العالم الزوربي

فلسفة في الحياة

 

الرقص على إيقاع صراع بوذا وزوربا

الانعتاق من الروح

 

جورج كدر

 

بيني وبين زوربا وكازانتزاكيس

تقول نفسُه: "لقد شاهدتِ الظلَّ وكنتِ مكتفية به. والآن سأقودك إلى الجسم."

يخطئ الكثيرون، إذ يهملون الجسد على حساب الروح – وهؤلاء يسمَّوْن روحانيين. وكثيرون يهملون الروح على حساب الجسد – وهؤلاء يُسمَّوْن ماديين.

حملني خيالي إلى عالم تولستوي و"ملكوت السماء في داخلنا".

تذكرت فاتحة المسيح: "أبانا الذي في السماوات، ليأتِ ملكوتك."

دخلتُ كهف أفلاطون، ورأيت "ظلاله" التي تمثِّلنا على هذه الأرض.

أخبرني الهندوس أن الحياة والعالم هي مايا (وهم).

فتحت عينيَّ، ووجدتُني أغرق في أنهار اللبن والخمر والعسل، وحولي "حور عين".

بعدها مدَّ الله يده ينتشلني من غرقي في التاريخ، وأجلسني عن يمينه "كخروف من خراف المسيح الصالحة". شعرت أنني ثمل وأنا في حضرة الإله، وشعرت بغُصَّة في حلقي.

مددت يدي، اقتلعت حنجرتي، رأيت تفاحة آدم، كبلورة الساحرات، تومض بين يديَّ وتريني "عصر الغوايات".

فجأة، رماني صوتُ زوربا فوق "الأرض الصلبة". نهضت. لملمت ما تبقى من الماضي والحاضر في ذاكرتي. "ملأت روحي باللحم، ولحمي بالروح." "حاولت أن أجمع في داخلي هذين النقيضين الأبديين" وأرتِّب أشياءهما في نفسي. أعلنت رحلتي.

"أريد أن أغزو العالم!" سأقف خارج أبجديات هذه الأرض لأتعلَّم "أبجديته" العظيمة. يجب أن أتعلَّم كيف أركض، أصفِّر، أسبح، أحذف، أرقص...

سألج... العالَم الزوربي.

في هذا العالَم تجد الانسجام مع "كلِّ الأشياء الضرورية: الطعام، الشراب، اللحم، النوم". كلُّ هذه الأشياء تمتزج لتشكِّل زوربا، هناك، حيث "الوفاق بين البشرية والطبيعة". فبنظر زوربا ضروريات الإنسان قليلة.

عقلي اعترض على ذلك، واعتبره نزعة مُغرِقَة في المادية. لكن قلبي يعرف جيدًا أن الطريق إلى العالم الزوربي ما يزال شاقًّا.

يا لتعاسة الإنسان! أيُعقَل أنه لا يتوحَّد مع جسده الأرضي إلا عندما "ينام تحت التراب جثة هامدة"، عندما "يأكله الدود". يا لتعاستنا! "كلُّنا إخوة"، نتوحد في "جسد الدود"!

أسمع صوت زوربا يخاطبني قائلاً: "الإنسان... يا له من مخلوق مضحك، يملأ نفسه بالخبز والضحك والطعام، فتتحول جميعها إلى تنهدات وقهقهة وأحلام. إنه مصنع...". وهكذا يستطيع أن يحوِّل الخبز والماء واللحم إلى أفكار وأعمال. كان زوربا على حق: "قل لي ما الذي تأكله أقُلْ لك من أنت." و"أنا، بكلِّ ألم، كنت أحاول أن أحوِّل الرغبة الوحشية للجسد إلى بوذا".

آه، طويلة هي رحلة الروح إلى الجسد. أظنُّ أن عبور الجسد إلى الروح يكفي بالتزهد، والهروب من هذه الحياة، والانعتاق من هذا العالم. إذًا، لماذا لا أجسِّد الروح؟ نعم، لماذا لا أجسِّد الروح؟!

إن الجسد، كما يقول كازانتزاكيس، هو "روح أرهقها السير الطويل والحمل الثقيل": "أتكون الروح هي جسد لم يعارك هذه الحياة، فأصبحت خفيفة، سهلة التحليق، تعيش في خيالنا، تزورنا في الأحلام؟"

هل جربتَ يومًا أن تتحرَّر من كلِّ شيء؟ كلٌّ منَّا حاول يومًا ذلك. لكن الإنسان "لا يتحرر إلا عندما يشبع من كلِّ شيء، عندما لا يعود يفكِّر فيه. فكيف تستطيع أن تتملَّص من إبليس إن لم تكن إبليسًا ونصف؟" يصرخ زوربا.

أية حكمة زوربية هذه! أليست النشوة المادية روحية في ذروتها؟ أليست النشوة الروحية جسدية في ذروتها؟ أليس إشباع الجسد هو جسر العبور إلى الروح؟ أليس إشباع الروح هو جسر العبور إلى الجسد؟

إن لم أكن قد صُيِّرتُ جسدًا، كيف لي أن أعرف الروح؟ إن لم أكن قد صُيِّرتُ روحًا، كيف لي أن أدرك الجسد؟ الأرض هي جسد الكون، والجنَّة هي روحها. هكذا تمتزج "الأرض والجنة لتصبحا قطعة واحدة"، ويصبح "الربُّ والشيطان واحدًا". يا لتعاسة من لا يكون نبع السعادة في داخله! يا لتعاسة من لا يشعر بأن هذه الحياة والحياة الآخرة ليستا إلا واحدة!

تسألني: "كيف تستطيع أن تصل إلى تلك النشوة التي يتساوى فيها المادي مع الروحاني، والروحاني مع المادي؟"

يضحك زوربا، وبلغة حكيم ولد من اتحاد المادي والروحي للتوِّ، يجيبني: "المرأة، يا ولدي، هي معلِّمة النشوة." لم يكن عبثًا أن الإنسان لم يكن يعرف كيف يأتِ الأطفال، ولكنه كان يعرف من أين تأتي النشوة. إن المرأة هي جسر العبور إلى الله. لذلك فإن مدرسة المرأة هي مدرسة الجنس الكبرى التي علَّمت الإنسان كيف يدرك ذاته، كيف يتوحد مع الآخر، كيف يصل إلى الله ويدركه... هناك حيث يحلِّق الإنسان في العالم الروحي. فالمرأة هي ذلك "النبع الذي لا ينضب" معرفةً وحنينًا... نبعُ ماءٍ بارد وعذب، ما إن تنحني فوقها وترى وجهها حتى تنهل وتنهل، لتروي الشوق إلى المعرفة.

إذا كانت المرأة تمثل مادية الحياة، أين يكمن العالم الروحي؟ أيكون في الرجل؟! طبعًا لا. إنه في عناق المرأة والرجل في النشوة، تلك اللحظة السحرية... لا، إنها ليست لحظة... إنها مقياس للزمن خارج إطار هذا الزمن. إنها فراغٌ تُسلَب فيه الروح. إنها "لحظة انخطاف"، على حدِّ تعبير كونديرا.

لا أدري! ربما عودة إلى الفراغ الذي تشكَّلت الأرضُ من عدمه؛ أو ربما زيارة لجنَّة الله، أو حتى لجحيمه! ألم يقل الإمام الغزالي في تحفة العروس إن النشوة ما هي إلا إحدى "لذَّات الآخرة"، أعطاها الله للإنسان كدليل مادي على وجود العالم الروحي، لأن "ما لا يُدرَك بالذوق لا يعظم إليه الشوق".

هذا "الانخطاف"، الذي يخرج عن دائرة الزمن الأبدية، يصلنا بالفردوس الغائب الحاضر أبدًا. لذلك سأدخل عالم زوربا، لأني ابن هذه الأرض. سأتعلَّم كيف أصل إلى النيرفانا الزوربية. ما شأني بالمسيح، ببوذا؟! هؤلاء أبناء السماء، ولهم "نيرفاناهم" الخاص. أما أنا فسأتحد مع "الكلِّي" بأدوات هذه الأرض. كأن زوربا يوشوشني على إيقاع المسيح: "دَعْ جنَّة الأرض لابن الأرض، وجنَّة الله لابن الله."

هكذا يكون "لكلِّ إنسان جنَّته الخاصة": "جنَّتي – يقول زوربا – غرفة صغيرة تفوح منها الروائح العطرية، تغطي جدرانَها الفساتينُ المزركشة، والصابون، وسرير كبير، وبجانبي فتاة دافئة. وجنَّتك ستكون مكدسة بالكتب وزجاجات الحبر الكبيرة. "فأنا "زوربا"، حتى في جنَّتي أسعى دومًا لأتحد بالله. أما أنت، فحتى في جنَّتك ستتحد بالله عبر كتبك."

هنا ضحك زوربا. وكان لضحكته صوت وشكل غريبان! ربما تشبه تلك اللحظة التي انعتق فيها القمر من أمِّه الأرض.

وأنا، على مذبح الجماع المقدس، أرفع إليك هذه الترنيمة التاوية، إلى امرأة "حجرها مذبحٌ قرباني، وشعر عانتها العشب القرباني، بشرتها مَعْصَرَة شراب سوما، وشفرا فرجها نار الوسط". هكذا يتماهى المرء بكلِّيته في السرِّ المقدس. "أذوب في الله عندما أذوب فيك."

المرأة

آه... ذلك الكائن المليء بالجراح، كجسد زوربا... لذلك عَشِقَ المرأة. لأنه رجل خَبِرَ هذه الحياة، بحروبها وحبِّها، بمجونها وفسقها. فعلى جسمه النحيل الأسمر جروحٌ وآثار رصاص وسيوف. لكن جروحه داواها الزمن، فالتأمت. ولكنْ، "في النساء جرح لا يلتئم بالمرة. كلُّ الجروح تشفى، إلا هذا الجرح فهو يبقى مفتوحًا."

روى لي زوربا قصة جدته العجوز المتصابية: "وهي في الثمانين من عمرها كانت تدلك شفتيها بورق الجوز. ذات مرة وبَّختني لأنني كنت أجري خلف الفتيات. يومها انفجرتُ في وجهها، وقلت لها: "أنت لست إلا جيفة نتنة!" وفي ذلك اليوم عرفت ما هي المرأة. رفعتْ ذراعيها النحيلتين نحو السماء وصاحت: "عليك اللعنة من أعماق قلبي!" ومنذ ذلك اليوم بدأت صحتها تتدهور. وعندما كانت تحتضر شاهدتني فشهقت، وحاولت أن تمسكني بأصابعها وقالت: "لقد كنتَ من أنهى حياتي... فليلعنك الله، يا ألكسيس، ويجعلك تعاني كلَّ ما عانيته أنا!"

"آه، إن لعنة العجوز أصابت هدفها. ومنذ ذلك الزمان وأنا أفكر بالشيخوخة. أفكر بجدتي العجوز وورق الجوز. أدركت أن مغامراتي تقوِّي صحتي. أشعر كما لو أنه ستنبت لي أسنان جديدة. كل صباح أنظر إلى نفسي في المرأة، فأتعجب لأن شعري لا يزال أبيض ولم ينقلب أسود فاحمًا...".

آه، كم هو شاق طريق الروحانيين! إنهم يسعون بدأب لتحويل الروح إلى مادة. ينعتقون من هذا العالم، ويجاهدون إلى العالم الآخر الموجود بين يديهم. فهم لا يعرفون أنهم وصلوا إلى غايتهم، إلا عندما يدركون ذلك. و"يدركون" يعني أنهم يلمسون ويشمون ويرون ويحسون...

لماذا كلُّ هذا الشقاء، والعالم الزوربي بجنَّته حاضر على هذه الأرض؟!

إذا كانت حياتنا كلُّها معركة عظيمة لتحويل المادة إلى روح، لماذا يشقى أولئك بتحويل الروح إلى مادة؟! أظن أن عملهم يخالف منطق هذه الحياة برمَّته.

وزوربا أيضًا يسعى جاهدًا لتحويل المادة إلى روح عبر لحظة الشبق.

لماذا كلُّ هذا التناقض؟ ربما لأننا مازلنا "عند البداية فقط. فنحن لم نأكل، أو نشرب، أو نحب، بما فيه الكفاية. إذن فنحن لم نعشْ بعد. ففي داخلنا قوى قاتلة تدفع إلى القتل والهدم والحقد والضغينة".

 آه... لم يعد عقلي يحتمل كلَّ هذه التناقضات!

لا بدَّ أن ألج عالم زوربا.

زوربا يقول لي: "اسمع ما أقوله، انهج نفس أسلوبي." "لماذا لا تعيش هذا العالم بدل أن تفكر فيه؟! يجب أن لا تصدق كلَّ ما تقوله الكتبُ لك، بل يجب أن تصدقني أنا." فأنا "خَبِرْتُ جميع أسرار هذا العالم، وليس لديَّ الوقت لأكتب عنه... مرة النساء، ومرة الحرب، وأخرى الخمر والموسيقى. ومن عنده الوقت لا يختبر هذه الألغاز.

"إنني سندباد بحري. هو الكتاب الوحيد الذي قرأته في حياتي، ليس لأني شاهدت العالم بأجمعه، لا، بل لأني سرقت، وقتلت، وكذبت، وضاجعت مجموعة كبيرة من النساء، وخرقت حرمات جميع الوصايا العشر... كم أتمنى لو كان هناك أكثر من عشر وصايا لأخرقها جميعًا! ولو أن الله كان حقيقيًّا لقمتُ بذلك دون خوف. فهل تظن أن الله سيتنازل ويحاسب دودة أرض مثلي؟ لا أظن ذلك! خاطبت نفسي: "يجب أن أحرِّر نفسي من هذه الألغاز. يا لتعاسة من لا يستطيع أن يتحرر من بوذا، الآلهة، الوطن، الأفكار... الدرب الوحيد نحو الخلاص هو الثورة"، ثورة الإنسان الفاشلة لقهر الضرورة، ولإخضاع القوانين، قوانين الروح الداخلية، لجعل كلِّ ما هو كائن يختفي، لنخلق دنيا جديدة أفضل، تكون حسب القوانين الداخلية، قوانين الطبيعة المتوحشة.

أدرك تمامًا بأني "لم آتِ إلى هذا العالم لأعيش كحصان أو كثور. الحيوانات فقط تعيش لتأكل. أنا أخلق العمل لنفسي ليلاً نهارًا. لذلك فأنا أغامر بخبز يومي من أجل فكرة أعيشها. حياة الإنسان مليئة بالمرتفعات وبالوديان. وما يجعلني ذا قيمة أنني رميت العنان منذ مدة طويلة، لأن الصدمات لا ترعبني. في كلِّ مكان لي ذكرى. أفعل ما أريد، ولا يهمني إن متُّ. نعم، لقد تحررت من كلِّ القيود... تحررت لأصبح إنسانًا من جديد.

"تحررت من الوطن، ومن الراهب، ومن المال. فأنا أغربل نفسي كلما تقدمت بي السن. يجب أن تصدقني أنا. فما دامت هناك أوطان سيبقى الإنسان حيوانًا."

-       لنبدأ يا زوربا! فقد تغيَّر مجرى حياتي... علِّمني أبجديتك!

-       إذًا ارقص... هيا... ارقص، ولتذهب الدواة والأقلام إلى الجحيم، ولتلحق بها الأملاك والأشغال... الآن أصبحت تعرف لغتي. لو استطاع الإنسان أن يرقص أفكاره لتفاهم كلُّ البشر.

صرخت، وأنا أنعتق نحو الداخل بحثًا عن النيرفانا الزوربية: وحدك موجودة أيتها الأرض. فأنا لست إلا طفلك الأخير. أنت فقط، أيتها الأرض، تنجبين أطفالك لتلتهميهم.

-       هيا... ارقص... ابعد عنك "الأسئلة الخالدة التي لا تنفع". تلك الأسئلة الغبية، لما... لماذا؟ لأن العقل لم يخترعها إلا "لتسمِّم القلب"!

فلتعلم أن النهار فقط هو للعمل. النهار رجل، أما الليل فللحفلات! الليل امرأة. يجب أن تعرف هذا جيدًا وأن تميِّز بينهما: "لا تجهد نفسك في البحث عن السعادة. فالإنسان غالبًا ما يبحث عن سعادته في مكان أعلى منه، وآخرون يبحثون عنها في مكان تحتهم. لكن السعادة تكون دائمًا في حجمهم. فلكلِّ إنسان سعادته التي تساويه."

-       هيا... ارقص... ارقص...

هناك شيطان في داخلي يصرخ، وأنا أفعل ما يأمرني به...

-       ارقص... أرقص... اقرأ ما أرقصه لك... علِّم شيطانك أن يدعوك للرقص دائمًا...

عجيب هو زوربا وعالمه الذي نقلني إليه!

-       هل من المعقول أن يتكلَّم أحد بواسطة الرقص؟

-       أقسم بأنها الطريقة الوحيدة التي تتفاهم بواسطتها الآلهة والشياطين.

سأستعين بأرسطو ومنطقه. يقولون إن الحياة مدرسة، وزوربا خَبِرَ هذه المدرسة. أتكون الحياة زوربا؟!

لقد استخلص زوربا فلسفته من جدِّه. فبعد أن خبا نظرُ جده، كان يستوقف الشابات المتوجِّهات إلى العين ويقول لإحداهن: "تقدمي... تقدمي لألمسك بيدي." ويلمس وجهها بهدوء وحرقة، فتنهمر الدموع من عينيه. سأله زوربا: "لماذا تبكي يا جدي؟" فتنهد وقال: "ألا تظن معي بأن هناك ما يدعو حتى إلى العويل يا ولدي؟! فأنا على شفير الهاوية، تاركًا ورائي كلَّ هذا العدد من الشابات الجميلات!"

آه، يا جدي المسكين! نعم، فأنا أدرك الآن ما عنيته. وأنا غالبًا ما أحدث نفسي قائلاً: "يا للتعاسة! لو أن كلَّ النساء والفتيات الجميلات يهلكن في نفس اللحظة التي أغيب فيها عن هذه الدنيا! لكن العاهرات سيعشن، ويتمتعن، ويعانقهنَّ الرجال، ويلثمون شفاههن. وأما زوربا فيكون قد وورِيَ الثرى، ووُطِئَ بالأحذية.

نعم، أنا لا أؤمن بأيِّ شيء، ولا بأيِّ شخص. لا أؤمن إلا بزوربا، ليس لأن زوربا أحسن من غيره – كلا، فهو بهيمة كغيره – ولكن لأن زوربا هو الوحيد الذي يقع تحت سلطاني، وهو الوحيد الذي أعرفه. أما الباقون فكلُّهم أشباح! عندما أموت سوف يموت كلُّ شيء معي. كلُّ العالم الزوربي سوف يغوص إلى الأعماق.

عجيب هذا الإنسان! لقد علَّمتْه النساء فلسفته، ومن السرير استطاع أن يلج خبايا هذه الحياة، أن يدرك الروح، ويعرف الله، ويكتشف سرَّ الموت، ويعرف...

-       نعم، صرخ زوربا، هذا لا يهم، لأني الآن موجود...

وبدأ يرقص...

هكذا هو زوربا، ذلك المجرِّب. هل تصدقون أنه عرف الله أيضًا عن طريق التجربة؟! كيف؟! لأنه، ببساطة، كان معه ساعة الخلق. سألني زوربا:

-       أتعلم كيف خلق الله الإنسان؟

-       لا أعرف، فلم أكن وقتها موجودًا!

صاح زوربا والشرر يقدح من عينيه: "أما أنا فقد كنت موجودًا! في صباح أحد الأيام، نهض الربُّ حزينًا وهو يقول لنفسه: "كيف أكون ربًّا وليس لديَّ أيُّ عبيد يصلُّون لي، ويضيئون الشموع لي ويحرقون البخور، ويحلفون باسمي، وأحاول أن أقضي وقتي بهم! لقد مللت العيش وحيدًا، كأني موجة منسية." تناول كمية من تراب ونفخ فيها، فحوَّلها إلى صلصال دعكه جيدًا، وصنعه على شكل إنسان صغير وضعه تحت الشمس. وبعد أسبوع تناوله وكأنه قد نضج، وألقى نظرة عليه وغرق في الضحك قائلاً: "لتأخذني العفاريت! شكله أشبه بخنزير يقف على قدميه الخلفيتين. هذا بعيد عن الشكل الذي أحببته أن يكون!" وأمسكه من عنقه، وركله برجله، صائحًا فيه: "اغرب عن وجهي! إن الأرض كلَّها لك. هيا، ابتعد عني! واحد... اثنان... هيا، سِرْ!"

"إلا أنه لم يكن خنزيرًا بالمرة! فقد كان يضع قلنسوة متدلية، وصداري يضعها على كتفيه بلا اهتمام، وبنطلونًا بكسرتين، وحذاء مزركشًا بورود حمراء، وكان يتمنطق بخنجر، لا شك بأن الشيطان قد قدَّمه له، وكتب عليه "سأفتك بك"! هكذا كان الإنسان. مد الربُّ يده ليقوم ذلك الإنسان بتقبيلها، إلا أن الإنسان اللعين فتل شاربيه بسخرية وكبرياء قائلاً: "هه، أيها الشيخ، ابتعد عن طريقي كي أمر!"

"هذا ما جرى حتمًا. إني أشعر به... فهذا ما كنت سأفعله لو كنت مكان آدم!

"وأكثر من ذلك. أنا أتصور أن الربَّ يشبهني، لكنه لا يحمل بيده سيفًا ولا نيرانًا، بل يحمل قطعة كبيرة من الإسفنج مليئة بالماء، وكأنها غيمة مطر. وعندما تحضر إليه روح من الأرواح عارية تمامًا، تعيسة، بعد أن تاهت عن جسدها، يحدجها الربُّ بنظرة وهو يكتم ضحكته، متظاهرًا بالغضب، ويرفع صوته الجهوري: "اقتربي مني، أيتها الملعونة!" ويبدأ السؤال، ويأتي الجواب. وترتمي الروح عند أقدام الربِّ مسترحمة، ضارعة، متوسلة، فيبدأ بتعداد خطاياها وضحاياها. تبدأ دون أن تنتهي. يتململ الربُّ ضجرًا، ويتثاءب، ويصرخ بها: "اسكتي! فقد أصاب رأسي صداع من كثرة كلامك." ثم يمسح بإسفنجته كلَّ ذنوبها ويقول لها آمرًا: "هيا... اغربي عن وجهي، وادخلي الجنَّة. يا بطرس، دعها تدخل."

"فالله، كما يجب أن تعلم، سيد عظيم، والأخلاق العالية في أن تغفر وتسامح عندما تستطيع ذلك."

خطفني رأي زوربا بعيدًا: "يا لهذا الإنسان الساذج الذي يصل إلى أعماق الجوهر عن طريق تهديمه المنطق والأخلاق! إن الحياة بقربه قد أصبح لها مذاق آخر، ولم تعد مجرد روتين. إن الحياة تحوَّلتْ لعبة حقيقية، خفيفة، لا تبدو ثقيلة، حتى ولا بنقطة دم. إن كلَّ هذه الأشياء التي جعلتْني سجينها لمدة طويلة تبدو الآن مجرد ألاعيب وأحاجي. هكذا دائمًا ينتهي خوف الإنسان عند نهاية كلِّ جيل وحضارة إلى ألاعيب وأحاجٍ."

ليبارك الله في زوربا! لقد أعطاني تفسيرًا دافئًا وعذبًا للأفكار المتعِبة التي كانت تحتشد في داخلي.

زوربا يعاود الرقص من جديد

بدأ يضرب الأرض بقوة! هو الآن يغني ويرقص كأنه يريد أن يقول ما لا يستطيع تحويله إلى كلمات. لقد بدأت أدرك، كلما اشتد إيقاع رقصته وارتفع صوته بالغناء، بأن فكرة عظيمة تجد طريقها إليَّ. نعم، "إن الحنجرة الإنسانية ترجع إلى أجيال ماضية في التاريخ". كانت صيحاته تركيبًا عجيبًا من الموسيقى والشعر والفكر.

كان زوربا قد انتشى من الغناء، وقال فجأة:

-       أيها العجوز، إن الإنسان وحش كاسر. اترك كتبك، ألا تشعر بالحياء؟ إن الإنسان وحش كاسر، والوحوش الكاسرة لا وجود لها في الكتب.

أسرَعَ إلى الخارج راقصًا. أخذ يتقلب فوق العشب كأنه مهرٌ ربيعي. أشرقت الشمس. كانت الأغصان تنمو، والصدور تكبر، والروح تتفتح كأنها شجرة، والإنسان يشعر بأن الروح والجسد قد خُلِقا من مادة متشابهة.

ساد الصمت. توقف الإيقاع والرقص. توقف الزمن. دارت برأسي دوامة الأفكار: لكلِّ إنسان جنَّته الخاصة، وربُّه الخاص، وسعادته التي يفصِّلها على قياسه. فجأة، خرق صوت زوربا الصمت، وقال: "ولكلِّ إنسان شيطانه الخاص! ألم أخبرك أن شيطاني يدعوني دائمًا إلى الرقص؟ إن كلَّ شيء جميل ورائع في هذه الدنيا قد خلقه الشيطان... الفتيات الجميلات، الربيع، الخنازير المشوية، والخمر. أما الربُّ الطيب فقد أوجد الصوم، الكهنة، البابونج، الفتيات القبيحات...".

كرر كلمة "الصوم" وغرق في ضحكة مدوِّية، وقال: "هكذا وضع الله بيد الآباء القديسين أداةً جيدة للتحكم في عقولنا. ألم أقل لك: "قل لي ماذا تأكل أقُلْ لك من أنت"؟ فهؤلاء "الخبثاء" يصلون إليك عن طريق معدتك؛ فكيف تستطيع أن تهرب منهم؟ يقولون لك: "لا تأكل وتشرب خمرًا لمدة أربعين يومًا – إنه الصوم." لماذا؟ لتشتهي اللحم والخمر! آه، يا لهم من خنازير وقحة! إنهم يعرفون كلَّ حيل هذه اللعبة. وأنت، عندما تحتفل بالعيد وتفرح، فأنت تفرح لأن ما كنت محرومًا منه قد أتيح لك. إنك فرح لأنك تأكل اللحم وتشرب الخمر."

"كُلْ واشرب، وانتشِ، وغنِّ كالرعاة: المجد لله في الأعالي... المجد للأبطال... لقد ولد المسيح... المسيح؟! إنه شيء مرعب! ارفع صوتك لتجعل الله يسمعك ويشعر بالسعادة!"

كلام زوربا يُشعِرُني بالخوف! إنه كفرٌ وتجديف! كنت أعلم أن الإنسان يقف بخشوع عندما "يرى الطين الذي خُلِقَ منه قد تحوَّل إلى فكر". إلا أن الفكر لا يجد المكان المناسب الذي يمدُّ فيه جذوره ليستطيع أن يعيش طويلاً. أدركت أن بوذا/المسيح هو "الإنسان الأخير". هذا هو سرُّه المركَّب والمخيف. إن بوذا/المسيح هو تلك الروح الصافية التي جوَّفَتْ نفسها ولا يوجد بداخلها غير العدم. فهو يصرخ: "أفرغوا أجسادكم وأرواحكم وقلوبكم." وأينما تقع قدمُه لا تعود المياه تنساب، والعشب لا ينمو، والأطفال لا تولد. فهذا الرجل العجوز التعب قد جاءنا قبل الأوان، ويجب علينا أن نطرده بأسرع وقت ممكن.

تردَّد الصوت المرعب من جديد: "ليس للإنسان غير هذه الحياة الوحيدة، ولن تكون أية حياة ثانية. فكلُّ مُتَعِنا يجب أن نغتنمها هنا، على هذه الأرض. أما في الآخرة فلن تُتاح لنا الفرصة لأية متعة ثانية."

 أيُعقل أن حياتي قد ضاعت؟! رحت أفكر: لو أستطيع أن أتناول "إسفنجة زوربا" وأمحو كلَّ الذي تعلَّمته وشاهدته وسمعته.

فلنبدأ أولاً بالرقص...

 

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود