هذيانات حول يوتوبيا

 

بريهان قمق

 

في فيلم إنغمار برغمان الختم السابع، الذي بات علامةً فارقة في تاريخ السينما العالمية، حين يواجه البطلُ نهايته، يدعو ملك الموت إلى مباراة شطرنج بلا أمل!

أترانا، نحن أيضًا، نلعب الشطرنج في الرابع أم الخامس أم السادس؟! ومتى ستنتهي لعبة الشطرنج ونصل الاستواء السابع، وتنتهي مسرحية الأسئلة العبثية؟!

"أنا أريد من الله أن يمدَّ يده نحوي، ويكشف وجهه لي، وأن يكلِّمني." هذه صرخة من إحدى شخصيات الفيلم ذاته، الختم السابع. فقد كان الإنسان دومًا يحدوه الأمل في أصعب منحنياته.

الأدب – والنتاجات الإبداعية الإنسانية عمومًا – مليئة بمثل هذه التعبيرات التي توضح يأس الإنسان وإحساسه بالوحدة في الكون المترامي الأطراف الذي يزداد قسوة وعنفًا وتجاهلاً لأبسط بتلات الروح الحالمة بالخلاص لهذه النفس التي تُعَدُّ مركز التاريخ البشري كلِّه ومعياره.

وربما كانت أعظم صرخة في المجال الإبداعي المعبِّرة عن هذا الوجع تلك الآتية من قلم شكسبير، حيث وضع كلمات "وليس ماء" على فم مكبث في لحظات الفقد واليأس الشديد:

خارجًا، خارجًا، أيتها الشمعة المضيئة

فما الحياة إلا خيال سائر، عابث مسكيـــن

إنسان ساذج، أحمق، مملوء ضوضاء وهياجًا

إننا نخاطب أنفسنا بمثل هذا الشعور اليائس الذي به كُتِبَتْ هذه العبارات منذ قرون – بل ربما ازداد قسوةً اليوم – فاقدين توازننا وثقتنا في أنفسنا. ولكن أليس ضربًا من الجنون أن نجعل هذه النفس المتمثلة والرمز لكلِّ الذوات والكائنات الرائعة فينا – هذا الإنسان الفريد في كلِّ شيء (ميلاده، حياته، موته، قيامته) – منزوية حقيقته في ركن مهمل من أفكارنا؟

ويروح النهم والاشتهاء للتمثل بما سمعناه عنه من نظريات عقلانية ونقدية فكرية مادية بحتة، بلا فحص ولا تدبُّر، وبلا تشغيل وتفعيل للنزعة النقدية الفطرية فينا؛ لمنح تقدير للطاقات الأخرى الساكنة في أماكن قصيَّة فينا، لم تتكشف بعدُ، سواء في داخل الدماغ أو في مناطق أخرى، مؤثرة وفاعلة في دورة دائرة الحيوات، وتم إقصاؤها عبر مدنية وحضارة مادية لا تستخدم من طاقاتها سوى ثمانية في المئة من النشاط الدماغي في أعلى عبقرياتها، مهمِلة، مع سبق الإصرار والترصد، الطاقات الخفية في الذوات الإنسانية، تحت مسميات الشعوذة، لعدم وجود دراسات بحثية تتوافق والرؤيوية البراغماتية للمصلحة والعقلية الماديتين، بل تصل حتى مرحلة السخرية اللاذعة والإهانة لها؟!

هـ.جـ. ويلز (1866-1946)، المتوفى بعد حياة حافلة بالفكر الحرِّ، الصادق مع نفسه، عميد أدب الخيال العلمي في العالم – في صعوبة بالغة تمكَّن من إقناع أهل العقل المادي في العام 1934 بضرورة إنشاء كلِّيات متخصصة في علم البيئة البشرية، الذي صار، بعد مدٍّ وجزر ونقاشات تهكمية ونقد لاذع من جانب أهل الفكر والعلم المادي، علمًا أساسيًّا في عالمنا اليوم، على الأقل لدى الثقافات التي باتت تشعر بقيمته الروحية الإنسانية في الزمن العقلاني المدمِّر جدًّا والقائم على فكر ونظريات تمتلك آلية مدهشة في نسف ما قبلها من أفكار عقلانية أمام كلِّ ظاهرة علمية مُستجدة.

وأكاد أجزم أن اليوتوبيا التي سكنت روح هـ.جـ. ويلز كانت وراء ذلك.

في عالم تجوز تسميته بالخيال أو صورة ما وراء بؤبؤ العين، أروح لظاهرة نسبية الزمن – ذلك الاكتشاف الهائل الذي حققه أينشتاين في القرن العشرين عبر أحلام داعبتْه كإنسان – وأطرح السؤال: هل يستطيع تمدد الزمن أن يساعد الحب؟ – والحب أهم ركيزة في اكتشاف الإنسان حقيقته والحقيقة المطلقة في الكون.

أتوقف أمام رسالة بعثتْ بها إحدى شخصيات رواية خيال علمي للكاتب هوغو هالدمان، بعنوان الحرب الأبدية. يقول نص الخطاب الموجَّه من الحبيبة إلى حبيبها:

عزيزي وليام:

كل هذا في ملفك الشخصي. ولكني أعرف طباعك جيدًا، ولن يدهشني أن تكون قد ألقيت به جانبًا. لذا حرصت على أن تتلقى هذه الرسالة.

من الواضح أنني بقيت على قيد الحياة، وربما ستستطيع أنت أيضًا ذلك. فلتلحق بي. أنا أعرف من السجلات أنك في الكوكب Sad-138، ولن تعود قبل مرور قرنين من الزمن. لا بأس في ذلك؛ إذ إنني ذاهبة إلى كوكب يطلقون عليه اسم "الإصبع الوسطى"، وهو الكوكب الخامس انطلاقًا من نجم المئزر. لقد اشترينا مركبة من قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة، استنفدتْ كل نقودي وخمسة من الأصدقاء القدامى، ونحن نستعملها كآلة زمنية. إنني أعيش الآن على مركبة مكوكية نسبية، وأنا بانتظارك. وكل ما تفعله هذه المركبة هي أن تسافر مدة خمس سنوات ضوئية، ثم تعود بسرعة فائقة إلى "الإصبع الوسطى". أما أنا فيزداد عمري قرابة شهر واحد كلَّ عشر سنوات. فإذا لم تتخلف عن موعدك وبقيت حيًّا، فسيكون عمري حين تصل إلى هنا 28 سنة. فلتسارع في المجيء. إنني لم أعثر على أحد غيرك، ولا أود أن أعثر على أحد غيرك. ولا يهمني إن كان عمرك تسعين أو ثلاثين عامًا. فإن أنا لم أستطع أن أكون حبيبتك، فسأكون ممرضتك التي تتولى رعايتك.

ماري جين

من سوء حظ أينشتاين – صاحب العقل المدهش، الذي يعده العلماء واحدًا من القلائل في العالم الذي تمكَّن من استخدام أعلى طاقاته وقدراته العقلية البشرية المعروفة – أنه مات وهو يشارك في المظاهرات ضد بلاده، ساخطًا على آليات الحرب التي استفادت من نظرياته في أغراض لم تكن ضمن حسابات أحلامه الجميلة التي كرَّس لها طاقاته العقلية المبدعة كلَّها. ربما لو قرأ هذه الرواية لشعر بشيء من الجدوى من حلم بات يداعب الملايين في خلق الحبِّ بين ثقافات وشعوب العالم المختلفة عرقيًّا وإثنيًّا. مات قبل أن يرى كيف تتحول معادلاته الجافة إلى سيل متدفق من المشاعر الإنسانية الرقيقة، تروح لكتابات تداعب أرواح آلاف مؤلَّفة من القراء لا حول لهم ولا قوة سوى بعث بتلة يوتوبيا من جديد؛ وتروح، في الوقت ذاته، لتجارب مذهلة مخيفة في عالم النانوتكنولوجيا التي سوف يتم الكشف، خلال السنوات القليلة المقبلة، عن قدرتها على التحكم بالروح والمادة، بعد فكِّ شيفرات المادة، تمامًا كما تُفَكُّ شيفرات الإنسان الجينية.

فأية يوتوبيا سكنت هذا العبقري، وأية زهور أنبتت وستنبت؟ وهل هو مسؤول عن تحكم نتائج نظرياته في آليات القتل بأبعادها المتمثلة اليوم؟

أية ألوان براقة وأية أشواك سامة حملتْها الأفكارُ العقلانية جدًّا، ونثرتْها للريح لتدخل رئات العالم التي هي أصلاً معطوبة؟!

أية بتلة يوتوبيا سنحتاج إليها، نحن الحالمون اليوم وغدًا، أمام هذا النهش بعضنا لبعض، وحزِّ الرؤوس في غمضة عين؟!

أية بتلة يوتوبيا نحتاج لاستعادة ضخِّ الدم النقي للدماغ السعيد بالاغتصاب والقتل والتدمير تحت شرف "الواجب" و"الأمانة المهنية"؟!

أية يوتوبيا نحتاج أمام لعبة الإقصاء والتهميش والتكفير والدوس على أغلى وأقدس معانينا ومعاني الآخر منَّا وفينا؟!

أي فعل نحتاج لاحتواء ألم احتضار اليوتوبيا في بعض الصدور؟!

وربما اجتياح الاحتياج إلى بتلة يوتوبيا هو وراء مَن يطرق بوابة الدروب والمعابر، مشاكسًا، متقنعًا بالكلمات. ففي مشاكسته وشاية بالأعاصير المجتاحة أعماقه والتائقة إلى ومضة نور تنساب في خلاياه.

والنور لا يظهر للأعماق ما لم نعترف بتوقنا وتوق الآخر له، ونفعل فعلاً لتنبتَ للمفعول به أجنحة...

لكن الواقع يقول: مازلنا بعدُ نلعب الشطرنج مع ملاك الموت يأسًا، ولم نصل بعدُ الاستواء السابع! والرحلة مضنية للروح، ليس فقط عبر أبعاد الزمن الأينشتايني، بل عبر الزمن الكوني.

كل شيء يشحذ المشاعر، تمامًا مثلما تشحذ الحروبُ الكثيرة نصل السيف، فيصير رهيفًا.

ويمكن لهذا السيف أن يصير قاتلاً،

ويمكن له أن يصير وترًا،

فيبكي...

و...

يغني.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود