|
عملي أقرب إلى تاريخ الأديان منه إلى الميثولوجيا
أفينيون: يُعتبَر المفكر السوري فراس السواح أحد الباحثين الذين اهتموا بتاريخ الحضارات والأديان، وكذلك بالمفاهيم الميثولوجية في سورية وبلاد الرافدين. وقد أصدر عددًا من الكتب التي أصبحت علامةً فارقةً على درب البحث العربي في هذا المجال.
السواح كان موجودًا في أفينيون خلال عرض جلجامش الذي عمل طويلاً على نصوصه. الشرق الأوسط التقت به هناك، وتحدثت معه عن رأيه في المسرحية وعن أبحاثه الخاصة. ***
بينك وبين جلجامش «قصة حب» طويلة، إذا صحَّ التعبير. هل لك أن تروي لنا بداية هذه القصة والمراحل التي عبرتْها؟ فراس السواح: قصَّتي مع «جلجامش» تعود إلى أكثر من 25 سنة على وجه التقريب. تعرفتُ إلى النصِّ أولاً من خلال ترجمات عربية مبكرة، مثل ترجمة طه باقر، الباحث العراقي المعروف، فلفت نظري النص – وكنت وقتذاك بدأت الانكباب على دراسة نصوص الشرق الأدنى القديم. كان نص جلجامش نصًّا متميزًا، على جانب كبير من الأهمية؛ فتابعت البحث فيه، وبدأت أطلع على الترجمات العالمية له باللغات الأجنبية. نص جلجامش نص عالمي، تُرجِمَ إلى لغات العالم الحية كلِّها تقريبًا: إلى الإنكليزية أكثر من عشر مرات، إذ صدرت الترجمة الأخيرة للباحث أندرو جورج العام الماضي [1999] في بريطانيا. ولأن النص قديم جدًّا وبلغة ميتة فهناك دائمًا اجتهادات في اللغة والمعنى. ومن هنا تتنوع الدراسات والأبحاث، وكذلك وجهات النظر في ما يتعلق بالترجمة والترجمة التفسيرية. وبعدما زاد اطلاعي على الترجمات العالمية، بدأت بإعداد نصي الخاص، فصدر كتابي الأول في العام 1981 تحت عنوان جلجامش، ترجمةً وتقديمًا؛ وكان كتابًا صغيرًا يحتوي على النص فقط وعلى مقدمة صغيرة. ثم وسَّعتُ الدراسة في العام 1987. وبعد ظهور ترجمات عربية وأجنبية جديدة، أعدتُ كتابةَ الكتاب من جديد، فصدر في 350 صفحة في العام 1996.
شاهدنا جلجامش، الإنسان الذي لم يكن يريد أن يموت في عرض مسرحي خلال مهرجان أفينيون. كيف تنظر إلى العرض المسرحي الذي قدَّمه المخرج الفرنسي پاسكال رامبير؟ هل خَدَمَ المخرجُ الملحمةَ في الشكل الذي اعتمده؟ وهل خَدَمَ الشكلَ الذي اعتمدتْه الملحمة؟ ف.س.: الحقيقة أن رامبير قدَّم ساعة من العرض في دمشق [المعهد العالي للفنون المسرحية، ربيع 1998]. أما في أفينيون، فكان العرض مختلفًا إلى حدٍّ كبير. هناك حركة، استعراض، موسيقى... في دمشق، العمل كان هادئًا جدًّا، والحركة كانت بطيئة ومكثفة جدًّا، دون ديكور، دون ملابس، دون إضاءة – عمل عارٍ تمامًا من الناحية المسرحية. ذلك الأسلوب خَدَمَ النصَّ أكثر، في رأيي، وكان المفهوم المسرحي مختلفًا. أحببت العمل الذي قُدِّمَ في دمشق أكثر. قُدِّمَ هذا العمل نفسه في نيويورك [كانون الثاني 1998]؛ وقد تحدثت مع مسرحيين أمريكيين شاهدوا العرض في نيويورك وشاهدوه هنا [أفينيون، 2000]، فأيدوا وجهة نظري. المفهوم الذي قُدِّمَ في نيويورك ودمشق كان أعمق وأكثر جدية بالنسبة للملحمة. ولكن يبقى هذا العرض عرضًا متميزًا، عرضًا من الدرجة الأولى، ينتمي إلى مفهوم الحداثة وما بعد الحداثة في المسرح. وهذا ما لم يعجب معظم المسرحيين في سورية عندما شاهدوا العرض، بينما أعجب كثيرًا من المثقفين والمطلعين والتنويريين الذين يتعاطون مع المسرح في مفهومه المعاصر. لغات ثلاث المخرج اختار أن يستخدم لغاتٍ ثلاث، الإنكليزية والفرنسية والعربية، للكلام على «جلجامش». هل تعتبر هذا المزيج مزيجًا لغويًّا موفقًا؟ ف.س.: إن نصًّا عالميًّا مثل نص ملحمة «جلجامش» يحتمل اللغات الثلاث، ويحتمل هذا النوع من التطعيم بين عدد من اللغات، الذي هدفه إظهار الأصل الشرقي للملحمة. فاستخدامه للُّغة العربية هو من قبيل الإيحاء باللغة الأكادية القديمة، واستخدامه للُّغة الإنكليزية هو للإيحاء بعالمية النص وشموليته وشيوعه في مختلف أنحاء العالم. العمل كان موفقًا فعلاً. وأعتقد أن استخدام نصٍّ عادي حديث باللغات الثلاث لن يكون على الدرجة نفسها من التوفيق. لاحظنا أن هناك نوعًا من الالتزام السياسي: إشارات سياسية اخترقت العرض، يمكن للمُشاهد أن يُسقِطَها على النص الذي وُجِدَ في مدينة نينوى قبل خمسة آلاف سنة... ف.س.: رامبير من المثقفين الغربيين النادرين الملتزمين التزامًا كليًّا بالإنسان وبقضايا الإنسان. كان في القاهرة عندما بدأت الحرب العراقية؛ وخلال إقامته هناك اكتشف نصَّ «جلجامش»، فراح يبحث عن نصٍّ عربي في المنطقة يتفق ومفهومه عن العمل الذي كان يتكون في ذهنه في ذلك الوقت. وكان أن جاء إلى دمشق، فاجتمع بي، وأبلغني أنه اختار نصي من بين النصوص العربية للملحمة. اختياره للنص تعبير عن التزامه بقضية الإنسان بالدرجة الأولى، وبقضية العرب بالدرجة الثانية. اجتماعك برامبير في دمشق جاء بناءً على طلبه. ما هي الأفكار التي تبادلتموها حول الملحمة؟ ف.س.: رامبير من المخرجين الكبار، وهو من أصحاب الرؤى. رؤيته كانت نهائية ومتبلورة حين جاءني، وبالتالي لم أُضِفْ الكثير. أنا لست بمسرحي، وإنْ أكن مغرمًا بالمسرح، وأتابع النشاطات المسرحية في سورية وخارجها. حوارنا كان حوارًا ثقافيًّا وفكريًّا حول النص، حول مفهوم النص ومعناه، وما شابه ذلك. سألته لماذا اختار نصي أنا ولم يخترْ غيره، فقال إنه، أولاً، وجده أقرب النصوص العربية إلى النصِّ الفرنسي والإنكليزي إلى درجة تبلغ حدَّ التطابق الكامل؛ فكان هذا أحد العوامل التي رجَّحتْ اختيارَه لنصي. العامل الثاني كان من خلال استشاراته التي قام بها في المنطقة (فهو يقرأ العربية، لكن ليس جيدًا)؛ وقد وجد النص قويًّا من الناحية اللغوية وقابلاً للتقديم. ما هي مآخذك، من موقعك كعارف بمسالك النص، على هذا العرض؟ وما هي النقاط التي أحببتها؟ ف.س.: يمكن لنا أن نطرح السؤال بشكل آخر؛ فنحن لا نستطيع الحديث عن إيجابيات وسلبيات أو عن «مآخذ». يجب أن ننظر إلى هذا العمل لپاسكال رامبير من خلال مفاهيمه الخاصة، وكعمل ينطلق من الحداثة وما بعد الحداثة. المخرج كان أمينًا لأسلوبه وتقنياته، من خلال مفاهيم مسرحه ومن لفَّ لفَّه. هذا العمل، برأيي، عمل متكامل وعظيم. أنا شخصيًّا أفضل العمل الذي قُدِّمَ في دمشق، ولكن هذه وجهة نظر شخصية جدًّا. لكن من وجهة نظر مفاهيم پاسكال رامبير عن المسرح، من وجهة نظر مفاهيم المسرح الحديث، العرض ممتاز.
النص قُدِّمَ في البرية، كما وَرَدَ في الملحمة، في حقل لعباد الشمس مساحته حوالى ثمانية هكتارات. كيف تفاعلت مع الإخراج الفرنسي للملحمة؟ ف.س.: تقديمه في الهواء الطلق كان فكرة قديمة عندي. أنا عملت إعدادًا مسرحيًّا لـ«جلجامش». ففي آخر كتاب صدر لي عن الملحمة (وهو كتابي الثالث)، أفردت الجزء الأخير منه، الملحق بالكتاب، لإعداد درامي للملحمة، والتزمت فيه النصَّ بأكمله، لكني غيرت في اللغة. حاولت العمل على النص مع المخرج العراقي جواد الأسدي، لكن تصوُّرنا عن النص كان طموحًا جدًّا ويحتاج إلى تمويل كبير لم نستطع العثور عليه حتى الآن. خيارنا كان اعتماد النص الطموح جدًّا، وحتى الآن لم نجد منطقة طبيعية مناسبة، قد تكون سفح جبل وقد تكون شبيهة بالمنطقة التي اختارها پاسكال. لكني اندهشت أول ما وصلت إلى الحقل؛ أدهشني هذا الاختيار، ولم أكن أعرف أننا نستطيع اختيار مكان بهذا القدر من الجمال! النص يعاني من ثغرات كثيرة اعترت ألواح الملحمة؛ وهذه قُدِّمَتْ كما هي في المسرحية. كيف تعاطى السواح مع هذه «الثغرات» في إعداده المسرحي للملحمة؟ ف.س.: أنا لست مع هذه الطريقة في التعاطي مع الثغرات وفي التقديم. پاسكال رامبير قدَّم العمل كاملاً، مع ثغراته كاملة. المُشاهد لا يهمه إذا كان في النص ثغرة أو لا. المهم أن نعمل في الإعداد المسرحي على ردم هذه الثغرات. رامبير كان ملتزمًا إلى حدٍّ كبير بالنص بشكله الأكاديمي. أما أنا، فلكي أتجاوز هذه الثغرات في النصِّ الأكاديمي الذي عملت عليه في ثلاثة كتب، عملت على ملء الفراغات بما يتلاءم مع المعنى، من دون إسقاطات أو آراء شخصية. فالمُشاهد يحتاج إلى نصٍّ متسلسل، وهو ليس طالبًا جالسًا في قاعة بحث وتقدَّم له مادةٌ أكاديمية علمية. عملتَ على أفكار ميثولوجية تعود إلى حضارات قديمة، بينها حضارات ما بين النهرين. وبين كتبك كتاب أثار ضجة كبيرة، هو لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة. هل يمكن القول أيضًا إن هناك قصة حبٍّ طويلة بينك وبين عشتار؟ وكيف تلخِّص لنا رؤيتك لهذه الميثولوجيا وتأثيرها في عالمنا الحالي؟ ف.س.: كتابي هذا قديم في نظري. كتبته بعد كتابي الأول مغامرة العقل الأولى الذي كان دراسة في الميثولوجيا السورية والرافدينية. من هذا الكتاب انطلقتُ إلى كتابة لغز عشتار، وتحدثت فيه عن ثيمة معينة هي ثيمة الإلهة الأم، صورها وتجلِّياتها في الثقافات المشرقية. ثم انطلقتُ من الثقافات المشرقية إلى متوازياتها في الثقافات العالمية، فتتبَّعت تجلِّيات مفهوم الإلهة الأم وتَمَظْهُراته في مختلف ديانات العالم وثقافاته، وقمت بمقارنة شاملة. بعد لغز عشتار، أضحى مجال البحث في نظري أوسع بكثير؛ لم يعد وقفًا على ثيمة ميثولوجية معينة أو على منطقة ثقافية بعينها، بل صار معنيًّا بالفكر الإنساني عمومًا. وقد تجسَّد ذلك في كتابي دين الإنسان، وهو بحث في مفهوم الدين وأصل الدافع الديني في الثقافات العالمية بأكملها. والكتاب محاولة للإجابة عن سؤال: ما هو الدين؟ لماذا يتدين الإنسان؟ ما هي القاعدة الأساسية التي تلتقي عندها جميع أديان العالم، منذ العصر الحجري إلى يومنا هذا؟ هذا ما تابعته فيما بعد. عملي صار أقرب إلى تاريخ الأديان منه إلى الميثولوجيا بمعناها المحدَّد والضيق. وأفضل اليوم أن أسمِّي هذا المصطلح، أي «تاريخ الأديان»، بـ«تاريخ الأفكار» (وهو مصطلح موفق جدًّا ومستعمَل في جامعات العالم اليوم)، لأنني لا أبحث عن الدين في سياقه الشعائري الطقسي، بل أبحث عن الفكر الذي يقدِّمه دين أو معتقد معين، عن رؤيته لما وراء العالم المنظور، لعلاقة الإنسان بالميتافيزياء، وفلسفة الإنسان عن معنى الوجود ومعنى الحياة، وما إلى ذلك. هذا ما أعنيه بتاريخ الأفكار. أنا أنتمي اليوم إلى مجال بات يُطلَق عليه مصطلحٌ جديد في بلدان العالم، هو مصطلح «تاريخ الأفكار». على أيِّ مشروع تعمل اليوم؟ ف.س.: غالبًا ما يقال إنني صاحب «مشروع»! والواقع أنني لست صاحب مشروع على هذه الدرجة من الوضوح والتتابع. أعمالي تتوالد دائمًا بعضها من بعض. هناك بعض الكتَّاب يقولون: لدي مشروع للبحث في موضوع معين، سأخصص له مجلدًا، أو أعمل عليه طوال عدد معيَّن من السنين. هذا الشيء غير موجود عندي. الكتابة عندي تعبير عن مشروعي المعرفي الخاص. فكلما تعمقت في موضوع معين، وقرأت فيه، وتولدت عندي أفكار حوله، أعمد إلى كتابة كتاب لإشراك الآخرين في مشروعي المعرفي الخاص. فإذا كان عندي «مشروع» فهو مشروع معرفي؛ وهو خاص جدًّا، وأحب أن أشرك الآخرين فيه. *** *** *** عن الشرق الأوسط، صيف 2000 |
|
|