أريد من القصيدة أن تكون أفقًا للحرية

أنوثة اللغة تستضيف ذكورة الكلام

 

حوار مع عبد القادر الحصني

 

الشاعر عبد القادر الحصني ينسج الشعر بخيوط الروح، مكتفيًا منه برائحة الورد وعطره. يشتغل بهدوء، ولا يُخرِج قصائده للهواء إلا بعد أن تمرَّ في "معمله" الإبداعي، وتنصهر في بوتقة الرؤيا والخلود.

 

صَدَرَ له: بالنار على جسد غيمة (شعر، 1976)، الشجرة وعشق آخر (شعر، 1980)، سرُّ المدينة النائمة (قصص للأطفال، 1985)، مظفَّر النواب: شاعر المعارضة السياسية (دراسة، 1990)، أحلى أشعار الحب (مختارات شعرية، 1992)، ماء الياقوت (شعر، طب 1: 1994)، ينام في الأيقونة (شعر،2000).

م. ع.

***

 

كتبتَ شعرًا "ماذا تريد القصيدة؟" ماذا تريد من القصيدة نثرًا؟

"ماذا تريد القصيدة" و"ماذا أريد من القصيدة" إرادتان أشعر أنهما لا بدَّ من أن تتماهيا في إرادة واحدة ليكون النصُّ حقيقيًّا. أرى أن هذا السؤال، على الرغم من أنه يقع في إطار وظيفة الشعر، فإن له خصوصيته لدى كلِّ مبدع على حدة.

أريد من القصيدة أن تكون أفقًا للحرية، وبرهة كاشفة، تشتق من الوجود رؤًى ومعانيَ وأفكارًا وموسيقى، تعيد الإنسان إلى صوره الأولى، وبراءته الأولى، وينبوعيَّته الأولى. عنيت أن تكون القصيدة معمودية جديدة للروح والفكر والجسد. مثل هذا المشروع، الذي يبدو داخليًّا إلى حدٍّ كبير، لا بدَّ من أن يتقاطع مع الواقع وديناميَّته الخارجية. أي على القصيدة، أيضًا، أن تحمل همَّ مناضلة الفاسد، ومُداحرة الطغيان، ومقارعة الظلم السياسي والاجتماعي، لتكون جديرة بوصفها إبداعًا منسجمًا بين عمق الذات المبدعة وعمق الواقع المعيش.

في قصائدك عنايةٌ فائقةٌ باللغة ونَهْلٌ من ذاكرة المكان. وبين اللغة والمكان وروح الشاعر حبلٌ سُرِّي يُنتِج القصيدة. متى يقطع الشاعر هذا الحبل؟ ومتى يحافظ عليه؟

إن اللغة من أبرز مقوِّمات الشعر؛ بل أكاد أن أذهب إلى أنها المقوِّم الأول. ويكاد يكون تعريف الشعر بتعريف أولي: فنُّ التعامل مع الكلمات – الكلمات بوصفها عوالم. فأنا مع زكريا تامر حين يقول ما معناه: "إن لكلِّ مفردة سجونها وحدائقها وليلها ونهارها ووقائعها."

وبين المكان واللغة علاقة وشيجة جدًّا – ذلك لأن اللغة مكان، على نحو ما. فهي حامل، وبُعدها الزمني محمول على مكانيَّتها، من حيث هي حروف منسجمة.

أما روح الشاعر، شأن أيِّ روح، فلا يمكنها أن تتجلَّى إلا على حامل. فلم يحدث أن نتعرَّف إلى روح خارج المكان، سواء كان هذا المكان جسدًا أو مفردات نص. هذا الحبل السُّرِّي الذي تذكره حبلٌ يصعب جدًّا، بل يستحيل قطعه، لأنه، بقطعه، يُقطَع شريانٌ أساسي من شرايين ولادة النصِّ الإبداعي. ولا بأس من الإشارة هنا إلى غزارة حضور المكان في شعرنا الجاهلي، الذي تحدَّر منه الشعر العربي على وجه العموم.

الشاعر والشعر من مرحلة "مالئ الدنيا وشاغل الناس" إلى مرحلة اليأس والعزلة في هذا العصر الاستهلاكي المخيف... لماذا تكتب القصيدة؟ ولِمَن توجِّهها؟

أعترض على الجملة الأولى من سؤالك. فأنا لا أعتقد أن الشعر كان في يوم من الأيام "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، بل كان دائمًا برسم الخاصة؛ ومنها يتسرَّب، كثيرًا أو قليلاً، إلى شريحة أوسع قليلاً من العامة. ولا أريد بهذا الاعتراض أن أنفي عن الشعر عزلته الراهنة، التي من أسبابها ما ذكرتَه من واقع استهلاكي. فأنتم الصحفيون، في بعض الأوقات، تسألون وتُلقون بطرف خيط الإجابة.

إنما يمكن إضافة عوامل أخرى مهمة في هذا الخصوص، لعل أبرزها تخلِّي الشعر عن أغراضه التقليدية التي كانت تشارك في حركة الحياة، وميله إلى أن يكون ديوانًا للذات، سواء كانت هذه الذات ذات شاعر أو ذات أمَّة، بدلاً من أن يكون ديوانًا للواقع، بمجرياته وأحداثه. فلكأنَّ الشعر أدرك أن التقانات الجديدة قد حملت عبئًا كبيرًا مما كان يحمله، من حيث عرض الواقع وتحليله، فعاد إلى وظيفته الأولى المعنيَّة بتحرير الإنسان وأعماقه، ليستطيع الشاعر أن يستمرَّ رائيًا وحالمًا ومجنونًا.

كتابة الشعر تعني البحث عن بكارة الحياة الأولى. كيف تكتب القصيدة؟ هل تأتي دفعة واحدة؟

بالنسبة إليَّ، لا تأتي القصيدة دفعة واحدة. الذي يحدث أن شرارة ما، تشبه البرهة الكاشفة، تشرق في أعماقي؛ وحضانة هذه البرهة أحيلُها إلى هاجس يبحث عن تجلِّياته في الحياة، في مظاهرها وعلاقاتها وشخوصها وحركاتها. هكذا تتبانى القصيدة في داخلي قبل الشروع في كتابتها. وفي لحظةٍ أشعر فيها أنني ما عدت أطيق حَمْلَ هذا الهاجس، ألوذ بالورق لأحمِّله هذا الهاجس بعد أن صار وحدة منسجمة من اللغة والخيال والموسيقى، ليُتاح لماء الأعماق أن ينبجس، راسمًا نبعه ومسيله ومستقرَّه في بحيرة الواقع.

هل توافق أفلاطون على رأيه حين وصف الشاعر بأنه إلهي الإلهام، وبأن الآلهة اختارته لإدراك أسمى الحقائق بالحدس؟

أوافقه جزئيًّا، وأقول إن هذا الإلهام ليس سماويًّا صرفًا، وإنما هو أرضي وسماوي معًا – فالأرض سماءٌ أخرى. أما آلية إدراك الوجود وحقائقه لدى الشاعر فهي أقرب ما تكون فعلاً إلى الحدوس؛ ولكنها حدوس ليست متحدِّرة من الغيب، وإنما متحدِّرة من نفسٍ إنسانية مستشرفة، ومتطلِّعة، ودائبة اللَّوبان على محيط دائرة الوجود، استكشافًا لما وراءه، واكتشافًا لعلاقة ما وراء الوجود بالوجود، في شغلٍ مآلُه توسيعُ دائرة الشهود على حساب دائرة الغيب اللانهائية.

إن الشعر يعني أن نرى باستمرار على نحو متجدِّد. ويروق لي أن أتصوَّر تنامي الرؤية الشعرية على نحو ما ترى إحدى النظريات الكونية من أنه آخذ بالتمدُّد اللانهائي والدائم. الشعر ثورة دائمة على المستقرِّ والمستتبِّ والآمِن، بخَلْخَلَتِه وزَعْزَعَتِه، واشتقاق الغائب من الحاضر.

أطمح، كشاعر، إلى أن يدخل القارئُ قصيدتي، ليخرج واحدًا آخر – إذا استطاعت القصيدة، وإذا استطاع القارئ.

تتعدَّد دلالاتُ الأنثى لديك وتتَّسع، لتغرق الذكورةُ في داخلها. ما هي العلاقة بين الأنثى في اللغة والأنثى في الحياة؟ وأيهما يُكسِبُ الآخرَ جلالَ المعنى وجمالَه؟

لا بأس في أن أقول إنني، على وجه العموم، أؤمن بأن أنوثة اللغة هي التي تستضيف ذكورة الكلام، من أجل استيلاد قصيدة، وبما أشرتَ إليه من استغراقية الذكورة في الأنوثة، الذي أفهمه على أنه توحُّد، برهةٌ لا بدَّ من حدوثها، ليكون ما يكون في كلِّ حمل لكلِّ ولادة.

أما أيهما يُكسِبُ الآخرَ المعنى وجمالَه وجلالَه، فلاشك في أن الكلام الفاعل هو الذي يتوقف عليه إخراجُ اللغة من هيولاها غير المخلَّقة إلى كائناتها المستغرقة في منظوماتها – مع اقتناعي بتساوي الفاعل والمفعول به في هذه البرهة من الوجود. إذ لا بدَّ من "فرش وعرش"، كما قال أحد الصوفيين، في محاولة للخروج من هذا الكلام، التجريدي إلى حدٍّ كبير، مراعاةً لما تثيره كلمة "أنثى" من حيوية ووقائعية، يتحرَّر من خلالها واحدٌ من أهم الموضوعات الإنسانية – عنيتُ الحب.

لا بدَّ من الحديث عن المرأة وحضورها في القصيدة، لأقول بأن المرأة في شعري وحدةٌ إنسانية تلغي كلَّ الفروق التي أنجزها فهم الحبِّ السابق، الذي رأى أن هناك حبًّا جسديًّا وحبًّا روحيًّا إلهيًّا. ففي رؤيتي أن الحبَّ، في آنائه العليا، أيًّا كان منطلقُه، هو برهة عالية يتوحَّد فيها الحسِّي بالروحي، والأرضي بالسماوي. والأمر متوقف على طبيعة المعراج إلى هذه البرهة.

معيار الشعرية مختلف بين عصر وعصر: فهو عند أرسطو المحاكاة، وعند الرومانسيين التعبير؛ وهو التعبير عن الواقع في الواقعية، إلخ. ما هو معيار الشعرية عند الشاعر عبد القادر الحصني؟

... ما بعد المدارس الشعرية! وعلى نحوٍ يخصُّ تجربتي، أرى أن الشعرية تتوقف على ثلاثة جواهر:

-       الجوهر الأول هو الانسجام العالي ما بين الذات الشاعرة وموضوعاتها، في حالة من الشفافية تتيح لنفس الشاعر أن تتماوج في مفردات الوجود، شخوصًا وأمكنةً وأحداثًا ومعانيَ، في درجة عالية من الصدق.

-       الجوهر الثاني هو اتساع الرؤية الشعرية وامتداد طيفها على مساحات كبيرة من الأحاسيس والأفكار والثقافة.

-       الجوهر الثالث هو الأداء الخاص، المميَّز والمتفرِّد، الذي يكسو الجوهرين السابقين جسدًا نرى فيه كلَّ ما سبق.

في حضور هذه الجواهر الثلاثة، وانسجامها معًا، من أول نقطة في الهاجس إلى آخر نقطة في النصِّ، يُتاح للذات الشعرية أن ترى شعريَّتها، وأن تُري هذه الشعرية للمتلقِّي على صورة مختلفة عن كلِّ ما شوهِدَ أو سُمِع.

*** *** ***

حاوره: مصطفى علوش

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود