ثمة حكاية لا تنتهي في حزيران

 

عبد السلام العطاري

 

ثمة حكاية لا تنتهي في حزيران

 

إلى التي عانقتْني شوقًا، فكان العناقُ يحمل رائحة الوطن وزهرة لوز خبأتُها لها بين أضلعي. قلت لها: "اسكني في قلب متعب ومثقلٍ بالوجع"، فتوسَّدتْه، وكانت أنفاسها بلسمًا شفى ألمي المزمن. وقلت: "يا وجعًا يسكن عمري... وداعًا، ومرحبًا بالتي جعلتْني أبتسم على شرفات الفرح."

هذه حكاية حزيران التي لا تنتهي. عمرها زيتونة ضاربة في عمق الأرض السمراء، شهادة ولادتها موسَّمة على تجاعيد جذعها. تعرفونها من سيمة محفورة في كلِّ رسمِ حرف، وعلى كلِّ غصن. تناجت على أفرعها بلابلُ الشوق ويماماتُ الرسائل العاشقة.

"حزيران، كما قالت لي ذات يوم، هو ميلادك، يا عاشق البحر والنوارس." حملتُ كلماتها، ونصبتها أشرعة لرحلة عمري، فكانت نجمة تحرس سهري، وكانت غيمة تسقي ظمئي، وكانت ربيعًا أخضر لحقولي وشجرة عنَّاب تُظِلُّني من حرِّ صيفي، وكانت وطن عمري.

 

ثمة وصايا لا يعرف المِداد حروفها

ولا تعرف النوتةُ لحنها

والأغنية تشتهي صوتها

ويرقص الناي حين تداعبها أناملها.

 

ثمة ليل غنَّيناه

فتمايل الليل طربًا

والنجوم كذلك

ونسائم البحر حملتْنا

أوراقا تنثرنا

كرحيق زهرة الكولونيا

يسمر الساهرون على أريجها

وتغفو أعين الأطفال عليها في سكينة

وتنتشر أصوات أحلامهم

فتصمت مدينة غارقة

في الضجيج لتسمع همسهم

وتعيد المدينة عقارب الساعة إلى الوراء

كلما مرَّ زمنٌ وأعلنتْ ساعةُ الليل

بدء فضاء فجر جديد.

 

ثمة كلمات يردِّدها حزيران

ثمة وصايا يتلوها

ثمة آيات

ثمة حكايات

ثمة رسائل تعبر

محيط الشوق

من رحم الوطن

إلى غربتها

يسكُنُها

وتَسْكُنُهُ بحنينها

وتُسكِنُهُ في عيونها الجميلة

ويمر الراحلون

يستقرون

تحت ظلِّ فؤادها

يشربون

يأكلون

ويتلون آيات السلام

ويحجون

يطلبون من شوقها الشوق

يحمِّلون قوافلهم

وتجارتهم أبدًا لن تبور

كلما مرُّوا بقربها

كانوا بسلام آمنين

فسلام عليها في العالمين

وسلام العالمين

عليها

حين تأذن بالحبِّ يكون العشَّاق

على رحيق حبِّها عاشقين.

حزيران، 2004

 

الجوع، وغضبي، وزنزانتي الصغيرة

 

إلى ما تبقَّى من ضمائر في هذا الزمن الكاذب...

إلى عميد الأسرى القابع خلف القضبان منذ 27 عامًا، المناضل سعيد العتبة؛ إلى أحمد عميرة، الذي كبر على لون الزنزانة؛ إلى سمير القنطار، الوطن لا يعرف حدودًا؛ إلى مروان البرغوثي، لغة غاضبة في زمن يضحك؛ إلى فخري البرغوثي...

إلى كلِّ مَن يتألم، لا على جوعه وإنما على حرية ينشدها ووطن يحلم بشمسه.

 

أوَّاه، يا أمِّي، منِّي ومن وجعك

من صدر الشمس

ومن دمي

ومن ألمك.

 

قتلوني خلف أزهارهم

داخل أسوار حدائقهم

تحت أعواد الحروف العاشقة

أوَّاه، يا أمي

مدمعة عيناك

حائرة

غاضبة

صامتة

باسمة

ضاحكة

وأنا وحدي ورفاقٌ

يتلوُّون جوعًا

كي يلتهموا الحرية

في مخدعها

غدًا

صباحًا

وجدت رفيقًا

شهق النفس الأخير

أغمض عينيه

على دمعة

على سجع نثر

على كلمة

ومضينا نحوه

نبحث في قلبه عن

وصيته الأخيرة:

"اشتقت إليك..."

ومضى.

 

الجوع، وغضبي، وزنزانتي الصغيرة

وسجَّاني لا يعرف غير صراخي

وسهرك

أنت في ظلمة الوطن تبكين حسرات

وأنا ورفاقي في عتمة زنزانتي

وألمك

يعتصرني شوقًا

حبًّا

حنينًا

يروي عطشي

بعد أن سكبوا آخر قطرة ماء

على مرأى سجين صغير

هناك وحده، وأنت، ووعد كاذب بالحرية.

 

الجوع، وغضبي، وزنزانتي الصغيرة

أنت، وأخوتي، وجيران لنا

وصراخ في الشارع المحاذي لنافذة بيتنا

أذكرها، أذكر شجار الطفولة، عراكهم

أذكر المارَّة، المتعبين، من لظى الجوع

من آخر المشوار

من آخر الطريق المرَّة

أمَّاه

ها نحن إن بقينا أحياء

إن وجدنا السجَّان... شهداء

احملونا

على أكتاف أيتام رضَّع

يحلمون بحليب

بقطعة حلوى

بنشيد أغنية

بحقيبة مدرسة

بطرقات آمنة

بنوم لذيذ

بأرجوحة

من زنود الصنوبر

من عطر الياسمين

آه... أمِّي

وعزلتي

وزنزانتي

وثورة غاضبة

وأمعاء خاوية

تحلم

بالانقضاض

على رغيف خبز مغمَّس

بزيت أرضنا

تحت شمس

وطن يئن

خلف الهتاف الكاذب

والجمهور الغاضب

والوعد... الأخير

وتبقين، أنت، والوجع

وزنزانتي الأخيرة.

ليل جوع آخر في سماء أسرانا البواسل

رام الله المحتلة، 18/8/2004

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود