|
إضاءات
شكَّل الغرب
– في تسميته القديمة: روما – هاجسًا قوي
التأثير في ثقافة منطقتنا. فقد ذُكِرَت روما
في شخص إمبراطورها في الإنجيل ("أدوا لقيصر
ما لقيصر" – متى 22: 21)، وذُكِرَت روما (بيزنطة)
باسمها العلني في القرآن ("غُلِبَتِ الرومُ
في أدنى الأرض..." – سورة الروم 2-3)، وكذلك
ذُكِرَ ملوكُ مصر ("فرعون") في التوراة
والقرآن كرموز تدل على الاستبداد والطغيان
آنذاك. الانقلابات
السياسية والعسكرية التي حصلتْ في الديانات
واستيلاءُ الثقافة العسكرية على العقل
الإيماني بسبب الصراع التاريخي والعقائدي
للأرباب، في الدين الإسلامي خاصةً الذي نمَّط
السلوكَ الديني كسلوك مواجهة وتصدٍّ لأعداء
الله (الملحدين، أهل الكتاب، بحسب التعبير
القرآني: النصارى واليهود، أهل الأصنام،
المشركين، والخارجين عن الملَّة والدين، أهل
البدع والفتن من المذاهب الأخرى، المرتدِّين
عن الدين، العاصين في عدم تطبيقهم الشريعةَ
المقدسة، إلخ) ومحاربة لأية رؤية أو اعتقاد
يخرج عن الشكل الذي يؤمن به العسكرُ
المتَّبِعون ظاهريًّا للنصوص المقدسة (القرآن
والسنَّة)، المنتمون إلى الشكل التقليدي
الظاهري للدين الذي يوفِّر غطاءً شرعيًّا
لانتمائهم لروح العسكرة ومهنية الممارسة
السلوكية في الحرب والقتال، التي نمَّطتِ
الآياتِ والأحاديثَ كلَّها التي تشير إشارةً
مباشرةً إلى العسكر (المجاهدين) وإلى الحرب (الجهاد
والغزو) والتي جعلتْهم يزحفون على مقومات
الدين كلِّها ويستولون عليه بالقوة
العسكرية، حتى صار يمثل النسخة الرسمية للدين
الإسلامي، مما جعل المقومات الإسلامية
الأخرى التي تفسِّر الدين الإسلامي "مدنيًّا"،
وليس "حربيًّا"، تحاول أن تجد لنفسها
مساحاتٍ دينيةً ودنيويةً أخرى في التعبير عن
تأملاتها وسلوكها الديني، أو تحاول الانفصال
عن الدين برمَّته، أو تمارس قدراتٍ عقليةً
وروحيةً في تأويل النصوص التي تشير إلى
القتال والحرب، على الرغم من أن هذه المقومات
من المذاهب والملل والنِّحَل بقيت في دائرة
الشاذ والمتهم والخارج على الدين، غير
المعترَف به دينيًّا أمام الشكل التقليدي
الرسمي، وخاصةً عند أصحاب العقيدة الجهادية
والعسكرية، التي أصبحت العقيدة الرسمية في
التفكير الإسلامي الحديث، الموثَّقة
تاريخيًّا كشريعة مقدسة وواقعيًّا كسلوك
يُتأسَّى به، مارسَه النبي والصحابةُ
الأوائل والخلفاءُ من بعدهم والأمراءُ
والتابعونُ، وذلك بحسب رؤية أهل القتال
والحرب، فصار دستورًا مقدسًا للشكل الإسلامي
في الظهور والتكون الواقعي للحياة. طرأ الكثيرُ من التقلبات على
العلاقات بين الأباطرة الرومان ورؤوس
الكنيسة منذ الأزمنة التي كان يلقي فيها
الأباطرةُ بالمسيحيين فرائس للأسود في حلبات
المصارعة. لكن
قسطنطينوس الكبير، الذي أصبح إمبراطورًا في
العام 306 – قبل 1700 سنة بالضبط – شجع على
اعتناق الدين المسيحي في أرجاء الإمبراطورية
كافة، بما فيها فلسطين. وبعد ذلك بقرون، انشقت
الكنيسةُ المسيحيةُ إلى كنيستين: شرقية (أرثوذكسية)
وغربية (كاثوليكية). وفي الغرب، طالب أسقفُ
روما، الذي فاز فيما بعد بلقب البابوية،
الإمبراطورَ بأن يقبل بتفوقه. حوارات غالبًا ما تنتهي بـ"بوس الذقون" وبالعبارات المكررة حول التسامح والاحترام المتبادل، حوارات تنتهي بالإجماع الوهمي على القيم المشتركة الإيمانية وعلى ضرورة مواجهة هجمة تشكيك الملاحدة الماركسيين واللادينيين في الإيمان – ثم يعود المشاركون كلهم إلى قواعدهم سالمين غانمين! دائمًا تُحذَف القضايا الحساسة من جدول الأعمال، فلا يُبحَث فيها تجنبًا للفتنة، "لعن
تواجِهُنا، سواء كنا يهودًا أم مسيحيين أم مسلمين،
أم كنا من المؤمنين في صورة عامة، بدرجات
مختلفة وفي بيئات متباينة إلى حدٍّ ما،
مشكلةٌ كبرى من مشكلات عصرنا الراهن، مشكلة
هي بمثابة الركن من صرح حقوق الإنسان، وأعني
بها مشكلة حرية الاعتقاد الديني. من الأخطاء الشائعة في بعض
الفكر الديني والاجتماعي والسياسي أن
المسيحية ليست دينًا ودولة كما هو الإسلام
دين ودولة، استنادًا إلى آيات إنجيلية من نوع
"مملكتي ليست من هذا العالم" (إنجيل
يوحنا 18: 36) و"اتركوا ما لقيصر لقيصر، وما
لله لله" (إنجيل متى 22: 21). إلا أن هذا
التفسير مثالٌ على فصل الأقوال عن سياقها
وأخذ النصوص الدينية لا في مجملها، بل جملةٌ
من هنا وجملةٌ من هناك، كما يتفق للمفسِّر أو
يوافق أغراضه.
|
|
|