الشَّـبـاب الجَّـامـعـي

بين سطوة الانتماءات وتراجُع المنمَّطات

 

عزَّه شرارة بيضون[*]

 

هويَّة الشاب الجامعي اليوم – ملامح الصورة التي يحملها عن ذاته – هل تشبه النموذجَ التقليدي للذكورة؟ هل يعي الشاب الجامعي أن الشابة، زميلتَه الجامعية، لم تعد تتشبَّه بالصورة المحبَّذة لها في مجتمعاتنا؟ هل ينعكس ذلك على الصورة التي يتمنى أن تكون عليها شريكتُه المستقبلية؟ أخيرًا، ما هي مواقفه من المرأة وقضاياها؟ هل إن تبدُّل أحوال المرأة – وهو خير شاهد في أحوال زميلاته على ذلك التبدل – قد جعله أكثر دعمًا لتحرُّرها أم بالعكس؟

هذه أسئلة شغلتْ بعضًا من اهتماماتي البحثية على امتداد السنوات الثلاث الماضية. وما أطلق اهتمامي وتساؤلاتي في هذا الاتجاه أمران:

-       أولهما، ظاهرة "التذبذب" التي يشهدها مجتمعُنا اللبناني تجاه المرأة وقضاياها: ففي طرف أقصى، نجد آراءً منفتحة، متناسبةً مع أحوال النساء اللبنانيات؛ تُقابِلُها، في طرف معاكس، اتجاهاتٌ تمييزية صارخة. ويَسَعُ الملاحظُ رصدَ سياساتٍ وتدابير ومسالك ينتهجها مجتمعُنا ومؤسَّساتُه تؤدي إلى تمكين empowerment المرأة والإعلاء من قدْرها. وهذه تتجاور، دون حرج، مع قوانين وضعية ودينية، مثلاً، تميِّز حيال المرأة تمييزًا وقحًا، بحيث يتعجب الناظرُ إليها عن أية امرأة تتكلَّم، ومن أيِّ زمن تأتي!

-       أما الأمر الثاني فيرتكز، في شقٍّ منه، على ردود فعل الرجال تجاه حركة تحرُّر المرأة في البلدان الصناعية. فهناك نمطان من ردود الفعل: يتمثَّل النمطُ الأول بـ"أزمة في الذكورة"، فيما يتمثَّل الثاني بانفتاح على المرأة وقضاياها.

"أزمة في الذكورة"؟ إن ولوج النساء إلى المجال العام و"استملاكهن" بعض سمات ومواقع وتصرفات كانت تُنسَب إلى الرجال حصرًا أحدثا خللاً في هوية الرجل وصورته عن ذكورته؛ وبعض ذلك ناجم عن تضييق فجوة الاختلافات بين الجنسين. لكن، لماذا يشكِّل التشابه بين الجنسين "أزمة" للرجل؟

يرى بعضُهم أن تراجُع الفروق بين الجنسين يبدو للرجل وكأنه انتقاص من رِفعة مقامه، وذلك لأن "رفعة مقام" الرجل تأسَّست، تاريخيًّا، على دونية المرأة؛ بل إن بعضَهم الآخر يرى أن شعور الرجل بأن المرأة أدنى منه ضروري لفحولته الجنسية! إن أزمة الذكورة تظهر أساسًا – برأي بعضهم – في العنف ضد النساء السائد في المجتمعات المعاصرة؛ وهو من بعض ردود الفعل البائسة واليائسة على تحرُّر المرأة من دونيتها الاجتماعية والنفسية.

ويتمثَّل النمط الثاني من ردود الفعل باستجابة منفتحة جاءت على شكل دعوة طليعة من الرجال كافَّةَ أبناء جنسهم إلى ضرورة التنبُّه لطرح حركة تحرُّر المرأة، والعمل على إعادة مرتجعة ذكورتهم، من أجل كبح المنحى التدميري فيها، وعلى التصالح مع أنوثتهم الداخلية الخاصة والتخلِّي عن الاتجاهات الدفاعية التي حَدَتْ بهم سابقًا إلى كبت الأنوثة في دواخلهم والحطِّ من قدْر النساء، الممثِّلات لأنوثتهم تلك، الماثلة أمامهم في الخارج.

هذا – في تبسيط شديد – الوضع في العالم الصناعي. فكيف تبدو الصورة عندنا؟

حاولت الإجابة عن هذه الأسئلة في دراسة ميدانية، جمَّعتُ معطياتِها في ربيع السنة الماضية، وأقوم بكتابة نتائجها حاليًّا لتصدر في كتاب لاحقًا هذه السنة. هذه الدراسة تمتاز بأنها أُجرِيَتْ على عيِّنة عشوائية من أكثر من 1300 طالب وطالبة من طلاب الجامعات الإحدى عشرة المعترَف بها رسميًّا في لبنان، في مختلف المناطق اللبنانية، ومن مختلف الطوائف المذهبية. أقدِّم لكم صورة مختصرة لبعض النتائج التي حصَّلتُها في هذه الدراسة والتي تجيب عن بعض الأسئلة المطروحة.

انتصارًا للمرأة وقضاياها

الشابة الجامعية ترفض – وإنْ في اعتدال – المعتقداتِ المتعلِّقةَ بأدوار المرأة وبالمسالك المفروضة عليها من أهلها ومن المجتمع. لكن ذلك الرفض لم يبلغ، بعدُ، حدَّ الرفض في شدة. أما الشاب الجامعي فقد بدا في موقع وسطي، حائرًا بين القبول والرفض. وبالمقارنة مع زميلاتهم، فإن الشبان مازالوا "محافظين" أكثر بكثير من الشابات: فهم مازالوا غير قابلين بالمساواة بين المرأة والرجل في مجتمعنا بالدرجة ذاتها التي تطالب بها الشابات؛ وعدم قبولهم ذاك ينسحب على المجالات كافة: البيت، المجال العام، العلاقات بين الرجال والنساء، إلخ. وأقدِّم أمثلة على ذلك في بنود من القياس التي اعتمدت:

-       المجال القانوني العام: لا يمكن تعديل المواد الظالمة بحق المرأة في قانون الأحوال الشخصية لأن هذه القوانين صادرة عن "إرادة سماوية".

-       المجال الأسري: أجدى للمرأة أن تبقى في البيت لرعاية أولادها من أن تعمل خارجه.

-       العلاقات القائمة بين المرأة والرجل: فحولة الرجل الجنسية تستدعي أن تكون شريكتُه أقل منه شأنًا.

الشبان والشابات (الطلاب والطالبات من الجامعات) يختلفون في ما بينهم اختلافًا كبيرًا حول المعتقدات السائدة التي تصف أحوالَ المرأة أو توصِّف أدوارَها ووجوه سلوكها، إنْ في العلاقة التي تجمعهما معًا، أو في تصوُّرهما لأدوار المرأة وإمكاناتها في العلم والعمل والسياسة، أو في القوانين التي تنظِّم الحياةَ الأسرية.

الشباب ليس جبهة واحدة

لكن لا الشبان ولا الشابات هم جبهة واحدة موحَّدة في مواقفهم حيال المرأة وقضاياها. فهم قد اختلفوا في ما بينهم تبعًا لبعض المتغيِّرات التي دَرَسْنا:

-       المسيحيون، إجمالاً، أقل قبولاً من المسلمين بالأدوار والتوصيفات التقليدية للنساء.

-       ومن المسيحيين فإن التابعين للكنيسة الكاثوليكية أقل قبولاً وأكثر رفضًا لها من المسيحيين غير الكاثوليك.

-       ومن المسلمين يبرز الدروز على أنهم الأقل قبولاً بها من السنَّة والشيعة.

-       السنَّة والشيعة متقاربون جدًّا في الدرجة التي يدعمون فيها المرأة وقضاياها. لكن الدروز يقتربون في رفضهم المعتقدات والأفكار التقليدية حول المرأة من المسيحيين.

لا يختلف الشبان والشابات كثيرًا في مواقفهم حيال المرأة وقضاياها بحسب انتماءاتهم الثقافية–الاجتماعية. لكن الشابات والشبان أبناء المرأة العاملة في مهنة خارج المنزل أكثر دعمًا للمرأة وقضاياها وأقل تمسُّكًا بالمعتقدات التقليدية حول أدوارها المنزلية والعامة.

هذا وتشير الدراسات الغربية إلى تأثُّر الشاب والشابة بنمط الاختصاص في الدراسة (حيث إن ذوي الاختصاصات الإنسانية والاجتماعية هم أكثر ليبرالية وأقل تمسكًا بالتقاليد والمعتقدات التقليدية). لكن نتائجنا نحن لا تدل على ذلك: الشبان من كلا نمطَي الاختصاصات متشابهون؛ والشابات من الاختصاصات العلمية أكثر رفضًا لتلك التقاليد.

أخيرًا، فإن الطلاب من الجامعة اللبنانية (وهم يشكلون أكثر من نصف العيِّنة المدروسة) أقل دعمًا للمرأة وقضاياها وأكثر تبنِّيًا للمعتقدات التقليدية في شأنها من الطلاب في الجامعات اللبنانية الأخرى – والأمر عينه يصحُّ على الطالبات!

رفضًا للتنميط

ربع الشبان وربع الشابات فقط يلتزمون بالصورة النموذجية لبني جنسهم. الشبان المنمَّطون ينسبون إلى ذواتهم سماتٍ محبَّذة في مجتمعنا للرجال ويستبعدون عنها السمات الأنثوية. والشابات المنمَّطات، من جهتهن، ينسبن إلى ذواتهن سمات أنثوية ويستبعدن عنها السماتِ الذكرية. هذه الفئة المنمَّطة من الشبان والشابات ليسوا الأكثرية بين الشباب الجامعي؛ فالأكثرية، على العكس من ذلك، ليست منمَّطة. لكن تجاوُز التنميط لدى الشبان يختلف قليلاً عن تجاوُزه لدى الشابات: الشابات أكثر ميلاً إلى تبنِّي سمات الذكورة، فيما الشبان أكثر ميلاً إلى رفض سمات الذكورة والأنوثة معًا. لكن ما يتَّصف به الاثنان يمكن اختصاره هكذا: السمات الأنثوية غير ملائمة لوصف الشبان والشابات الجامعيين. لكأننا أمام ظاهرة هجران الأنوثة وتثبيت للذكورة لدى الجنسين! أتساءل: لماذا نجد تثبيتًا للذكورة وهجرانًا للأنوثة بين الشباب الجامعي اللبناني؟

لنلقِ معًا نظرةً قريبة على هذه السمات – وهي كان الشبان والشابات أنفسهم قد اختاروها للأنوثة والذكورة. (وللتذكير، فإن الذكورة، في هذه الدراسة، ليست عكس الأنوثة، ولا الأنوثة هي عكس الذكورة.)

تتمحور سمات الأنوثة حول الحَضْن (الحنان، محبة الأطفال، التضحية، التفهم، العاطفية) والعلائقية (التسامح، سعة الصدر، اللطف، الإخلاص)؛ وبعض هذه السمات يضع الشخص في موقع متلقٍّ (هدوء، قناعة، محافَظة على التقاليد، تواضُع، وغيرها من سمات تحمل معاني أخلاقية). أما سمات الذكورة فهي إما ذهنية (قدرة على تحليل الأمور، تنظيم في التفكير، ذكاء، إبداع، فصاحة)، وإما ناشطة (شَجاعة، طُموح، قوة، قدرة على المواجهة، استعداد للنجدة، تحدي المشقات)، وإما تنمُّ عن موقع الشخص المسؤول (إنتاجية، تحمُّل المسؤولية).

تبدو السمات الأنثوية ملائمة في المجال الأسري الخاص والعلائقي، فيما تكتسب السماتُ الذكرية أهميتَها في وضعيات تفترض وسيلية وفاعلية في المجال "العام". كذلك، تحمل السمات الأنثوية وشيًا أخلاقيًّا أكثر من سمات الذكورة، فيما تنطوي الذكورة، بدرجة أكبر، على دلالات سلوكية إجرائية وتحيل المتأمِّل فيها إلى وضعيات عيانية ملموسة.

لعل استبعاد الشباب، نساءً ورجالاً، لسمات الأنوثة أو هجرانهم إياها يشير إلى أن الأنوثة، كما وصفنا، غير صالحة لوصف صورة الذات عند شبابنا. وإننا نشهد قطيعة متزايدة بين صورة الذات والنموذج الأنثوي، على الرغم من أنهم كانوا هم قد وصفوه على أنه النموذج المرغوب اجتماعيًّا.

الشريكة والشريك

أستعرض معكم، أيضًا، بعض نتائج دراسة استطلاعية قمت بها في ربيع 2003، تمهيدًا لدراستي الحالية، على 164 طالبة وطالبًا من الجامعة اللبنانية (كلِّيتي الآداب والعلوم)، الفرع الأول.

ينحو الشاب في الجامعة اللبنانية، وفقًا للدراسة المذكورة، إلى إسباغ سماتٍ أنثوية على شريكته المستقبلية بدرجة تفوق ما تسبغه الشابةُ الجامعية على ذاتها. أهم هذه السمات سمتا "الجمال" و"الجاذبية" – وهو في ذلك لا يشذ عن الرجال في العالم أجمع! إذ إن رغبة الرجال في امرأة جميلة وجذابة من الرغبات الأكثر ثباتًا في الدراسات الغربية وسائر البلدان الأخرى. هذا الثبات يبدو وكأنه يجعل هاتين السمتين ضرورتين لحفظ النوع البشري وتطوُّره، ربما بسبب ارتباط الجمال بالصبا، وارتباط الصبا بالإنجاب–حفظ النوع. واللافت أن الشبان والشابات لا يجدون أنفسهم على درجة عالية من الجمال والجاذبية!

هذا، ويتوقع الشاب أن تكون شريكته "بريئة" و"مطيعة"؛ وزميلته ترى نفسها كذلك. لكن الشاب يحمل صورة عن ذاته أقل براءة من الاثنتين معًا، الشريكة والزميلة. هذه الصفة ليست، على كلِّ حال، مرغوبةً في مجتمعنا للرجال؛ فيكون الشاب، بذلك، متماهيًا مع النموذج الذكري. لكن الحال مع "الطاعة" مختلف: فالشاب يطلب الطاعة لدى الشريكة أكثر مما هي مطيعة؛ بل إنها مثل الشاب تمامًا، لأن الطاعة من سماتها الأقل وصفًا لشخصيتها. والطاعة، تمامًا كالبراءة، مرغوبة للنساء دون الرجال. لكن الشبان والشابات استبعدوا هذه الصفة عنهم.

هذا المعيار المزدوج يتجلَّى في سمات أخرى: المحافَظة على التقاليد، التديُّن، الصراحة، والتمسك بالأخلاق؛ وهذه جميعًا مطلوبة من الشريكة بقدر ما تتحلَّى الشابةُ بها، لكن أكثر بكثير مما يتحلَّى الشاب بها.

والشابة تحب المغامرة، وهي مستعدة للمخاطرة أكثر مما يرغب الشاب بكونها كذلك. لماذا؟ هل لأن هاتين السمتين – "حب المغامرة" و"الاستعداد للمخاطرة" – تحملان وشيًا جنسانيًّا يجعلهما على تعارُض مع رغبة الشاب العارمة بـ"براءة" شريكته؟

والشابة تعزو لذاتها "حب المنافسة" و"الشعور بالتفوُّق". لكن الشاب يفضِّل ألا تتصف شريكتُه بهاتين الصفتين. لماذا؟ هل تثير هاتان السمتان تهديدًا لرفعة مقامه على جنس الإناث؟ هل يشعر الشاب بتهديدٍ ما إذا كانت شريكتُه تحب المنافسة وتشعر بالتفوُّق؟ لا أعتقد أننا نبالغ إذا أجبنا بنعم، وذلك قياسًا على ما ذكرتُ من ردود فعل بعض الرجال الغربيين على تحرُّر المرأة من دونيتها.

ومن السمات المثيرة للاهتمام التي استبعدها الشاب عن شريكته "الاعتماد على الذات" و"الاستقلالية"، وذلك بعكس ما ترى هي ذاتها. فلعل الاستقلالية والاعتماد على الذات يسلبان الصورةَ الأكثر ثباتًا عن المرأة – نقصد "تبعيَّتها" لرجل ما – وهو الشريك في هذه الحالة. فلا فائدة تُرجى لا من استقلالية ولا من اعتماد على الذات لدى الكلام على تفضيلٍ لسمات الشريكة. فماذا عن الشريك الذي ترغب الشابةُ الجامعية فيه؟

شريك الشابة الجامعية المستقبلي أكثر ذكورة من صورة الذات التي يحملها زملاؤها عن ذواتهم؛ ويبدو هؤلاء "مقصِّرين" عن اللحاق بمتطلبات الشابة "الجامحة". فلا نجد سمةً واحدةً يتحلَّى بها الشاب الجامعي بدرجة أكبر من الدرجة التي حددتْها الشابةُ لشريكها المستقبلي! فهي ترغب في شريك "كامل الأوصاف" جميعًا: فهو شجاع، قادر على المواجهة، قوي، واثق من نفسه، يتحدى المشقات والضغوط، قادر على اتخاذ القرار، قادر على الاحتمال، أي مقدام، بل جَسور، أكثر بكثير (إحصائيًّا) مما ينسب من الإقدام إلى ذاته. ثم إنها تعزو إليه الذكاء، الإبداع، التنظيم في التفكير، الفصاحة في التعبير، إلخ – وكلها سمات ذهنية عالية لا يدَّعي الشاب أنه يمتلكها بالدرجة المطلوبة.

هذا وعلى الرغم من أن الشابة تحضِّر ذاتَها لتعمل ولأن تستقل ماديًّا، لكنها (ككلِّ النساء في العالم!) ترغب في شريك مستقل، يتحمل المسؤولية، يعتمد على ذاته؛ أي يتصف بجميع الشروط التي تجعل منه، بحسب الدراسات المعنيَّة، معيلاً تمامًا. فهذه أيضًا سمة ترغب فيها نساء العالم أجمع في شريكها. والشاب في دراستنا لا يجد نفسه مستقلاً ولا معتمدًا على ذاته بالدرجة نفسها.

ولا تحبِّذ الشابةُ أن يكون شريكُها عدوانيًّا أو مسيطرًا، أو حتى مستعدًا للمخاطرة (وكلُّها سمات مرغوبة للرجل دون المرأة)؛ كما لا ترغب في أن يتحلَّى بالطاعة ولا بالحساسية ولا بالحياء ولا بالاعتراف بالضعف (وكلُّها سمات مرغوبة للمرأة دون الرجل). وجميع هذه الصفات تصفه قليلاً. ويبدو وكأن الاثنين متفقان على أن الشطط غير مرغوب فيه؛ وهما يستبعدان عن الشريك، في حدَّة، تلك السماتِ المرفوضةَ اجتماعيًّا لجنسه.

هذه نتائج التحليل الوصفي لدراستي حول الشريك الأمثل لطلاب عيِّنة غير ممثِّلة لطلاب الجامعة اللبنانية. وسوف يقدِّم تحليلُ نتائج دراستي الجديدة صورةً أشمل وأكثر تفصيلاً لأثر الانتماءات المختلفة على ذلك الاختيار.

تلخيصًا

الشبان والشابات الجامعيون لا يشبهون الصورةَ النموذجية الملائمة لجنسهم. فكأن الواحد منهم يعلن، بذلك، ما يأتي: أنا أعرف أن الصفة كذا وكذا مناسبة لوصفي، لأنني رجل أو بصفتي امرأة، بحسب الحالة، لكنها، على كلِّ حال، لا تتلاءم مع مَن أنا فعلاً.

لكن طلاب الجامعة اللبنانية لا مانع لديهم، في المقابل، من "تنميط" شركائهم. فنسبة الشبان الذين يرغبون في شريكة "أنثوية" أكثر بكثير من نسبة زميلاتهم الشابات الأنثويات؛ ونسبة الشبان "كاملي الأوصاف" أقل بكثير من نسبة الشركاء الذين ترغب فيهم الشابة. على أن ميل الشباب الجامعي إلى تجاوُز المنمَّطات الملائمة لجنسه أو إلى تنميط شريكته لا يرتبط ارتباطًا ذا دلالة بموقفه من المرأة وقضاياها. هذه المسألة تبقى، كما ذكرت، مرتبطة بانتماءاته: انتمائه الجنسي وانتمائه المذهبي، بالدرجة الأولى، وبحسب الجامعة التي ينتمي إليها، بدرجة ثانية.

... وتعليقًا

أنتم، الشباب الجامعي، بحسب الباحثين، الفئة الحاملة للتغيير الاجتماعي. فالجامعة هي المحيط الأمثل للتحرر من سطوة المنمَّطات والانتماءات الأولية. الجامعة مختبر حرٌّ للتجريب. وتسامُحُ أجوائها امتياز لكم، لأنه يوفِّر لكم فرصةَ التهميش الإيجابي المرحلي. هذا التهميش هو فسحة زمنية واجتماعية ينبغي الاستفادة منها من أجل إعادة الفحص عن المنمَّطات والأفكار والمعتقدات السائدة. ولعلَّ هذا ما نلمس حدوثَه بخصوص صورة الذات.

لكن اصطفاف الشباب الجامعي بالنسبة لمسألة مهمَّة في حياتنا المعاصرة، هي قضية المرأة – أقول: إن اصطفاف الشباب بحسب انتماءاتهم الأولية (جنسهم ومذاهبهم) أساسًا إنما يشير إلى أن الجامعة لم تكن، ربما، الحيِّز المحرِّك للتغيير المرتجى. وهذا، للأسف، يصح على الجامعة اللبنانية خاصةً أكثر من غيرها. هذه نتيجة أتمنى أن تكون مثارًا لتأمُّلكم في أحوالكم، أنتم طلاب الجامعة اللبنانية وطالباتها.

أودُّ أن أعبِّر، أيضًا، عن أسفي على ما دعوتُه بـ"هجران" الشبان والشابات، سواء بسواء، للسمات الأنثوية. ذلك لأنني أثمِّن الصفات التي تنطوي عليها الأنوثة، ولاسيما أنها لن تكون على حساب ثبات سمات الذكورة. فكما أننا محتاجون إلى السمات الذكرية الإيجابية جميعًا، فنحن محتاجون أيضًا، في أيامنا العنيفة هذه، إلى التعاطُف مع الآخر وقبوله وإعلاء العلاقة مع الآخرين على التنافس معهم – وكلُّها سمات تُنسَبُ إلى المرأة في مجتمعنا.

وإذا ما فُعِّلَتْ هذه الصفات "الأنثوية" في المجالات العامة، في العلم والعمل والسياسة، لا في المجالات الأسرية والشخصية فقط – أقول: إذا ما فُعِّلَتْ هذه الصفات، فهي تضفي بُعدًا ثمينًا على التفاعل الاجتماعي.

إن طليعة الحركات المناهضة للحرب على العراق في الولايات المتحدة، مثلاً، هي من النساء، وأيضًا من الرجال الرافضين للذكورة العدوانية التي يسوِّق لها جورج دبليو بوش وأشباهُه من المحافظين الجُدُد. الرجال والنساء المناهضون للحرب ينادون بأن يقوم الرجال الأمريكيون بنبذ ذكورتهم التدميرية، وبإعادة الاعتبار إلى أنوثتهم، لتبنِّي اتجاهات أكثر رفقًا بالطبيعة وأكثر حَضْنًا للبشر من كلِّ لون ونوع ومن كلِّ دين وقومية. أدعوكم إلى التأمُّل في هذه النتيجة.

وأتمنَّى أن تتأمَّلوا أيضًا في أسباب هجرانكم للأنوثة. ألا تجدون معي أن "استعادتها" وتفعيلها في المجال العام عونٌ لنا على تحقيق السِّلم الأهلي؟ أليس السِّلم الأهلي، في أيامنا المضطربة هذه، عزيزًا علينا جميعًا؟!

*** *** ***

 

الـجـمـهـور

ذاك كان نص محاضرة أُلقِيَتْ على جمهور من طلاب الجامعة اللبنانية، بدعوة من المجموعة الطلابية "نحن"، وذلك في كلية الآداب – الفرع الأول، في 19/1/2006. وقد جاءت استجابةُ الطلاب والحضور لها بتساؤلات وتعليقات، ضاق الوقتُ بكثرتها؛ وهي تنمُّ عن هواجسهم ومعتقداتهم الخاصة حول الموضوع، عمومًا، وحول ما طرحتْه المحاضِرةُ من مسائل، بدرجة لاحقة. وقد تمحورت هذه التعليقات وتلك الأسئلة حول مسألتين أساسيتين:

1.     الارتداد الضمني والمتكرِّر إلى التعريف الحدْسي للذكورة والأنوثة، بصفتهما مركِّبين constructs متعارضين لا يمكن أن يبرز واحدهما إلا على حساب تراجُع الآخر (بعكس التعريف المعتمَد في الدراسة الميدانية المعروضة).

2.     الانشغال بالدعوة إلى وجوب العمل على "تصحيح" ما آلت إليه الأمور (وفقًا للدراسة الميدانية المذكورة) برجوع الشبان والشابات إلى نموذج متخيَّل ينبغي أن تكون عليه هويةُ كلٍّ منهما. وما ينبغي أن تكون عليه يتمثَّل في وقوع هاتين الهويتين في قطبين متضادَين متكاملَين ومختلفَين، بعكس ما تشكَّلتْ عليه هويَّاتُ الأكثرية واقعًا.

وقد اتفق الحاضرون على عقد طاولة مستديرة (أو أكثر) لاستكمال النقاش والتعليق على المسائل التي طرحتْها المحاضِرة.

***

عن النهار، الاثنين 30 كانون الثاني 2006


 

horizontal rule

[*] أستاذة جامعية.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود