مـلامـح نسـويَّـة
من معرض هالة الفيصل "معلَّقات"

 

داريـن أحمـد

 

[...] ولأنه، تحديدًا، يحب الجمال والانسجام فإنه – دولاكروا – يشعر، دون حدود، بكلِّ شيء يدمِّر الجمال والانسجام.
بوغوميل راينوف

 

قبل دخولي صالة العرض في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق، التي ضمَّت [نيسان 2008] معرض هالة الفيصل معلَّقات، صادفتُ أحد الأصدقاء العاملين في المركز، وسألته عن ردود الفعل، بشكل عام، حول المعرض، فكان ردُّه أنها متفاوتة بين الرفض والقبول، وأن مبرِّر الرفض هو، غالبًا، "تشويه" الجسد الأنثوي في اللوحات – على افتراض أن هذا الرأي قد تجاوز التقييم الأخلاقي إلى التقييم الجمالي! وفي أثناء زيارتي للمعرض، علَّق صديقٌ آخر بأن الفن العربي، أكاديميًّا على الأقل، مازال في بداية الطريق نحو الخصوصية التعبيرية عن الجسد، كما في لوحات الفيصل. وقبل فترة من الزمن، علَّقتْ صديقةٌ بقولها إن اللوحات "قاسية، غير مريحة"، ثم أضافت: "أظن أنها ستعجبك!"

جمعتُ هذه "الخلطة" من الآراء المتفاوتة في محاولة لبناء مدخل مناسب للحديث، كمتلقٍّ عادي، غير خبير بأمور النقد الفني، عن معرض هالة فيصل الأخير – هذا من جانب؛ ومن جانب آخر، فإن الآراء السابقة متفرِّعة عن جذر أساسي هو أصالة جهد هالة في بناء خصوصيتها الفنية عبر علاقتها مع الإنسان عمومًا، ومع المرأة خصوصًا، في حالته العارية كما تراها هي. ولا أقصد هنا العري "الخارجي" فقط، وإنْ كان هذا العري، في حدِّ ذاته، يمثل دمًا جديدًا يتدفق في فنِّنا العربي، بل العري الروحي والفكري لإنسان يحاول التمدد في الحيز الضيق المتاح له. وأضيف أن الآراء السابقة تتركز، عمومًا، حول الصدمة، التي نحن حديثو العهد بها والتي يُحدِثُها جسدُ هالة في المتلقي: فهو جسد حر في إظهار عيوبه ومخاوفه وقلقه وضجره، حر في صراخ اختلافه عن القوالب الجمالية الجاهزة، وحر في إعلان وجعه منها، وفي رغبته في تجاوُز الحدود السوداء الفاضحة المضافة إليه في اللوحة. جسد متحول، بلا اتجاه فكري سابق، يُشعِرُك أنه يريد الإفلات من قبضة اللون ذاته، تاركًا زمام حياته في يد حدسه وغريزته. وهو، كما في لوحة "الغابة العذراء"، يعيد فطريته إلى العالم، من العالم، متكئًا على إرثٍ عميق يرى في المرأة والطبيعة وجهًا واحدًا للخصب والخلق والسلام.

"الغابة العذراء"، تقنية مختلطة على قماش، 200 X 150 سم

وهذا الجسد، في أثناء رحلته، مازال يتعثر بالسلاسل الذهبية التي تكبِّل قدميه، ومنها الحذاء الأحمر[1] والحذاء الأسود[2]. ففي لوحة "سجينة الثوب الأحمر"، التي يمكن لها أن تُقرَأ على أنها تحمل علامة الخروج من الأسْر عبر النافذة المفتوحة التي تعطي الانطباع بإمكان الحرية – عبر القدمين الصاعدتين – قرأت انتقالاً من أسْر المرأة "المهذبة" إلى أسْر المرأة الشبقة – وهما صورتان معمَّمتان على أنهما حيِّز المرأة الوحيد للتعبير عن أنوثتها. وفي لوحة "المرأة والضابط – عشق" التي يمكن لها أن تُقرَأ على أنها محمَّلة بالشغف والحب واللهفة، كما كُتِبَ على خلفيتها، ومن خلال اسم اللوحة المضافة إليه كلمة "عشق"، قرأت "الحذاء الأسود" في قدمَي المرأة العارية، وأناقة الضابط، ودرء المرأة لجسدها، وكأنها تقول: "نعم، أحبك، ولهذا أُقصي ما أريد أن أكون، لكي أكون ما تريدني أن أكون."

"سجينة الثوب الأحمر"، تقنية مختلطة على قماش، 200 X 150

"المرأة والضابط (عشق)"، تقنية مختلطة على قماش، 200 X 150

هناك ملمح نسوي آخر، لا يقل أهميةً عن ملمح التحول في نفسانية المرأة نحو تحررها الحقيقي وعقباته؛ وهو ملمح ليليثي (نسبة إلي ليليث، قرينة آدم الأولى) بامتياز، يتمثل في رؤية هالة للحَبَل والولادة، وقد عُبِّرَ عنه في لوحتين هما: "الملائكة تبشر العذراء بالولادة من دون دنس" و"الولادة".

ففي اللوحة الأولى، يحمل وجه "العذراء" حزنًا ودهشة واضحين، وهي تغوص في ماء تتخذ فيها الأسماك شكل العيون المترقِّبة. وهنا، إذا كنَّا نؤوِّل إدخال العناصر الرمزية الدينية، متمثلةً في الماء والسمك والعين، على أنه رؤية هالة الخاصة للموضوع "الديني" المقصود، وإعادة طرح فني لهذه القصة الشائقة، فلا يمكن لنا أن نغضَّ البصر عن ملامح الوجوه في هذه اللوحة، التي تتجاوز الفهم الشائع عن الخوف من مثل هذا الحَبَل إلى الفهم العميق والحزين للثمن الذي تدفعه المرأة لقاء هذا التعالي عن طبيعتها الطينية نحو طبيعة مفترَضة، يُزاح فيها البشري إلى موقع المجرَّد، وتُستبدَل فيها بكلمة "جنس" المقدسة كلمةُ "دنس".

"الملائكة تبشر العذراء بالولادة من دون دنس"، تقنية مختلطة على قماش، 200 X 150

أما في لوحة "الولادة"، فلا شيء يوحي بالمألوف الناجز؛ بل إن اللوحة، على العكس، مفتوحة على عدة احتمالات – إلا أن تكون الولادة، التي هي امتياز المرأة – ذات طابع فرويدي أو ديني سائد. أحد هذه الاحتمالات أن تكون "الولادة" هي ولادة المرأة للمرأة، تحقُّقها: إذ نشاهد في مركز اللوحة ثالوثًا نسائيًّا متداخلاً عند "بوابة الحياة" – الفرج – تمثل كل امرأة فيه وجهًا من وجوه المرأة ذاتها: الغريزة والعقل والجمال.

"الولادة"، تقنية مختلطة على قماش، 150 X 200

يمكن لي أن أجمل رأيي في معرض هالة الفيصل بأنه تكثيف لرؤيةٍ جديدة خرجتْ من نسق احتجز الإنسانَ سنواتٍ طويلة، رؤيةٍ تحاول إشراك الآخرين في ما تحمله من أمل!

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] في كتاب المرأة الوحشية: نساء يركضن مع الذئاب لكلاريسا بنكولا تحليل واسع لقصة "الحذاء الأحمر الراقص"، حيث يُستبدَل بـ"الحياة المصنوعة يدويًّا ذات المعنى" أيُّ شيء يشبهها، في محاولة انتحارية لملء فراغ

فقدان الطبيعة الحيوية والأصيلة في المرأة.

[2] في كتاب عاشق الشيطان لروبن مورغان، تتحدث الكاتبة، بلغة تكاد أن تكون إحصائية، عن أن أغلب النساء اللواتي تبنَّين الأفكار "الثورية" المعبِّرة عن طموحات سياسية كنَّ مدفوعات بحبِّ الرجل الذي يحمل هذه

الأفكار.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود