الإلـغـاء

إلغَاء عُقوبَة الإعدَام

عندما تنظر العدالة إلى مجرم في حِلْم واسع يصيح الجمهور: "ليُعدَم القاتل!"

 

أنور محمد

 

لا أعتقد أن حُكم الإعدام يردع أو أنه عقوبة "رادعة" لِمَن تسول له نفسُه أن يرتكب جريمة. فثمة محرضات، ثمة إغراءات، تزيِّن للمرء الجريمة، مهما كان نوعها أو شكلها، ولا يحول دونها رادعٌ من أيِّ نوع. ثمة دوافع تتركه يذهب إليها – يذهب إلى الجريمة، إلى حبل مشنقة أو إلى المقصلة.

الكتاب الذي بين يدينا، الإلغاء: إلغاء عقوبة الإعدام[*] للقانوني الفرنسي روبير بادِنتير Robert Badinter يروي قصةَ ذلك النضال الطويل من أجل تحقيق رغبة الشاعر والروائي والمسرحي الفرنسي فيكتور هوغو، صاحب رواية البؤساء ومسرحية هرناني، وأمنيته في الإلغاء الصريح، البسيط والنهائي، لهذه العقوبة – عقوبة الإعدام – التي صادقتْ عليها في الأول من كانون الثاني سنة 2000 سبع وثلاثون دولة أوروبية.

روبير بادِنتير (1928- )

المحامي الفرنسي روبير بادِنتير، مؤلِّف الكتاب، ناضل هو الآخر من أجل إلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا. فبعدما رفض الرئيس جورج پومپيدو (1911-1974) إلغاءَ هذه العقوبة، في أكثر من لقاء وأكثر من ضغط في أكثر من مناسبة، رأى بادِنتير في شخصية الرئيس الجديد فاليري جيسكار ديستان شخصيةً موحية بالتفاؤل: إذ قبل ثلاثة أيام من وفاة جورج پومپيدو، في وقت كان فيه باريس يضج بالمؤتمرات السياسية، صرَّح عندما كان ضيفًا على الغداء بدعوة من مجلة La Revue des deux mondes:

طموحي الحقيقي سوف يكون طموحًا أدبيًّا. وإذا كانت لي قدرة على الكتابة في بعض الأشهر أو في بعض السنوات بما يعادل أعمال موپاسان أو فلوبير فمما لا شكَّ فيه أنني سوف أتحول إلى هذا النوع من العمل بكلِّ سرور.

ويتابع بادِنتير:

كل إنسان حساس للأدب، لفولتير، لهوغو، أو كامو، لا يمكن له، على ما أعتقد، إلا أن يكون نَفورًا من المقصلة. ورئيس الجمهورية، بصفته ليبراليًّا وأوروبيًّا، كما عبَّر عن نفسه، يود أن يمثُل في التاريخ بوصفه أول مَن ألغى عقوبة الموت في آخر ديموقراطية لا تزال تطبِّقها في أوروبا. فقد صرَّح أمام خاصَّته عن عميق نفوره من عقوبة الإعدام.

ثمة قضية شغلت الرأي العام في فرنسا، واستحوذت على فصلين من فصول الكتاب: هي قضية پاتريك هنري، الذي خطف الطفل ذا الثماني سنوات فيليپ برتران، في أواخر كانون الثاني من العام 1976، من أمام مدرسته وطلب من أهله فدية. ونطَّلع على تفاصيل جريمة قتل شنيعة، حيث خنق پاتريك الطفلَ فيليپ في لحظة "ضعف". لكن الشرطة استدلَّت عليه، فاعتقلتْه مدة 48 ساعة. وقد أنكر في التحقيق معه، كما في مقابلة تلفزيونية، التهمةَ الموجَّهةَ إليه بخطف الطفل فيليپ، وطالب بالإعدام لِمَن يقوم بأعمال خطف الأطفال!

المثير أن پاتريك هنري اعترف فيما بعد بخطفه للطفل وقتله، فأودِعَ السجن. ونحن نعرف أن الضمير "الجماعي" للفرنسيين – إذ صارت الجريمة هذه شغلَهم الشاغل – تضامَن مع أهل الطفل فيليپ برتران، وأن الكثير من المحامين رفضوا الدفاع عن المجرم مرتكب فعلة تستحق أكثر من إعدام واحد (خطف الأطفال وقتلهم).

مؤلِّف الكتاب المحامي روبير بادِنتير – كونه من دعاة إلغاء عقوبة الإعدام – تولَّى الدفاع عن پاتريك هنري، و"ناضل" بحذاقته/حماسه كمحامٍ. ونسمع (وكأننا نشاهد فيلمًا ولسنا في قاعة محكمة) رئيس المحكمة ينطق بالحكم: "السجن مع الأشغال الشاقة المؤبدة." يعقِّب المحامي روبير بادِنتير على الحكم يومذاك:

سمعت صرخة. كانت صرخة والدة پاتريك هنري. ورفع، هو، يده إلى شفتيه، وبدا مذهولاً. كان الحفل واقفًا (!) وبعد أن ذكَّر الرئيسُ الجمهورَ بلزوم المحافظة على الهدوء، أضاف: "پاتريك هنري... إن المحكمة قد نظرت إلى دعواك في حِلْم واسع، ونأمل أن تتمكن من عدم تخييب أملها. إننا نعتمد عليك." وتمتم پاتريك هنري قائلاً: "أشكركم... لن تأسفوا على هذا." وهبَّ الصحفيون ليهتفوا بإذاعة النبأ، وفي الخارج تصاعدت الصرخات: "ليُعدَم القاتل! عدالة عفنة!"

يعترف روبير بادِنتير أنه، خوفًا من غضب الفرنسيين الذين حضروا المحاكمة، خرج هو وزوجته والمحامي فرنسوا بينيه من الباب الخلفي للقصر، تحاشيًا لأيِّ طارئ، في سيارة مفوض الشرطة، فيما تبعتْهم سيارةٌ أخرى للشرطة خُلسة تحرسهم وكأنهم، كما يقول روبير،

... من الأشرار. لتنهال فيما بعد مجموعةٌ كبيرة من الرسائل على مكتبي كان الحقد فيها سافرًا. فقد كنت فيها ذاك الذي استبدل – بحيلة شيطانية – دعوى بأخرى... وقد عرض عليَّ محافظُ الشرطة أن يضمن حمايتي، ورفضت العرضَ، ليس تبجحًا، وإنما لشعور منِّي بعدم جدواه. وفي المقابل، اتخذت أنا وزوجتي بعض الاحتياطات الأولية المتعلقة بانتقال أولادي بين البيت والمدرسة. ومن جانبه، فإن بوكيون لم يُوفَّر... وعرفت منه أن بعض المحلَّفين قد تلقوا أيضًا شتائم وتهديدات.

إن الأمر الأساسي قد ترسخ في مكان آخر غير هذه الأحوال الفجائية. فالتساؤل الحقيقي الذي طَرَحَه قرارُ المحكمة كان التساؤل عن نتائجه بالنسبة لإلغاء عقوبة الإعدام. وقد كتب برنار غيتا في le Nouvel Observateur: "ليس پاتريك هنري هو من برَّأه المحلفون، بل هي عقوبة الإعدام التي أدانوها." وعَنْوَنَتْ مجلة le Point: "موت عقوبة الموت". واستنتجت مجلة l’Expresse أنه "بفضل المحلفين في تروا، يمكن الأمل، أكثر من أيِّ وقت مضى، أنه لن يستطاع إثارة رنين الأصداء المحزنة لتلك العدالة".

تتالت بعد ذلك الصيحاتُ مؤيدةً إلغاء عقوبة الإعدام. ففي 23 كانون الثاني 1977، قررت نقابةُ المحامين في فرنسا إطلاق حملة عرائض لصالح الإلغاء المباشر لهذه العقوبة، وكذلك فعلت نقابةُ القضاة والاتحادُ المستقل لنقابات الشرطة.

لكن في 4/1/1981 كتبت جريدة l’Hebdomadaire du Dimanche في صفحتها الأولى، وبحروف كبيرة: "الفرنسيون المؤيدون لعقوبة الإعدام 62%". كما صرَّح جاك شيراك لجريدة le Figaro في 9/3/1981: "إن الأمر يتعلق بمسألة ضمير جماعي لأمَّة يكون من المشروع بشأنها أن تبدي رأيها مباشرة. فلا بدَّ من إجراء نقاش وطني كبير." أما جورج مارشيه، الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي حينذاك، فقال: "يجب إلغاء عقوبة الإعدام وجعل أخطر الجناة عاجزين عن إلحاق الضرر بالمواطنين." بينما قال الرئيس جيسكار ديستان إنه في أثناء حملته الانتخابية لن يجري تنفيذ أي حُكم بالإعدام. أما منافسه فرنسوا ميتران، الذي كان مرشحًا لرئاسة الجمهورية، فقال صراحة: "إنني لست من أنصار عقوبة الإعدام."

وهكذا، حين فاز ميتران بالرئاسة، صار الطريق منذئذٍ، كما يقول روبير بادِنتير، مفتوحًا للإلغاء. وكما هي العادة بعد كلِّ انتخاب تشريعي، فإن رئيس الوزارة پيير موروا أذاع بيانًا عن استقالة حكومته. وعلى الفور حُدِّدَ له القيام بوظائفه، وبقي أن تشكَّل حكومة جديدة، تم تعيين مؤلِّف الكتاب (روبير بادِنتير) فيها وزيرًا للعدل (1981-1986). هو ذا يقول:

وفي حوالى الساعة 23.00، طلبني الرئيس ميتران على الهاتف، وكان صوته عاطفيًّا: "والآن، يا سيد وزير العدل، هل أنت راضٍ؟ وهل إليزابيث مسرورة؟" فشكرته في حرارة – وكنت مضطربًا؛ إذ كان رئيسًا للجمهورية، وأنا بفضله وزير للعدل: فلم يبقَ إلا أن نلغي عقوبة الإعدام.

وهكذا أجرى بادِنتير التصويت في 9 تشرين الأول 1981 على إلغاء العقوبة.

*** *** ***


 

horizontal rule

[*] روبير بادينتير، الإلغاء: إلغاء عقوبة الإعدام، بترجمة المحامي عبد الهادي عباس ومراجعة موريس جلال، مركز الإنماء الحضاري، حلب 2003.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود