اليهودية

بين حضانة الشَّرق الثقافية

وحضانة الغرب السِّياسية

انقلب اليهود على ألف سنة من العلاقات الطيِّبة مع العرب المسلمين

فكرة العودة إلى فلسطين ليست صهيونية بل ابتدعها أتباع كالفِن في القرن السابع عشر

 

حوار مع عفيف فراج

 

مناسبةُ هذا الحديث مع د. عفيف فراج صدورُ كتابه القيِّم اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية عن دار الآداب في مائتين وثلاثين صفحة. كتابٌ مشغول في دراية عميقة وفي رويَّة الباحث الأكاديمي المنشغل بالوصول إلى نتائج وخلاصات جديدة. يقرأ فراج في كتابه التحولات السياسية والإيديولوجية والثقافية ونزعاتها، في مقاربة نقدية لموضوع قديم–جديد تتشعَّب فيه الأسئلة والإجابات والدلائل.

 

عفيف فراج

يطرح الباحث فرضية "الانقلاب الذي أنجزتْه اليهودية على ألف سنة من التاريخ" بينها وبين العرب والمسلمين في الشرق. وهذا الحوار مع د. فراج يعيد الضوء إلى مصادره الأساسية، وإلى الجدال الثقافي والسياسي الذي أثارتْه اليهودية في علاقاتها مع سواها من الأديان والجماعات. ولا يتوقف الحوار في حيِّز أو نطاق؛ إذ يشمل التاريخ والثقافة والسياسة والحاضر والأفكار والعلاقات التي تجمع ذلك كلَّه. والمادة التي اتَّسعتْ وتشعَّبتْ بين يدي د. عفيف فراج ظلَّتْ مرتبطة بأمرين:

1.     معرفة الآخر وسبر غور جذوره، من أجل فهم مسلكه ونمط تفكيره وردود فعله، في موضوعية وسعة أفق؛ و

2.     تقديم قراءة تحليلية جديدة لصراع يكتنفه الغموض والظلال والأوهام والوقائع.

لنقل إنها محاولة جديدة وغير محدَّدة في ذاتيَّتها أو في مداراتها الشخصية.

وبين قراءة الكتاب والحوار كانت المسافة في الكشف والعمق والرؤية الجديدة.

س. ب.

***

 

لماذا كتاب اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية في هذه الفترة؟ وأية علاقة لذلك مع تطور المرحلة التي بلغَها الصراع العربي–الإسرائيلي ودقَّتِها؟

المسألة اليهودية ليست مرحلية في اعتقادي. والدولة اليهودية التي أُسِّسَتْ بالعنف في العام 1948، وتعيش حياتها بالموت والإماتة، لا تعدو كونها مرحلة من مراحل المسألة اليهودية الأشد تعقيدًا وخطورة من أية مسألة. والكتاب، بالتالي، ليس استجابة لحدث طارئ – وإنْ بحجم الانتفاضة؛ ذلك أن انتفاضة الأقصى الأخيرة تشكِّل هي أيضًا مَعْلَمًا أو حلقة من سلسلة انتفاضات وصِدامات دموية جماعية مضادة للمشروع الاستيطاني الصهيوني، بدأت في العام 1920 في القدس – مكان الانتفاضة الأخيرة – لتنذر بولادة مسألة فلسطينية نشأت من الحلِّ الخاطئ للمسألة اليهودية. الكتاب، إذن، استجابة لهمٍّ مزمن ومقيم، ويجيب عن أسئلة عديدة بدأت تتخلَّق في سياق قراءاتي لمشابِهات كثيرة بين ديانات الشرق وثقافاته وديانة القبائل العبرية؛ مما يدل على نشأة اليهودية في حضانة الشرق الثقافية.

 

ولكن بين حضانة الشرق الثقافية لليهودية وحضانة الغرب السياسية ثمة مسار فكري تاريخي صعب ومعقد وغامض. فكيف تبيَّنتَ شواهده؟

لعل السؤال الأول، الذي تولَّد من التماثل المذهل بين اليهودية وديانة التوحيد المصرية التي أبدعها الموحِّد الأول إخناتون (1375 ق م)، هو: كيف ولماذا تحوَّلت اليهودية إلى إيديولوجيا تتنكَّر لأصولها الثقافية وتعادي العرب والمسلمين الذين يتجانسون مع اليهود ثقافيًّا وعرقيًّا؟ والوجه الآخر للسؤال: لماذا تحوَّل اليهود، الذين عاشوا في الغرب الأوروبي حالة الشرقي السامي المغترب والمستبعَد، إلى حلفاء لهذا الغرب، الذي استبعدهم واضطهدهم، ضدَّ شرق عربي–إسلامي وفَّر لهم، على مدى ألف سنة، مرفأ الأمان وملجأ السلامة من الغرب الطارد لهم؟ ومن المفارقات الدالة أن أولى المذابح الكبرى التي تعرَّض لها اليهود في الغرب كانت على يد الحملة الصليبية الأولى، المتِّجهة إلى الشرق الإسلامي في العام 1096 تحت شعار: "لنقتل الكفار المقيمين بيننا وفي بيتنا أولا". وقد أدَّتْ متابعتي للعنف المتعدِّد الذي تعرَّض له اليهودي، في شرق أوروبا وغربها وشمالها وجنوبها، إلى سؤال آخر: كيف أمكن اليهود أن يكسبوا معركة البقاء رغم الاضطهادات؟ وكيف تمكَّنوا من التكيُّف في أجواء معادية والنجاح في ميادين الاقتصاد والبحث العلمي والمهن الحرة التي تعتمد على النشاط الذهني؟ وفي سياق البحث عن الإجابة عن هذه الأسئلة، وقعتُ على شواهد تدلُّ على سببية بين محنة الاضطهاد ونعمة الثروة وميزة التضامن اليهودي الجمعي. وتبيَّن لي كذلك وجود علاقة سببية بين الاضطهاد ونشوء الصهيونية، من خلال التحولات التي طرأت على وعي أبرز مؤسِّسي الحركة الصهيونية في أعقاب مذابح أو مظالم جعلتْهم يتحوَّلون من متنوِّرين، يدعون إلى اندماج اليهود كليًّا في مجتمعاتهم، إلى "صهاينة" يدعون إلى وطن قومي يهودي مستقل ويعملون من أجله. وشغلتْني مسألة أخرى: كيف أمكن اليهود، الشغوفين بالتقدم العلمي، أن يتركَّدوا على دين صحراوي بدائي، وأن يتشبَّث معظمُهم بالإيمان بعودة المسيح المخلِّص الذي سيقودهم إلى أرض الميعاد؟ والأخطر من ذلك كلِّه: كيف استطاعت الصهيونية أن تحوِّل ذلك الحلم الأسطوري إلى واقع تاريخي؟ ثم لماذا تمَّ هذا الانزياح والانحياز للتاجر اليهودي – المعتاد الترحُّلَ بين حواضر الأمم، مما يوسع آفاقه الثقافية – إلى فكرة وطن قومي بعيد، يُقام على أرض فقيرة متخلِّفة يغلب عليها الطابع الصحراوي؟ والكتاب محطة لمحاولات الإجابة عن هذه الأسئلة.

ضمن هذه التداخلات المتشابكة فعلاً والأسئلة المتشعِّبة، كيف تحدِّد علاقة المشروع الصهيوني والاستعماري الأوروبي في ضوء ما أشرت إليه في الكتاب من جدال بين الاضطهاد الطارد لليهود واستعمار الصهاينة لفلسطين؟

لعل أفضل مدخل للإجابة عن سؤالك هو قول أحد مؤسِّسي الحركة الصهيونية: "لو لم يكن هناك يهود لكان على بريطانيا أن تخترعهم." وقد كشفت المفكِّرة اليهودية حنَّة أرندت الوظيفة الاستعمارية لـ"دولة اليهود" حين قالت: "إن الدولة اليهودية لن تكون سوى منطقة نفوذ للقوى الاستعمارية تحت وهم القومية." وكان هرتسل نفسه يعرِّف مشروعه بأنه "فكرة استعمارية"، ويتوقع أن تتفهَّم بريطانيا جدوى هذا المشروع، كونها الدولة الاستعمارية الأكبر في العالم، وتساعد، بالتالي، على تنفيذه. ولم يُخيِّب البريطانيون ظنَّه، كما تعلم. وتضافرت جملة أسباب دينية واقتصادية وثقافية لتُحدِثَ تقاطعًا بين الصهيونية ودول أوروبا – بريطانيا خاصة في نهايات الحقبة الاستعمارية؛ إذ كانت بريطانيا أكثر دول أوروبا وأقدمها اهتمامًا بالأرض المقدسة، لا لأسباب استراتيجية فقط، بل لأسباب دينية تتعلق بأسباب الحروب الصليبية ومجرياتها.

هل ثمة، في رأيك، أسباب أخرى تتعدَّى البريطانيين في تفهُّمهم للمشروع الصهيوني ودعمهم له؟

أجل، ثمة أسباب أخرى تتعدَّى البريطانيين، لتشمل باقي الرأسماليين الأوروبيين الغربيين والأمريكيين الذين كانوا يخشون منافسة اليهودية لهم في حقول المال ويمنعون، أو يحدُّون في الأقل، من الهجرة اليهودية إلى بلدانهم. وذاك ما فعلوه أكثر من مرة في أعقاب حمامات الدم الروسية (1881-1882) وإبان الاضطهادات النازية في الثلاثينات والأربعينات. فضلاً عن تواطؤ الرأسماليين اليهود في أوروبا اليهودية مع المشروع الصهيوني، لكونه يوفِّر عليهم أخطار هجرة يهودية تحرِّك العداء للسامية وتهدِّد، بالتالي، مصالحهم على أرض أوروبا. كما أن بعض أولئك الرأسماليين اليهود كانوا يطمعون في وطن يهودي يطلق يدهم في الاستثمار، في منأى عن منافسة البورجوازية الأوروبية. وهكذا ركبت المعادلة، وتقاطعتْ مصالحُ الرأسمالية الأوروبية المسيحية واليهودية ودوافعُها مع تطلُّعات اليائسين في التحرر من أوروبا. ولا ننسى أن أوروبا، على اختلاف أنظمتها السياسية وتنوعها، أظهرت ممانعة شديدة لإدماج اليهود في مجتمعاتها وثقافتها، بدءًا من فلاسفة الأنوار الفرنسيين وانتهاء بالفلاسفة الألمان، مثل كانط وهيغل ونيتشه. وكلُّ تلك الظواهر تؤكد قوة الدفع الأوروبي الطارد لليهود وتؤكد، بالتالي، علاقة جدلية ثنائية خاصة بين الخصوصيتين السلبيتين، اليهودية والأوروبية، وأثر ذلك كلِّه على المشروع الصهيوني برمَّته.

حاولت في كتابك الإجابة عن سؤال الممانعة اليهودية للانخراط في ثورات الغرب، وحدَّدتَ الأسباب في ما سمِّيته بـ"الخصوصية الدينية والوظيفة الاقتصادية" (الطبقة الاجتماعية). ألا تعتقد أن هناك مشروعًا سياسيًّا كامنًا ظلَّ يتيح الفرص ويهيِّئها ويعمل على إنضاج شروطها؟

أعتقد جازمًا أن مثل هذا المشروع لم يكن له وجود قبل ظهور الحركة الصهيونية في نهايات القرن التاسع عشر؛ ذلك أن يهود الشتات، قبل ذلك التاريخ، كانوا يقرنون حلم العودة إلى أرض الميعاد بظهور المسيح، ابن داود، ويمارسون الطقوس الدينية التي تعجِّل في "عودته"، ويترقَّبون علاماتها. وجاءت الصهيونية لتقوِّض هذا النمط من التفكير الديني التقليدي، وتحيي ما يسمَّى "العبري الجديد"، الذي يتولَّى مهمة "إعادة" اليهود إلى أرض إسرائيل بنفسه. وقلة من العرب تعرف أن فكرة عودة اليهود إلى فلسطين ليست فكرة صهيونية أو يهودية في الأساس، بل بدعة إنجيلية أصولية بريطانية ابتدعها أتباعُ كالفِن في القرن السابع عشر، انطلاقًا من إيمانهم بقدسية العهد القديم و"عصمة" نصِّه القائل بعودة اليهود إلى أرض كنعان؛ وبالفعل، دعا أولئك الإنجيليون وعملوا من أجل إعادة اليهود إلى الأرض المقدسة، لأن عودتهم تسبق عودة المسيح وتمهِّد لها. وحين هاجر أولئك الأصوليون إلى أمريكا، حملوا معهم فهمهم العبري للإنجيل ونسختهم العبرية من الإنجيل المسيحي، واستحدثوا الظاهرة التي ستُعرَف بـ"اليهود المسيحيين"، الذين يبلغ تعدادهم في أمريكا الآن نحو خمسين مليونًا، يملكون قدرات إعلامية نافذة. وقلة من العرب تعرف كذلك أن شعار "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" كان عنوان مؤتمر عقده المسيحيون اليهود في لندن في العام 1840، ثم أشاعه الإنجيلي الأمريكي بلاكستون في سبعينات القرن التاسع عشر، في وقت كان هرتسل ساهيًا تمامًا عن اليهود ومصيرهم ومنشغلاً بالتألق في قاعات فيينا كمُحامٍ وكاتب مسرحي. وبناءً على ذلك، أميل إلى تصديق قول بعض المؤرِّخين بأن الصهاينة كانوا آخر من اكتشف الصهيونية في أوروبا!

كلامك هذا عن المسيحيين اليهود يردُّنا إلى فصل في كتابك، تشدِّد فيه على أهمية العلاقة الجدلية بين الصهيونية المسيحية واليهودية في قيام دولة اليهود. سؤالي: هل مِن أسُس بنيوية اقتصادية تقوم عليها تلك العلاقة ذات العامل الديني–الثقافي؟

الواقع أن هذه العلاقة تعود تاريخيًّا إلى القرن السابع عشر، حين ظهرت في بريطانيا طبقة وسطى وجدتْ في العهد القديم والشريعة الموسوية مفاهيم تتوافق مع حاجاتها ونمط حياتها وطموحاتها. وتلك المفاهيم هي تقديس العمل المنتج، وتمجيد الثروة واعتبارها علامة تدلُّ على تفضيل الله لصاحبها وتخصيصه بالنعمة. وبهذا المعيار يصبح رجال الأعمال الأثرياء النخبة المختارة من الله الذي يفرِّق عليهم من ماله. وإذا كان المال مال الله والملك ملكه، فإن المتموِّل أو المالك يمسي، تبعًا لذلك، مؤتمَنًا على المال، ولا يستطيع التصرف به أو إنفاقه إلا تبعًا لمواصفات تحدِّدها الشريعة الموسوية التي توصي بالادِّخار والتثمير، ولا تسمح بالإنفاق والتبذير؛ أي أن الإنسان يغدو مسؤولاً عن الوديعة المالية التي ألقاها الله بين يديه ومطالَبًا بإثبات أنه لم يبدِّدها على الترف والمتع، بل على الضروري والأساسي من الحاجات وتدبُّر شؤون المعوزين من أبناء الجماعة المؤمنة. وهكذا وجدت البورجوازية البريطانية في العهد القديم ما عزَّ وجودُه في عظة الجبل والعهد الجديد. ولا حاجة إلى القول إنها كانت انتقائية تأوُّلية في مقاربتها للعهد القديم نفسه.

هل ترى تماثلاً بين النصِّ الديني وسلوك اليهود؟ وهل يدخل "العنف الرَّبَوي" الذي ذكرتَ في باب التماثل؟

الكلام على اليهود أو سواهم في صيغة الجمع بالمطلق هو ضرب من ضروب الوهم؛ وقد يفضي إلى العنصرية واللاسامية. والكلام على النصِّ الديني كأنه نصُّ متماسك ومتجانس هو من الأخطاء الشائعة. في الشقِّ الأول من المسألة ثمة جماعات وفِرَق وأفراد يهود يتنوعون ويتميزون ويختلفون في أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا تحدُّها اليهودية أو تحدِّدها. وفي الشقِّ الثاني، الخاص بالنصِّ الديني، يتصف النصُّ بالتنوع والاختلاف، وأحيانًا بالتناقض، في مضامينه الاجتماعية؛ فاليهودية "حمَّالة أوْجُه"، شأنها شأن أيِّ دين آخر. وقديمًا تواجدت فِرَق يهودية دينية انشقَّت وأنشأت أخويات، ومارست أسلوب حياة شيوعية، أشهرها فرقة "الأسينيين"، وهي أقرب، فكرًا وحياة، إلى المسيحية منها إلى اليهودية، رغم بقائها على يهوديتها. إنه مثال على التباين قديمًا. وراهنًا، عرفت اليهودية "اليهود اللايهود"، كما يصفهم إسحاق دويتشر (وهو منهم). وبين هؤلاء فلاسفة وعلماء ومشاهير كانوا معادين لليهودية، بل ألدَّ أعدائها؛ ويكفي أن نذكر منهم سبينوزا وفرويد وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ. ويصف كبار المؤرِّخين اليهود ماركس بـ"اليهودي المرتد"، ويتَّهمونه بالعداء للسامية. وسأوفِّر للقارئ لائحة بأسماء "اليهود اللايهود" المعاصرين والنشطاء في فضح عنصرية الدولة العبرية والتشهير بالعنف الصهيوني ضدَّ الفلسطينيين – وآخرهم كان زائرًا للبنان حديثًا، وهو نورمان فنكلشتاين.

هل ترى أن سلوك اليهودي مثير لحقد غير اليهود عليه؟

الجواب هو نعم. إن المقصود تشبُّث اليهود بخصوصيتهم، وعزوفهم عن التزاوج مع "الأغيار"، وتحريم التطبيب والاستشفاء على أيديهم، والامتناع عن دعوتهم إلى موائدهم. وكلُّ جماعة دينية لها سلوكها ومؤسَّساتها وشرائعها. وقد اتَّبع المسيحيون شريعة حمورابي في تعاملهم مع اليهود، بل جاوزوها عنفًا – وفي الكتاب أمثلة على ذلك. لكن ما يستحق الإدانة هو عنف اليهودي الاقتصادي.

تقصد "العنف الرَّبَوي"؟

أجل، العنف الرَّبَوي ضد دائنيه – وجلُّهم من الفلاحين والحرفيين، ويخسرون غالبًا أراضيهم لعجزهم عن تسديد دين ضاعفتْه وراكمتْه الفوائد، كما يشهد إراسموس، أبرز رموز النهضويين الإنسانويين. وبحكم هذه الخصوصية "الوظيفية"، كان اليهود يجدون أنفسهم حليفًا للطبقة الأرسطوقراطية، يدقِّقون في حساباتها، ويجمعون ضرائبها، ويُقرِضون أمراءها، لقاء تعهُّد هؤلاء بمساعدة اليهود في تحصيل قروضهم وفوائدها. وفي المقابل، كان الأمراء والحكام يوظِّفون كراهية الجمهور لليهود كلَّما رغبوا أو عجزوا عن تسديد قروضهم لهم، فيحرِّكون اضطرابات جماعية ضدَّهم، مما كان يرغم اليهودي على التنازل عن قرضه ليشتري به أمنه.

يقودنا ذلك إلى الحديث عن الاضطهاد الذي تعرَّض له اليهود في أوروبا. فمعادلة المال–الأمن، أو العكس، وإشارتك إلى مصالح الرأسماليين في التخلص من اليهود، وما طرحتَه في كتابك حول أسباب دينية لاضطهاد ديني – هل يسعك، بناءً على ذلك، تبيان أسباب أخرى للاضطهاد؟

الاضطهاد الديني المسيحي لليهود يعود إلى نشأة المسيحية كعقيدة منشقة عن اليهودية ومنافسة لها، وإلى واقعة صلب السيد الناصري بموجب حُكْم أصدرتْه عليه محكمة يهودية ونفَّذتْه السلطات الرومانية. إذ ألقى المسيحيون تَبِعَة قتل المسيح على "أمة اليهود"؛ وكان هذا الاتهام في خلفية كلِّ أشكال العنف ضد اليهود، بدءًا بالتشريعات الكنسية والحكومية وقرارات الطرد، وصولاً إلى الاضطرابات المثارة ضدَّ اليهودية في ممتلكاتهم وأرواحهم. وكان النظام المِلِّي، بما أتاحه من حقوق للطوائف في العيش في أحياء خاصة، وممارسة سائر طقوسها خلف جدران حاجبة – كلُّ ذلك كان يكتِّف الجماعة اليهودية على نفسها، ويصهر أبناءها في كتلة، ويُباعِدها ويفصلها ويغرِّبها عن عالم الأغيار أو الغالبية المسيحية. وكانت تلك الحياة الداخلية لليهود تثير ريبة المسيحيين وتُشكِّكهم في نيات الآخر. إن النظام المِلِّي في الممارسة هو نظام شبه غيتوي، قبل أن نسمع بـ"الغيتو" Ghetto. وأعتقد أن هناك سببًا سياسيًّا رئيسيًّا للاضطهاد مارستْه إمبراطوريات وحكومات كانت معنية بالمجانسة العقائدية للشعب. وبما أن المِلَّة اليهودية كانت الوحيدة المغايرة للمسيحية، كان طبيعيًّا أن تمارَس ضغوط التنصير على اليهود لفرض التوحيد العقائدي بالإكراه، بغية خدمة سلام الدولة واستقرارها. وبدأ اليهود يتعرَّضون لهذا النوع من الإكراه في القرن الرابع، بعد تحوُّل الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية وتحويلها إلى ديانة للدولة، علمًا أن الإمبراطورية الرومانية التعددية لم تمارس هذا الإكراه. كما هناك مسألة الخصوصية الاقتصادية الرَّبَوية التي سبقت ظهور الرأسمالية قرونًا عديدة؛ وهي وظيفة حرَّمتها الكنيسة على المسيحيين، وكانت ضرورية بقدر ما كانت محتقَرة. بل إن مسيحيي القرون الوسطى كانوا يتأثَّمون من التجارة؛ فتحوَّل احتقار التجارة والرِّبا إلى احتقار اليهودي المرابي والتاجر.

كيف تصف العلاقة بين اليهودية والعنصرية، خاصة أنك ذكرت في كتابك أن ستالين تحرَّك ضد الحركة السياسية الصهيونية، لا ضدَّ اليهود بصفتهم الدينية؟

يمكن العثور على بذور هذه العلاقة في النصوص العبرية الدينية التي تحمل مفاهيم الاختيار الإلهي لبني إسرائيل وتفضيلهم على سائر الأمم. فالعقد أو "العهد" بينهم وبين الله هو عقد حَصْري واستبعادي؛ وترجمته السياسية لا بدَّ من أن تحمل لونًا من ألوان التمييز العنصري ضدَّ غير اليهود. ولكن، إلى هذه المعرفة الشائعة عن العلاقة بين اليهودية والعنصرية، نضيف أن مفهوم الخصوصية اليهودية ليس ابتداعًا يهوديًّا حصريًّا غير مسبوق أو متبوع، بل بدعة سبقتْهم إليها شعوب الشرق القديم، مثل السومريين والفرس وسواهم، كما أوضحتُ في سياق دراستي، لأُبرِز المؤثِّرات الشرقية الثقافية في اليهود. ولا شكَّ كذلك في أن غالبية اليهود، سواء كانوا في الاتحاد السوفييتي أيام ستالين أو في مجتمع الثورة الفرنسية، أظهروا قدرًا من التضامن القطيعي الغرائزي الذي يعبِّر عن انطوائهم أو تركُّدهم على خصوصيتهم. لكن ينبغي، من ناحية أخرى، أن نحاذر مطابقة سلوك الغالبية اليهودية السياسي والاجتماعي مع معتقدهم الديني. فاليهود الذين عاشوا الحقبة الستالينية ورثوا ذكريات الـ"بوغروم" Pogroms أو "حمامات الدم" التي تعرَّض لها اليهود مرارًا في روسيا القيصرية، كما ورثوا، قبلاً وبعدًا، الخصوصية الاقتصادية الطفيلية، ماثلةً في الرِّبا والوساطة والسمسرة والسوق السوداء، التي حالت دون اندماجهم في المجتمع الروسي الجديد ومَوْضَعَتْهم في موقع المعادين للنظام الاشتراكي. يُضاف إلى ذلك العاملِ الاقتصاديِّ قيامُ دولة إسرائيل ونجاحاتها العسكرية في "حرب الاستقلال" (1948)، ودعايتها الصهيونية التي خاطبت أعمق طبقات وعيهم، وأثارت فيهم الشعور بالفخر والتماهي، مما جعلهم ليس فقط مزدوجي الولاء، بل منحازون لإسرائيل. وهذان السببان (الاقتصادي والسياسي) حرَّكا الإجراءات الستالينية ضدَّهم.

من الواضح أنك استخدمت المنهج التحليلي المركَّب بين الهيغلية والماركسية في قراءة تاريخ اليهود، استنادًا إلى العاملين الديني والاقتصادي–الوظيفي. فكيف وفَّقت بين منهجين أو أكثر، ولاسيما أنك تُدخِل ابن خلدون أحيانًا في سياق البحث؟

ملاحظتك صحيحة. وأستطيع القول إني لم أسلِّط منهجًا واحدًا على الوقائع، ولم أتعمَّد الاحتكام إلى معايير سابقة أقيس بها الأحداث والظواهر، بل قاربت المادة التاريخية بمنهج يغلب عليه الاستقراء، بحيث كانت تردُّني الظاهرة إلى المنهج الاجتماعي أو الفلسفي لهذا الفيلسوف أو ذاك العالِم؛ أي أن الواقع كان يحيلني على النظرية، لا العكس – أو ذاك ما أرجوه على الأقل. إن تاريخ الجماعات اليهودية حافل بالمفارقات؛ ويتبدَّى تناقضٌ أحيانًا بين أفكار اليهود ومسالكهم، من ناحية، والنتائج التي كانوا يتوخُّونها من أفكارهم ومسالكهم، من ناحية أخرى. وكان ذلك يردُّني إلى موضوعة "مُكْر العقل" الهيغلية. إن الرِّبا، مثلاً، كان مصدر ثروة ونعمة لليهودي المرابي؛ لكن ثروة اليهود المالية كانت مصدر نقمة عليهم وسببًا لاضطهادهم. كذلك كان العديد من قادة اليهود الفكريين والسياسيين من عشاق الثقافة الألمانية – وأبرزهم هرتسل – يرتجون المساعدة على تحقيق الحلم الصهيوني من الألمان؛ فجاءتهم المعتقلات والمحرقة على يد الألمان. ومعاناة الاضطهاد – وذروته المحرقة – كانت محنة؛ لكن المحنة ساعدتْهم في وضع مشروعهم السياسي موضع التنفيذ. والأمثلة على "مُكْر العقل"، سلبًا وإيجابًا"، باليهود وأعدائهم كثيرة. من ناحية ثانية، كانت خصوصية اليهود الاقتصادية، وأثر الوضع الاقتصادي–الاجتماعي في وعي البشر، يستدعيان ماركس. ولا يمكن، بالتالي، فهم انحياز الأصوليين المسيحيين البورجوازيين في القرن السابع عشر إلى العهد القديم، أو نفور التجار المسيحيين من اليهود ومحاولات تهجيرهم للانفراد بالسوق، أو كره الفلاحين الروس لليهودي المرابي، من دون الاستناد إلى منهجية علم الاجتماع الماركسي. واستدرجني الشكل الدائري للتاريخ اليهودي، من ناحية ثالثة، إلى ابن خلدون الذي قرأ التاريخ الشرقي في ضوء العصبيات القبَلية–الدينية. ولا ننسى أن اليهود هم أسباط وقبائل صحراوية بدوية في الأصل؛ وقد حافظوا على هذا المُتَّحَد الجمعي وتشبثوا بعصبيتهم الدينية.

في المغازي الأخيرة للكتاب تظهر مقولة اللعب على شرق/غرب/شرق، أو ما سمَّيته "الانقلاب على ألف سنة من التاريخ". هذا الانقلاب، ما حافزه، في رأيك، وما الدافع إليه؟

المقصود هو انقلابُ الصهاينة على ألف سنة من العلاقات الطيِّبة بينهم وبين العرب المسلمين واستبدالُ حربٍ ضدَّهم بها، على الصعد كافة، والتحالفُ، في المقابل، مع غرب كان طاردًا لهم. وتشهد مرجعيات تاريخية يهودية كبرى، مثل س. و. بارون، ويشهد مؤرخون يهود، مثل برنارد لويس، وفلاسفة، مثل برتراند راسِّل، على أن "دار الإسلام" كانت ملجأ اليهود الهاربين من الاضطهاد الأوروبي. وقبل هؤلاء، ظهر عددٌ من المؤرخين والبحَّاثة اليهود، بين القرن التاسع عشر ومطالع العشرين، كتبوا عن الإسلام ونبيِّه في مؤلَّفات كانت الأكثر موضوعية، وتُعَدُّ الأولى التي صحَّحتْ صورة المسلمين في الغرب، الأمر الذي جعل برنارد لويس يتحدث عن "تقليد ثقافي يهودي–إسلامي". وكان أحد أهداف أولئك المؤرِّخين اليهود إطلاع الغرب المسيحي على النموذج الإسلامي في التعايش بين الجماعات الدينية المختلفة. ويذكر لويس أن يهود أوروبا نظروا إلى دول الشرق الإسلامي نظرة الأوروبيين الشرقيين إلى شقيقهم الروسي الكبير، الذي كانوا يأملون منه المساعدة والحماية؛ وتماهى اليهود مع عرب إسبانيا لاعتقادهم بأنهم ساميون وشرقيون مثلهم. وجاءت مطامع الحركة الصهيونية في فلسطين شرخًا طوليًّا في هذا التقليد الثقافي الذي كتبه من وُصِفوا بـ"يهود الإسلام".

ولكن هذه الكتابات غُيِّبَتْ أو طُمِسَتْ بسبب فلسطين والصراع حولها وأبعاده وامتداداته، وأعادت، بالتالي، رسم خريطة العلاقات؟

الصراع على فلسطين حوَّل أصدقاء الأمس إلى أعداء اليوم، وأعداء الأمس إلى أصدقاء الراهن. لعبت فلسطين دور المحوِّل الكيميائي لعلاقات صهاينة العصر بالغرب والشرق. والدولة العبرية، في حربها على العرب، تستبعد التقليد الثقافي اليهودي–الإسلامي من مناهجها التربوية وإعلامها، وتعمِّق، في المقابل، التقليد "اليهودي–المسيحي"، لتحوِّله إلى سلاح عقائدي مضادٍّ للعرب والمسلمين. وهذا الانتقاص المُمَنْهَج للشرق من جانب الدولة الصهيونية ومؤسَّساتها كان لا بدَّ من أن ينعكس سلبًا على صورة الذات لدى اليهود العرب والشرقيين الذين هاجروا أو هُجِّروا إلى إسرائيل بعد قيامه؛ إذ يسمع هؤلاء دائمًا أن الفضل في قيام إسرائيل يعود إلى يهود أوروبا، وأن اليهود الشرقيين والعرب جاؤوها ضيوفًا، "يحملون التخلُّف في حقائبهم"، كما وصفتْهم غولدا مئير. كلُّ ذلك يُدخِل في وعيهم الشعور بالدونية، ويجعلهم كارهين لذاتهم الشرقية؛ وهو ما قصدته في حديثي عن يهود إسرائيل الشرقيين.

ما هي العلاقة، في رأيك، بين المشروع الصهيوني والمشروع الأوروبي الاستعماري والمشروع الحضاري العربي؟

لا أرى مشروعًا حضاريًّا عربيًّا راهنًا! ما أعرفه أن النهوض الحضاري كان شاغل روَّاد النهضة اللبنانيين، بدءًا ببطرس البستاني في القرن التاسع عشر وأمين الريحاني ورئيف خوري، مرورًا بفرح أنطون وشبلي الشميِّل وسواهم في المهجرين المصري والأمريكي. لا أقوِّم هنا رؤيتهم الحضارية، بل أقول إن النهوض الحضاري كان شاغلهم؛ وقد استنهضوا الأمة السورية أو العربية لتحقيقه في تلك الحقبة الغنية من تاريخنا الثقافي، التي وصفها ألبرت حوراني بـ"العصر الليبرالي". وكان المشترك في مشروع الروَّاد النهضوي هو الإيمان بمبادئ الثورة الفرنسية طريقًا للنهوض. وأستطيع القول إن كمال جنبلاط هو آخر ورثة الحلم النهضوي. وكان هناك في مصر أصحاب مشاريع ورؤى، مثل طه حسين وسلامة موسى وسواهما. وكان المشروع الناصري القومي العلماني آخر ما عرفه العالم العربي من مشاريع. وقد أجهض إسرائيل في العام 1967 إمكان قيام قيادية عربية. ويمكن القول إن المشروع الصهيوني كان معطِّلاً لمشروع الدولة العربية القومية العلمانية؛ وبقدر ما نجح في هزيمة المشروع القومي الناصري ساهم في إحياء الأصوليات الدينية الإسلامية وسواها، وخلق مناخًا ملائمًا للانقلابات العسكرية، وما تبع ذلك من تعليق للديموقراطية ومصادرة الحريات، بما ينقض المبادئ الأساسية لرؤية النهضويين الليبراليين، الذين حاولوا استنهاض العرب بمبادئ الثورة الفرنسية. توقَّع نجيب عازوري في العام 1905 أن تتصادم القوميتان العربية والصهيونية حتى تتغلب الواحدة منهما على الأخرى. والخشية أن يتحول هذا الصِّدام الطويل والمرير إلى صِدام ليس بين قوميتين فقط، إنما بين ديانتين يتداخل في كلٍّ منهما الدِّين والقومية.

تلقي اللوم في نهاية كتابك على الحلِّ الكولونيالي الخاطئ للغرب للمسألة اليهودية، وتدعوه إلى حلٍّ للمسألة الفلسطينية. ألا ترى معي أن مقولة "فلسطين تحرِّر نفسها"، رغم أخطار هذا الحلِّ وصعوباته، أفضل من الحلول الخاطئة أو المجتزأة التي نطلبها من الغرب؟ واستطرادًا، كيف ترى إلى أفق الصراع العربي–الإسرائيلي في مرحلته الدقيقة الراهنة؟

لا أدعو الغرب إلى حلِّ المسألة الفلسطينية، ولا أعفي الفلسطينيين والعرب من مسؤوليتهم الكبرى في مواجهة التحدِّي المصيري الذي فَرَضَه عليهم الغرب وصهاينته – وهم في النهاية من صنعه وإنتاجه، وعلى صورته ومثاله؛ فقوميتهم المتعصِّبة عصبٌ نافر من تعصُّبه القومي الذي كان الغطاء الإيديولوجي لحروبه المدمِّرة. وعنصرية الصهيونية هي درس سيئ، حِفْظُه يتمُّ بطريقة التعليم الأقسى. وفلسطين التي جاءها غازيًا هي البديل الذي اختاره واختير له من قوى تعدَّدت أسبابُ كراهيتها له أو عطفها عليه. وأنا، بالتالي، أحمِّل الغرب مسؤولية المساهمة في حلِّ مشكلة نشأتْ من انحرافٍ أصاب ثقافتَه، ومن أطماع بورجوازياته وأنماط سلوكه. أضِفْ إلى ذلك أن سلام العالم بات من سلام الشرق الأوسط – وكان أمين الريحاني بين الذين استشرفوا هذه الحقيقة. أما رؤيتي فهي السياق التحليلي للوقائع الذي قادني، كما تعلم، إلى نهاية لا يمكن أن تتَّسم بالتفاؤل. ليست ثمة قواسم مشتركة يستند إليها أيُّ حلٍّ تفاوضي متوازٍ. واتفاق أوسلو لم ينجح وحسب، بل فشل أيضًا في مقاربة مسائل الخلاف الأساسية، وأهمها القدس والمستوطنات. ومشروع الدولة الفلسطينية يتعارض مع ما يعتبره إسرائيل ضرورات استراتيجية وأمنية؛ أي أن الضفة الغربية يمكن أن تكون العمق الآمن أو الثغرة المفتوحة في جدار الأمن الإسرائيلي، تبعًا لِمَن يسيطر عليها. أما الأصوليات المتنامية على الجانبين الإسرائيلي والعربي فإنها تُنذِر بصراع مديد ومُبيد، لا حدود لتداعياته الخطيرة على الأكثريات والأقلِّيات، وعلى المنطقة والعالم.

بعد حوادث 11 أيلول سادت العالم روحٌ عنصرية. أليست هذه الروح مرادفة لما حدَّده ماركس بخصوصية اليهودية (الاقتصاد، المتاجرة، تأليه المال)، الذي سمَّيته أنت "العالم بات يهوديًّا واليهودي عالميًّا"؟

بالطبع. الروح العنصرية التي تسود اليوم هي إنتاج أصولية أنكلوسكسونية رأسمالية، هي، في الأصل والأساس، أمُّ الأصوليات كلِّها. وهذه الأصولية الرأسمالية الوحشية تستند إلى أصولية إنجيلية متهوِّدة. واليهودية واليهود يتحملون وِزْرَ هذه الأصولية المركَّبة بنسبة الأسهم التي يملكها رأس المال اليهودي في الشركة الرأسمالية العالمية، وبالحجم الذي تتفاعل فيه الأصولية والأصوليون البروتستانت المعروفون بـ"المسيحيون اليهود". هذا في ما يتعلق بالأصوليات السائدة وأصولها. أما في أصول العنصرية الأوروبية فهناك جذر لها في العقيدة المسيحية سابق لقيام البروتستانتية: فالمسيحية تقسم العالم بين "مؤمنين" و"كفَّار" (مثلها مثل الإسلام)، فيما قسَّم اليهود العالم إلى "يهود" و"أغيار". والفارق هو أن المسيحية نقلت الثنائية من مستوى الجماعة، أو من صيغة الجمع، إلى صيغة المفرد. وقد تأسَّى فيلسوف التاريخ أرنولد توينبي، من منطلق إيمانه المسيحي، على هذه الثنائية التي تسلَّلت من العهد القديم إلى المسيحية. واستنادًا إلى هذه الثنائية، بات اليهودي في أوروبا هو الآخر "الكافر"، ودُمِغَ اليهودُ جملةً بوصمة الأمَّة القاتلة للإله. ومعظم المسيحيين الأوروبيين لم يميِّز في الممارسة بين يهودي وآخر، وتعامَل معهم بالجمع. واستندت أوروبا الاستعمارية إلى هذه الثنائية التي تميِّز بين الأنا وسكان المستعمرات، المختلفين دينًا وعرقًا وثقافة. وتكفي مقدمة سارتر لكتاب فرانز فانون المعذَّبون في الأرض، أو ما يقوله ماركس في رأس المال عن "بربرية الممارسات الاستعمارية للأمم الأوروبية التي تسمِّي نفسها مسيحية"، لندرك أن العنصرية هي مَلْمَح نافر في الوجه الاستعماري البشع. وينطبق هذا على كلِّ الدول الاستعمارية التي دخل إسرائيل في عدادها متأخرًا. والاستعمار إلى غروب، كما ينطبق على كلِّ الإمبراطوريات، من روما القديمة إلى الولايات المتحدة، التي تنفرد اليوم بالزعامة في عصر العولمة السعيد الذي يحيي الروح اليهودي في المعنى المجازي أو الرمزي الذي استخدمه ماركس، وأخذتُه عنه للدلالة على عبادة "البعل" المالي الذي أحيتْه الرأسمالية العالمية. وفي هذا المعنى يصبح الروح اليهودي هو الرأسمالي عالميًّا، ويصبح العالم بلا روح.

أجرى الحوار: سليمان بختي

*** *** ***

عن النهار، السبت 29 كانون الأول 2001

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود