قصة الأرقام

عبر حضارات الشرق القديم

من الشكل التصويري والحسِّي إلى التجريد

 

أحلام إسماعيل

 

يروي كتاب قصة الأرقام عبر حضارات الشرق القديم* للباحث موسى ديب الخوري، اعتمادًا على الأبحاث والاكتشافات الأثرية والتاريخية الحديثة، قصة ولادة الأرقام ومفهوم العدد المكتوب في المشرق القديم وكيفية عبوره إلى العالم.

حيث كانت بداية الأرقام مع أولى أشكال الترقيم البدائية. فقد ظهرت الأغلفة الطينية التي تحتوي على كتل ترمز إلى كميات محددة. ثم طُبِعَتْ هذه الكتل على الأغلفة، وتحولت الأغلفة إلى الألواح. وبعدها انفصلت الرموز التي تشير إلى الكميات والأعداد عن المعدود.

 

ويشير الباحث في بداية دراسته التاريخية إلى أن لانتشار التدوين والكتابة وعمليات العدِّ والحساب البسيطة أثرًا كبيرًا على تطور إمكانات التجريد عند مختلف الشعوب القديمة. فمع خبرة الإنسان المتزايدة في التعامل مع الكميات المعدودة وحسابها، استطاع، شيئًا فشيئًا، إعطاء رمز لكلِّ رقم؛ ما مكَّنه، في مرحلة تالية، من تحويل العمليات الحسابية على كميات الأشياء إلى عمليات ذهنية على الأرقام نفسها، بمعزل عن المعدود. وكانت الطرق التي تمَّ بها هذا التحول كثيرة وأهمها: الطريقة التصويرية، والطريقة الشفهية، والطريقة التسجيلية أو الكتابية.

حيث من أهم الأساليب التصويرية أو الحسِّية الوسائلُ المادية المختلفة لتمثيل العدد، كالحصيَّات والقواقع والعُظَيْمات والخرزات والحبال المعقودة ونوى وبذور الثمار، الصلبة والكبيرة الحجم نسبيًّا، والعُصَيَّات الخشبية والمواد الصلصالية ذات الأشكال الهندسية المختلفة، هذا إضافة إلى مختلف أشكال الحزِّ والحفر على العظم والخشب، كما واستخدام الأصابع ومختلف نقاط الجسم المميزة للعدِّ وللدلالة على الأرقام.

أما الطريقة الشفهية في تسمية الأرقام، وبخاصة الأولى منها، فتعتمد على إطلاق صفة أو اسم شيء حسيٍّ مميِّز للرقم على الرقم؛ كأن يُسمَّى الواحد رأسًا أو قضيبًا أو شمسًا، والاثنان جناحين أو عينين أو ثديين. ومع ذلك فإن دراسة أسماء الأرقام القديمة تتطلب بحثًا خاصًّا. ففي لسانيات اللغات القديمة وتاريخها ما قد يوضح جانبًا هامًّا من تاريخ تحول الشكل الرقمي إلى معنى مجرَّد – وإن كنَّا لا نستطيع أن نجيب الآن، مثلاً، عن سبب تكوُّن لفظة "واحد" العربية من الواو والحاء والدال.

من جهة أخرى، قد يبدو التجريدُ العمليةَ التي تسمح بإبراز الصفة المشتركة انطلاقًا من أشياء مادية يُتَّفَق على أنها متطابقة وفق بيان محدَّد. وقد بلغ التجريد مرحلة جديدة دون شك مع ظهور المعادلات من الدرجات الأولى والثانية، ثم الثالثة فالرابعة. فمع تطور هذه المسائل وحلولها، والبحث عن أنماط عامة لهذه المعادلات وحلولها، بعيدًا عن المسائل اليومية التي أدَّتْ إلى وجودها (كتقسيم ميراث أو معرفة مساحة أرض أو كمية محصول ما)، برز العدد ككائن مستقلٍّ عن موضوع البحث. وفي القرون القليلة الماضية أدى تطور الرياضيات عمومًا إلى ظهور نظرية الأعداد الحديثة، حيث تجدر الإشارة هنا إلى أن التجريد الذي أبدعه رياضيو القرن العشرين يختلف نوعيًّا عن كلِّ مراحل التجريد السابقة، بعد أن بات العدد اليوم مجرَّد عنصر رياضي ضمن عنصر رياضي أوسع منه.

ويأتي الفصل الثاني من الكتاب الجديد – وهو بعنوان "سومر وعيلام" – للحديث عن الأرقام الأولى. حيث مرَّت الأشكال التصويرية بعدة مراحل تبسيطية، قبل أن يظهر الشكل المسماري الذي شاع استخدامه في كامل أنحاء الشرق الأدنى القديم، واعتمدتْه لغاتُ المنطقة كلُّها. وقد كان أول تحول أساسي قد تمَّ خلال عصر جمدت نصر (2850 ق م)، وذلك عندما غيَّرتْ الكتابة المسمارية اتجاه القراءة. فلقد كان المحاسبون يدوِّنون الأرقام والرموز ضمن تقسيمات مربعة أو مستطيلة يحددونها على اللوح، وذلك من الأعلى إلى الأسفل ومن اليمين إلى اليسار، حيث كانت الأرقام تُطبَع بشكل عمودي، بينما كانت الرموز والأشكال التصويرية تُخَطُّ بوضعيتها الطبيعية. وقد استمر الأمر على هذا النحو وانتشر إلى ما بعد العصر الأموي.

وإلى جانب هذه الكتابة، ظهرت كتابة أخرى يمكن تسميتها بـ"الشعبية". وكانت هذه الكتابة تدوَّن على الرُّقُم الطينية ذات الاستخدام اليومي، حيث نجد فيها رموزًا رقمية مختلفة عن تلك التي كان يستخدمها المحاسبون. وقد لاحظ العلماء عند دراستهم لهذه الألواح أن الفراغات التي كانت تُترَك في البداية في أسفل كلِّ مربع على الألواح عند الانتقال إلى المربع التالي أصبحت تُترَك على يسار المربع؛ إضافة إلى أن الأشكال الكتابية نفسها باتت تُرسَم وكأنها عانت من استدارة بمقدار 90 درجة بعكس اتجاه عقارب الساعة.

يؤكِّد الباحث الخوري أن أسباب هذا التدوير كثيرة دون شك. لكننا لا نزال غير قادرين على تحديد سبب مباشر لهذا التحول، حيث يرى بعض العلماء أن صغر حجم هذه الألواح كان يساعد النُسَّاخ على تدويرها، مما يسهِّل عملية الكتابة عليهم؛ في حين أن الألواح الطينية الكبيرة التي كان يستخدمها المحاسبون لم تكن تسمح بذلك. فمن المرجَّح أن التحول الأداتي الذي أصاب القلم هذه المرة لعب دورًا هامًّا في عملية التدوير هذه.

وحول أصل نظام العدِّ الستيني، يشير الباحث في دراسته التاريخية إلى أن السومريين كانوا أول من أنشأ بنية رياضية بإيجادهم قاعدة العدِّ الستيني – وإن كان من المرجَّح أن يكون المصريون قد جاروهم في هذا المجال خلال الفترة الزمنية نفسها تقريبًا. لكن المصريين اعتمدوا القاعدة العشرية؛ وهي الأسهل بالتأكيد ومن السهل معرفة جذورها. أما القاعدة الستينية فإن النقاش لا يزال قائمًا حتى الآن حول أصولها، لأن إيجاد تفسير كامل لهذا النظام يتطلَّب معرفة دقيقة بحياة السومريين عبر آلاف السنين. فإذا كان من الصعب إعادة تشكيل صورة كاملة عن هذه الحياة في أدقِّ تفاصيلها، على الرغم من الإمكانات الكبيرة التي أمدَّنا بها علم الآثار لرسم مثل هذه التصورات، فإنه من المستحيل عمليًّا إعادة صياغة كافة العوامل التي كانت تتحكَّم في ظهور ابتكار ما أو في صيرورة تطور منظومة إبداعية.

وعلى هذا يمكن القول: إن الفرضيات السابقة يمكن أن تحتمل بعض الصحة – هذا إذا أردنا ألا نغفل مُعاملاً ما، مهما كان بسيطًا. فمما لا شكَّ فيه أن للمراقبة "الفلكية" التي ترجع إلى آلاف السنين، على سبيل المثال، دورًا ما في تشكيل المفاهيم السومرية عمومًا؛ ولا بدَّ من أنها لعبت دورًا أيضًا في خلفية ظهور العدِّ الستيني.

وفيما يتعلق بنظام العدِّ الوضعي وأول صفر في التاريخ، فقد اختار البابليون نظام العدِّ الستيني ولم يأخذوا بالنظام العشري–الستيني السومري أو الأكادي؛ وقد تجنَّبوا بذلك إرباكات كثيرة من غير شك. فعلى الرغم من مزايا العدد 60 وقواسمه الكثيرة، لكن ذلك لا يشكِّل بالتأكيد السبب المباشر لاختيار البابليين له كواحدة أساسية. فمن جهة أخرى، شكَّل لهم اختبارُهم هذا بعض الصعوبات في تدوين الأرقام التي تقع بين الواحد والستين أو بين 60 و3600. ولهذا السبب يرجِّح الباحث أن البابليين اعتمدوا النظام الستيني في البداية لأنهم اعتادوا التعامل معه لأنه كان يوافق، إلى حدٍّ كبير، تقويمهم ومعارفهم الفلكية، إضافة إلى ميثولوجياتهم ودياناتهم التي كانت ترتكز، في العديد من جوانبها، على هذا الرقم ومضاعفاته. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا التطور الرياضي–المعرفي كان قد تمَّ، على الأرجح، على أيدي الكهنة–العلماء الذين كانوا أصحاب المعارف في تلك الفترة فسيكون واضحًا عندئذٍ دورُهم في انتقاء هذا النظام لما كان له من تأثير عليهم.

وجاء الفصل الرابع من كتاب قصة الأرقام عبر حضارات الشرق القديم للحديث عن "الأسطورة المصرية"، مؤكدًا أن الأرقام الهيراطيقية استُخدِمَتْ منذ بدايات الحضارة الفرعونية لتدوين مسائل مختلفة، كالحسابات والجداول، كما وظهرت في مختلف الوثائق الإدارية والقضائية والاقتصادية والأدبية والسحرية والدينية والرياضية والفلكية التي دُوِّنَتْ بالهيراطيقية.

وباستثناء تدوين أرقام أيام الشهر، التي يعطي عليها شامبوليون بعض الأمثلة، وتظهر فيها بعض التحويرات الطفيفة، فإن الأرقام الهيراطيقية لم يطرأ عليها غير بعض التغير الشكلي الطفيف جدًّا على مدى ألفي عام؛ حيث نجد على بردية هاريس الكبيرة تدوينًا هيراطيقيًّا للآحاد والعشرات والمئات والألوف. وترجع هذه الوثيقة إلى عهد الأسرة العشرين، وتقدم جردًا بممتلكات المعابد عند وفاة الفرعون رمسيس الثالث (1192-1153 ق م).

أما الفصل الخامس فجاء تحت عنوان "أصول الأرقام الحديثة"، حيث يرجع نظام العدِّ في بلاد الشام عمومًا إلى أزمنة موغلة في القدم. ولا ينفصل هذا التاريخ بحال من الأحوال عن السياق الموازي له في بلاد الرافدين، حيث تشير رموز وأشكال الأرقام الأولى الحثِّية أو الفينيقية أو الآرامية إلى نموذج الأرقام البدائية.

كما يرجع أقدم التدوينات الرقمية الآرامية إلى النصف الثاني من القرن الثامن ق م. وقد نُحِتَتْ على التمثال الضخم لملك يدعى بانامو الذي عُثِرَ عليه شمال شرق زنجرلي شمال سورية. وهو عبارة عن الرقم 70، وقد دُوِّنَ على شكل سبعة خطوط أفقية مرتَّبة مثنى مثنى. وإلى جانب هذا الرقم دُوِّنَ لفظ السبعين؛ إذ كان شائعًا تدوين الأرقام كتابة. فيما تُعَدُّ الأرقام الآرامية نموذج تطور الأرقام عند الشعوب السامية في المنطقة، انطلاقًا من مبدأ العدِّ البسيط المعتمد على قاعدة الجمع أساسًا، ثم مع إدخال مبدأ الجِداء عليه. كما نجد نظام العدِّ هذا، المشتق من نمط الكتابة بالقصبة أو بالريشة، المتطوِّر عن الفرضة أو الخطِّ البدائيين عند سائر شعوب الشمال الغربي لبلاد الشام والساحل السوري.

يبقى أن نقول إننا قصدنا من هذه اللمحات السريعة المقتطفة من هذا البحث التاريخي الممتاز حفزَ القارئ على قراءته قراءة متأنية. إنه كتاب يثري بحق المكتبة العلمية العربية التي تفتقر إلى البحث العلمي الرصين والموثَّق أيما افتقار، ويفتح آفاقًا واسعة للفكر المتأمِّل في التطور النفسي والعقلي للإنسان عبر العصور، ولا سيما إنسان شرقنا القديم.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


* موسى ديب الخوري، قصة الأرقام عبر حضارات الشرق القديم: دراسة تاريخية، وزارة الثقافة، دمشق 2002.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود