|
كـاهـن
الـوقـت الوفَاءُ
الدَّائمُ للوجدان الصوفيِّ كلَّما
قرأتُ فؤاد رفقة شاعرًا، خِلْتُه جالسًا في
صومعة تارةً، بين أحضان الطبيعة طورًا،
متأملاً، غارقًا في صمت عميق، يناجي أرقَّ
ثنايا الأعماق كي يغرف منها عذوبةَ القصيدة.
قصيدته التي يرسلها إلى المتلقي مغلَّفةٌ بما
يشبه سحر اللقاء الأول وشغف العبارات الأولى
المتبادَلة بين حبيبين. كأنَّ على قارئه أن
يوافيه إلى شعره بعد أن يكون ألقى عن كاهله
جميعَ أثقال الغضب والعبثية والصراخ؛ كأنَّ
عليه أن يأتي إلى قصيدته مسالِمًا، هادئًا،
وديعًا – أو لعله يخرج على هذه الحال من
قراءته. ذلك أن قصيدته تبدو منبثقة دومًا من
مَواطن السكون، على الرغم مما يعتريها من وجع
وقلق وحزن: هو غالبًا الوجع الخافت، والقلق
الورع، والحزن المتسامي. كأني بفؤاد رفقة
يطوِّع الألم، يروِّضه، يهذِّبه، يحوِّله
لعبةً قدريةً يقبلها في صبر ويجاريها: تحت شمس طريَّة/ على ورق
الياسمين/ أن تغسل العيونُ/ حبَّاتِ المطر،/
وفي غابة الجروح/ أن تُبرِّد القطراتُ/ جُرْحَ
الأسئلة بعضٌ مما يقول رفقة في مجموعته
الشعرية الصادرة تحت عنوان كاهن الوقت[1].
ولِمَ يربط الشاعرُ بين "كهنوت" و"وقت"؟
أتراه شاء إسدالَ نفحة "قدسية" على
الوقت؟! وهل يودُّ، بالتالي، معالجة "الوقت"
– بل معضلة الوقت – بشيء من التأمل والتطهُّر
والصلاة؟! ربما الإيجاب هو الرد على هذين
السؤالين، على الأقل لأن المناخ المخيِّم على
هذه المجموعة أيضًا هو عينه المناخ التأملي
الهادئ الذي أشارت إليه بدايةُ هذا المقال؛
لا بل أكثر: إنه المناخ التأملي، الصوفي،
الزاهد، الشديد التقشف: في قاعة باردة الأبواب/
بلا سراج/ وحيدًا يسهر الشاعر/ حتى مجيء آخر. ويقول في قصيدة أخرى: عيناه نجمتان/ واحدة في
منسك الفكر/ واحدة في منسك الشعر [...]. وليس "زهد" رفقة زهدًا
عاديًّا مألوفًا، بل هو الزهد المتَّسم
ببُعدين مهمَّين يرخيان بثقلهما في قوة على
بنية القصيدة ونسيجها الداخلي: البُعد الأول
والجوهري هو الحضور المحسوس والجليُّ
والمتعمَّد للشعر، بحيث تقطن عبارتا "شعر"
و"شاعر" قصائدَ كثيرة في المجموعة. فحتى
القصيدة، يودُّ رفقة تذكيرَها بالشعر
وبكيانه الشاعر: في خضم الشعر، يهجس بالشعر
والشاعرية، حتى ليكاد يبدو الشعرُ له درعًا
قوية يحتمي بها من قهر ومعاناة وحزن: في ساقية الجرح، ساقية
الشعر [...] في رؤى الحطَّاب/ تبقى
الشمسُ شمسًا/ لا تغيب؟/ إنه العرَّاف،/ وهج
الشعر،/ درويش الدروب [...] وفي عيون الشعراء/
يفرش المرثيات والبُعد الثاني المخيِّم
بظلاله على معظم المجموعة يتمثل في هَجْس
آخر، لكنه ليس بالهَجْس الإيجابي المنجِّي
والمُبَلْسِم الذي أوحاه رفقة في هَجْسه
بالشعر، بل هو الهَجْس المضني والقاهر الخاص
بمعضلة الزمن، بأفول حتميٍّ سيضع نقطةَ
النهاية للأعمار. وكم يبدو الشاعر متعَبًا من
تراكمات الوقت، من آثاره الإلزامية على
الكيان البشري، عمقًا وظاهرًا: الوقت ضبابية الذاكرة/
الوقت غشاوة العين/ الوقت طنين الآذان/ الوقت
شحوب الصوت/ الوقت زيزقة المفاصل/ الوقت رجفة
الكلمات/ الوقت جسد يخربش الجسد. ولعل أكثر ما يترجم هنا ثقلَ
الوقت على الشاعر تكرارُ العبارة الدالَّة
عليه مراتٍ عديدة. وهذه القصيدة ليست وحدها
المرآة التي تعكس مرارة الشعور بالشيخوخة، أو
على الأقل دنوَّها: رغم التجاعيد/ لم يمد
الحصير/ [...] لم يقعد/ يخاف أن يستريح/ فيسقط/
كطائرة من ورق/ عند سكوت الريح. إنه الخوف من دنوِّ الرحيل، من
الغفوة الأخيرة، من الصمت النهائي! لكن، هل
يحاول الشاعر تأقلمًا مع ما يُسمَّى "خريف
العمر"؟ بل هو يحاول ابتداع "بَعْثٍ"
ما من ذاك الخريف، بعثٍ متخيَّل ومنسوج على
نوْل تأملاته وعوالمه الحميمة: متقاعد/ تحت فروع التوت/ [...] لا ساعة في يده/ ولا أجراس،/ لدية
الوقت أن يتأمل/ [...] أن يعيش الوقت:/ ولادته
الثانية. يلبث فؤاد رفقة وفيًّا في
مجموعته هذه لمناخات الطبيعة والريف و"الدروشة"،
توأمًا للبساطة، شأنه شأن شعراء وصوفيين
كُثُر يؤوبون إلى الطبيعة ملاذًا يرتاحون بين
أرجائه ويأنسون به. هو ذا يقول: جرَّتُه الينابيع/
لقمتُه عشبة البراري/ رداؤه الغيم. وفي مكان آخر: من خربته يقرأ النجوم/
تحوُّلاتِ الشجر [...]. وتتداخل في نصِّه عناصرُ
الطبيعة وأشياؤها بواقع الحياة البشرية. ومن
هذا التمازج بين الطبيعة (الورق، الخريف) وبين
الإنسان (الذاكرة، الجسد)، يستعير تحولاتِ
الطبيعة مجازًا لتحوُّل الكائن البشري. فحين
يقول: قبل أوانه/ على سلاسل
الذاكرة/ يتساقط الورق/ هذا الخريف يقصد بالطبع تساقط "أوراق
العمر". وإذا كانت تعبيرات من نحو "أسوار
التجاعيد" و"الشتاء الكبير" و"بلا
سراج نورس الفجر" تجسِّد ذروةَ الحزن على
بهتان العمر وخفوت بريقه، فإن ثمة نورًا آخر
لا يخفت: [...] وفي عينيه/ نجمةُ
الشعر تضيء:/ نجمةُ المصير. هكذا تعبُر نصوصُ فؤاد رفقة
العينَ والوجدانَ مثلما يعبُر السمعَ حداءٌ
شجيٌّ رخيم. *** *** *** عن النهار، السبت 7 آب 2004 [1] صدرت
في منشورات "دار
نلسن"، 2004.
|
|
|