. ورد في الفصل الثاني من كتاب أضاحي منطق الجوهر معايير الحكم على الجذور المنطقية للمصالح ومعايير الحكم بالشكل الجوهراني الكلي وكذلك الشكل الجوهراني الجزئي. والكتاب حافل على مستوى التطبيق بالتمثيل على منطق الجوهر في الخطاب الإسلامي المعاصر. إنَّ المنطق الحيوي - وفق فهمي- لا يتساءل ولا يخمِّن في النوايا، هو يقايس المصالح المعروضة في الخطابات والنصوص والسلوك والمواقف... وفقًا لمرجعية البداهة الحيوية الكونية للمصالح المشتركة. إن الاستعمار – كأي كينونة أخرى وفقًا لمبادئ القانون الحيوي - هو شكل حركي احتوائي احتمالي نسبي، يعرض لمصالح أكثر أو أقلَّ حيوية، يمكن مقايستها وتقييم صلاحياتها بالاستناد إلى تقنية وحدة مربع المصالح، وحتى الاستعمار والاستبداد لا يخلوان أبدًا من مصالح وصلاحيات ولكنهما وبالمقارنة أشكال قاصرة عن متطلبات العصر بمعناه الحيوي.

السؤال الثامن: في الموازنة بين الاصلاح والاستبدال. في بعض آراءك وطروحاتك الواردة في كتاب أضاحي منطق الجوهر مقولة تعبر بها "إنَّ اصلاح مجتمع أفضل من استبداله بمجتمع آخر" بكل تأكيد أنت تعلم أنه في مجتمعاتنا يوجد أفكار ومنظومات وطروحات قديمة ومازالت قائمة، من الصعب إصلاحها وتجميلها ومعالجتها ونفخ الروح والحياة فيها، وبناء على كلامكَ علينا إصلاح هذه الأفكار والمنظومات وليس استبدالها بأسس وقيم جديدة كما ورد! قد يكون هذا التراكم عديم الجدوى، والاستبدال هو الخيار الأفضل من عملية الإصلاح والتجديد، مثلاً هل نستطيع إصلاح نظام بشار الأسد وهو مسيطر على أرواح وعقول تملك عقلية كالتي نعرفها، هل نستطيع إصلاح وتغيير الأزهر إن لم يقم عليه أشخاص لديهم خطط بديلة يعملون عليها بغية التأثير الجيد على العامة والمتعلمين، وقس على ذلك الأمر. في هذا السياق هل نحتاج لتجميل النظريات والتراث، أم نحتاج لأشخاص لديهم هوية وجودية فكرية كهوية الحيويين يشكِّلوا بها المجتمع في مراكزهم وأدوارهم وعملهم في هذه المجتمعات؟ وما مقدار هذا الانسجام مع العالم بأفكاره الحداثية، وما مقدار التغيير في بنية المجتمع في أجياله المتعاقبة وخططه المستقبلية؟! ألا تتفق معي بأنه يوجد الكثير من الأفكار تحتاج لإلغاء حينما يتأسس البديل؟!

حمزة رستناوي: إذا انطلقنا من مُسلَّمة كون الخيار الأصلح هو الخيار الأقل جهدًا، الأقل كلفة، الأقل ضررًا، والأكثر ملائمة لتحقيق هدف حيوي مطلوب. هذا يعني أنَّ التعامل مع الكينونة الاجتماعية سواء أكانت فردًا أو مجتمعًا ابتداء من مُسلَّمة وجودها كما هي، ومن ثم السعي لتجاوز قصورها وتطوير مصالحها.

- لا يمكن أن تستبدل الفرد فيزيائيًا إلا بقتله أو عزله عن المجتمع، ولا يمكن أن تستبدل الفرد نفسيًا واجتماعيًا إلا في حدود وشروط وصلاحيات معينة كلها نسبية؛ كذلك لا يمكن أن تستبدل المجتمع فيزيائيًا إلا بإبادته أو تهجيره، ولا يمكن أن تستبدل ثقافة المجتمع وتعبيراتها الاجتماعية الاقتصادية السياسية إلا في حدود وشروط وصلاحيات معينة كلها نسبية، وأبسط معوقات الاستبدال الاجتماعي هو اللغة والعقيدة مثلاً، فمن الصعوبة بمكان وفي حدود ضيقة جدًا يمكن لمجتمع أن يستبدل لغته ولسانه وعقيدته وغالبًا في سياقات تناسب خاص مع الشرط الاجتماعي التاريخي. لنتخيَّل مثلاً صعوبة استبدال لغة وعقيدة أي مجتمع سوري في قرية أو حي مثلاً! ولنتذكر المبدأ الحيوي الأول في أنَّ كل كينونة اجتماعية هي شكل يتشكَّل وليست جوهرًا ثابتًا. ولنتذكر كذلك المبادئ الحيوية الأربعة الباقية، كل كينونة اجتماعية شكل حركي احتوائي احتمالي نسبي. ونؤكد هنا على مُسلَّمة عدم وجود كينونة اجتماعية سواء أكانت فردًا أو مجتمعًا تخلو من الحيوية والمصالح والصلاحيات، وبالتالي يمكن اختصار الجهد والتكلفة وتقليل الضرر بغية تحسين وتطوير والمراهنة على اصلاحها.

- التغيير قانون كوني واجتماعي يجري على كل الأفراد والمجتمعات والكائنات. هناك كائنات أو أفراد أو مجتمعات تتحوَّى مصالح قاصرة عن متطلباتها الحيوية.. حيث يتأخَّر الزمن الاجتماعي الخاص بها عن العصر الحيوي الذي تعيش فيه، بما يؤدي إلى انخفاض منسوب حيويتها، ومن هنا تظهر مصالح تحسين صلاحيَّات العيش ومعايشة الكائن لأبعاد وجوده المختلفة.

- نظريات الاستبدال الاجتماعي أو الثورات الجذرية والقطيعة المعرفية أو قتل الآباء (رمزيًا) بقدر ما تبدو جذابة لفئات واسعة من الناس المتحمسين المهتمين بالشأن الثقافي والسياسي العام إلا أنها غالبًا ما تنطوي على إشكاليات وخفايا منها: النزوع الرغبوي الرومانسي للإنسان بالاستبدال والثورة والقطيعة، وكذلك محاولات الأسطرة التاريخية اللاحقة للحدث الاستبدالي أو الثوري بتجميل الحدوث والتغاضي عن سلبيات الحدوث المرافقة، ونجد هذا واضحًا في الثورات، حيث غالبًا ما يتم تقليل شأن الإرهاب المرافق والعنف الذي راح ضحيته ابرياء، وتثمين حجم البطولات والمآثر بما يسهم في مبالغة الحدث وأسطرته، وكذلك نجد ميلاً كبيرًا لإهمال بحث أو نسيان تجارب الاستبدال والقطيعة والثورة التي لم يحالفها النجاح.

- مادام التغيير والحركة قانون وسنَّة كونية، فهو يحدث باستمرار، وإنَّ تسريع وتيرة التغيير باتجاه أكثر حيوية، وسواء أسميناه اصلاحًا أو ثورة، استبدالاً أو تحديثًا.. إلخ هو محكوم بتغير الأبعاد المختلفة للكينونة الاجتماعية التي تتشكل الكينونة الاجتماعية منها وفيها، فنحن لا نستطيع استبدال الطفولة بالشباب، ولا نستطيع قطع صلة الشباب بالكهولة كذلك، ثمَّة تغيير يحدث للإنسان نفسه وفق امكانات قانون وعلم النمو، ومحدِّدات العمران الفردي للإنسان، قانون بتعبيرات وشروط وراثية فيزيولوجية مورفولوجية نفسية اجتماعية اقتصادية ادارية.. الخ. ولمناقشة الفكرة من جوانب مختلفة سنضرب عدَّة أمثلة ذات صلة: مثال الحداثة الشعرية في قصيدة التفعيلة، ومثال إصلاح منزل، ومثال النظام السوري الأسدي.

1. ثورة الحداثة الشعرية وقصيدة التفعيلة على القصيدة العمودية التي حدثت منتصف القرن الماضي، هي بالفعل تغيير ثوري، ولكنه ليس استبدالاً وقتلاً للقصيدة العمودية على المستوى الشكلي الإيقاعي، فقد تضمَّن التغيير إعادة تشكيل التفعيلات القديمة في نسق شعري جديد أكثر حرية ومرونة وغناء من السابق. ولكن مازالت القصيدة العامودية بعد ما يزيد عن نصف قرن ذات حضور وشعبية بالتوازي مع قصيدة التفعيلة.. وكثير من أصدقائنا الشعراء يكتبون كلا النمطين وكثير من المستمعين يستسيغون كلا النمطين. قد تكون هذه المعلومات مخيبة لآمال الكثير من الشعراء والمنظرين لثورة الحداثة قصيدة التفعيلة إبان فورتها آنذاك. طبعًا لا شيء يمنع هجر الشكل العمودي للقصيدة في المستقبل، ولكن أية كينونة أخرى هو شكل يظهر في شكل ويتغير في شكل ويموت في شكل، ومن ثم يستمر كليًا أو جزئيًا في أشكال وصيغ أخرى أكثر أو أقل حيوية.. كل ذلك من دون وجود فروقات جوهرانية ما بين شكل وآخر، من حيث أن الكائن هو فقط طريقة تشكُّل في صيغة معيَّنة، ولا وجود لهوية جوهرانية ثابتة تميِّزه عن الكائنات الأخرى إلا بشكل ظرفي وشرطي.

2. نحن لا نفكر في استبدال مكان السكن أو هدم منزل وبناء منزل آخر إلا عقب استنفاذ كل خيارات الاصلاح، وهذا قانون عام يعيشه ويقبله عامة الناس عبر العصور، فالاستبدال ليس أولوية في أي قرار، ولا نلجأ إلى الاستبدال إلا في حدود مطاوعة الكينونة نفسها للاستبدال ووجود شرط وجودي يسمح بذلك، وكذلك توفر مصالح تدفع للاستبدال كخيار أفضل.

3. بالنسبة للسلطة السورية، علينا مقاربة الأمر ليس من زاوية بشار الأسد كشخص ذي سلطة فقط. سوريا ككينونة اجتماعية ذات بأبعاد مختلفة زمنية أرضية سكانية اقتصادية علمية عقائدية سياسية (كإدارة وقيادة). القدرة على تغيير السلطة السورية كبعد قيادي لسوريا محكومة بتوازنات القوى الداخلية والخارجية بين القوى المتصارعة، وإنَّ أي عمل سياسي حيوي معارض للسلطة سلمي أو سياسي ينبغي أن يكون في حدود الجهد الأقل والتكلفة البشرية والمادية الأقل والضرر الأقل لتحقيق تجاوز حيوي للسلطة السورية القائمة، وهذا مبدأ عام يسير عليه العقلاء والقادة الحيويين عبر التاريخ.

للإجابة على سؤال: هل الثورة على سلطة قاصرة ومتوحشة استنفذت خيارات التغيير السلمي السياسي خطأ أو غير مبررة؟! هذا يتعلق بالبدائل الممكنة وطبيعة القوى الاجتماعية السياسية المتصارعة وتوازنات القوى وفرق الجهد الحيوي بينها! ولكن سواء تكلمنا عن اصلاح أو استبدال ثوري في النهاية هو تغيير، والاستبدال الثوري إن تمَّ هو ليس استبدال للكينونة الاجتماعية (بأبعادها المتعددة) وليس استبدالاً لسوريا أو استبدالاً للمجتمع السوري. بل هو استبدال (تغيير سريع عنيف) للبعد القيادي والاداري للكينونة الاجتماعية، ممثلة بسوريا أو المجتمع السوري. هو ليس استبدالاً لسوريا بل للسلطة. وهذا يتمُّ ويحدث بشروط وقوانين تجعل الاستبدال أكثر أو أقل احتمالاً، وأكثر أو أقل نجاحًا وحيوية.

السؤال التاسع: عن الكينونة والصيرورة، مفهوم العلَّة الأولى، الديالكتيك. يوجد أمر لم يأخذه المنطق الحيوي وكتاب أضاحي منطق الجوهر بعين الاعتبار، هو توضيح مفهوم الكينونة، وكذلك العلة الرئيسية في الطبيعة أو حتى جوهر الإنسان، وإن دحضك لمنطق الجوهر في الكتاب الأضاحي هو مناقض لهذه الطبيعة والعلة، ففي محتوى الكون والذرة يوجد دائمًا الضد والمضاد، أو السالب والموجب، فالذرة في تكوينها يوجد الكترونات ونترونات أحدهما سالب والآخر موجب، تدور على مدارات لتوليد الطاقة والصيرورة الذرية الانشطارية لتوليد مادة جديدة، والنظام الذري هو نظام مبسط لحركة الكون والنجوم والكواكب الشمسية في دورانها حول بعضها البعض، وهذه الازدواجية بين الضد والمضاد ستجدها في مسار التاريخ والمادة والإنسان كشيء طبيعي بديهي. المنطق الحيوي وكتابك أضاحي منطق الجوهر يريد أن يفنيها ويقوضها بدحضها، وهي شيء طبيعي بديهي. إنَّ طرح الكينونة لديك مناقض لهذه الصيرورة في المادة، ومناقض لطبيعة وأسس الحيوية في العودة إلى البداهة الكونية والمعايير المشتركة في تكوين الأفراد وتكوين المادة عبر الزمن.

حمزة رستناوي: سأعرض لعدد من النقاط ذات الصلة بالكينونة والميتافيزيقيا والديالكتيك:

- المنطق الحيوي لا ينفي وجود هوية للكائن أو ينفي وجود الكينونة، ولكنه ينظر إلى الكينونة كشكل وطريقة تشكُّل لأبعاد وأعراض هذه الكينونة، وليس كجوهر ثابت مستقل عن أبعاد وأعراض هذه الكينونة، وهذا هو المبدأ الأوَّل في المنطق الحيوي (الكون شكل) ومن هذا المبدأ سوف لن نجد صعوبة في استنتاج المبدأ الثاني (الكون شكل حركي) فما دامت الكينونة شكل وطريقة تشكُّل مُتغيِّرة  فهي بالضرورة صيرورة حركية، وإنَّ أبسط أبعاد أي كينونة هما الزمان والمكان.. فالكينونة تتشكَّل وتتغير في بعدها الزمني فهي إذن صيرورة حركية.

لننتقل الآن إلى سؤالك حول العلَّة الأولى والميتافيزيقا. إنَّ السؤال/التساؤل عن جوهر للكينونة أو هوية جوهرانية للكائن هو بحدِّ ذاته سؤال وبحث ميتافيزيقي. وقد أوضح ذلك هايدجر في مقدِّمة كتابه ما هو الشيء حيث أنَّ سؤال ما هو الشيء؟ هو أحد الأسئلة الكبرى في الميتافيزيقيا، بينما مثلاً السؤال عن تعريف الشيء هو سؤال نجد إجابته في العلم.

- تتشكَّل الكينونة الاجتماعية البشرية (سواء أكانت فردًا أو مجتمعًا) بالضرورة من/وفي أبعاد متعددة: زمانية، مكانية (جغرافية)، سكانية (ديمغرافية)، علمية تقنية، سياسية، اقتصادية... عقائدية (يمكن العودة إلى كتاب: الأيديولوجيا الحيوية - رائق النقري 1970) واستنادًا إلى الأيديولوجيا الحيوية يمكن تعريف البعد العقائدي للكينونة الاجتماعية البشرية (هو الشكل الأيديولوجي المعرفي والأخلاقي والجمالي للكينونة الاجتماعية). ومصطلح العقائد – في المنطق الحيوي - يشمل العقائد الدينية والعقائد غير الدينية (كالأيديولوجيا الماركسية والقومية والعدمية والشكوكية واللاأدرية وعقائد حب الوطن والإنسانيَّة..) من حيث أنَّ كلاهما يعرضان لمواقف ومشاعر وسلوكيات متشابة عمليًا، ويقومان على أسس نفسية وصلاحيَّات أخلاقية وجمالية واجتماعية متشابهة. المنطق الحيوي لا يعطي ولا يتحوَّى أيَّ يقين عقائدي مخصوص، فكلُّ العقائد الدينية أو اللا-دينية يمكن أن تكون أكثر أو أقل حيوية ربطًا بمعايشتها والمنسوب الحيوي للكينونة الاجتماعية البشرية. العقائد كلها صالحة بمقدار التزامها بأولويات الحياة والعدل والحرية.

- أنَّ المنطق الحيوي يقرُّ بوجود بعد عقائدي–ميتافيزيقي للكينونة الاجتماعية البشرية، ولكنه لا يتبنَّى أية إجابة مُحدَّدة أو مُلزمة على أسئلة الغيب والميتافيزيقيا وعقائد الوجود وعلل الوجود ونحوها.

بالمقارنة مثلاً، ينبغي هنا التمييز ما بين البعد العلمي القائم على برهان الحدوث التجريبي الملزم لكل الناس، وبين البعد العقائدي القائم على الافتراض والإيمان والغيب الذي يفتقد لشرط برهان الحدوث التجريبي، وهو ملزم لمنْ يؤمن به فقط، ومقبول مالم يترتَّب عليه ضرر وازدواجية معايير.

من هنا يمكن فهم أن المنطق الحيوي ليس فلسفة بالخاصة ولكنه هندسة معرفية.

كل العقائد الدينية وغير الدينية مقبولة في المنطق الحيوي ولكن بشروط: أن تكون مرجعيَّة عقدية فئوية مُلزمة لمن يؤمن بها فقط - وأن لا تبرِّر أو تعرض لازدواجية معايير وأن تلتزم بأولويات الحياة والعدل والحرية. أي برهان العقائد في صلاحها (صلاح المؤمنين بها) وليس في علميَّتها وامكانية اختبار برهان حدوثها تجريبيًا.

منطق الجوهر الثابت يؤسس لأشكال عقائدية انغلاقيه وعنصرية، بينما منطق الشكل الحيوي يؤسس لأشكال عقائدية انفتاحيه تعدُّدية تلتزم بأولويات الحياة والعدل والحرية.

نفس المعيار المستخدم في مقايسات عينات من الخطاب الإسلامي المعاصر يمكن استخدامه لمقاربة عينات من الخطاب الهندوسي المعاصر أو الخطاب الماركسي المعاصر مثلاً.

كل سبب هو نتيجة، وكل نتيجة هي سبب، وهكذا دواليك، حيث لا يمكن الفصل جوهرانيًا ما بين السبب والنتيجة، وكذلك ما بين المُحرِّك والمُتحرِّك. فكلها أشكال حركية احتمالية احتوائية نسبية.

يتحوَّى الديالكتيك الهيجلي الكينونة الاجتماعية ككينونة أحادية البعد ذات بعد مثالي فكري عقائدي وليستْ بقية أبعاد الكينونة كالبعد الزمني والمكاني والسكاني والعلمي والإداري سوى مجالات ثانوية لتحقيق تأثير ظهور تجلِّيات البعد المثالي الفكري العقائدي، وهذا مناف للبرهان. حيث أنَّ كل كينونة شكل متعدد الأبعاد. تتفاعل هذه الأبعاد مع بعضها البعض لتشكيل هذه الكينونة.

المسار الديالكتيكي في الفكرة التي تنتج نقيضها ومن ثم تركيب يشملهما معًا هو مسار احتمالي قد يحدث في بعض أو كثير من الحالات، وهو ليس بمسار حتميٍّ يعبِّر عن غائيَّة يمكن أن نطلق عليها مسمِّيات من قبيل منطق التاريخ وعقل الكون! قد لا تتطور الفكرة لتنتج نقيضها، وقد يستمر صراع النقائض من غير الوصول إلى تركيب يشملهما معًا! وقد لا تتوفر وقائع وأحداث قابلة للتوصيف والتعامل معها وفقًا للمنطق الديالكتيكي! إذن ما الذي يجعل الديالكتيك هو منطق الواقع وليس مجرد إسقاط لفكرة على الواقع؟! إنَّ النمو والتطور ليس اقتضاء منطقيًّا ملزمًا في التاريخ كما يدَّعي الديالكتيك الهيجلي بل هو احتمال ومسار ممكن. ما الذي يمنع النكوص والتراجع، فمثلاً ما الذي ينفي احتمالية قيام حرب كونية نووية بسبب خطأ بشري أو سياسات طائشة.

سأعرض اقتباسًا مفيدًا وذا صلة للفيلسوف السوري د. رائق النقري مؤسس مدرسة دمشق للمنطق الحيوي حول المادِّية الديالكتيكية: "في المادية الديالكتيكية نجد نضال الأضداد ووحدة المتناقضات ونفي النفي. النمطية هنا واضحة جدًا، فالتضاد والتناقض بين الأشياء هي حالة لها أسبابها. وليستْ حالة شاملة، وإلا فما هو نقيض الدبوس.. الجدار.. إلخ. التناقض في الأصل لا يحدث إلا بين الكائنات التي تعي معنى التناقض كالبشر وبعض الحيوانات الراقية، ويحدث الصراع نتيجة وعي هذه التناقضات، وفيما عدا ذلك لا يجوز أن نطلق عليه صراعًا، فالسالب والموجب في داخل الذرة ليسا في حالة صراع.. وما بينهما ليس تناقضًا وإنما اختلاف في التكوين وفي الوظيفة، والذرة مؤلفة منهما معًا ولا يمكن وجودها دون أحداهما، وليس من الضرورة أن يكون في كل كائن آخر غير الذرة أشياء متضادة. فوجود الذكر والأنثى وهما أضداد ليس هو الذي يولد حالة التكاثر، لأن هناك كائنات تتكاثر تكاثرًا لاجنسيًا حيث لا ذكر ولا أنثى، وكذلك الأمر بالنسبة لنفي النفي حيث تعتبر المادية الديالكتيكية أن الكائنات تنفي بعضها البعض باتجاه الأعلى فالكائنات تتحرك بشكل حلزوني صاعد، وهذه الحتمية تخالف الأساس المنطقي الأول، فالكائنات بنظرنا تتحرك ولا يجوز أن نعمم شكلاً معينًا لها على بقية الكائنات"[3].

السؤال العاشر: عن نقد الخطاب الديني وجدوى القياس الحيوي! هل تستطيع بمنهجية المنطق الحيوي وطرحك في كتاب أضاحي منطق الجوهر أن تقنع الشارع الإسلامي الذي يُؤخذ للقتال اليوم باسم الله ولإعلاء كلمة الله، بأن محمدًا كان يقاتل لدوافع تحررية! بما يمليه منطق الجوهر الذي كان يحمله في تفكيره، وربطًا بمتطلبات عصره؟ أعتقد أن هذا صعب جدًا! مالم تنطلق من عنوان وفكرة تقول بأن الله والذات الإلهية لا تحتاج إلى أيِّ عمل لأجل ارضائها أو الدفاع عنها؟ أو بشكل أعمق بأن الشريعة لا تقرِّبنا من الله بل تبعدنا عنه، لأن الشريعة هي اعمل ولا تعمل للحصول على الرضى الالهي؟

النص الديني أصبح طقسًا ووثنًا فكريًا يُلقي الإنسان عليه ضعفه. إنَّ اجراء قياس مربع المصالح عليه، سيولد بعدين بتكوينه النفسي: بعد مقدس مرتبط بالنبي وهذا الفاعل أكثر، وبُعد بشري مرتبط بالذي يُجري القياس. إنَّ الولاء سيكون في معظم الأحيان للبُعد المقدَّس أي للنص، ويوجد نصوص في الإسلام مهما أجريت عليها قياس لتقريبها من البداهة والحيوية لن تستطيع إخراجها من عنفها ومن شوائبها التي تحارب أسس البداهة الكونية؟

حمزة رستناوي: حاولتُ في كتاب أضاحي منطق الجوهر تقديم نقد حيوي للخطاب الإسلامي المعاصر في نماذج مخصوصة، نقد قد يفيد في إثارة حوار وربَّما اقناع الفئات القارئة الُمثقَّفة من الموالين للإسلام السياسي بضرورة إعادة النظر في مصالح وصلاحيات هذا الخطاب.

لكلِّ مقام مقال، وعندما تخاطب الشارع عندئذ ستكون مضطرًا لاستخدام أسلوب وتقنيات مختلفة، وأحد الأهداف التي أسعى ونشتغل عليها مع د. رائق النقري هي تبسيط لغة المنطق الحيوي والمقايسات، ثمَّ إنَّ عملية التغيير الفكري والعقائدي عبر التاريخ لا تتعلق فقط بالمصالح التي يقدِّمها الخطاب التغييري، بل يتعلق بعوامل متعددة منها القابلية للتسويق وإمكانات السوق الفكري العقائدي وربَّما الأهم مصالح السلطة المادية والمعنوية وتوازناتها في المجتمع.

بدلاً من مصطلحات الله والذات الإلهية التي تستخدمها أعلاه، يستخدم المنطق الحيوي مصطلح "مصالح واجب الوجود الحيوي الكلي"، بما يساهم في توسيع منظور المعالجة، وتفهُّم أكثر لمصالح وصلاحيات الخطاب الديني بعيدًا عن التحامل والمجاملة، وربطًا بصيغ وأشكال قانونية تستوعب ولا تنبذ مصالح الإيمان الديني وغير الديني.

هامش أول: مصالح واجب الوجود الحيوي الكلي:

يمكن معادلة كلمات: الله، الرب، الخير، الطبيعة، الطوطم، خودي، يسوع، الآلهة، النور الأبدي وغير ذلك من الرموز التي يؤمن بها أصحابها بوصفها الخالق أو من مُستلزمات فهم أو تقديس الخالق بـ "مصالح واجب الوجود الحيوي" لكون المنطق الحيوي يُلزمنا بمعادلتها بما هو إيجابي بعد ذكر السبب، والحكم على المصالح العقائدية المعروضة عندئذ يكون شرطيًا، إلا إذا عرضتْ لمصالح منافية للبرهان الحيوي من دون اضطرار يقبله عامة الناس في ظرف معيَّن، فعندئذ يكون الحكم على هذه المصالح العقائدية سلبيًا. التعريف الأبسط لواجب الوجود هو: "كل من كان غيابه يخل بواجب فوجوده واجب". إنَّ مصالح واجب الوجود الحيوي هي الضامن لديمومة فطرة قيم الحياة والعدل والحرية.

هامش ثان: مقايسات المنطق الحيوي تُقايس المصالح التي يعرضها النص موضوع القياس، ولا تتعلق بالنوايا وليستْ معنية بهدف القائل أو المرسل. وعندما يتعلق الأمر بالنصوص العقائدية الدينية لا يعطي المنطق الحيوي كثير أهمية لأسئلة من قبيل هل الله موجود؟ وهل قال الله فعلاً هذا الكلام؟ ماذا كان يقصد الله أو النبي أو الولي بهذا الكلام؟ هذه قضايا خارج منظور المنطق الحيوي والقياسات.

هامش ثالث: إنَّ إيمان البشر بحد ذاته بنصوص يعتبرونها هم أنفسهم مقدسة، هو سبب كاف للتعامل معها كمصالح عقائدية وكفى! لا تجادل الآخرين في مصدر أو ثبوت حدوث معتقداتهم! فبرهان الاعتقاد الديني ليس في ثبوته تجريبيًا وعلميًّا فهذا شأن وخيار المؤمنين أنفسهم. ولكن ما يعنيني ويعنيكَ ويعني عامة الناس عبر العصور والمجتمعات هو أن تؤكد هذه المعتقدات على أولوية الحياة والعدل والحرية، وأن لا تبرر الظلم وازدواجية المعايير.

هامش رابع: بالتأكيد يوجد في نصوص العقائد الدينية التوحيدية في نسخها اليهودية والمسيحية والإسلامية ما يتنافى مع هذه الأولويات، من قبيل (إنما المشركون نجس - النساء ناقصات عقل ودين – فاقتلوهم حيث ثقفتموهم - أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إلى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي.. الخ)، والمنطق الحيوي يحكم على مصالح هذه النصوص بما يتناسب مع قصورها من قيم في "تقنية وحدة مربع المصالح" ولكنَّه يلزم المؤمنين بأخذها على الاستثناء والظرفية والاضطرار. وكونها مصالح عصر مضى، ومن يصرُّ على استخدامها وتوظيفها في عصرنا يرتكب جريمة موصوفة بحقِّ نفسه ومجتمعه والإنسانية، فهي مصالح ضدَّ العصر، المنطق الحيوي يقول ذلك صراحةً، مرفقًا بقرائن الحكم ومسوِّغاته.

هامش خامس: المنطق الحيوي هو منطق قياسي متعدِّد القيم، يسعى إلى معرفة استدلالية عبر صيغ قانونية موحَّدة تشمل الكون والمجتمع.

يمكن اختصار هذه القوننة في المبادئ الخمسة للقانون الحيوي: الكائن شكل وليس جوهر، الكائن شكل حركي، الكائن شكل احتوائي، الكائن شكل احتمالي، الكائن شكل نسبي. يعود السبق في اكتشاف نظرية المنطق الحيوي إلى د. رائق النقري مؤسس مدرسة دمشق للمنطق الحيوي 1967، أما القياس الحيوي فهو الصياغة التطبيقيَّة للمنطق الحيوي، يستند إلى مرجعيَّة البداهة الحيوية الكونية للمصالح المشتركة.

*** *** ***


 

horizontal rule

*  إيميله: abedrahaman@gmail.com

[1]  أضاحي منطق الجوهر (تطبيق مقايسات المنطق الحيوي على عينات من الخطاب الإسلامي المعاصر)، حمزة رستناوي، دار الفرقد، دمشق، ط1، 2009.

[2]  قصة الفلسفة، ول ديورنت، بيروت، مكتبة المعارف، ط 6، 1988، ص 97.

[3]  الأيديولوجيا الحيوية، ص15-16.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني