سائليني يا شآم: يوميات دمشقية 2

 

زياد جيوسي

 

كان اللقاء مع الصباح المبكر مع دمشق. ورغم تعب السفر وإرهاق السهر مع الأصدقاء، إلا أني وجدت نفسي أصحو مبكرًا صبيحة الأحد الثالث والعشرون من الشهر الفائت. ربما هو الحلم باللقاء يشدني، فغياب عقود من الزمن عن مدينة سكنت داخلي كفيل بطرد النوم واستهلال الفجر مبكرًا. أخذت حمامي المعتاد ونزلت إلى قاعة الفندق لأحتسي قهوة الصباح، فوجدت القاعة ما زالت مغلقة، فحملت عدسة التصوير وخرجت أجول في الشوارع شبه الخالية مع هذا الفجر. كانت الشمس قد بدأت بالتسلل من بين الغيوم، ودمشق تنزع عن كتفيها سدل عباءة الليل، والحلم يشدني إلى تلك الأيام التي عايشت بها الشام شابًا في مقتبل العمر. سرت باتجاه الصالحية، ومررت من أمام قاعة سينما الكندي التي كان لأفلامها المنتقاة بعناية دورًا كبيرًا في عملية الوعي في ذاكرتي للسينما وتذوقي للأفلام والكتابة عنها. وأكملت المسير إلى قلب المدينة حيث ميدان الصالحية الذي تغيرت ملامحه كثيرًا، وإن كان ما زال محافظًا، في الكثير من الزوايا، على ذاكرة الماضي وجماله. سرت متجولاً من محطة الحجاز إلى حي المزرعة، تبحث عيناي عن كل زاوية ومعلم ارتبط بذاكرة الماضي، وفيها جميعًا وفي بردى وشموخ قاسيون كنت أسمع التاريخ يرافقني، يهمس في أذني: كانت الشام وما زالت وستبقى حاضرة مجد العرب.

عدت إلى الفندق استعدادًا لمغادرته. كانت زوجتي قد أعادت حزم حقيبتها. أحضرت لها معي بعض من الصفائح الشامية الشهيرة للإفطار. أنزلنا حقائبنا وانتظرنا صديقنا أبو دركل الذي أصر أن يستضيفنا بشهامة ليست بالغريبة عليه. إحتسينا القهوة في صالة الفندق ومن ثم غادرنا برفقته متجهين بداية لحضور افتتاح ملتقى العودة. وفي الساحة الخارجية التقيت العديد من أصدقاء قدامى لم أرهم منذ زمن بعيد. وأثلج صدري أن التقي العشرات من قرائي المشتتين في أصقاع الدنيا وبرد المنافي. يقرأون لي ويحنون للوطن فيما أكتبه عنه وعن رام الله. وكان مجال فرح أن أسمع، من العديد منهم، أنهم يشعرون أنهم يسيرون في رام الله ودروب الوطن وحواريه ويتنشقون ياسميناته فيما أكتبه، فيفيض بهم الحنين، وتشتد فيهم الرغبة والحلم للقاء الوطن ذات يوم. وهل يُفرح الكاتب شيء مقدار أن يرى ما تفيض به روحه في عيون وأرواح الآخرين؟

حق العودة حق مقدس في نفوس كل المهجرين من أوطانهم عنوة، حق لا ينسى ولا يمكن لكل سياسات العالم أن تشطبه من الذاكرة. وقد لمست ذلك في عيون الأطفال الذين التقيتهم في مخيم اليرموك. فجوان، ابنة الكاتب والباحث علي بدوان، الصغيرة حين سألتها: من أين أنت؟ أجابت: من فلسطين. وعبد الله ابن أبو دركل ابن الصف السادس الابتدائي يجيبني أيضًا أنه من فلسطين، ويطلب مني أن أحدثه عن أطفال الحجارة، وأن أساعده في كتابة موضوع إنشاء عنهم. فهؤلاء الأطفال هم ذخيرة المستقبل، هم سواعد تحقيق الحلم. لذا تمنيت في افتتاح الملتقى لو أن المنظمين خرجوا عن أطر الخطابات التي لم تخلوا من المناكفات السياسية، إلى شكل آخر يجعل العمل من أجل حق العودة وسيلة جماهيرية ضاغطة مستمرة، لا أن يكون موسميًا يكتفي بالتوصيات التي، عادةً، تبقى حبيسة الأدراج، بدون انتقاص من فكرة الملتقى ومن الجهد الكبير المبذول.

عدنا إلى مخيم اليرموك. عرفته أول مرة في عام 1974. وجدته قد تغير كثيرًا وأصبح مركزًا لحركة تجارية نشطة وازدحامًا سكانيًا هائلاً. قضينا النهار هناك في لقاء الأصدقاء الذين توافدوا للسلام علينا في بيت صديقنا أبو دركل، وقد تمكنت من الخروج ساعتين من الزمن للتجوال وحيدًا في شارع اليرموك من بداياته حتى نهاياته أكثر من مرة، وصليت المغرب في مسجد يعتبر مركزًا للمخيم وتتم الاحتفالات والمناسبات في ساحة بجواره. وكنت في كل الوقت التقط كل ما تقع عيناي عليه وأخزنه في ذاكرتي، حتى عدت لبيت صديقنا وأسرته الرائعة حيث بقيت زوجتي مع زوجته المضيافة الأصيلة، حتى نقلونا، في وقت متأخر، إلى شقة جميلة صغيرة كانت مقر إقامتنا طوال فترة وجودنا في أحضان الشام وربى دمشق وضفاف بردى.

صحونا مبكرين واحتسينا القهوة وخرجنا إلى شارع اليرموك، ومن هناك أخذنا سيارة أجرة إلى دوار الصالحية حيث بدأت وزوجتي جولتنا في أحياء الشام متنشقين عبق التاريخ. تناولنا إفطارنا شطائر سريعة، وجلنا في الصالحية والمزرعة، ثم اتجهنا إلى محطة الحجاز فساحة المرجة فقلعة دمشق والأسواق التقليدية المحيطة بها، وأنا أحدث زوجتي، وحقيقة أحدث نفسي بصوت مرتفع، حديث الذاكرة ومناجاة الشام المعشوقة التي غبت عنها ردحًا من الزمن لم تفارقني فيه أبدًا، حتى أن زوجتي استغربت حين وقفت أحدث بردى بهمس العاشق، بجوار قلعة دمشق التي تمثل تاريخًا وجمالاً وتواصلاً ما بين ماض وحاضر.

بعد أن جلنا كثيرًا ونال منا التعب، اتجهنا للقاء الصديقة والأخت الكاتبة ماجدولين الرفاعي، والتي عرفتها عبر الكتابة وعبر إتحاد كتاب الانترنت العرب، وإن لم ألتقيها سابقًا شخصيًا، بينما التقتها زوجتي وأصبحن صديقات حميمات، والتقاها أبنائي ويعتبرونها عمتهم الجميلة. وكان اللقاء الحار والجميل، بين أخوين جمعهم عالم الحرف والكتابة، في مكتبها بصحيفة الصوت المقاومة، واللقاء الجميل مع الصحفي والمناضل المعروف مؤيد عبد القادر، والعديد من الكتاب والشعراء الذين حضروا إلى مقر الصحيفة. بقينا حتى المساء في هذا الجو الذي اختلطت فيه مشاعر الحنين مع الشعر والصحافة والأدب، وأصر الأستاذ مؤيد أن لا يسمح لنا بالمغادرة قبل غداء شامي طيب، متمازج مع الكرم والطيب العراقي. وأنا من درس في بغداد وعشقها أدرى الناس بكرم العراق وأبنائه وروعتهم. وقبل أن يسمح لنا وتسمح لنا ماجدولين بالمغادرة، كانت مهنة الصحافة قد طغت على اللقاء فلم أجد نفسي إلا وأنا في خضم لقاء صُحفي لصحيفة الصوت المقاومة، ولم نغادر إلا ونحن متفقين على موعد آخر للقاء في حفل تكريم للشعراء.

ومن هناك إلى مقهى هافانا، الذي يحمل اسم مقهى المفكرين، لقضاء أمسية هادئة مع القهوة وزوجتي: الحديث عن كل ما رأيناه والتقيناه، ترتيب لبرامج الغد والأيام القادمة، أحاديث من الذاكرة وحلم المستقبل، حتى عدنا في وقت متأخر إلى مقر إقامتنا فألقينا حقائبنا، ونزلنا للتجوال في شارعي اليرموك وصفد بين آلاف من البشر والمحلات المفتوحة حتى ظننا أنها لا تعرف النوم.

صباحك أجمل يا شام، صباحك أجمل يا رام الله التي أشتاق إليها بقوة هذا الصباح. صباحك أجمل يا عمّان، وأنا أجلس في مكتبي الصغير متأملاً أوراق دالية العنب التي اصفرت أوراقها وسقط معظمها بتأثير الخريف. أنظر إلى السماء التي تفتقر الغيم فأدعو الله أن لا يحرمنا من الغيث الذي تأخر كثيرًا. أتابع ما يحمله بريدي من عشرات المقالات والتعليقات عن حذاء الصحفي العراقي منتظر الزيدي الذي قذفه في وجه بوش، معبرًا عن قرفه وثورته من الاحتلال، فكان قذفه الحذاء رسالة لكل واهم أن لا احتلال يحمل عصاه ويرحل بالرجاء ولا بالتودد، آملاً أن لا يتلهى الكل بالحذاء وينسون قاذف الحذاء، فهو يحتاج وقفة من الصحفيين والأحرار والكُتاب، فقد عبر عن وجهة نظر بطريقة معبرة، ويحتاج لمن يقف معه لحمايته.

أحتسي قهوتي وأشعر بطيفي يسقيني إياها من يده، ويداه تلفني وشعره ورأسه على كتفي. نستمع معًا إلى شدو فيروز:

سائليني يا شآم...
ضفتاك إرتاحتا في خاطري واحتمى طيرك في الظن وحام،
نقلة في الزهر أم عندلة،
أنت في الصحو وتصفيق يمام.
أنا إن أودعت شعري سكرة، كنت أنت السكب أو كنت المدام،
ردي لي من صبوتي يا بردى،
ذكريات زرنا في ليل قوام،
ليلة ارتاحت لنا الحور فلا غصن إلا شجي أو مستهام.

صباحكم أجمل.
عمّان الهوى 17-12-2008

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود