الفكر الاجتهادي والسؤال المستقبلي[1]

 

مصطفى الكيلاني[2]

 

مدخل إلى راهن التفكير في الاجتهاد

يواصل هذا المبحث أعمالاً سابقة للكاتب[3]. إلاَّ أن القصد من استئناف التفكير في الموضوع الاجتهادي هو محاولة المزيد من توضيح المفاهيم وإثارة بعض القضايا ذات الصبغة الإجرائية في ضوء الوقائع العالمية الراهنة والتغيرات التي شهدتْها مجتمعاتُنا الإسلامية وما ينتظرها من تحديات في المستقبلين القريب والبعيد.

فهل الاجتهاد فكر أم منهج عام، يختلف من عصر إلى عصر آخر ومن سياق واقع مجتمعي بعينه إلى سياق واقع مجتمعي مغاير، أم هو فكر ومنهج معًا؟ وكيف نعمل على تحرير العمل الاجتهادي (أي العمل الاجتماعي) من مسبق المفاهيم المسقَطة على وقائعنا العربية والإسلامية الراهنة بمشترك الفعل المعرفي والممارسة الديموقراطية العامة، اللذين لا يقطعان مع التراث بتعلَّة ضرورات التحديث ولا يتورطان في ماضوية منغلقة على ذاتها تناصب العداء لمجمل مشاريع التحديث الراهنة والممكنة مستقبلاً؟

هذه الأسئلة، وغيرها، يُراد منها، في مثل هذا المقام، تجزيء القضايا بدافع محاولة الخروج من فخاخ عديدة، لعل من أهمها:

1.     الانزياح بالموضوع الاجتهادي من مجال البحث التاريخي – تاريخ الأفكار تحديدًا – ليتحول هذا الموضوع إلى ظاهرة سجالية فحسب تُفقِدُه صفة الارتباط بالأصل الواحد والمنهج المتعدد على امتداد تاريخ الاجتهادات، قديمها وحادثها.

2.     حصر الموضوع الاجتهادي في قضايا معرفية هي أقرب إلى الإطلاق منها إلى التعيين، لا تستجيب لسياقات مجتمعية محددة، أو الزج بهذا الموضوع في حيِّز الأداء بذرائعية، إن استجابت في الظاهر لشروط القديم والحديث، فهي تكتفي بالإجراء الحيني دون التوسل بنظر مرحليٍّ وإستراتيجيٍّ بعيد المدى يستفيد من مختلف الآراء والتجارب الاجتهادية، السالفة والحادثة.

3.     تحويل الموضوع الاجتهادي عند النظر والممارسة معًا إلى فعل "نخبوي" لا يخص إلا القلَّة من العلماء (الفقهاء)، أو الاستهانة بالمعرفة الاجتهادية كي يصبح في مقدور الجميع، أيٍّ كان دون استثناء، والاشتغال عليه وإصدار الفتاوى على عواهنها، ليرتبك الحق الجماعي في فهم مقاصد الاجتهاد وتلتبس معرفتُه.

فكيف الالتزام، إذن، بـواحدية الأصل في تناول موضوع الاجتهاد وبـالتعدد المنهجي في أداء هذا الأصل استجابةً لمختلف الوقائع والسياقات؟

الاجتهاد باعتباره منهجًا يستند في الأساس والمرجع إلى معرفة

ليس الاجتهاد في القديم والحديث نظرية، بل هو منهج. أما أساس "المنهج"، استنادًا إلى أصل الاشتقاق اللغوي، فهو جهد يبذله الفقيه الفرد بـ"استفراغ الوسع لتحصيل ظنٍّ بحكم شرعي"، على حدِّ عبارة التهانوي[4]. كما يعرَّف بالاجتهاد بكونه مكمِّلاً للنص، وليس منفصلاً عنه؛ فإذا حدث ذلك كان شذوذًا[5].

فإذا أقررْنا صلة المنهج بالأصل، من قبيل التواصل بين النقل والعقل، أمكن تطوير المنهج وإثراؤه بجديد المعارف والعلوم والمهارات، بقصد الخروج بالاجتهاد من حال "التعطل"، بلغة محمد عابد الجابري، ومن "الانغلاق" أو الإغلاق، خاصة ونحن نعلم أن العمل الاجتهادي حرٌّ فردي، دون نفيٍ لاشتراط معرفة الأصل، أي النص والحديث ومجمل تاريخ الاجتهادات، بصرف النظر عن اختلاف المذاهب[6].

كذا فإن الاجتهاد فكر وعمل؛ إذ هو ضرب من الاشتغال النظري المشروط بالحاجة إلى التشريع العملي. أما توقُّفه فهو يعود إلى أسباب يُجمِلُها محمد عابد الجابري في أربعة: ضيق الدائرة المعرفية، تغلُّب الطابع الإجرائي، تراجُع العقل مع هيمنة المعرفة النقلية، وفصل العلوم النقلية عن العلوم العقلية[7].

إلا أن هناك سببًا خامسًا، في تقديرنا، لم يذكره الجابري؛ ولعلَّه أهم الأسباب الأربعة المذكورة أو لا يقل أهمية عنها، وهو شرط اشتغال العقل في صلته بالنقل، ومُفاده الديموقراطية المعرفية: إذ كيف يمارس العالم الفقيه أو الفقيه العالم دورَه في الاجتهاد إنْ لم يُشرِكْ أصحاب مختلف الاختصاصات المعرفية في إثراء الفكر الاجتهادي بحرية يسمح بها مفهومُ الاجتهاد ذاته الذي لا يتقيد في الإسلام بمؤسَّسة، وإنما هو عمل فردي لا ينفصل عن الجماعة، وعمل حر مسؤول يستفيد من المؤسَّسة، سواء كانت سياسية أو معرفية؟ فإنْ غاب الشرط الخامس الذي نقترح التفكير فيه، راهنًا ومستقبلاً، اتصف العمل الاجتهادي بالظرفية وخطر "التعطُّل"، أو بالاستمرار في التعطُّل إنْ خضع لهيمنة المؤسَّسة، الرسمية وغير الرسمية، في هذا الاتجاه أو ذاك.

فخروج ماهية الاجتهاد عن المؤسَّسة، عودًا إلى الأصل، يمثِّل الصفة ونقيضها: أي الحرية في اتجاه أول، إنْ أتقنَّا الربط بين المسجد والدولة والمؤسَّسة العلمية البحثية المختصة والمجتمع، من جانب، وبين الفقيه العالم والحاكم والباحث العالم في مختلف المجالات الخاصة بالاجتهاد والحافة به وعامة المسلمين وكافة المنتمين إلى المجتمع، من جانب ثانٍ، بقطع النظر عن مختلف انتماءاتهم السياسية والإيديولوجية. كما يمثل، في الاتجاه الآخر، نقيض الحرية حينما تلتبس الوظائف المتغايرة، فيتدخل كلُّ طرف في مهمات الطرف الآخر، وتضيع المعرفة الاجتهادية لغياب الثقافة النقلية والعقلية الدقيقة والعميقة ولإطلاق الفتاوى بذرائعية عملية تختزل الجهد المعرفي إلى قرارات وأوامر حينية، والقياس على الحاضر والمستقبل بوقائع وحقائق قديمة تجاوزَها تاريخ الاجتهادات والأفكار والمجتمعات، واستفحال الجهل الخاص بعلوم هذا العصر الذي ننتمي إليه، وحصر الاستشراف في أنماط جاهزة من التفكير لا تفي بالحاجة إلى مواكبة الوقائع العالمية الجديدة لفهم وقائعنا والعمل على تغييرها في الاتجاه الذي يخدم مصلحة الفرد والمجتمع والأمَّة على حدٍّ سواء.

ثقافة المجتهِد بين الماضي والحاضر

بناءً على السالف، تختلف ثقافة المجتهِد بين الماضي والحاضر: فكما اقترنت ثقافة الاجتهاد في الماضي بثقافة العصر أو العصور التي كانت، فإن المجتهِد اليوم مضطر، بغية تحصيل الكفاءة النقلية والعقلية، إلى مواكبة جديد العلوم الإنسانية والتجريبية والتكنولوجية، دون التفريط في الأصل، ممثَّلاً بعلوم الدين.

ولا يخص موضوع التحيين المعرفي هنا مستويَي الكم والتنويع فحسب، بل يستدعي إستراتيجية جديدة للنظر والتأويل كي لا نظل سجناء مقولات جاهزة متكرِّرة نُسقِطُها على مختلف المواقف والوقائع والوضعيات، وذلك بتحديد السؤال وموقَعَته في حيِّز وجودنا الراهن: أي عقل نبتغي اليوم؟ وأي اجتهاد نريد؟

وليس في إمكان مراجعة إستراتيجية الفكر الاجتهادي اليوم دون الإحالة على ثنائية النقل والعقل بإعادة النظر في مَواطن الاشتراك بينهما والاستفادة الرصينة منهما: كأنْ يُنظَر إلى النقل، بالإضافة إلى فكرة "الأصل"، بوصفه يمثل، بالمفهوم الأنثروپولوجي، مخزونًا للثراء المعرفي القيمي المرجعي؛ وإلى العقل بوصفه الأداة الفعالة لتوسيع أفق النظر والأداة العلمية القادرة على فهم الوقائع لتغييرها نحو الأفضل الذي يعود بالفائدة على الفرد والجماعة. وبهذا التوجه نحو تحرير النقل والعقل من مسبق المفاهيم نوسِّع، في الآن ذاته، من آفاق المعنى الروحي، ونعمِّق معرفتنا للوضع باجتهاد جديد، راهني ومستقبلي، لا يقطع مع التراث، بل يسعى في تحيين الحادث والعمل على تغييره.

العمل الاجتهادي وضرورة الاستفادة من المؤسَّسة

ونتيجة عدم ارتباط الاجتهاد بالمؤسَّسة في الأصل، انتصارًا لحرية الفرد المجتهِد، تتأكد الحاجةُ اليوم إلى تثبيت هذه الصفة، مع الاستفادة من المؤسَّسة التي لا تعني، هنا، علامة تقييد، بل إطارٌ علمي وتنظيمي وإشرافي يحفز على إنجاز ما يلي، تقريبًا:

1. إعادة قراءة المتراكم من البحوث القديمة في الاجتهاد.

2. قراءة المتراكم من البحوث المعاصرة في الاجتهاد.

3. المقارنة بين محصِّل البحوث السالفة ومحصِّل البحوث اللاحقة – وإن تعسَّر ضبطُ محصِّل البحوث اللاحقة التي تمثل وجودًا متحركًا يستدعي التوثيق الدقيق والقراءة والتحليل والتأويل.

4. استقدام العديد من الاختصاصات البحثية ذات الاتصال المباشر بالاجتهاد، كالإسلاميات islamologie، وتاريخ الأديان المقارن، وعلوم اللغة والاقتصاد والسياسة والاجتماع والتاريخ والنفس والطب والتكنولوجيا، من اتصال وغيره، والجماليات إلخ.

أما القصد من العمل الاجتهادي–المشروع فهو التوصل إلى:

1. معرفة المتكرِّرات والمتغيِّرات في بنية العقل الإسلامي.

2. معرفة الأسباب الكامنة وراء التأخر الإسلامي والتعثرات الراهنة.

3. إحداث خطة اجتهادية تقوم على فهم مَواقعي للذهن الإسلامي، وذلك بتحديد مختلف القضايا الخاصة بالأخلاق والتمثُّلات représentations النظرية والعلمية وإعادة تأويل النص الديني بأسئلة وجودنا الراهن واستقراء مختلف الملفوظات، من تشريعية وفكرية ونقدية وغيرها، مع توصيف قضايا الثقافة والمثاقفة، على اعتبار أن الموضوع الاجتهادي، وإنْ تحدَّد بخصوصية وجودنا الراهن، فهو يتنزَّل ضمن سياق أعم، هو الوجود الإنساني الذي يشتمل على كيانات ثقافية مختلفة تستدعي الفهم الخاص والفهم المتبادل معًا.

الاجتهاد وتاريخ الأفكار: ما بين النص والتأويل

لا يمكن تخليص الاجتهاد من هيمنة المؤسَّسة – أية مؤسَّسة – ومن مسبق المفاهيم ونماذجها المتكررة ومن فوضى التدخل باسم الحرية الفردية وغيرها إلاَّ بالنظر إليه بوصفه فكرًا له تاريخه المتمثل تحديدًا في تاريخ الأفكار الاجتهادية. وبهذا التخصيص، نخلِّص الدينَ من هيمنة القراءة الواحدية، والاجتهادَ من مفهوم التماهي مع الدين، كالذي انتهجه نصر حامد أبو زيد عند تعريف الدين بقوله: "هو مجموع النصوص المقدسة الثابتة تاريخيًّا، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالاتها."[8]

وبهذا الحد يتحرر مفهوم الاجتهاد من الإطلاق بواحدية التأويل ليكتسب صفات التعدد والنسبية والاختلاف، إنْ قارنا بين اجتهاد وآخر، على أن لا يُفهَم الاختلافُ هنا بوصفه غيابًا للمعرفة والنسق والمنهج، كأنْ يشتغل الجميع على الاجتهاد، دون استثناء، آنَ ثبوت المعرفة الاجتهادية أو انتفائها، ليتماثل بذلك العلم والجهل، الانفتاح والانغلاق. كذا ننتقل بالفكر الاجتهادي من ثقافة الواحد إلى ثقافة المتعدد ومن اللاهوت إلى الوضع[9].

إن الاجتهاد، عند الإحالة على تاريخ الأفكار، "اجتهادات"، بدءًا بـ"الاجتهاد الفقهي"، مرورًا إلى "الاجتهاد الكلامي"، ومنه إلى "الاجتهاد الصوفي"، فإلى "تعطُّل" الاجتهاد طوال قرون، ثم إحياء فكر الاجتهاد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر (كأن نذكر، دون حصر، كلاًّ من خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وعلي عبد الرازق)، وصولاً إلى الاجتهاد المعاصر بأسئلة ومواضيع جديدة، هي من هذا العصر وإليه. وإذن، فالاجتهاد فكر متعدد ذو أطوار مختلفة، نتيجة الالتزام المبدئي والمرجعي بالنصِّ الديني الواحد، مع اختلاف التأويلات.

رفاعة الطهطاوي (1801-1873)

جمال الدين الأفغاني (1838-1897)

محمد عبده (1849-1905)

كذا يتحدد مسارُ فكر الاجتهاد بقراءة الوقائع استنادًا إلى النص الديني، وباعتماد المنهج التأويلي القائم على فكرتين أساسيتين، بحسب بنسالم حميش، وهما: الظاهر والباطن[10]. وتتحدد ماهية الفكر الاجتهادي بالإيديولوجيا، دون الانزلاق في "القيمية" و"الاختزال" و"التعميم"؛ إذ المقصود بـ"الإيديولوجيا"، هنا، مختلف مواقع التفكير، بمنظور الائتلاف والاختلاف، "في الحياة وأخذها بعين الجد من حيث جذورُها وقضاياها القصوى"[11].

الاجتهاد باعتباره خطابًا

وحينما ننتقل من الفكر الاجتهادي إلى الخطاب الاجتهادي، تتحدد "ملفوظية" الاجتهاد بمدى "أدائيته" استنادًا إلى اشتراطات المبحث العلمي الإسلامي islamologique المنهجية التي تجوِّز الاستفادة، بحسب محمد أركون، من علم النفس التاريخي وعلم الإناسة anthropologie آنَ إحالة المُدوَّن على الشفوي، والمنكشِف على المحتجِب، والذاكرة على الخيال l'imaginaire. فالنص الديني – النص القرآني بالأخص – هو الأساس المرجعي لأيِّ فكر أو عمل اجتهادي؛ وهو نص يحيل على ثقافة المشافهة، التي هي ثقافة العصر الذي ينتمي إليه، وينفتح على ثقافة التدوين، بما يتضمَّنه هذا النص ذاته من علامات مرجعية واقعية وإمكانات قرائية وتأويلية عن طريق سؤال الربط بين "قراءة الأمس" و"قراءة اليوم"[12].

وكما سعى بنسالم حميش في انتهاج طريق الإيديولوجيا للتفكير في ظاهرة الاجتهاد، اختار محمد أركون سبيلاً آخر يبدو، في تقديرنا، أوسع أفقًا وأوضح منهجًا في تعقُّب اشتغال هذا الفكر حينما حوَّله من معمَّم فكريته إلى أدق سماته الأنثروپولوجية، باعتباره خطابًا ينبني على ملفوظ له نظامه اللغوي الخاص ودلالاته وأبعاده الرمزية، ويستدعي القراءة لتعقُّب بعض من المعنى المختفي والنظر إلى بعضه الآخر بوصفه مشروعًا دائمًا للقراءة وإعادة القراءة. أما القصد من هذا النهج الذي يسعى في الاستفادة من علم النفس التاريخي والأنثروپولوجيا الثقافية فهو التنقل في "المَواطن المظلمة والمجهولة من تاريخ المجتمعات البشرية ومن علم نفس المعرفة"[13].

وإذن، فدراسة الظاهرة الإسلامية "تستدعي في البدء والمرجع البحث في الظاهرة القرآنية". أما الواصل بينهما في مشروع محمد أركون الاجتهادي فهو البحث في المعنى (الحقيقة)، وذلك بتحرير المعرفة من وهم المعرفة والتأويل من مسبق المعنى عند انتهاج النقد الحديث للعقل، مع الاستفادة من "العمل التفسيري" المنجَز للقرآن، لكنْ دون البقاء في دائرته المغلقة، بل تجاوزُه إلى انجاز الفعل التاريخي وتمثُّل مختلف الوسائل لمعالجة أسباب "التأخر التاريخي" مقارنةً مع تقدُّم الفكر الغربي الذي قطع أشواطًا في نقد العقل المنغلق على ذاته بالكانطية والهيغلية وإضافات المباحث اللسانية والسيميائية الحديثة.

كذا يتلازم فكر الاجتهاد وظاهرة الإخصاب ضمن دائرة القراءة والتأويل لتحقيق "الانبعاث الفلسفي" على أسس أنثروپولوجية؛ ذلك أن الموضوع الاجتهادي يستلزم توسيع مجال البحث بنقد الفكر السالف وتنزيل الظاهرة الدينية في سياق لا ينحصر في دين واحد أو طائفة واحدة، بل هو من مشمولات الأنثروپولوجيا الدينية عامة، تلك التي "تحرِّر الثيولوجيات والفلسفات من اجترارها للقيم المحصورة بدين واحد وبمسار تاريخي واحد وبقدر طائفي واحد [...]"[14].

راهن الفكر الاجتهادي والإسقاطات الإيديولوجية: في المقاصد الأخرى للتأويل

إن البحث في الظاهرة الاجتهادية خارج منظومة الفكر الديني باسم الحداثة أو تغييبها في أنماط من التفكير الجامدة يفضيان إلى نتيجة تقريبية واحدة، مُفادها نفي الخصوصية الثقافية واختصار الموضوع الاجتهادي في خطاب شعاراتي تبعًا لهذا الاتجاه أو ذاك، بـ"حداثوية" مسقَطة على الذات من الخارج أو بـ"ماضوية" تحتجب بالقصد وراء سلفية باهتة تختصر الحاضر والمستقبل في وقائع ومواقف قديمة تجاوزها تاريخ المعرفة والوجود الفكري والجمعي على حدٍّ سواء.

لذلك لا إمكان لتطوير فكر الاجتهاد المعاصر بالتأويلين المذكورين: إذ إن التأويل "الحداثوي" يسعى في تشويه الواقع المعرفي لراهن الوجود، والتأويل "الماضوي" يحرص، بصفة واعية أو لاواعية، على نفي التاريخ ومسار تحولات المعرفة الاجتهادية.

نحتاج، بناءً على السالف، إلى ثقافة اجتهادية حديثة تقوم على فهم دقيق للتراث وإلى فكر نقدي تحديثي نيِّر يُمَوْقِع الأسئلة والقضايا في سياق الذات الثقافية المتصالحة، بدءًا من مختلف عناصر كيانها، السالف منها والحادث، المنفتحة على الآخر بمفهوم الغيرية المخصبة داخل الذات وبالمواقع الأخرى الحافة بها.

فـ"التحديث" أو "الإصلاح" لا يكون، إذن، إلا من داخل المنظومة ذاتها، تبعًا لمنظور هشام جعيط الإستراتيجي في هذا الشأن؛ إذ "لا ينبغي للإصلاح أن يتم على حساب الدين، بل يقع في نفس الوقت بواسطة الدين وفي الدين ومستقلاًّ عنه"[15]، وذلك لاعتبار الدين عنصرًا عميق الوجود والفاعلية في بنية الشخصية، ومن الخطأ اختزاله إلى مقولات جاهزة أو تهميشه.

كذا يستدعي الفكر الاجتهادي خطابًا حداثيًّا بمنظور هذا العصر، خطابًا ينبني على مفهوم النص المتعدد الذي يحيل على متراكم أزمنة لا تتحدد بمجتمع أو عصر واحد؛ كما يسعى في ربط المدوَّن بالشفوي، اللاحق بالسابق، والمعيش بالذهني. فلا بدَّ لرسم ملامح هذا الخطاب التحديثي، في نظر محمد أركون، من إعادة تفسير النص القرآني لضرورات البحث اليوم في "الظاهرة الإسلامية" التي هي مجموع نصوص وعبارات مختلفة بمدلول التناص intertextualité.

ولئن ثبت فشل التوفيق بين التراث الإسلامي والفكر الأوروبي لإحداث فكر اجتهادي معاصر، فإن العمل على إنشاء "اجتهاد جديد" يقتضي تفادي الإسقاط projection بإخضاع الواقع لمسبق المعنى الديني أو لمقولات الفكر الغربي الجاهز، وذلك بانتهاج سبيل ثالث يضع أسُسًا أخلاقية وجمالية وعلمية تُستوحى من النص القرآني ومن العلوم الإنسانية والتطبيقية، حيث مَراجع القوة المادية، وذلك للاستفادة من مختلف الدروس الحديثة، كالتأويلية herméneutique وعقلانية الفائدة والفعل. وكما وصل الأجداد بين النقل والعقل بأسئلة العصر الذي كان، تتأكد حاجتنا اليوم إلى عقد صلة حميمة بينهما. فإذا غلَّبنا المعقول على المنقول، بحسب منظور علي حرب، عاد المنقول على شاكلة "مكبوت"[16]، ليتعاظم بذلك سلطانُ الوهم واللامعقول؛ كما يؤدي تغليب المنقول على المعقول إلى جمود الفكر، وبذلك يتعطل فكرُ الاجتهاد تمامًا[17]. فكيف نعيد، إذن، للمعقول والمنقول تواصُلهما الوثيق بدافع الاستجابة لحاجات وجودنا الراهن؟ وما حدود النقل والعقل؟

لقد أمكن للمفكرين في التراث العربي الإسلامي، كالفارابي والغزالي وابن طفيل وابن رشد، الإجابة عن سؤال ما يصل بين المنقول والمعقول ويفرِّق بينهما آن الإحالة على الكتاب والسنَّة ودروس الفلسفة الإغريقية لاستنباط الأفكار الجديدة آنذاك.

كما يتحدد النهج العام، في خصوص الفكر الاجتهادي اليوم، بالرجوع إلى الأسئلة القديمة، ولكنْ بمساءلات وسياقات جديدة، كالتفكير في "لامعقولية العقل" وفي "معقولية النقل" بدلالة العقل الإسلامي، قديمه وحديثه، كي نعود إلى الزمن الراهن[18]. وللإجابة عن هذا السؤال، تستدعي "الوضعية الراهنة" المؤرِّخ وعالم الاجتماع لفهم أوجُه الاختلاف لـ"التوجيه الفعال" وإنشاء "الهندسة الأخلاقية"[19].

بديهي، إذن، أن يختلف تأويل النص القرآني في الدراسة التاريخية والأنثروپولوجية عن تأويله في البحث الأخلاقي والفلسفي. إلا أن الجامع بينهما عند الاشتغال الوظيفي المختلف والمشترك هو الفكر الاجتهادي عامة.

الفكر الاجتهادي والمستقبل

كيف يتدارك الفكر الاجتهادي اليوم، والفكر العربي الإسلامي بصفة أعم، تأخُّره التاريخي؟ كيف نؤوِّل أو نتأوَّل لنجتهد؟ وكيف نجتهد لنفعل في سبيل تغيير "تقاليدنا الثقافية"، بلغة فضل الرحمن، بقصد تجذير وعينا للحياة؟ كيف نرسِّخ معرفتنا الأخلاقية والجمالية والعلمية اليوم ضمن بنية عقلية تستقدم محصِّل الخبرة في التراث وتُواكِب آخر نتائج الثورات العلمية والتكنولوجية في عالمنا اليوم؟

إن الفكر الاجتهادي موضوع مستقبلي أيضًا، وفي الأساس، على أن يُفهَم "المستقبل"، هنا، بوصفه يمثل البعض الآخر المختفي من وجودنا الراهن، وباعتباره "مستقبَلاً لماضٍ"، تبعًا لمنظور "التأويلية التاريخية" لدى راينهارت كوزيلِّك. فعند تحديد الاختلاف بين الماضي والمستقبل، أو بلغة الأنثروپولوجيا، بين التجربة والانتظار، يُمكن لنا فهمُ شيء ما قد يكون "الزمن التاريخي" لدى كوزيلِّك[20]، هذا الراهن، منطق الذات المتسائلة، المستفهِمة، القارئة، المتأوِّلة بموضوع فكرنا الاجتهادي.

كذا يتَّضح "مستقبل الماضي" باعتباره مستقبلاً يتحدَّد بمدى فهمنا للماضي في ضوء مساءلتنا الراهنة. وإذا التفكير في المستقبل بالماضي لا يعني القياس على التجربة الماضية بقصد تكرارها: ذلك أن أية تجربة حينما تحدث فمآلها الانقضاء حتمًا، وما سيحدث يختلف حتمًا عن سابقه، وإنْ أحال على هذا السابق بغية الاستضاءة به على ما يكون وما قد يكون في المستقبل، كالذي يصل بين الاجتهادين القديم والحديث للتفكير في اجتهاد راهنيٍّ ومستقبلي.

إن المستقبل، من هذا المنظور، مشروع تنبثق سماتُه المبدئية من الحاضر في ارتباطه العميق بالماضي، كأن يختص السؤال المستقبلي، بدءًا بمَراجع الفكر الاجتهادي ومختلف اتجاهاته ومتعدَّد سياقاته المعرفية والتأويلية وراهنية قضاياه ونظره الاستشرافي بدافع الحرص على فهم الوقائع المجتمعية والقومية والعالمية الجديدة. ولا يمكن إنجاز هذه المهمات النظرية والإجرائية، القرائية التأويلية والاستشرافية، دون الإحالة على العناصر الثلاثة الآتية:

1.     المعرفة تستدعي مختلف حقول البحث الخاصة بالاجتهاد والقريبة منه (كعلم الحديث)، بإعادة قراءة النصِّ الديني والاستفادة من مختلف التأويلات السابقة، وتستدعي كذلك الفلسفة وعلوم التاريخ والاجتماع والنفس والإناسة (الأنثروپولوجيا) والسياسة والجغرافية والاقتصاد إلخ، على أن تتحدَّد المشاغل المشتركة بالموضوع الاجتهادي.

2.     المؤسَّسة: إذ في غياب المؤسَّسة الاجتهادية بالمنظور الأصولي قديمًا لا بدَّ من منظومة تفتح مختلف الحقول المعرفية بعضها على بعض وتسهر على التخطيط المرحلي والإستراتيجي لأداء هذه الوظيفة. ويُشترَط لتوفير الإطار التنظيمي والإشرافي والتسييري استقطابُ الكفاءات المعرفية المختصة في الموضوع الاجتهادي. كما تستدعي هذه المنظومة توفير الإمكانات الإدارية والمالية؛ وذلك لن يكون إلا بإسهام الدولة/الدول العربية والإسلامية ومنظَّمات المجتمع المدني والأفراد المهتمِّين بالموضوع ومراكز البحوث الأكاديمية المختصة.

3.     الديموقراطية: وهي الضامن لحرية التفكير والبحث في الاجتهاد ولإسهام النخب المثقفة في مجمل العمل الاجتهادي، كأن تحفز الدولة/الدول على هذا العمل وتُشجِّع على التفكير الجديد النيِّر الذي لا يقطع مع الأصول ولا يكتفي بقياس الحاضر على الماضي، بل يؤكد على التجذُّر في الحاضر بأسئلته المصيرية، وذلك للاقتداء بدروس ماضي الفكر الاجتهادي وبجديد الأفكار والعلوم والمهارات في ثقافات الأمم المتقدِّمة، في ضوء وعي اجتهادي جديد يتأسَّس على "مستقبل الماضي" في سياق راهني يُعيد طرح القضايا واستنباط الجديد منها بدافع الرغبة في الفهم بالتأويل وفي التأويل للفهم، وذلك بقصد الخروج من واقع التخلُّف العربي والإسلامي إلى واقع جديد يستعيد به الفكرُ الإسلامي صحَّته وديناميَّته وإبداعيَّته وإشعاعه العالمي.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] قُدِّمَتْ هذه الورقة في ملتقى "الاجتهاد" الذي عُقِدَ في الجزائر على هامش معرض الكتاب الجزائري.

[2] كاتب من تونس.

[3] كأنْ نشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى بحثنا "الاجتهاد والتأويل بين واحدية الأصل وحقيقة التعدد المنهجي في الفكر العربي المعاصر"، مجلة الفكر العربي المعاصر، العددان 114-115، خريف/صيف 2000؛ وهو الفصل الثاني من الباب الثاني من كتابنا القيمة والاختلاف: مقاربات فكرية، دار المعارف للطباعة والنشر، تونس، 2004.

[4] "في اللغة: استفراغ الوسع في تحصيل أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقَّة؛ ولهذا يُقال: اجتهد في حمل الحجر، ولا يُقال: اجتهد في حمل الخردلة [...]." (علي بن علي التهانوي، كشَّاف اصطلاحات الفنون، دار قهرمان للنشر والتوزيع، اسطنبول، طب 4: 1984، ص 197)

[5] المصدر السابق.

[6] "لا أحد في الإسلام يملك سلطة "إغلاق" باب الاجتهاد، لا الحُكَّام ولا الفقهاء. فليس في الإسلام كنيسة، ولا أية مؤسسة تملك سلطة "إغلاق" باب الاجتهاد أو "فتحه"." (محمد عابد الجابري، وجهة نظر: نحو إعادة قضايا الفكر العربي المعاصر، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، 1992، ص 56)

[7] المصدر السابق، ص 55.

[8] نصر حامد أبو زيد، الخطاب الديني، رؤية نقدية: نحو إنتاج وعي علمي بدلالة النصوص الدينية، دار المنتخب العربي، بيروت، 1992، ص 131.

[9] مصطفى الكيلاني، القيمة والاختلاف: مقاربات فكرية، ص 127.

[10] "إن وجوه التأويل في تاريخ الإسلام الإيديولوجي قد تشكَّلت حول جدلية الصراع بين الظاهر والباطن. فأهل الظاهر يعتقدون أن التأويل إنْ هو إلاَّ الاحتكام إلى الآيات أو الأثر كمخزون من القرائن الدالة في حدِّ ذاتها والقائمة مقام البراهين. [...] أما أهل الباطن ودُعاة العقل فإنهم يُجمعون على أن القرائن النصية أو السمعية لا تُفيد ولا يمكن للاستدلال أن يقوم مكتفيًا بها [...]." (بنسالم حميش، التشكلات الإيديولوجية في الإسلام: الاجتهادات والتاريخ، دار المنتخب العربي، بيروت، طب 1: 1993، ص 208)

[11] المصدر السابق، ص 209.

[12] "كيف يُمكن لنا أن نجعل قُرَّاء اليوم يتحسَّسون مسألة الاختلافات النفسية واللغوية والاجتماعية–الثقافية الكائنة بين نظام المعقولية الخاصة بالمجتمعات التي لا كتابة لها [...] وبين الممارسة المنطقية الاستدلالية الخاصة بـ"العقل الكتابي"؟" (محمد أركون، من الاجتهاد الى نقد العقل الإسلامي، بترجمة هاشم صالح، دار الساقي، لندن/بيروت، 1991، ص 56-57)

[13] المصدر السابق، ص 56.

[14] محمد أركون، من فيصل التفرقة الى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، بترجمة هاشم صالح، دار الساقي، لندن/بيروت، طب 1: 1993، ص 46.

[15] هشام جعيط، الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، دار الطليعة، بيروت، طب 1: 1984، طب 2: 1990، ص 122.

[16] علي حرب، التأويل والحقيقة: قراءات تأويلية في الثقافة العربية، دار التنوير، بيروت، طب 1: 1985، ص 122.

[17] المصدر السابق.

[18] فضل الرحمن، الإسلام وضرورة التحديث: نحو إحداث تغيير في التقاليد الثقافية، بترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، لندن/بيروت، طب 1: 1993، ص 14.

[19] المصدر السابق، ص 17.

[20] Reinhart Koselleck, Le futur passé : contribution à la sémantique des temps historiques, Éditions de l'École des hautes études en sciences sociales, Paris, 1990, p. 11.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود