تأمُّلات على حافة الفجر 1

قراءة في "لا عقيدة أسمى من الحقيقة"

پَريهَان قُمُق

 

ثمَّة كتاباتٌ ترمقنا بنظرات متوقدة، نافذة، عميقة، من غير خداع البتة، فتساهم في بلْوَرَة إدراكات ورؤى معيَّنة. من هذه الكتابات كتابات ديمتري أفييرينوس.

ومقاربةُ ما طَرَحَه الصديق ديمتري في افتتاحية معابر "لا عقيدة أسمى من الحقيقة 2" (تشرين الثاني 2005) تعني بالضرورة العودة إلى الجزء الأول[1] الذي قرأناه قبل سنوات، إنْ لإنعاش ذاكرتنا و/أو لنحاول الإمساك بأسئلة من مثل: ما الذي يريد الكاتبُ الإفصاحَ عنه لقراء معابر اليوم؟ ما علاقة الجزء الثاني بالأول وما الجديد فيه؟ ما هي تداعيات الجزء الثاني بعد مضي زمن ما على نشر الأول؟ وما علاقة الجزأين كليهما بكتابات أخرى متفرقة، تروح حينًا إلى "القيامة"، بكلِّ أسرارها المذهلة، إلى الإيدز والتكهن المستقبلي، إلى "التزامن والغائية" (الذي تزامَن مع حادث كنت تعرضتُ له فتذكرته لحظتئذٍ)، إلى "التسامح"، إلى "الرسالة المفتوحة إلى رجال هذا الزمان"، إلى "نداءات الأعماق" كلِّها، وغيرها؟ – كتابات مترابطة في حذاقة، يكشف كلٌّ منها الآخرَ في موضعه. ثم لِمَ حدَّد النص بجزأين (أو أكثر)؟ أيكون ذلك لعدة اعتبارات حياتية ومجتمعية تتكاثف، أم أن عامل العنوان وحده هو الجامع بينهما؟

قبل محاولة الخوض في بعض الأفكار الداخلية والنبش في تلك الأسئلة – التي سآتي إليها عبر "تأملات" مقبلة سأخصِّصها للأمر – لا بدَّ من الاعتراف بأن قراءة ديمتري تُعَد فخًّا جميلاً بسبب الشعور الضمني الجميل الذي يحرِّكه في المتلقي، وذلك لسلاسة النص وسهولته، كما يبدو للوهلة الأولى، إضافة إلى ما يمنحه – أي النص – من متعة روحية، بما يحمله من إيقاع داخلي عميق، هادئ للغاية، ولتناوُله ثقافة غير استعلائية، بل شديدة التواضع، في بساطة غير تبسيطية وعمق شديد.

ولكن ما إن نلج حقل البهجة، ونروح نشتبك بالنص داخليًّا كي نقوم بتفكيك الأفكار فيه، نجد أننا أمام "ورطة" معرفية حقيقة: فإما أن نكتفي بالبُعد الروحي والجمالي والغبطة الخفية وببعض الأفكار المتناثرة التي تلتمع في أذهاننا كنجمات السماء في ليلنا، وإما أن نروح نتتبع الضوء في حقول معرفية، روحية وفلسفية وعلمية وغيرها، متفرقة في مواضع أخرى، للدخول في عمق جدلها بغية المزيد من تفتح بعض الزهور في حقلَي النفس والعقل، مع وعي لحقيقة هذا التفتح.

إذن يأتي بعد سنوات الجزءُ الثاني[2]. ونلحظ هنا وقوفًا عند التفاصيل وإقلالاً من الرمزية مقارنةً مع الجزء الأول الذي اتسم بالتكثيف في تناوُله خلاصة رؤية تحقُّق الحقيقة. ولكن على الرغم من احتفاظ النص بسلاسة ودفء أسلوبه المعروف كَسِمَة لكتابات ديمتري، نلحظ هذه المرة بروز لهجة أدت بالنص إلى تسارُع إيقاعه. وربما كان مردُّ ذلك إلى التوتر الحياتي الإنساني الحاصل اليوم: فالباحث عن الحقيقة وصاحب الشخصية الروحانية الهادئة، صديق الجميع وملاذ قلقهم، ليس في برج كلاميٍّ عاجي، يحدِّق في لحظاته أو يسبح في مستويات وعيه الخاص، بل هو ابن المجتمع والبيئة الموجوعة، المهددة في إنسانيتها، يتلمس اليوميات ويعيشها بدقائقها، مساهمًا بتوصيفاته الدقيقة في محاولة الخروج بأفكاره من المأزق الحقيقي الذي يتهددنا جميعًا دونما استثناء – فكيف بمنطقتنا الشرق أوسطية التي تعيش أتون الصراع الديني والوجودي منذ آلاف السنين؟! وكيف بجيرانه وأهل مدينته وحيِّه وبيته، المهددين في إنسانيتهم؟!

أعتقد أن بروز لغة خطاب مفهومة، تذعن لإيقاع اليومي، بما في ذلك اللهجة التي تشي بشيء من الحدة المقصودة، يعود إلى الشعور العام لدى المثقفين (ولاسيما أصحاب الخبرة الروحية) بتعاظُم أهمية دورهم اليوم/الحاضر/اللحظة/الآن، في موازنة واقع البشرية الذي يتسم بانزلاقات خطيرة، بكلِّ هذه المظاهر الدموية الصارخة التي تشي بفواجع تهدد الإنسانية والوعي في سيرورة تفتحه؛ ناهيكم عن جملة من الحقائق الفلسفية الروحية التي يطرحها الكاتب في الجزء الثاني والمتعلقة بالخبرات الروحية الفريدة ذاتيًّا والجديرة بالتناول على حدة.

سأتوقف على عجل – على أن أعود إلى بعضها تفصيليًّا في قراءات مقبلة – أمام وقائع غير مجردة وغير خاصة بالفرد أو الذات، إنما مرتبطة بالواقع الذي يعيشه الجميع، بغضِّ النظر عن مستويات خبراتهم الروحية أو الثقافية، مثل: ثقافة الاستهلاك؛ التربية (وهي أهم مَحاور الجدل عالميًّا)؛ اللذة كعقيدة أساسية مستفحلة؛ إيديولوجيا العولمة، بأدواتها الاقتصادية كلها التي تتكرس في وضوح شديد اليوم؛ تفشِّي ثقافة العنف مجتمعيًّا، بغضِّ النظر عن المكان؛ أوهام الدين المتجسد عبر التطرف الديني وطرح أسئلة الدين من حيث الهدف والوسيلة والوظيفة واختلاط بعضها ببعض؛ التوكيد على قيمة الفنانين والأدباء والعلماء والمبدعين، الذي يعني تعاظُم دورهم في حماية إنسانية البشرية وفي استمرارية التفتح من خلالهم؛ تغييب عنصرَي السياسة والاقتصاد تمامًا – وفي هذا توكيد على دور الجماعات المبدعة كأفراد يتعين عليهم الخروجُ من عزلتهم لمساعدة البشر والطبيعة في الانتقال التدريجي الآمِن إلى مستويات وعي أرقى، وربما أيضًا لمواجهة تواطؤ السياسة والاقتصاد اللذين باتا اليوم صاحبَي المفاتيح والعصي السحرية القادرة على إيقاد وإيقاف التطرف والعنف والحروب الدموية ونشر الأمراض إلخ.

صحيح أن الصمت ذروة الحكمة، خصوصًا إذا اتسعت الرؤيا، لكن ثمة صمتًا في حاجة إلى ترجمة فورية: فالكون يتمدد، وعلى اللغة، بتعدد ناطقيها، أن تتمدد هي الأخرى – وإلا ستصير المسافةُ شاسعةً في الصمت السلبي، وإلا سيزداد عددُ صمِّ الفكر وخُرْسِه، ما يعني ازدياد العقائد والأديان، ليس "السماوية" فقط، بل تأليه المال والجسد واللذة، إلى ما هنالك من قطع متناثرة التقطها الإنسان، واكتشف فيها شيئًا ما، فتحولت بين يديه إلى عقيدة ودين، بل إلى ما هو أخطر، في زمن تحكُّم كبريات الشركات عابرة القارات التي تفجِّر الحروب لتبيع الأسلحة، وتنشر الأمراض لتسوِّق منتجاتِها من الأدوية، وتكرس الجنس كي تنشط مافيا الرقيق الأبيض، بكل مستوياتها وأدواتها الفنية والإعلامية والجمالية المحملة بالرموز الثقافية الداخلية الاستعبادية – وذلك كله لزيادة حركة المال بغية نقله إلى جيوب محددة تمامًا.

لذلك يأتي الجزء الثاني من جوهر الأول ذاته، في حواره المعمق حول "الحقيقة" التي لا تحتاج إلى طُرُق ومسارات أو جوازات سفر أو وثائق هوية، فيدخل في جزئه الثاني ممتدًا ومشتبكًا بهموم اليوم وإشكالياته، بعد أن استشرى أحد جزأي العقل على حساب جزئه الآخر، إلى حدِّ تنصيب نفسه إلهًا، وباتت البشرية اليوم مهددة تمامًا بالعيش في هذا الجزء المظلم فقط، أي الوهم – وبدموية لا تضاهى!

ومما يصعِّب الأمر أن الوهم ليس منوطًا فقط بالجهلة والأميين والبسطاء أو أهل الكهوف، بل بسكان الأرض جميعًا، بمستوياتهم المعرفية والثقافية كافة، بما في ذلك الذين يدَّعون المدنية والتحضر، وذلك بحُكم طبيعة العصر الذي نعيشه وبحُكم التقنيات المتطورة التي تساهم هي ذاتها في ترسيخ هذا الوهم في حياتنا: فما تسميات "الزمن المعلوماتي" و"عصر وسائل الإعلام" وما الميديا الحديثة برمتها إلا تكريس خَطِر لـ"ثقافة الوهم" هذه التي ما لم نعِها جيدًا ستزداد حدةُ التطرف والدموية والاستغلال ومص الدماء البشرية، عبر ما تشكِّله من إثارة مذهلة ولما لسرعة إيقاعها من أثر سلبي على الشبكات العصبية الإنسانية.

لبعض الصمت مذاق يصعب تشبيهه بأيِّ مذاق في الطبيعة: فهو ليس حامضًا وليس مرًّا وليس لاذعًا؛ إنه مذاق أمَّة يُذبَح إنسانُها البريء يوميًّا، وهي لاهية، كنعجة عملاقة، بقضم العشب والثغاء المبهم! فمَن ذا سيترجم صمتَها؟ ومَن سيؤرخ له وسط أصوات تدعو إلى مزيد من الموت المجاني وإلى مزيد من ضرب الجدران الإسمنتية بقبضة اليد وسط انتظار معجزات لن تتحقق أبدًا؟!

إن عمر الصمت من عمرنا، لأنه توأم الزَّجْر والترهيب والتقتيل. لذا كان رجائي دومًا الخروج عن الصمت والحديث بفضفضة المعنى أكثر، حتى لا يضيع الراغب في المعرفة في الطريق في غمرة تفكيك عقد الكلام بغية الإمساك بالمعنى الشارد كغزلان البرية. إننا نريد اختراق الغامض بكلِّ أسئلتنا الحرة كي نكتشف المجهول!

كل شيء تحول إلى وقود، بما في ذلك الناس! نلمس ذلك في الفلسفة التي تذوي وترضخ أمام ميكانيكية السوق ومتطلباته. لقد أربكنا بتلات الفلِّ والورد، كما أربكنا السنونوات واليمامات التي تنقر نافذتي كلَّ صباح هاهنا، في المدينة حيث أقيم. أسمعها اليوم تذعن للبكاء وهي تصغي لِلُعبة شركات الدواء في إثارة فيروس أنفلونزا الطيور؛ وها هي ذي تنتظر الذبح فتنسى الغناء!

هل دخلنا في اللامعنى، دون أن يكون هناك من سبيل إلى خروج، إلا من خلال التواطؤ على أنفسنا وعلى الكائنات الجميلة، بل الرائعة، التي تُجاوِرُنا في الأرض من دون قرار منها؟! أم أن الخروج يتم من خلال السياق الفردي وحده؟ هل من خلاص حقيقي داخل هذا الوهم الذي بات يكبر كالديناصور؟!

في منطق الداروِنية الكونية، كمية "الإنسان" في الإنسان تتلاشى تلاشيًا تراجيديًّا. والإنسان لم يعد "حيوانًا ناطقًا": فثقافته إما ثقافة الببغاء، حيث ميكانيكية الأداء، أو ثقافة القردة، حيث العودة التدريجية، الفظة والجاذبة في آن، إلى العصر الحجري، الذي يبدو وكأنه ملاذنا الأخير في هذا الليل الكوني اللامتناهي!

ومن الذاكرة الكونية نجد البدايات ضحكة. لقد ضحكت كثيرًا الحجارةُ عندما أنبتت الأرضُ النبات؛ وضحكت كثيرًا الحجارةُ والنباتاتُ لما ولد الحيوان؛ ومن بعدُ، ضحك الجميع كثيرًا، حجارةً ونباتًا وحيوانات، لما ولد الإنسان. ولكن الإنسان هو مَن ابتكر البكاء، حتى نما وتسلَّق فضاءاتنا. بل لقد بتنا ننتمي إلى جميع أنواع البكاء في هذا العصر! فهل هذه نقمة أم هو موقف إيجابي بمنطق كرما، قانون السببية الكوني؟ أم لعله التعبير عن أن الإنسان وُضِعَ داخل اختبار تجريدي، ليس بغية الوصول إلى حلول موضوعية، بل لكي يستنبط أشكالاً جديدة للنهاية؟

ثمة مسافات بين الليل والنهار. وثمة أيدٍ صغيرة ناعمة وأخرى خشنة. ثمة أيدٍ تصافح، وأخرى تخمش، وأخرى، نادرة جدًّا جدًّا، تبحث لِمَن هم في الظل ممسكةً بشمعة ووردة.

أشياء من ديمتري مسَّتْني في عمق شديد. بعثرتْني ثم أحيتْني. ولئن كانت الغبطة تشربها الكائناتُ كلها من صدر الطبيعة المدرار، فلأننا إخوة في النور، على خصوصية تجربة كلٍّ منَّا، أعيد بكلِّ حرقة ما ردَّدتُه ذات يوم: لتَبُحِ الحقيقةُ بالسرِّ، إذن، وليظنوا ما يظنوا!

وعلى حافة الفجر ثمة بقية...

*** *** ***


[1] للتذكير، فإن الجزء الأول تصدَّر إصدار معابر الثالث على الرابط التالي: http://www.maaber.org/third_issue/editorial.htm.

[2] يجده القارئ على الرابط التالي: http://www.maaber.org/issue_november05/editorial.htm.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود