|
رينيه حبشي الفيلسوف الشمولي، الشرقي التطلُّع، الكوني الثقافة نظر إلى لبنان محكًّا حضاريًّا لوحدة متوسطية ونجاح ثقافتين
للَّذين عرفوا الدكتور رينيه حبشي (1915-2003) معلمًا أولاً، ثم محاضرًا جامعيًّا، ثم محاضرًا رائدًا من على منابر بيروت، في الندوة اللبنانية خاصة، ومن بعدُ في باريس بعد 1969، أو رافقوه كإنسان قريب وسخيٍّ ومعطاء، إنْ في المجريات اليومية أو في الحلقات الضيقة الحميمة التي كان ينظِّمها في منزله أو في أماكن عمله، أو تعاونوا معه كمنشط ثقافي يوم كان مديرًا لقسم الفلسفة في منظمة اليونسكو، أو قرأوا مداخلاته العميقة والمليئة بحيوية فكرية من الطينة التحريضية التي فجَّرتْ في متابعيها أكثر من اندفاع نحو الدراسات الفلسفية – لهؤلاء جميعًا [كان] خبر وفاة الدكتور رينيه حبشي [...] في باريس داعيًا لذكريات طرية وأليفة حول صوت أعطى في شغف مثقف المفاتيح الملونة إلى دنيا الفكر الفلسفي في الزمن المعاصر. *** ورينيه حبشي مدخل دقيق ومختزل ونقدي إلى مرحلة تميزت بفوران التيارات الفلسفية بعد حرب عالمية ثانية أطلقت جدالاً بين مفهوم ديني للحياة والإنسان، ومفهوم إلحادي النزعة، عدميِّ التصور لهما، أي النظريات المتباينة والمتصادمة لعقل فلسفي في أصعب أزماته. ويُدَلُّ على فكر رينيه حبشي كوارثٍ شرعي للفلاسفة اليونان، وكمنتمٍ مولع إلى روح الأناجيل، وكشاهد عصري على الأزمنة الحديثة؛ أي أن لفكره نكهة توليفية فوَّارة تضع مضمونها في المسار التاريخي للفلسفة، من دون أن تتغاضى عن الطروحات المتأتية من أزمات ضمير القرن العشرين الحضاري. وللولوج في انتباه كلِّي إلى الإنسان كما عايشه في النصف الثاني من القرن العشرين، لم يترك بابًا فكريًّا لم يتوسَّله، وخاصة لدى مفكرين من أمثال كيركغور، وغبرييل مارسيل، وإيمانويل مونييه. ولِمَ الفكر، يوحي رينيه حبشي، إن لم يَقُدِ الإنسانَ إلى ابتكار فذٍّ لإنسانيته؟ وبقدر ما يستعيد من الماضي، مهما غَرِقَ في قِدَمِه، أقوى التصورات المضيئة لإنسانية قيد الصعود إلى المحطات المستقبلية، يرفض الاعتصام السلبي داخل حاضر مقفل، أي في حال انفصال فعليٍّ عن الآتي من الغد. ففكر رينيه حبشي اختراقي النزعة، استكشافي السلوك، رؤيوي التوجُّه، وفلسفته من هذه الزاوية إبداعية الإيقاع، وترى إلى الآتي كما لو أنه حاصل فعلاً. لذا يتصرف دومًا كفيلسوف روحي/روحاني، تلزمه الثقةُ بمستقبل للإنسانية معقود على الأمل؛ فلا فلسفة من دون إيمان بغدٍ أفضل، كما يوحي رينيه حبشي في معظم كتاباته. وقد أسعفتْ رينيه حبشي في حواره مع الآخر لغةٌ فرنسية مطواعة تغري متلقِّيها، ذات أناقة بليغة تترك بصماتها في أذن عربية مشرقية ملمَّة بالبلاغة المنبرية، حتى لدى مُحاضر بالفرنسية. وكم هي ثرية جملتُه حينما تتزيَّا بمفردات تبدو طرية، حتى عندما تدور على فكر فلسفي، كفكر جان بول سارتر أو غبرييل مارسيل. وكنَّا طلابًا في ثانوية القديس يوسف للآباء اليسوعيين يوم كنَّا نعد خطانا إلى الندوة اللبنانية لميشيل أسمر كي نعثر على مقاعد؛ إذ كانت بيروت يومئذٍ بكامل مثقَّفيها تتواعد هناك للقاء المحاضر الجذاب الآتي من القاهرة الذي يدعى رينيه حبشي. *** في ما يأتي مقتطفات ملائمة، ثاقبة، وثيقة الصلات بفكر رينيه حبشي، اخترناها من دراسة معمَّقة للأب يوحنا سليم سعادة حول فلسفة حوض البحر المتوسط والالتزام اللبناني في مؤلَّفات الدكتور رينيه حبشي (منشورات جامعة الروح القدس، الكسليك، 1993). و"المتوسطية" فكرة تختصر اختصارًا دائريًّا، كنقطة وسطية لزنار جغرافي من الحضارات التاريخية القديمة والمعاصرة والحديثة، عالم الأفكار الفلسفية التي تضمَّنتْها تعاليمُ المفكر اللبناني الغائب الآن، رينيه حبشي "المعلِّم". ***
[...] لما كان فكر الدكتور حبشي بحثًا عن تركيبة الفلسفات الشرقية والغربية، ومحاولة لتخطِّيها، كان التطرُّق إلى الواقع اللبناني ومصيره متابعة طبيعية في صدد هذا الجهد الفكري المتوسطي عينه. ذلك أن لبنان – الوطن والمحك الحضاري – يكوِّن وحدة متوسطية مدعوَّة إما إلى إنجاح ثقافتين متعايشتين، هما الثقافة المسيحية والثقافة الإسلامية، أو إلى إخفاقهما. والدكتور حبشي، في تفكيره حول لبنان، "المؤهَّل وحده لأن يكون وطن الفكر المتوسطي"، يعمل على حلِّ القضية اللبنانية انطلاقًا من شخصانيته، ومن لقاء الشرق والغرب على أرضه. [...] رافق رينيه حبشي وتعقَّب وتخطَّى المفكرين في تقديره المعلِّل وتقويمه للحوض المتوسطي، فسلَّط أضواء أساسية في إبانة القيم التاريخية والثقافية العالمية المتضمنة فيه، معلنًا، بتاريخ 21 حزيران 1964، في خطاب الإجابة والشكر على "جائزة جان حمروش" لكتابه بدايات الخليقة قوله: "ليس البحر المتوسط مجرد بحيرة أو حدثًا جغرافيًّا فحسب. إنه، بنوع خاص، الظاهرة الثقافية التي تجسدت على مرِّ التاريخ، بحيث يمكن التساؤل حول أيٍّ هو الأكثر واقعية وحقيقة: أهو البحر المتوسط الجغرافي؟ أم ذلك البحر الذي يجمعنا من الداخل؟ – لكن لماذا نفصلهما؟ فالأول كان وسيلة للثاني، والحديث "الخارجي" جهَّز الدعامة المنتعشة والمتحوِّلة بفعل العمل الإنساني، بحيث إن المفهوم المتوسطيَّ الحاليَّ تخطَّى البحر المتوسط، فارتسمتْ شطآنه في الوجدان من دون أن تقتصر على مشاعر سكان حوضه وحدها، فشملت مشاعر جميع الشعوب التي تلقَّت، في العالم كلِّه، مباشرةً أو بفعل حضارة وسيطة، رسالة الحوض المتوسطي." وبنبرته المتوسطية، يستفيض رينيه حبشي في كلامه على هذا البحر، فإذا بمياهه تربط بين طرفين لم يستطع اليباس أن يرسِّخهما أو يوثِّق بينهما. فالأرض – جبلاً كانت أم صحراء – تُباعِد أكثر مما تجمع، في حين أن المياه تحمل وتخلق رابطًا. ويرى حبشي في ذُرى أمواجها ارتسامًا للطرق الفينيقية واليونانية والرومانية والعربية: إنه نسيج متراصٌّ الصلات الإنسانية التي تجسدت في "علوم وفلسفات"، ودعوات ثلاث توحيدية. كما أن هناك الحاضرات السياسية، وأسواق المبيعات، والمدن الثرية بالأعمال والنشاطات الفنية. وعن سرِّ هذا الترابط الثقافي يضيف قائلاً: "إن هذه البحيرة لم تكن ضيقة إلى حدِّ اختلاط ثقافاتها الواحدة في الأخرى، ولم تكن شاسعة في اتساعها، لينتفي الواحد عن الآخر من شطآنها. لقد كانت معتدلة في مقاييسها، بصورة تسمح لهذه الثقافات والحضارات بأن يتميز بعضُها عن بعضها الآخر وتحقِّق الانضمام في صورة أفضل. ومن هنا ولد الإنسان المتوسطي: إنسان الحوار الذي اكتشف مقياس الإنسان، من خلال حواره، ذلك المقياس الإنساني المتعالي في شخص كلِّ إنسان." [...] تلك المزايا المجتمعة في الحوض المتوسطي كانت موضوع كلام حبشي المستمر في المؤتمرات، ومضمون مؤلَّفاته وأبحاثه، ولاسيما في الدراسات التي طلبتْها منه مؤسَّسة اليونسكو في هذا الصدد، كما في محاضراته حول "التضامن المتوسطي" المتواترة والمرافقة لكلِّ تحرُّك في هذا الشأن. أعطى حبشي مفهومًا متوسطيًّا جديدًا بنظرته الشخصانية المعهودة حول أهمية الحوض المتوسطي الثقافية، حين أبان حقيقة تاريخية–ثقافية–عالمية معًا، فقال في 27 أيار 1974: "عندما نتكلَّم عن البحر المتوسط، فإن المسافة الطبيعية تشكِّل أهمية ضئيلة؛ ذلك أن الظاهرة المتوسطية هي ذات طابع ثقافي مسيطر، وتبقى الظاهرة الجغرافية إزاءه شرطًا ضروريًّا، إنما غير كافٍ. وعلى العلم الاجتماعي التفاضلي différentiel أن يعير ذلك أهمية دائمة. فمن منَّا لا يحمل معه قليلاً من هذه المياه المضيئة التي أصبحت – وهي ممتزجة بأصولها العميقة – ثقافة عالمية، بفضل العلوم والفلسفات والإيحاءات التي أبرزها فيها مدى التاريخ؟" ولذلك اعتُبِرَ رينيه حبشي فيلسوفًا شموليَّ الشفافية، شرقيَّ التطلع، إنساني الثقافة، مارس شخصانيته في القول والتعليم والتأليف. ولو أردنا وصف فلسفته بانت لنا إيمانية في أركانها (الله، والإنسان، والتطور الكوني) وفي كلِّ ما يتفرَّع عن ذلك من قيم معرفية وأخلاقية. [...] وبما أن فلسفة رينيه حبشي تستقي من انفتاحها على الشرق والغرب من دون التنكُّر لعالمية الحوض المتوسطي، فهي عالمية تُلمَس آثارُها حتى في ما وراء المحيط الأطلسي. ولذلك، يجوز لنا التأكيد على أن رينيه حبشي لم يغبْ لحظة عن مساندة لبنان، إنْ في أثناء وجوده على أرضه، أو في أثناء غيابه عنه. فقد عانى لبنان في قضاياه الثقافية والتربوية، وفي قضاياه الوطنية والمصيرية المعاصرة، وعني، في شكل خاص، بما يؤدي إلى ترقِّي الإنسان اللبناني، أفرادًا وجماعات. [...] في مفهوم التضامن المتوسطي، يكمن فضل رينيه حبشي؛ إذ أضفى عليه من شخصانيته ما يفوق كلَّ المحاولات السياسية والاقتصادية والثقافية وسواها لتحقيقه. فمؤلَّفاته التي دارت حول الإنسان الملتزم في شخصانيته المتوسطية واللبنانية والعالمية، جعلتْه يرفض – في حديث له مسجَّل في العام 1983 – القبول بمتوسطية "منغلقة على ذاتها، لا تكون شمولية في منحاها وأهدافها"؛ ذلك أنه "سبق وأحسَّ بنفسه أنه متوسطي مذ كان في مصر"، أي منذ بدء حياته الواعية حتى العام 1953. التزام حبشي الشخصاني هذا أدخله عالم الإنسان المطلق والمتعدد البُعد ليسبر أغواره العميقة والوسيعة في عوالم المعرفة البنَّاءة والأخلاق السليمة والمجانية في العطاء. فهو المفكِّر في "بدايات الخليقة" ونهايات مطافها، حتى يضحي الإنسان في نظره "طبيعة ومجازفة" و"عقلاً وغريزة"، مرتبطين أبدًا بتحقيق مصيره الشخصي. وبدلاً من أن ينقض الجسد يسمو به إلى أعلى مراقيه؛ فإذا هو في الإنسان وسيلة المعرفة والمسلكية الرفيعة، وفيه قنوات الحياة الباطنية والحرية والخلود. ومن ثم، إذا كانت المعرفة اتصالاً إنسانيًّا وتقاربًا اجتماعيًّا، فَمِن غير المحبة يتقلَّص مفهومُ الحقيقة في هذه المعرفة التي تحاول تجسيد الله. [...] بهذا الإيجاز يمكن التعبير عن شخصية رينيه حبشي المنفتحة على الإنسان، عبر تعمقها في خصوصياته وأبعاده الوجودية، فنفهم مدى ارتكاز الفكر المتوسطي الحبشي على الشخصانية التي كانت ملهمته طوال حياته. وندرك عندئذٍ مدى فاعلية تركيزه على "الشخص البشري" في الإشعاع على لبنان والعروبة والمتوسط، بلوغًا إلى الشرق والغرب والعالم قاطبة. ومن هذا المنطلق، نتبيَّن قصد رينيه حبشي بأن فكره المتوسطي تطوَّر مع التاريخ [...]. ففي نظره تقتضي الفلسفة المتوسطية شرطًا جوهريًّا هو الانطلاق من خلال الذات البشرية المصابة بجرح تاريخي لن تشفيه إلا الشخصانية الصميمة في مجالاتها الإنسانية والاجتماعية والدينية. وإذ يحقق ذلك يحقق شخصيته كلُّ "مفكر ذي نبرة متوسطية" يتمسك بـ"عالمية التزامه الشامل ببناء الإنسان – كلِّ إنسان". أما مساهمة رينيه حبشي في التنقيب عن مستقبل الإنسان المتوسطي والعالمي، الحضاري والمصيري، فقد انطلقتْ من تطلعاته إلى طموحات البشرية الحاضرة وتأثير المادية فيها، ليؤكد أن العنصر الروحاني حتمي وأولي، ولا مفرَّ منه لأيِّ إنسان. وعبَّر عن هذا الاقتناع في معظم مؤلَّفاته ومجمل فكره الفلسفي. [...] ***
محطات في السيرة · 1915-1940: في مصر - شهادتا البكالوريا الفرنسية والمصرية - إجازة تعليم في الفلسفة من كلِّية الآداب في غرونوبل (فرنسا) - ماجستير في الفلسفة حول مين دُهْ بيران - دبلوم عازف منفرد على البيانو من المعهد الموسيقي الألماني "برغرون" Bergrun · 1940-1952: أستاذ في الفلسفة في المدارس الثانوية - برنامج البكالوريا الفرنسية - مؤسِّس "المركز الفلسفي بالزمالك" - مِنحة من أكاديمية الحقوق الدولية في لاهاي (هولندا) · 1952-1969: في لبنان - أستاذ الفلسفة في الجامعات: اللبنانية والأمريكية والفرنسية (معهد الآداب العليا، ومعهد الآداب الشرقية لليسوعيين) - قبول دعوة المجلس البريطاني British Council لزيارة أكسفورد وكمبريدج - 1960: أسَّس ونظَّم معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية - 1961-1964: عُيِّن مديرًا معاونًا في مركز اليونسكو للتصميم التربوي في الدول العربية - قبول دعوة الخارجية الأمريكية إلى زيارة جامعات الولايات المتحدة الأمريكية · 1969-1977: في فرنسا - عُيِّنَ مديرًا معاونًا، ثم مديرًا لقسم الفلسفة، في اليونسكو (باريس) - 1972: دافع عن أطروحة دكتوراه دولة في الفلسفة، وموضوعها "متطلبات فلسفة متوسطية" - نظَّم مؤتمرات دولية لليونسكو - أدار وأصْدر وطبع مجموعة مصنَّفات حول: أ. العلوم وتعدد الثقافات (في دار المنشورات الجامعية) ب. تلقِّي الرسالة (منشورات اليونسكو) ت. التسامح، في عدة مباحث (ليون، فرنسا) ث. الثقافات والزمن (دار Payot) ج. الزمن والفلسفات (دار Payot) ح. الزمن والعلوم (بالإنكليزية، Greenaway) خ. مجازفات العقلانية، للمؤلِّف جان لادريير (Aubier) د. علم الأحياء وعلم الأخلاق (منشورات اليونسكو) ذ. البينمناهجية والعلوم الإنسانية (منشورات اليونسكو) · 1977-1983: أستاذ الفلسفة - في باريس Jussieu VII، وفي جامعة بربينيان، ثم في جامعة ديجون - أستاذ مدعو لأربع مرات إلى جامعة لافال في كيبيك (كندا) - أسَّس ونظَّم حلقة دراسية حول الثقافة المتوسطية، كملحق لجامعة بربينيان · 1983-1984: إلقاء محاضرات وإدارة حلقات دراسية في بلجيكا وسويسرا وإيطاليا وفرنسا. *** عن النهار، الخميس 13 شباط 2003
رحيل الفيلسوف رينيه حبشي رؤية متوسِّطية لفلسفة بلا ضفاف
على مفترق الفلسفة الوجودية الراديكالية التي ترفض التعالي في تأكيدها على تناهي الإنسان، واشتراط الوجود بالعدم، والعزلة عن الآخرين، برزتْ إلى الوجود فلسفةٌ وجودية شخصانية، روحانية وأخلاقية، تؤكد على الكائن الإنساني، ككائن روحي–مادي (رحمادي)، هو جميعة synthèse للعقل والروح والجسد.
تمثلت الوجودية الراديكالية، فلسفيًّا، بمارتن هيدغِّر (الوجود هاهنا الآن أو الآنية)،وهي فلسفة تُمَحْوِر الإنسان حول ذاتيته الفردية الخالصة، بمنأى عن الجماعة والآخرين؛ وبوضعية سارتر التي تقدِّم الوجود على الماهية، باعتبار الإنسان محكومًا بالحرية وحرية الإرادة. وإذا كانت الشخصانية في تأكيدها على التعالي تعود في أصولها إلى شارل رينوفييه، صاحب كتاب الشخصانية (1903)، فإن هذه الفلسفة تقترن بكلِّ المقالات والمقولات التي تؤكد على التواصل و"العلاقة" والنشاطية الإنسانية التي تعد الذاتية الإنسانية كذات أخرى، أي ذات غيرية إيثارية، في الإطار الجماعي، الاجتماعي، باعتبار "الشخص" إنسانًا كاملاً، متكاملاً، في وحدة الكون والكينونة، وذلك بدءًا من سقراط الذي دعا إلى معرفة النفس ("اعرف نفسك بنفسك")، مرورًا بالرواقية التي أكدت على الاختيار والإرادة الإنسانية، فالمعتزلة والمرجئة (التي أكدت على الاختيار والضمير الإنساني أيضًا)، فكيركغور، مؤسِّس الوجودية الحديثة، الذي أكد على أولوية الذات على الموضوع، والوجود الذاتي على التصور الكلِّي، وعلى القلق كحافز على المعرفة والزكانة، إلخ. وقد انطرحت الفلسفة الشخصانية في العالم العربي على هامش الوجودية الشخصانية عند فقيد الفلسفة رينيه حبشي، ومحمد عزيز الحبابي، فقيدها السابق. وإذا دعا الحبابي (المغربي) إلى فلسفة شخصانية إسلامية، على غرار شخصانية إيمانويل مونييه التي تؤكد على "جَوَّانية" الشخص الإنساني المتكامل، روحًا وعقلاً وجسدًا، وعلى غرار فلسفة غبرييل مارسيل، التي تعتبر الكينونة علاقة بين الوجود être وملكية الوجود avoir، أي فعالية الكينونة، فإن الفيلسوف رينيه حبشي (المصري، "الشامي" الأصل، اللبناني) يجد في الشخص الفرد وحدةً تقوم على إظهار الذات لذاتها، أولاً، كفرادة متميزة، ومن بعدُ إظهار هذه الذاتية تجاه العالم، والجماعة والآخرين. والفارق بين الفرد والشخص في فلسفة حبشي أن الفرد لا يرى وجود الآخر، كضرورة لوجود الذات، في حين أن الشخص ينظر إلى الآخر باعتباره حاجة ضرورية لكي يمكِّنه من تحقيق ذاته كمبدع للتاريخ. تعددية والجماعة، في نظر حبشي، هي تعددية أشخاص، أي تعددية "الأنيَّات" التي تؤلِّف المجموعة؛ لهذا فالشخص البشري، من حيث هو شخص قائم في ذاته، مدعو إلى أن يتخطَّى ذاته وواقعه لكي يعي ويكتشف واقع جماعته الوجودية. ولا ينادي الفيلسوف حبشي بأولوية الوجود على الماهية، أو بأولوية الماهية على الوجود، بل يعتبرهما دينامية واحدة، في جدلية المادة والفكر. والإنسان، عند حبشي، كائن روحاني، ذو بعد إلهي إنساني؛ وهو مادة ذاته وصانع حريته في انفتاحه على الآخر. وهو، بعكس الحبابي، صاحب الشخصانية الإسلامية، يتبنَّى العلمانية كاختيار فكري وثيق. يُعَدُّ كتاب الفيلسوف حبشي نحو شخصانية متوسطية مشروعه الأكبر؛ وهو كتاب موسوعي، يدعو فيه إلى متوسطية ثقافية، هي الوجه الآخر للمتوسطية السياسية (الفرنكوفونية)، ويطور فيها أطروحاته الشخصانية الآنفة الذكر. وقد لا نوافق المفكر اللبناني المصري العربي، على تمييزه الثنائي بين اللغة الفرنسية، كلغة ثقافية "عالِمة"، وبين اللغة العربية كلغة "معيشة"، لأن لغة الفلسفة متعددة، لاسيما أن الدراساتُ الألسنية اللغوية المعاصرة قد أبطلتِ التمييزَ بين اللغات، ووطدتْ الاختلاف اللغوي كبُعد من أبعاد الفكر، في أولوية الفكر على الفلسفة والمنطق والإيديولوجيا. لا يوافق رينيه حبشي على إعلان "موت الله"، مع نيتشه، لكنه يرى في هذا، مع آخرين، ضمانةً لمعرفة وضعنا الإنساني وحقيقته، في عزلته، دون تعزية. وبهذا تكون مقولة "موت الله" رديفة لموت الإلهية المزيفة، وكحاجة إلى "إله جديد"، ووحي جديد، يكون الإنسان فيه إله نفسه: "أليس في هذا الهدف ما يلهب نشاطنا ويغذِّي حميتنا؟ ويولد نوعًا من الإيمان بالغد وعبادة مقدسة لإنسان المستقبل؟" (حضارتنا على المفترق، منشورات الندوة اللبنانية) دعا رينيه حبشي في كتابه حضارتنا على المفترق، الذي كتبه ردًّا على الهلع والقلق الوجودي في أعقاب أحداث 1958، إلى روحانية ثورية، ليس فيها تناقُض بين الوحي والثورة. وكان يرى في لبنان "رسالة" للتعايش الروحاني، الرحماني، على ضفاف المتوسط، في فلسفة لا ضفاف لها. *** عن السفير، 15/02/2003 |
|
|