الثقافة الرائجة ما بين السماء والأرض

 

سمير التقي

 

ما سادَ عندنا، منذ أن انحصرت الثقافة بـ"المقدَّس"، هو نفي لثقافتنا الرائجة إلى السماء! فانتقلت الثقافة من جهد أدبي للارتقاء من الغرائز إلى القيم، لتتحوَّل إلى تعليمات وتدابير ونُظُم استعمالية براغماتية مبتذلة. الثقافة لا يمكن إلا أن تكون وعدًا ببدء دائم، بل فعل دائم لتجاوز الراهن وإعادة البدء من جديد. ففي تلك المسافة بين الراهن ورؤيا المستقبل يتحرك الإبداع الثقافي.

كلُّ نظام في الثقافة نفيٌ واغتراب – بمعنى أن كلَّ محاولة لـ"تأطير" الثقافة (والفكر) يحوِّل العمل الثقافي إلى ثقافة مزيفة. وإذ تصبح هذه الثقافة اغترابًا، يصير النظام اغترابًا عن الثقافة والإبداع؛ بل يصير الاغتراب صنوًا للجهد والإبداع الثقافي، ويصير "الآخر"، بالتالي، هو الخلاص للثقافة، وللذات المبدعة، وللحياة على الأرض في عوالمنا الثقافية.

لقد صار الإبداع الثقافي في مشرقنا محكومًا إما باللاقول أو بعَسَف الاغتراب! – محكومًا بالتأسيس لبداية لا تتأسَّس – بداية تأسيسها محال. فأنت لن تكون مبدعًا ولا حرًّا ثقافيًّا ما لم تكن موجودًا لذاتك، ما لم تكن موجودًا مالكًا – لا مستأجرًا، ولا منفيًّا.

وعلى الرغم من ذلك، أقول إن المنافس الأصلي للثقافة في مجتمعنا ليس العلم ولا الفلسفة. المنافس الأساسي للثقافة هي المؤسَّسة منذ أن أنتجتْها ثقافةُ التفسير: مؤسَّسات أرادت الوحي، كما الإيديولوجيا، تجسيدًا لها، وانتهاءً بها – فما انتهيا إلا في أقبيتها!

تريد المؤسَّسة أن تحوِّل الثقافة يقينًا، حيث يُختَم القول الثقافي بانتهاء الدعوة أو بنهاية النص؛ حيث كلُّ جديد من الكلام لا يمكن إلا أن يكون قديمًا لأنه يولد قديمًا. في هذا المفهوم، الذي تروِّج له المؤسَّسة، لا تصبح الثقافة ثقافة إلا بمقدار خلقها لوهم الوحدانية، وهم توحيد الحاضر بالماضي؛ ولا تكون الثقافة شيئًا من ذاتها، بل تكتسب رواجها لدى المؤسَّسة بمقدار وضوحها وبساطتها و"سذاجتها" وتسطُّحها: لا تصبح الثقافة ثقافةً إلا بمقدار سِلَعِيَّتها!

وعلى التوازي من ذلك تمامًا، وبالتضافر معه، تأتينا ثقافة العولمة التي تريد الثقافةَ إلغاءً للكتابة، بل إلغاء للقراءة. تريد خلق نمط جديد من ثقافة سلعة الأذن والعين؛ نمط آخر جديد من الأمِّية، حيث يحلُّ مفهوم "الإنتاج" محل الخلق، وحيث يحلُّ "المُنتِج" محلَّ الخلاق، وتحلُّ "الإنتاجية" محلَّ الخلق. في حين أن فكرة الجمال لم تنشأ أصلاً – ولا يمكن لها أن تنشأ لاحقًا – إلا حين يبدأ الإنسان يقيم انفصالاً بينه وبين الواقع، ويطلق المدى لإبداعه وخياله.

ههنا بالضبط يتزاوج فعل الموروث الثقافي بفعل القادم التكنولوجي الغازي لفَصْل ثقافتنا عن جسد الحياة، وخلق وهم ثقافة، خلق ثقافة تلغي السؤال، وتؤسِّس لثقافة السلعة والتسطُّح، ثقافة الجواب لا السؤال، ثقافة لا تُكتَب إلا بالمعلوم: ثقافة اجترار للمعلوم!

إنه لمأزق جديد تواجهه ثقافتنا الراهنة – على نحو مفارقة.

مفارقة جديدة، لأن ثقافة السهولة هي نقيضٌ – بل مقتل – لثقافة الإبداع. فهي لن تكون إلا تبشيرًا وتمجيدًا، يزيد من كبت المكبوت وقمع المقموع؛ بل يزيد من تعميق الهوَّة بين الإنسان وذاته. لن يكون مصير ثقافة كهذه إلا قتل الأداة الثقافية، إلا قتل اللغة الثقافية ذاتها – إلا الموت.

فالثقافة هي بدء وخوض متجدِّد فيما لا ينتهي، بحث في المجهول، كتابة في الغائب – حيث الغياب ليس إلا حركة للروح المبدعة، وحيث تنمو الأدوات الثقافية، على تنوعها وغزارتها وتطورها المتصاعد، لتنقل دلالة الإشارات من أفق إلى آخر، ومن لذة معرفية إلى أخرى. روح الثقافة أن تُخَلْخِل الواضح بالغامض، أن تُزَعْزِع الظاهر بالباطن، أن تهزَّ اليقيني بالاحتمالي، وأن تهدم العلاقات بين الدالِّ والمدلول، لتخلق أدوات ولغات متجددة.

وعلى الرغم من ذلك كلِّه، تمكَّن بعضٌ من ثقافتنا الراهنة من خلق ثقوب كبيرة في النسيج الثقافي السائد؛ إذ مضت بعيدًا في قول أشياء لم تُقَلْ، وشَوَّشَتْ يقينية الإيديولوجيا الناجزة، بل تمكَّنت من إشهار ثقافة مفتوحة، غير مكتملة، في وجه الابتذال والانغلاق والاكتمال العقائدي.

لكن الطامة – كلَّ الطامة – ليست في ذلك فحسب، بل هي في وهم حداثة لا تدرك خطورة السلعة، وفي تسطُّح هَوَسِ الاغتراب، وفي حداثة ثقافوية تهرب من ضريبة التطهُّر من الهمجية والاستبداد إلى إعادة تكريس انقسام العالم إلى ثقافة مشرقية "روحية" وثقافة غربية "عقلية".

رأيي أن القول الثقافي هو، في الأصل، ممارسة: ممارسة تهدف إلى أَنْسَنَةٍ للعقل والعالم، إلى ترويضٍ للحياة الروحية وإنزالها أرضًا. فالهروب من الروح إلى العقل ليس أقل ضحالة وتأزُّمًا من الهروب من العقل إلى الروحانيات الكبرى.

وتُطرَح هنا مسألة مفهومنا للهوية كما يُعبَّر عنها راهنًا في الشارع الثقافي، حيث يرتبط هذا المفهوم ارتباطًا قويًّا باللغة وبالعقيدة كما أنتجتهما المؤسَّسة. إنها الهوية التي يُراد منها تكريس وحدة الأمة، تكريس وحدة الوطن، تكريس وحدة السلطة، بحيث تغدو الثقافة فيها ساحة لصراعات إيديولوجيات التبرير، لا أفكار التغيير، إيديولوجيات التخدير، لا التحرير؛ تغدو "قراءة" توحِّد بين المعرفة وبين المؤسَّسة، من خلال توحيدها بين الثقافة والهوية الوحدانية المسبقة الصنع.

مفهوم الهوية، في شكله الرائج، وحداني، وربما لاهوتي؛ وسِمَتُه الأساسية هي الانفصال عن الآخر، والاكتفاء بالذات، بما يثبت الاستمرار بالديمومة، موهمًا بتماسك الهوية ووحدتها حيال الهويات الأخرى، حيث تُختبَر قيمةُ كلِّ عمل ثقافي من خلال الانتماء والهوية بنمطها المحنَّط. لا، ليست الهوية في الوعي وحده، بل هي قبل ذلك في اللاوعي؛ وليست في المعلَن، بل في المقموع والمخنوق؛ ليست الهوية في المتحقِّق، بل في المشروع.

ذلك أن هناك انفصالاً عميقًا في صميم تلك الوحدة المتوَهَّمة! إذ لا يمكن في الحقيقة الانفصال عن الآخر فعلاً. فالآخر مقيم فينا؛ "الآخر" مقيم في قعر "الأنا" – سلبًا وإيجابًا. فلا فَصْلَ دون وَصْل، ولا "أنا" دون "الآخر". الهوية أصلاً لا تكون إلا من خلال تواتر علائقي مبدع وخصبٍ وملتبسٍ بالآخر، ومع الآخر، ومن خلال الآخر. فمن خلال الآخر، من خلال هذا التواتر العلائقي معه، يتم إدراك الذات؛ ومن دون ذلك لا تكون الهوية إلا هوية لأشياء، إلا هوية للموت.

ليست الهوية موروثًا نرثه، بقدر ما هي إبداع نحقِّقه. فالإنسان، في النتيجة، ليس إلا خلاَّق كائنات ورموز ونماذج للواقع. الهوية هي، أصلاً، تفاعل حيٌّ مستمر بين الداخل والخارج؛ إذ ليست الهوية في الواضح الناجز، بل في أفق التغيير والانفتاح، في الاتجاه إلى الغد، إلى الخارج، لا في العودة والانكفاء. فالمبدع لا يكون ذاته إلا بمقدار ما يخرج مما هو (مما هو عليه)، سؤالاً لا إجابة، جدلاً بين الراهن والممكن.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود