النبيل البارع

دون كيخوته دي لا مانشا[1]

ميغيل دي ثِربانتِس[2]

 

فيرا سافيليفا

 

«إن تخليص العالم من إحدى الحماقات بمساعدة أخرى لهي حماقة أكبر.»

 

هكذا كَتَبَ عن دون كيخوته الكاتبُ الإسباني من القرن السابع عشر، الراهب اليسوعي بالتاثار غارثيا–مورالِس، مؤلِّف كتاب المغامرات العرَّاف الجيبي[3]. ومن المثير للاهتمام أن يعود فضل ولادة أشهر الروايات في عالم الأدب إلى مطلب اجتماعي، حيث يعتبر دارسو إبداع ثِربانتِس أنه اتجه إلى نقد روايات الفروسية بهدف تقديم خدمة طيبة للأدب الوطني والأخلاق. وقد أشار الكاتب نفسه، أكثر من مرة، إلى كراهيته لهذا الفن الذي كان يسخر منه، فكتب في مستهلِّ الجزء الأول: «إن الهدف الأوحد من الكتاب هو تحطيم سلطان روايات الفروسية ومنع انتشارها في المجتمع الراقي وبين الناس البسطاء» و«تدمير البناء المقلقَل لروايات الفروسية، حيث إن الكثيرين يعافونها، مع أن بعض الناس لازالوا يمجِّدونها».

ظهرت رواية الفروسية في فرنسا في القرن الثاني عشر، وسرعان ما غزت أوروبا. ولكنها وصلت إلى إسبانيا متأخرة قليلاً، في بداية القرن السادس عشر، عِبْرَ الترجمات والمحاكاة والحلقات[4]. ولقد عُدَّت كتابةُ حلقات جديدة للروايات الشهيرة أمرًا معقولاً تمامًا إن كان الكاتب قد فارق الحياة (هكذا تمَّت كتابةُ سيرة الفارس أماديس الغالي[5]). أما إنْ كان الكاتب على قيد الحياة فهذا أمر آخر؛ بل حتى في هذه الحالة كانت تظهر رغبةُ استخدام موضوع كتابه عند بعضهم: عندئذٍ كان ينشب النزاع (وهذا ما حدث مع دون كيخوته). هذه الحكايات كلها مطابِقة للواقع، حتى في وقتنا الراهن، حيث يمكن كتابة الحرب والسلم أو ذهب مع الريح على حلقات؛ لكن محاكاة هاري پوتر أمرٌ ممنوع.

شغل الصراعُ ضد تسلط روايات الفروسية في إسبانيا حتى السلطة العليا. وقد حُفِظَتِ الوثيقةُ التي أُرسِلَتْ إلى الملك الإسباني في العام 1555 وجاء فيها:

إن الضرر الذي تسبِّبه قراءةُ الكتب المليئة بالأكاذيب والسخافات، مثل أماديس وما شابهه من الكتب التي ظهرت فيما بعد، على الفتيان والفتيات وسائر القراء الآخرين في أرجاء المملكة بات واضحًا... نرجو من جلالتكم وضع حدٍّ لهذا كلِّه، لكي لا يُقرَأ أي من هذه الكتب ومثيلاتها ولا يعاد طبعُه، والتهديد بالعقوبات القاسية؛ أما في خصوص الكتب الموجودة فلا بدَّ لجلالتكم من جمعها وحرقها.

إن الصراع ضد روايات الفروسية لا يخوضه الكاتب فقط، بل وبطله كذلك. ففي الفصل السادس من الجزء الأول يتم وصف عملية التفتيش التي يقوم بها الكاهن والحلاق وابنة أخيه والخادم في مكتبة دون كيخوته. النساء حاسمات أكثر، ويطلبن إبادة الكتب كلِّها:

كلا! لا ترحموا أيًّا منها – تقول ابنة أخ[6] دون كيخوته – لأنها جميعًا اشتركت في الجريمة. يجب رميها من النافذة إلى الفناء، وتكويمها وإحراقها؛ والأفضل حملها إلى الإسطبل، وإضرام النار فيها هناك، وعندئذٍ لن يزعجنا الدخان حتى.

لكن من المستبعد أن يصل الكاتب إلى الحدود القصوى. فهو يسمِّي الكتب بـ«المعذَّبين الأبرياء». إن مشهد إبادة روايات الفروسية بإضرام النار فيها يُعَد استعارةً مجازيةً لتحقيق المطلب الاجتماعي واقعيًّا:

وفي تلك الليلة ذاتها، بفضل جهود الخادمة، تمَّ حرق الكتب كلها عن بكرة أبيها، سواء ما كان متناثرًا منها في الفناء أو التي ظلَّت في الغرفة. وأغلب الظن أنه قد احترقت معها كذلك تلك التي كان ينبغي وضعها في الأرشيف الأبدي، لكن سوء الطالع وكسل المفتش لم يريدا ذلك.

بل تمَّت كذلك معاقبة غرفة الكتب، حيث «بنوا حائطًا لإخفاء الباب، لكي لا يجدها دون كيخوته عندما يستيقظ»، ثم أعلنوا له أن ساحرًا حمل الغرفة بما فيها من كتب!

ينقسم عالم أبطال الجزء الأول إلى: الذين يحبون روايات الفروسية والذين يسخرون منها، معتقدين بخطورتها. يحاكم صاحب النَّزْل كما يلي:

الحق أنني لا أعرف شيئًا أفضل في الحياة من قراءة هذه الكتب. فهي تجمِّل حياتي، وحياة الآخرين كذلك. ففي أيام الحصاد يتجمَّع هنا عدد كبير من الحصَّادين في أيام الأعياد، ويوجد بينهم دائمًا مَن يُحسِن القراءة، فيتناول واحدًا من هذه الكتب، ونتحلق نحن، أكثر من ثلاثين شخصًا، حوله ونصغي إليه في لذَّة بالغة تنتزع منَّا آلاف الشعرات البيض.

وسط هؤلاء المناهضين لروايات الفروسية والمدافعين عنها، والعارفين بها بلا شك، يعيش ويتجول بطلُنا الذي، بعد قراءته المستمرة لها «من الصبح إلى الليل ومن الليل إلى الصبح»، يفقد عقله، ويقرر أن يصبح فارسًا مهولاً: «لقد ولدت في هذا العصر الحديدي – يقول دون كيخوته – لكي أبعث العصرَ الذهبي»[7].

لكن الحكاية جرت بحيث إن ثِربانتِس الذي فكَّر بأنه لا يفلُّ الحديدَ إلا الحديد، مجبِرًا الجميع على السخرية من «الفارس النحيل الهزيل الغريب الأطوار والمثير للشفقة»، حقق غايتين في آنٍ معًا: عالج معاصريه من المحبة الفصامية تجاه الفروسية المحتضرة كظاهرة اجتماعية، وألهم قراء المستقبل المحبةَ تجاه النمط الفروسي للمشاعر والأفكار. ففي هذه الرواية يتم المزج بين ما يبدو غير قابل للمزج: السخرية والافتتان، الشك المعيشي اليقظ والإيمان بالقدرة الكلِّية للأحلام الرومانسية.

«قصة ولدٍ جافٍّ هزيلٍ شاذٍّ...»

ظهرت فكرة الرواية في إحدى زنزانات سجن إشبيلية عندما كان عمر الكاتب 55 عامًا، وتمَّت طباعة الجزء الأول للكتاب في مطبعة مدريد، وخرج إلى النور بعد سبعة أعوام، في شباط من العام 1605، وحُفِظَتْ سبعُ نسخ من هذه الطبعة الأولى. وكان العنوان الكامل للرواية «النبيل البارع دون كيخوته دي لا مانشا» El ingenioso hidalgo don Quijote de la Mancha.

عادةً، كان يُضاف إلى اسم بطل رواية الفروسية نعت «الذي لا يُقهَر»، «الصنديد»، «المقدام»؛ ونعثر على نعوتٍ كهذه في متن رواية ثِربانتِس. لكنْ في العنوان تم ذكر نعت غير معتاد، تصعب ترجمته. يكتب أ.پ. كراسنوغلازوف، الذي وضع دراسة حديثة عن ثِربانتِس، عن هذا الموضوع ما يلي:

إن كلمة ingenioso يمكن تفسيرها عبر كلمة ingenio – وتعني المقدرة الطبيعية للوعي على تمثُّل ما يمكن إدراكه عن طريق العقل والتفكير في مجالات المعرفة أو العلم أو الاختراعات أو الابتكارات أو الأكاذيب كافة؛ وبالتالي فإن الـingenioso هو الذي يتمتع بـingenio دقيق ومرهف.

ترجم المترجمون الروس هذه الكلمة عدة ترجمات منها: «المَجيد»، «العجيب الفريد»[8]، «الفريد»[9]، « المبتكر البارع»، وأخيرًا، «البارع»[10]. ولقد تم الاحتفاظ بالكلمة الأخيرة في ترجمة ن.م. لُوبيمي للرواية. لكن هذا النعت مطابق لما وَرَدَ في الترجمة الروسية لأوذيسة هوميروس، ويعني، على الأقرب، «خداع العقل»، وليس حيوية التخيل، حيث إن «براعة» دون كيخوته هي شكل من خداع النفس وخبل ناتج عن غزارة الخيال.

البطل الرئيسي: نبيل إسباني ريفي، نبيل فقير ومفلس وعجوز: «نبيل ممَّن في مسلحتهم رمح وترس قديم وبرذون ضامر وكلب سلوقي». كل ما لديه حقيقي، ولكن لا نفع في ذلك كله في الوقت نفسه. وعائلته لا تتَّسم بالبطولة: «بعضهم يؤكِّد أنه كان يحمل لقب «كيخادا» [ترجمته: الفك]، وبعضهم يقول «كيسادا» [فطيرة بالجبن]»، لكنه «اتخذ لنفسه لقب دون كيخوته في نهاية الأمر». الكلمة الأخيرة تُترجَم بـ«درع الفخذ»، وهو من أسلحة الفرسان.

فارس دون فرس أمرٌ غير معقول، لذلك يدعو جوادَه «روثينانتِه» Rocinante؛ وهذه الكلمة كذلك تُعدُّ بدعةً لغوية ماكرة، لأن الكلمة الإسبانية «روثينانتِه» مركَّبة، تتألف من rocin التي تعني «برذون»، وante، أي «فيما سبق»، «من قبل»؛ وبالتالي، فالكلمة تعني: «الجواد الذي كان برذونًا فيما سبق» أو «الجواد الذي يسبق بقية الجياد»[11]. كذلك المنطقة التي يعيش فيها النبيل عبارة عن إقليم ناءٍ مهمل ومقفر من أقاليم وسط إسبانيا، يمتد من تلال طليطلة حتى القمم الثلجية لجبال سييرَّا–نيفادا. في اللغة الأصلية، تعني كلمة la mancha «بقعة»، «لطخة» أو «سِمة»، «علامة»[12].

يرافق دون كيخوته في تجواله فلاحٌ يحمل أسلحته، يطلق على سيده لقبًا غريبًا هو «الفارس الحزين الطلعة»:

لقد أطلقتُ عليك هذا الاسم – يشرح سانشو – لأن لك هذا الشكل المؤسف الذي لم أرَه في أحد من الناس. ربما أضناك العراك، وربما بسبب فقدان أضراسك وأسنانك.[13]

وهكذا سوف أسمَّى من الآن فصاعدًا – يوافق دون كيخوته – وقد قررتُ أن يُرسَم على ترسي – بمجرَّد أن تسنح الفرصة – صورةُ وجه حزين.

ظهر الجزء الثاني في المكتبات في تشرين الثاني من العام 1615 بعنوان مختلف قليلاً عن الجزء الأول: «الجزء الثاني من الفارس البارع دون كيخوته دي لا مانشا»، إذ أحلَّ الكاتب كلمة «الفارس» caballero محلَّ «النبيل» hidalgo. تفصل بين الجزأين عشرة أعوام، لذا ففي العام 2005 لا تحلُّ الذكرى الـ400 للرواية فقط، بل كذلك ذكراها الـ410.

بدلاً من أن يكرِّر الكاتب نفسه ويكمل على نفس المنوال (وكان هذا وحده كافيًا لتحقيق النجاح)، ذهب ثِربانتِس أبعد من ذلك، أو بالحري انعطف، مخالفًا توقعات القراء: فدون كيخوته في الجزء الثاني ليس مجنونًا وأخرق إلى تلك الدرجة، وسانشو ليس بسيطًا بالقدر نفسه؛ وتختفي من الرواية الأقاصيص المسهبة المحشوة فيها. مجبِرًا القارئ على الضحك من أفعال بطله في البداية، يروِّض ثِربانتِس القراءَ ويجبرنا على الإصغاء إلى ما يقوله دون كيخوته: إذا كانت أفعالُه مضحكةً فإن أقواله حكيمة. وتبدأ هيئة الكاتب بالظهور من خلال القناع المضحك للبطل.

في بداية الرواية، كان دون كيخوته قد تجاوز الخمسين، وكان عمر الكاتب، في أثناء كتابة الرواية، أكثر من ذلك بقليل. لا يوجد شك في وجود ما هو ذاتي في الشخصية، سواء من الداخل أو من الخارج. يكتب الكاتب في الاستهلال:

بيد أني لم أقوَ على مخالفة نظام الطبيعة الذي يقضي أن يلد الشيءُ شبهَه. وماذا عسى، إذًا، أن تلد قريحةٌ عقيم فاسدة التهذيب مثل قريحتي، اللهم إلا تاريخ ولد جافٍّ هزيل متخم بأكثر الأفكار شذوذًا وأبعدها عن التوقع.

والكاتب يفخر ببطله أكثر من سخريته منه، ويَكِلُ أمرَه إلى القارئ في ثقة:

وإني وإن لم أكن غير أبٍ زنيم لدون كيخوته – وإن بدوت أباه حقًّا – فلست أريد أن أضرع إليك – أيها القارئ العزيز – أن تغفر لولدي عيوبه أو أن تتغاضى عنها...

لم يخطئ ثِربانتِس: فقد أحب القراءُ من الأمم والأعمار كافة بطلَه الذي أصبح رمزًا، وصارت «الدونكيخوتية» تشير إلى نمط من التفكير وأسلوب حياتي، وإلى نمط نفسي عام في الاختبارات النفسية، وإلى إحدى الخطط الاجتماعية لتطور الحضارة. كتب ف. دوستويفسكي:

في العالم كلِّه لا يوجد مؤلَّف أعمق وأقوى من هذا. هذه هي الكلمة الأخيرة والأسمى للفكر الإنساني. إنها أكثر أنواع السخرية التي يمكن للإنسان التعبير عنها مرارةً. وإذا انتهت الحياة على الأرض، وسُئل البشر هناك، في مكانٍ ما: «ماذا! هل فهمتم حياتكم على الأرض؟ وما الذي استخلصتموه منها؟»، فيمكن للإنسان تقديم دون كيخوته في صمت: «هذه هي خلاصة حياتي، فهل يمكن لكم إدانتي عليها؟»

دولثينيا الغائبة أبدًا

يمكن إيجاز أحداث الرواية كما يلي: ثلاث طلعات[14] للفارس النبيل، ثم موته بعد ذلك. لكن في الرواية توجد 700 شخصية، كما يؤكِّد البحَّاثة؛ وكلها يتماسُّ مع دون كيخوته. ترتبط ستٌّ منها مع البطل الرئيسي في قوة، وهي: ابنة الأخ، الخادمة، القسيس، الحلاَّق، حامل السلاح، وحبيبة القلب. فمنذ الفصل الأول يجري الحديث عن «فتاة فلاحة مليحة الوجه»، هي الدونيا لورنثو، التي لم يدُرْ في خلدها أبدًا أن النبيل العجوز كان يعشقها «في زمنٍ ما». وهي من قرية «توبوسو» الواقعة في إقليم المانشا؛ ويطلق عليها الفارس اسمًا رنَّانًا: «دولثينيا التوبوسية» (وهو مشتق من الكلمة الإسبانية dulce وتعني «الحلوة»). وفي القرن العشرين، وعلى شرف بطلة ثِربانتِس، تم ابتكار عيد سنوي مرح في شهر آب، في قرية توبوسو، لانتخاب «ملكة جمال توبوسو».

ينطق دون كيخوته اسم دولثينيا Dulcinea، ويدعوها «إمبراطورة المانشا»، «جميلة الجميلات»؛ وغالبًا ما يخاطبها بصوتٍ مسموع، سائلاً إياها حمايتَها قبل الانخراط في المعارك أو الوقوع في المحن. وهو يصفها على الشكل التالي:

مفاتنها خارقة: ففيها تتجسد الصفات السحرية، التي لا يمكن تصوُّرها، للجمال، كما يصفها الشعراء في معشوقاتهم: شعرها جدائل من ذهب، وجبينها جنَّات عليين، وحاجباها قوسا قزح، وعيناها شمسان، وخداها وردتان، وشفتاها من المرجان، وأسنانها لؤلؤ، وجِيدها رخامٌ شفاف، وصدرها من المرمر، ويداها من العاج، وبياض بشرتها مثل الثلج...

احكموا بأنفسكم إن كان هذا الوصف رائعًا أم مضحكًا! وعندما يُطلَب من دون كيخوته، برهانًا على فتنتها، أن يريهم صورتَها، «ولو كانت بحجم حبة قمح»، يتملكه الغضب.

في أثناء تجواله، يبعث دون كيخوته رسالة إلى دولثينيا مع سانشو، يعدد فيها مآثره. لكن سانشو الهُمام، لكي يتهرب من المهمة، يختلق حكايةً عن الحبيبة المسحورة. في الجزء الثاني يقرر الدوق إغواء دون كيخوته، ويكلف ألثيدورا الحسناء لعب دور الحبيبة لتفتن النبيل، حتى إن سانشو يحسد سيده. لكن دون كيخوته يُظهِر فطنةً مدهشة إذ يقول:

إن علَّة هذه الفتاة ناتجة، في بساطة، عن الكسل؛ وأفضل دواءٍ لها هو العمل الشريف الدءوب.[15]

فقط في نهاية القسم الثاني ينجز سانشو الأعمال التي من شأنها إزالة السحر عن دولثينيا. لكن اللقاء الذي طال ارتقابه بين دون كيخوته ودولثينيا لم يتم على الرغم من ذلك: في طريق العودة إلى قرية الفارس وحامل السلاح، يطارد صيادون أرنبًا راح يركض، وفجأةً يقول دون كيخوته: «نذير شؤم... لن أرى دولثينيا أبدًا»[16]. لكن سانشو لم يجزع، واتجه إلى صاحب الأرنب بالكلمات التالية[17]:

الحق أنك رجل غريب الأطوار، يا سيدي. لنفترض أن هذا الأرنب البري هو دولثينيا، وأن الكلاب التي تطارده هم السحرة الأوغاد الذين حوَّلوها إلى فلاحة، فهربت، فأمسكتُ بها، فها أنا ذا أضعها بين يديك، وها أنت ذا تمسك بها بين ذراعيك وتداعبها – فأي نذير شؤم في هذا؟ وأي نذير شؤم يمكن أن يُستخلَص منه؟

لكن اللعبة انتهت بالنسبة لدون كيخوته، وليس في مقدور سانشو تغيير شيء، مهما بذل من بِدَع مقنعة: لقد أعاد الأرنب إلى الصيادين برحابة صدر.

وفي الفصل التالي يموت دون كيخوته، ولا يفكر بدولثينيا، وإنما بابنة أخته التي يكتب لصالحها وصية شرط أن تتزوج من رجل «يُعرَف عنه، بعد التمحيص الدقيق، أنه لم يقرأ أبدًا كتب الفروسية»، وفي الحالة المعاكسة «فإنني أحرمها من الميراث».

رواية ثِربانتِس مليئة بقصص: مفرحة وكوميدية وتراجيدية وغرامية. إلا أن دولثينيا الخفية، أكثر الحسناوات ضبابيةً، تزيِّن مجرياتِ الأحداث بوجودها المتمثِّل في غيابها.

دون كيخوته باعتبارها رواية ما بعد حداثوية

ككلِّ رواية عظيمة، تبقى دون كيخوته رواية عصرية وحيَّة دائمًا: في المرحلة الرومانسية كانت تُقرأ كرواية رومانسية، وفي المرحلة الواقعية كانت تُرى كرواية اجتماعية أخلاقية؛ ورأى الرمزيون فيها رموزًا أبدية. وفي مرحلة ما بعد الحداثة يُعثَر فيها على جميع سمات الرواية ما بعد الحداثوية النموذجية؛ وسنشير إلى بعض تلك السمات.

يتأسس طبع البطل الرئيسي على الأقوال الهازلة والفصامية للإدراك الازدواجي[18]. لذا، كلما توغلنا في الرواية تزداد صعوبة تحديد ما إنْ كان دون كيخوته مجنونًا حقًّا. يبدأ الشك في هذا الأمر عند سانشو قبل الجميع؛ وبعد ذلك يحاول البقية كذلك أن يفهموا إلى أية فئة من البشر يمكن نَسْب هذا النبيل الجوال: «إلى فئة العقلاء أم البلهاء؟» لكن مَن يعترف بهذا أولاً سوف تصيبه العدوى ويقف على حافة الجنون. العيش في عالمين كشكل من العيش الپانورامي، أو «الهولوغرامية الروائية»، يشكِّل المثال النموذجي للروائيين المعاصرين، الذي تم إحياؤه منذ 400 سنة.

تتشكل أحداث الرواية الرائعة عبر خلط الكاتب شعره ونثره مع شعر الآخرين ونثرهم، وكذلك عبر حشو النصِّ بالمراسلات والإهداءات المضللة لأبطال الأدباء الآخرين، والموجَّهة إلى دون كيخوته ودولثينيا وسانشو، بل حتى إلى روثينانتِه.

السِّمة المهمة الأخرى هي تلاعُب الكاتب بالقارئ. في هذه الأثناء تنقسم شخصية الكاتب: فهو ثِربانتِس من جهة، ومن جهة أخرى هو شخصية من أسلافه، المؤرخ العربي سيدي حامد بن الأيلي، الذي يمزج ثِربانتِس نصَّه الإسباني مع نص المؤرخ العربي. وفي هذه اللعبة يدخل كذلك الأبطال الذين يصبحون قراءً ومعلِّقين على النصوص المكتوبة عنهم أنفسهم. وعدا عن ذلك، يلتقي سانشو ودون كيخوته بكثير من الناس الذين تعرفوا إليهما من خلال الكتب المكتوبة عن مغامراتهما. هذه الإزاحات الخيالية، النابعة من أفكار الكاتب بهذه الدرجة أو تلك، تخلق تأثير ازدواجية القص. وتعقِّد ذلك كلَّه تلك المحاجَجة الشهيرة مع الكاتب–الدَّعِي الذي ابتكر وكتب ونشر الجزء الثاني المشابه لرواية دون كيخوته (ظهر الكتاب في المكتبات في نهاية صيف/بداية خريف العام 1614، سابقًا كتاب ثِربانتِس بسنة) قبل أن ينهي ثِربانتِس كتابَه الثاني.

يقع هذا الكتاب المزيف بين يدي دون كيخوته نفسه في الفصل 59 من الجزء الثاني، فيعلِّق عليه الفارس ممتعضًا، ويناقشه مع الذين وجد الكتاب في حوزتهم. وفي الفصل 62 يزور دون كيخوته المطبعة ويجادل في موضوع خيانة الناشرين، ويجد نفسه شاهدًا على طباعة ذلك الكتاب المزيف. لكن سخريات ثِربانتِس من الكاتب–اللص تتوقف عند هذه النقطة. وفي الفصل 70 تختلق الحسناء ألثيدورا حلمًا عن زيارة الجحيم، حيث ترى عند أبواب الجحيم اثنَي عشر[19] شيطانًا يلعبون بالكرة مستخدمين مضارب نارية، لكنْ بدلاً من الكرات نجدهم يستخدمون كتبًا؛ وأحد هذه الكتب هو كتاب المدعي الأراغوني عن دون كيخوته، حيث يقول أحد الشياطين عنه: «كتاب سيئ إلى درجة لو أني تعمَّدتُ كتابةَ ما هو أسوأ منه لما استطعت». منصتًا لهذا كلِّه، يلقي دون كيخوته كلمةً رائعةً يفتتحها على النحو التالي: «لا وجود لشخص ثانٍ يماثلني...»[20].

وفي النهاية، بعد موت دون كيخوته، يطلب القسيس من الموثِّق أن يعطيه شهادة بأن الفارس قد توفي لكي لا يفكِّر مؤلِّف آخر بإعادة بعث دون كيخوته زورًا وكذبًا. أما الاحتياط الأخير والضروري فيتخذه الكاتب نفسه الذي يعترف في مستهلِّ الجزء الثاني بأنه مجبر على إماتة بطله «لكي لا يذكره أحدٌ بعد الآن». «يمكن إصلاح كل ما في الحياة باستثناء الموت»، كما يقول دون كيخوته السعيد لحامل سلاحه. وعلى الرغم من ذلك، يجبر الكاتبُ الفارسَ الذي شفي من الجنون على الموت. إن جزع الكاتب هذا، الذي يظهر في وضوح في متن الرواية، كان يمكن اعتباره شكلاً من انفصام الشخصية لو لم يكن وجود الرواية المزيفة، التي لا يهتم بها إلا المتخصصون في أدب ثِربانتِس، واقعةً حقيقية.

غوستاف دوريه: "دون كيخوته يقاتل طاحونة الهواء" (ليثوغرافيا)

إن إزالة الحدود بين الحياة والرواية، كسمة ما بعد حداثوية، تَسِمُ كذلك تفاسير الرواية والأفلام المصنوعة عنها والتصاوير التي تمثِّلها. من بين أشهر المصورين رَسَمَ كلٌّ من غ. دوريه، پ. پيكاسو، وس. دالي الشخصية الرئيسية في ثلاث هيئات مختلفة كليًّا بعضها عن بعض. وتنتصب تماثيل غير عادية للفارس ذي الطلعة الحزينة في مختلف بلدان العالم، ويحمل كثير من الفنادق اسم «دون كيخوته». وحتى في بلدتنا سيميبالاتينسك[21] تم افتتاح مطعم «دون كيخوته» الذي صُمِّم من الداخل كقلعة من القرون الوسطى.

هـ. دومييه: "دون كيخوته وسانشو" (1868)

هونوريه دومييه: "دون كيخوته والبغلة الميتة" (1867)

لكن أحد أكثر المشاريع التي تحمل اسم دون كيخوته إثارة للاهتمام هو الذي تقيمه الآن وكالة الفضاء الأوروبية، حيث يجد «دون كيخوته الكوني» نفسه مضطرًا إلى محاربة أحد الكويكبات. يعتزم مصمِّمو مشروع «دون كيخوته» إرسال جهازين فضائيين إلى كويكبٍ ما خلال 56 عامًا؛ واسم أحد الجهازين هو «سانشو» Sancho والآخر «هيدالغو» Hidalgo. وسوف يطير المسبران سانشو وهيدالغو إلى الكويكب نفسه، لكنْ من طريقين مختلفين، حيث سيبقى سانشو في مدار هذه الكويكب، بينما سيصطدم هيدالغو بهذا الحجر الكوني الهائل. كل شيء سيحدث كما في الرواية: حارب النبيل دون كيخوته دي لا مانشا طواحين الهواء التي ظنَّها مردة عملاقة، بينما كان حامل سلاحه سانشو پانثا يراقب العملية منتحيًا. في الفضاء، سوف يراقب سانشو هذا الانتحار من مسافة آمنة كي لا تصطدم به الشظايا المتطايرة، ثم سيقترب سانشو من «ساحة المعركة» لدراسة التغييرات التي تحدث على الكويكب، بما في ذلك تحوُّل مسار دورانه حول الشمس. وهكذا سوف تتجسد الرواية في الحياة.

سلفادور دالي: "دون كيخوته"

پابلو پيكاسو: "دون كيخوته وسانشو" (1955)

ومن الجهة المعاكسة، فإن سيرة ثِربانتِس الذاتية تُعَد مادةً روائية جديرة حقًّا؛ ولقد كان رحيله عن الحياة في نظرنا محزنًا ومذهلاً. ومع صدور الجزء الثاني لرواية دون كيخوته في العام 1615، أنهى الكاتب روايةً أخرى في الوقت نفسه كان يكتبها إلى جانب دون كيخوته، وقصَّ شعرَه مثل أعضاء أخوية القديس فرنشيسكو [الأسيزي]. ولو كان في زمننا لتأسست شركة دعاية وإعلان بهذا الخصوص، ولتصدَّرت الروايةُ الأخيرة، بلا شك، قائمة المبيعات!

تمثال معاصر لدون كيخوته وتابعه سانشو في إحدى حدائق بروكسيل (ت: د.أ.)

توفي ثِربانتِس في 22 نيسان من العام 1616، ودُفن في الدير الترينيتاري[22] في مدريد، مكشوف الوجه وفق تقاليد الأخوية، مكفَّنًا بالرداء الفرنشيسكاني المصنوع من الجوخ الخشن. أما وصيته فقد ضاعت، وفُقِدَ أثرُ المكان الذي دُفِنَ فيه مؤلِّف دون كيخوته في أثناء عملية ترميم الدير.

دَخَلَ «الأقطع العظيم»[23]، كما يسمُّونه في إسبانيا، في عداد الخالدين، وتُسمَّى روايتُه عن دون كيخوته «الإنجيل الإسباني».

*** *** ***

ترجَمَهَ عن الروسية: هفال يوسف


[1] de la Mancha، التي تُترجم عادة «دي لا مانشا»، وتعني «الذي من مانشا» أو «المانْشي»؛ ولكننا آثرنا تركها كما هي متداولة في الأدبيات العربية. واللاحقة ote، تدلُّ على التحقير وصغر الشأن؛ أما صفة «البارع» فتدل على سعة الحيلة والدهاء والشطارة. ولقد التزمنا ترجمة د. عبد الرحمن بدوي من أجل إجراء المقارنة مع الترجمة الروسية. (المترجم)

[2] نُشِرَ النص في الموقع الالكتروني الكازاخي باللغة الروسية www.книголюб.ru، أي «هواة الكتب» أو «عشاق المطالعة». وهذه الدراسة واحدة من مئة دراسة نقدية لأهم مئة كتاب في تاريخ الأدب العالمي. (م)

[3] «العراف» هنا تأخذ معنى الكاهن المتنبِّئ الذي يدَّعي معرفة إرادة الإله الميثولوجي، ولديه إجابات عن جميع الأسئلة، وكأنه يتناولها من جيبه، حيث يتم التعامل مع نبوءاته كحقائق مطلقة. (م)

[4] الرواية التي تُنشَر في دورية مطبوعة على حلقات متتالية. (م)

[5] نسبةً إلى بلاد الغال. (م)

[6] في الترجمة العربية غلط: فهي تارةً ابنة أخ البطل، وتارةً أخرى ابنة أخته. والكلمة الروسية المستخدَمة تفيد المعنيين؛ ونظرًا لعدم إلمامنا بالإسبانية اضطررنا إلى إبقاء الأمر على ما هو عليه. (م)

[7] في الواقع لا يدَّعي دون كيخوته ذلك، لكنه يتغنَّى بالعصر الذهبي في الفصل الحادي عشر من الجزء الأول، فيقول: «ما أسعد العصر وما أهنأ القرون التي أطلق عليها الأوائل اسم العصر الذهبي، لا لأن هذا المعدن، الغالي القيمة في عصرنا الحديدي هذا...». (م)

[8] الترجمة الحرفية: «لم يسمع بمثله أحد». (م)

[9] حرفيًّا: «الذي لا مثيل له». (م)

[10] المحتال، الماكر، الشاطر، واسع الحيلة. (م)

[11] يختلف تفسير عبد الرحمن بدوي عن هذا التفسير الثاني، حيث يقول إن الكلمة تعني: «أول فرس بين أفراس الدنيا». (م)

[12] في الرواية يُشار إلى أن المكان يقع في سهل مونتيل. ويعتقد د. عبد الرحمن بدوي أن الكاتب يقصد Argamasilla على الأغلب. إلا أن الكاتب يقول في بساطة: «في ناحية من نواحي إقليم المانشا، لا أريد ذكر اسمها». وأعتقد أن المقصود بذلك هو التحقير. (م)

[13] في الترجمة العربية للمرحوم عبد الرحمن بدوي تَرِدُ هكذا: «ذلك أني تأملتك على ضوء هذا المشعل الذي يحمله ذلك الأعرج المسكين، فبدا لي سيادتك فعلاً على أقبح صورة رأيتها منذ عدة سنوات. ولا شك أن هذا مرجعه إما إلى متاعب النضال والعراك أو فقدان أسنانك». الفرق كبير بين الترجمتين العربية والروسية كما نلاحظ. (م)

[14] هذه هي الترجمة الأدق. الاشتقاق من كلمة «طلعة»: فقد طلع دون كيخوته من بيته ثلاث مرات بحثًا عن المغامرات. (م)

[15] في النص الإسباني وردت شعرًا، وهي مترجمة إلى العربية منظومةً كذلك. (م)

[16] تخطئ الكاتبة هنا: فقد قال دون كيخوته هذه العبارة قبل رؤية الأرنب، وذلك عند مدخل القرية حيث كان طفلان يتعاركان، فقال أحدهما للآخر: «لا تعذِّب نفسك كثيرًا يا بربكيو، فإنك لن تراها في حياتك». فقال دون كيخوته: «... معنى ذلك أنني لن أرى دولثينيا في حياتي». (م)

[17] لست أدري حقًّا إن كانت الترجمة الروسية للرواية مختلفة إلى هذه الدرجة عن ترجمتها العربية! ففي الترجمة العربية يتم توجيه الكلام إلى دون كيخوته، وهو ما ينبغي وفق مقتضى سياق المجريات. (م)

[18] أحد أعراض انفصام الشخصية، حيث تتناوب شخصيتان على الظهور في إنسان واحد. (م)

[19] في الترجمة العربية عدد الشياطين عشرة. (م)

[20] من خلال المقارنة نكتشف أن الترجمات تكون أحيانًا شديدة التفارُق: فمثلاً في الترجمة العربية يقول دون كيخوته هنا: «أنا وحدي الذي أحمل هذا الاسم في العالم».

[21] بلدة صغيرة تقع في كازاخستان. (م)

[22] الترينيتارية Trinitarians: «الثالوثيون»، وهم أعضاء رهبنة «الثالوث المقدس» الكاثوليكية التي تأسَّست في أواخر القرن الثاني عشر. كانوا يرون مهمتهم الرئيسة في افتداء المسيحيين الذين يقعون في أسْر المسلمين. عُرِفوا بالزهد وإنكار الملكية، أيًّا كانت، والامتناع عن أكل اللحوم والتعصُّب المتطرف. (م)

[23] «الأقطع» هو الشخص بذراع واحدة. (م)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود