نظرة على

خَــطُّ الأفُــق

 

يوسف سامي اليوسف[1]

 

منذ حوالى تسع سنوات، أصدرت الكاتبة أميمة الخش روايةً عنوانها التوق[2]. واليوم، في سنة 2006، هي ذي تنشر روايةً جديدةً عنوانها خط الأفق[3]. كما أن لهذه الكاتبة أعمالاً أدبية سالفة، ولكنْ لا مجال لذكر تلك الأعمال في هذه العجالة الوجيزة[4].

وفي زعمي أن للعنوان دلالةً على مستوى بنية الرواية؛ فهو يلخِّص الفحوى الكلِّي للنص بأسره:

"هنالك، وراء خط الأفق، يولد الزمان... هنالك، حيث النهايات مفتوحة، نعرف الحرية." (ص 23)

"ما وراء [خط الأفق] مفتوح على جميع الاحتمالات." (ص 255)

إذن هذا هو فحوى العنوان وفحوى الرواية بأسرها: "خط الأفق" ليس النهاية، بل هو البداية حصرًا، وذلك لأن كلَّ أفق يفضي بك إلى الأفق الذي يليه. وهذا يعني أن الاندياح، أو الحركة الحرة المفتوحة على اللانهاية، هي سمة من سمات الوجود الكبرى، وأن هذا الزمان الراهن – وهو الشديد الرثاثة والغثاثة – ليس خاتم الأزمان، ولا نهاية التاريخ؛ إذ ما من نهاية لأيِّ شيء، وإنما انفتاح مطلق لا حدود له.

ومع أن المرض أو الكابوس الذي حلَّ بالشخصية المركزية، أعني هبة، إثر انتحار أخيها بشر، هو الموضوع الظاهري للرواية، فإن موضوعها الباطني نصف المضمَر هو الحنين إلى الحرية، وكذلك الأمل الذي لا يسد طريقَه أيما سد. إنها رواية النزوع إلى الحب والفرح والتحرر والولادة من جديد. ومما هو ناصع أن هبة لا تعيش الكابوس وحسب، لا تكابده حتى العياء وكفى، بل لقد صارت هي نفسها رمزًا للكابوس قبل كلِّ شيء. وربما جاز للمرء أن ينظر إلى المشفى الذي تعالَج فيه هبة بوصفه رمزًا للعالم من حيث هو كيان معتل أو مختل؛ ولكن هنالك جنوحًا إلى العافية والشفاء خلف هذا المرض المرير. إنها، إذن، رواية شديدة التفاؤل.

ولعل في الميسور الذهاب إلى أن الشكل الفني للرواية هو شكل الكابوس أو شكل الأزمة؛ ولكنه الكابوس الذي يخفي في ثناياه انفراجًا وتفاؤلاً يمكن للمرء أن يحدسهما في سهولة منذ العنوان. ولقد تطرف هذا التفاؤل حتى بلغ إلى الحدِّ الذي جعله ينكر وجود الموت، وذلك لأن ما نسميه "موتًا" هو تحول وحسب، كما تقول الرواية. وبذلك تتبدى بنيةُ هذا النص التأسيسية في مجملها وكأنها ترسم الأزماتِ الكبرى ابتغاءَ تجاوُزها عبر الذهاب إلى ما وراء الراهن، أو إلى ما وراء خط الأفق المنظور.

إذن، يتألف النص من مثنويات عديدة: كآبة وزهور، كراهية وحب، إخلاص وخيانة، مرض وصحة، فرح وحزن، كرب في نصفها الأول وانفراج في نصفها الثاني، إلخ. ومما يدخل في هذا الباب أن هبة المريضة في مشفى يجعلها تحسسُها الصادق لطبيعة الواقع أكثر سلامةً من أيِّ إنسان غير معتل. ولما كانت هبة مهمومةً بهمِّ الواقع بالدرجة الأولى، فإن الرواية يدشنها أو يؤسِّس بنيتَها موقفٌ سياسي صريح، ولكنه موقف إنساني في الصميم، لأنه معنيٌّ بمصير الإنسان المقهور أو المهزوم أمام قوى الشر والإرهاب، بل أمام جبروت الطواغيت التي لا همَّ لها إلا أن تحيل الحياة إلى كابوس ومرض مريع.

فالعنصر الذي صنع مزية هذه الرواية هو درجة الحساسية العالية التي تؤسس شخصية هبة: فلقد رأت تلك الفتاة واقعَها المختل بعيون مفتوحة، فكان أن أبصرتْ عالم الهول والكابوس واللامعقول وصَلْب الإنسان على صليب من النار؛ مما يجعل هذه الرواية نتاجًا لحساسية ناضجة أُسُّها شعورٌ حادٌّ بالاغتراب عما يعاش تجريبيًّا. وهذا يعني أن الواقع هو الجحيم، وأن الجحيم هو الواقع دون سواه.

ولما كانت هبة منسوجة من المرض والكابوس، وكذلك من الحنين إلى التجاوز نحو الأفضل، وبما أن تلك المرأة تشكل لحمة الرواية وسداتها، بل قلبها النابض حصرًا، فإن الشكل يتطابق مع المضمون تمام التطابق، كما يتوافق الأسلوبُ والمحتوى إلى حدٍّ بعيد. فمما هو واضح أن الشكل والمضمون يتحدان في الشخصية المركزية، أقصد شخصية هبة التي تدور حولها أحداثُ الرواية كما تدور الكواكب حول الشمس. إن الاغتراب والانخلاع والضياع والتشيُّؤ هي المحتوى الصميمي لهذه الرواية؛ وهبة هي تجسيد لهذا المحتوى، في مجمله وفي تفاصيله. إن هبة هي التجسيد العيني لتوتُّر اللامعقول واحتدامه وافتحاله؛ وإن هذا "اللامعقول" هو ما تشرحه الرواية من غلافها الأيمن إلى غلافها الأيسر تقريبًا.

***

وعلى أية حال، يبدأ الانفراج بالولوج إلى مناخ الرواية على نحو تدريجي. فبينما يصر النص على أن يؤكد الخريف بوصفه إطارًا للأحداث في النصف الأول من خط الأفق، فإن ذلك كلَّه يحتجب في نصفها الثاني تمام الاحتجاب، وينزاح الكابوس حتى لا يعود له أي وجود في النهاية، حتى كأن السمة السلبية للأشياء قد امَّحت تمامًا.

تكثر صور الشمس المشرقة في أواخر الرواية، ويكثر ذكرُ الزهور وسلال الورد. وتسرد هبة في إحدى الصفحات الأخيرة تجربةَ ارتقائها لذروة جبل عليها معبد ينال إعجابَها هو ورجاله الأتقياء المبارَكون:

"هؤلاء، يا جدي، أناس نادرون جدًّا، ومن الصعب أن يلتقي المرءُ بأمثالهم، أليس كذلك؟" (ص 425)

إن استرجاع هذه الذكرى وسردها في أواخر الرواية هو أمر له دلالة كبيرة على مستوى البنية. كما تظهر هاهنا حالة عشق لطيف واعد بين هبة ويحيى – وهو من أُهدِيَتْ إليه الرواية حيثما كان له وجود، وذلك بوصفه رمزًا للطيبة والنقاء.

ثم يتحدث النص جهرةً عن محاولة للتخطِّي والخروج من الأزمة:

"[...] علينا أن نتجاوز ما يُرى إلى ما لا يُرى. أن نترك خط الأفق، ونغرق في عوالم ما يليه، وهكذا نعيش حريتنا، ومسؤوليتنا في الوقت ذاته." (ص 390)

والأهم من ذلك كلِّه أن هبة تخرج من المشفى إلى الحب. فالرواية تنتهي تمامًا حين تقول هبة:

"أتعرف، يا يحيى؟ أنت مثل موسيقى باخ، ومثل خطوط اللوحة، فوق اللا، وفوق النَّعَم!" (ص 437)

هذه هي آخر جملة في خط الأفق؛ وهي تختلف عن أول جملة بمقدار مئة وثمانين درجة بالضبط! فبدلاً من تجربة الزواج المخفق، يحل حب ناضجٌ حميم في أواخر الرواية. وهذا كله يعني أن الرواية تريد أن توحي بأن الحب والصوفية هما تعويض يملك المرءُ أن يناله عن واقع مرير.

***

ما أريد أن أشدد عليه قبل سواه أن هذه الرواية نصٌّ إنساني في الصميم. فهي مهمومة بهمِّ واقع اغترابي، وبتحسُّس الذات لهذا الواقع تحسسًا من شأنه أن يعزِّز إنسانية الإنسان. إنها تبث حالةً ترفض فيها النفسُ الحية أن تكون من الفصيلة البقرية التي تأكل التبن والزؤان دون أن تشعر بأية غضاضة. ويلوح لي أن استلاب الإنسان من إنسانيته وتحويله من كائن بشري إلى كائن بقري هو موضوع أثير لدى أميمة الخش؛ إذ إن هذا الأمر الذي اتفقت الفلسفةُ على تسميته باسم "التشيُّؤ" هو المحتوى الصميمي لرواية التوق الآنفة الذكر، كما أنه المضمون الجوهري للرواية الراهنة.

***

ولكن حبذا (1) لو تم تكثيف خط الأفق بعد اختصارها إلى حدٍّ من الحدود المعقولة، وذلك لأن الكثافة سمةٌ لكلِّ نثر متميز أنيق. وحبذا (2) لو تخلصت من بعض الأفكار "المباشرة" المبثوثة فيها هنا وهناك، كما كان الحال في التوق؛ إذ إن النص الأدبي قلما يفكر على نحو مباشر، بل هو يوحي بأفكاره إيحاءً، أو يومئ إليها بواسطة الإشارة. وحبذا (3) لو مازجت الجملةَ السرديةَ أو الفوريةَ بالجملة المنحنية أو الشاعرية المداهِمة أكثر مما فعلت، وذلك لأن الشاعرية للرواية كالملح للطعام – ولكن شريطة أن يتم هذا الأمر دون إفراط قد يشي بالاصطناع؛ فمن شأن هذه السمة أن تُشبِع في المتلقي ذائقتَه اللغوية أو اشتهاءه للكلام الخاطف الأنيس. (وعندي أن أسلوب د. هـ. لورنس، الروائي الإنكليزي المشهور، ولاسيما في قوس قزح، هو نموذج متميز للأسلوب الشعري أو الفني في الرواية.)

ومهما يكن الأمر، فإن خط الأفق جهد كبير بذلتْه الكاتبة أميمة الخش وهي تنقِّب عن ماهية الإنسان المطعونة في الصميم داخل عالم الكابوس والاغتراب. ولهذا فإنها جزمًا صالحة للقراءة والتذوق، فضلاً عن أنها شديدة القدرة على إنتاج المتعة الأدبية، وذلك لأنها انبثقت من روح أصيلة ووجدان صادق حميم.

*** *** ***


[1] كاتب وناقد فلسطيني مقيم في دمشق.

[2] أميمة الخش، التوق، دار الكنوز الأدبية، بيروت ودمشق، 1997.

[3] أميمة الخش، خط الأفق، دار الساقي، بيروت، 2006. (لوحة الغلاف للرسامة سارة شما.)

[4] لأميمة الخش كذلك قصة طويلة بعنوان دعوة إلى الرقص (1991) ورواية ثالثة بعنوان زهرة اللوتس (1993) ومجموعتان قصصيتان هما انعتاق (1995) والرشيم (1999).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود