|
الوطنية أم السّلم؟
سيدي الفاضل! لقد كتبتَ إليّ حتى أُبدي رأيي حول العلاقة بين الولايات الأمريكية الشمالية وإنكلترة "من أجل مصلحة المبادئ المسيحية، والسلام الحقيقي". وعبّرت عن أملك في أنّ "الشعوب سرعان ما سوف تفطن إلى الوسيلة الوحيدة لضمان السّلم العالمي". وأنا لدي هذا الأمل. لدي هذا الأمل لأنّ العمى الذي تكمن فيه الشعوب التي تمجّد الوطنية، في زمننا، والتي تربّي أجيالها الشابّة على خرافة الوطنية، والتي لا تتمنّى، في الوقت نفسه، العواقب الحتمية للوطنية - الحروب، قد وصلت، على ما يبدو لي، إلى تلك الدرجة الأخيرة التي يكفي عندها لأبسط مناقشة، تُطرح على لسان أي شخص غير متعصّب، حتى يرى الناس ذلك التناقض الصارخ الذي يكتنفها. غالبًا، عندما تسأل الأطفال عمّا سيختارون من شيئين متنافرين، في حين أنّ لديهم رغبة شديدة في الاثنين معًا، فإنهم يجيبون: هذا وذاك. ماذا تريد: أن تذهب في نزهة أم أن تلعب في البيت؟ - أن أذهب في نزهة وألعب في البيت أيضًا. هكذا بالضبط تجيبنا الشعوب المسيحية عن السؤال الذي تطرحه عليهم الحياة: ماذا سيختارون من اثنين: الوطنية أم السّلم؟ فإنهم يجيبون: الوطنية وكذلك السّلم، رغم أنّ الجمع بين الوطنية والسّلم بنفس استحالة الذهاب في نزهة والبقاء في المنزل في الآن نفسه. في الأيام الأخيرة حدث صِدام بين الولايات الأمريكية الشمالية وإنكلترة بسبب حدود فنزويلا. لم يوافق سولسبيري على أمرٍ ما، وكليفيلند كتب رسالة إلى مجلس الشيوخ. من كلا الجانبين تعالت الهتافات الوطنية الداعية إلى الحرب، وانتشر الهلع في البورصة؛ فقد خسر الناس ملايين الجنيهات والدولارات. وأعلن إديسون بأنه سيخترع قذائف تكون قادرة على قتل عددٍ من البشر في ساعة واحدة أكثر مما قتل أتيلاّ في حروبه كلها. وراح كلا الشعبين يتجهّزان للحرب بحماس. ولكن ألهذا، بالتزامن مع هذه التحضيرات للحرب سواء في إنكلترة أو أمريكا، راح الأدباء والأمراء ورجالات الدولة على شتى مشاربهم ينصحون حكومتي الشعبين بتجنّب الحرب، وأن موضوع الخلاف ليس بذي أهمية كافية للشروع بالحرب، وخاصةً بين الشعبين الأنغلوساكسونيين الشقيقين اللذين يتكلمان لغةً واحدة، واللذين لا ينبغي لهما أن يقتتلا بل أن يحكما الآخرين بهدوء. أم لهذا قام الأساقفة والمطارنة والشمامسة بالصلاة وتلاوة المواعظ في شتى أنواع كنائسهم. أم لهذا عدّت هذه الجهة أو تلك نفسها غير مستعدة؟ لكن حدث أنّ الحرب لم تقع هذه المرة؛ فاطمأن الناس. ولكن يلزم قدر ضئيل من الحصافة Perspicacite لرؤية أنّ الأسباب التي أدّت، في الوقت الراهن، إلى التصادم بين إنكلترة وأمريكا ظلّت هي ذاتها، وأنه إذا كان في الإمكان حلّ النزاعات الحالية دون حرب فمن المحتوم أن تظهر، غدًا أو بعد غد، نزاعات أخرى بين إنكلترة وأمريكا، وبين إنكلترة وألمانيا، وبين إنكلترة وروسيا، وبين إنكلترة وتركيا، بكافة التشابكات المحتملة، كما تظهر كل يوم، ولا مناص من أنّ أحدها سوف يؤدي إلى الحرب. لأنه، إذا عاش شخصان مسلّحان جنبًا إلى جنب، وقد لُقِّنا منذ الطفولة بأنّ السطوة والثروة والمجد هي الفضائل الأسمى حقًا، وبالتالي، لهذا السبب، فإنّ الحصول على السطوة والثروة والمجد بوساطة السلاح على حساب المالكين المجاورين الآخرين لهو الأمر الأجدر بالثناء، وأنّ هؤلاء الناس، على هذا النحو، إذا لم يكونوا يخضعون لأية قيود أخلاقية أو دينية أو حكومية، أفليس من الجلي أنّ أناسًا كهؤلاء سينخرطون في القتال باستمرار، وأنّ العلاقة الطبيعية فيما بينهم ستكون الحرب. وأنّ أناسًا متشبثّين كهؤلاء، إذا ما ارْفضّوا لبعض الوقت، فسوف يفعلون ذلك، فقط، تبعًا للمثل الفرنسي القائل: Pour mieux sauter، أي أنهم ركضوا ليقفزوا بشكل أفضل، ولينقضّوا على بعضهم بعضًا بحنقٍ محتدم الجنون. مخيفةٌ هي أنانية الأفراد، لكنّ أنانييّ الحياة الشخصية ليسوا مسلّحين، ولا يعتبرون، لا إعداد ولا استخدام الأسلحة ضدّ خصومهم، أمرًا حسنًا. إنّ أنانية الأفراد تخضع لسيطرة السلطات الحكومية والرأي العام. ولسوف تلقي الشرطة القبض فورًا على الشخص الذي يسلب، والسلاح في يديه، جاره بقرةً أو هكتارًا من الأرض الزراعية، وتزجّ به في السجن. ناهيكم عن أنّ الرأي العام سوف يُدين شخصًا كهذا، وسيسمّيه لصًّا ومغتصبًا. الأمر مختلف كليًا مع الحكومات؛ فكلها مسلّحة، ولا تخضع لأية سلطة، باستثناء المحالاوت المضحكة للإمساك بالطير عبر ذرّ الملح على ذيله؛ محاولات الهيئات الدولية التي، من الجلي للعيان، لن تتبناها الحكومات القوية أبدًا (وهي مسلّحة أصلاً لكي لا تنصاع لها)، والأكثر أهميةً هو أنّ الرأي العام، الذي يُدين كافة أشكال عنف الإنسان الفرد، يمجّد كلّ استيلاء على ما هو ملك الآخرين لتقوية الوطن، وينسبه إلى فضيلة الوطنية. افتحوا الصحف في أية لحظة ترغبون، وسترون دائمًا، في كلّ لحظة، نقطةً سوداء؛ حجّةً لحرب محتملة: قد تكون كوريا، أو بامير، أو الأراضي الأفريقية، أو الحبشة، أو أرمينيا، أو تركيا، أو فنزويلا، أو ترانسفال. إنّ السلب والنهب لا يتوقفان، ولا للحظة واحدة. وتارةً هنا وأخرى هناك، تجري حروب صغيرة دون توقّف، كإطلاقات رشاشة، في حين أنّ حربًا حقيقية كبيرة ربما، ويجب أن، تبدأ في أية لحظة. إذا كان الأمريكي يتمنّى لأمريكا العظمة والرفاه الأكثر تميّزًا أمام الشعوب الأخرى كافّة؛ فإن الإنكليزي يتمنّى هذا الأمر نفسه بالضبط، وهو ما يتمنّاه الروسي والتركي والهولندي والحبشي والفنزويلي والترانسفالي والأرمني والبولوني والتشيكي. وكلّهم مقتنعون بأنّ هذه الأمنيات، ليس فقط لا يجب إخفاءها وكبتها بل يجوز الاعتزاز بهذه الأمنيات، ويجب تنميتها في أنفسنا ولدى الآخرين. وإذا كانت إحدى الدول، أو أحد الشعوب، لا يستطيع الحصول على العظمة والرفاه بطريقة أخرى سوى الإضرار بدولةٍ أخرى أو شعبٍ آخر، وأحيانًا بدولٍ وشعوبٍ كثيرة، فكيف يمكن للحرب ألاّ تقع. لذا، ولكي لا تقع الحرب، لا حاجة لقراءة الوصايا والصلاة لله ليعمّ السلام؛ أو لإقناع English speaking nations (الأمم الناطقة بالإنكليزية) بأن يتصادقوا فيما بينهم لكي يحكموا الشعوب الأخرى؛ أو إنشاء تحالفات ثنائية أو ثلاثية معادية بعضها لبعض؛ أو تزويج الأمراء بأميرات من الشعوب الأخرى؛ بل القضاء على ما يسبّب الحرب. وما يسبّب الحرب هو الرغبة في خيرٍ استثنائي لشعبنا، وهو ما يسمّى الوطنية. وللقضاء على الوطنية يجب الاقتناع، قبل أي شيء آخر، بأنّها شرّ. وهذا بالذات يصعب القيام به. إذا قلتم للناس إنّ الحرب حماقة فسوف يسخرون منكم: ومن لا يعرف هذا؟ فإذا قلتم إنّ الوطنية حماقة، وسيوافق معظم الناس على هذا أيضًا ولكن مع تحفّظٍ صغير. - أجل! الوطنية الحمقاء حمقاء، لكن هناك وطنية أخرى، وهي التي نتّبعها. إلا أنّ أحدًا لا يوضّح فيمَ هذه الوطنية أفضل. إذا كانت الوطنية الجيدة تنحصر في أنها ليست استيلائية فلا بدّ أن تكون تمسّكية، أي أنّ الناس يريدون التمسّك بما استولوا عليه من قبل، وذلك لأنه ما من بلد قام من دون الاستيلاء، ولا يمكن التمسّك بما استُولي عليه بوسائل غير تلك المستخدمة عند الاستيلاء على شيء ما، أي العنف: القتل. أما إذا لم تكن الوطنية تمسّكية حتى، فهي ثورية؛ وهي وطنية الشعوب المقهورة والمضّطَهدة: الأرمن، البولون، الإيرلند، وهلمّ جرّا. وهذه الوطنية تكاد تكون الأسوأ لأنها الأشدّ حقدًا، والأكثر تطلّبًا لأقسى العنف. لا يمكن للوطنية أن تكون جيدة. لماذا لا يقول الناس إنّ الأنانية قد تكون جيدة رغم أنّ في الإمكان، بالأحرى، إثبات ذلك لأنّ الأنانية شعور طبيعي يولد معه الإنسان، في حين أنّ الوطنية ليست شعورًا طبيعيًا، بل مصطنعٌ مغروسٌ فيه. سيقولون: "إنّ الوطنية جمعت البشر في دول، وهي تعزّز وحدة الدول". لكنّ البشر سبق لهم أن اتّحدوا في دول، وهذا الأمر أُنجز، فلماذا يتمّ الآن تعزيز إخلاص الناس الاستثنائي تجاه دولهم في حين أنّ هذا الإخلاص يخلق كوارث مرعبة لكلّ الدول والشعوب. إذ إنّ تلك الوطنية نفسها، التي حققت وحدة البشر في دول، تدمّر الآن هذه الدول نفسها. فلو كانت هناك وطنية واحدة: وطنية الإنكليز فقط لكان في الإمكان عدّها موحِّدة أو صالحة، لكن عندما تكون هناك، كما عليه الحال الآن، وطنية أمريكية، وإنكليزية، وألمانية، وفرنسية، وروسية، وكلها مضادّة لبعضها بعضًا؛ فالوطنية لم تعد توحِّد بل تُجزِّئ. والقول إنّ الوطنية، إذا كانت صالحة، توحِّد البشر في دول، كما كان عليه الأمر إبّان ازدهارها في اليونان القديمة وروما؛ فمن هذا ينتج أنّ الوطنية الآن أيضًا، وبعد 1800 عام على الحياة المسيحية، مازالت صالحة كذلك. فهذا يشبه القول إنّ الحراثة، بما أنها مفيدة وصالحة للأرض قبل البِذار، تبقى صالحة كذلك الآن، بعد انقضاء موسم البذار. كان ليكون أمرًا جيدًا الحفاظ على الوطنية كتذكار عن تلك المنافع التي جلبتها للبشر في يومٍ ما، كما يحافظ البشر، ويُبقون، على صروح المعابد والأضرحة القديمة... الخ. لكن المعابد قائمة دون أن تلحق أيّما ضرر بالبشر، في حين أنّ الوطنية لا تكفّ عن التسبب بكوارث لا تُحصى. مِمَّ يعاني الأرمن والترك، ولماذا يتذابحون ويتوحشون الآن؟ لماذا إنكلترة وروسيا، المنشغلتان بحصتيهما من التَّرِكة التركية، تنتظران مترقبتين، ولا توقفان مذابح الأرمن؟ لماذا يتذابح الأحباش والطليان؟ لماذا كادت حرب مخيفة أن تندلع بسبب فنزويلا، والآن بسبب الترانسفال؟ والحرب الصينية - اليابانية، والتركية، والألمانية، والفرنسية؟ وحقد الشعوب المقهورة: الأرمن، البولون، الإيرلند! وتجهُّز الشعوب كلها للحرب؟ - هذه كلها ثمار الوطنية. لقد سالت أنهارٌ من الدماء بسبب هذا الشعور، وستسيل أيضًا بسببه، إذا لم يتحرر البشر من بقايا الزمن الغابر هذا، الذي ولّى عهده. اتّفق لي أن كتبتُ، مرّات عدّة، عن الوطنية، وعن منافاتها، لا لتعاليم المسيح، بمعناها المثالي، فقط بل ولأدنى متطلبات أخلاق المجتمع المسيحي. وفي كلّ مرّة، كان يُردُّ على حججي، إمّا بالصمت وإما بإشارة متعجرفة إلى أنّ الأفكار المعبَّر عنها من قبلي إنما هي تعبيرات يوطوبية للتصوّف والأنارخيّة والكوسموبوليتية. وغالبًا ما كُرِّرت أفكاري بصيغٍ مختصرة، وبدلاً من الاعتراض عليها كانت تُذيَّل، وحسب، بأنها ليست سوى كوسموبوليتية، وكأن كلمة "كوسموبوليتية" هذه كافية لدحض حججي كلها دحضًا قاطعًا. الجادّون من البشر، والشيوخ، والأذكياء، والفاضلون، وذوو الشأن، الذين يتربّعون كمدينة على قمة جبل. البشر الذين، من خلال قدويتهم، لاإراديًا، يقودون الحشود، يدّعون أنّ مشروعية وصلاح الوطنية من الجلاء واليقين إلى درجة أنّ التهجّمات الحمقاء والمخبولة على هذا الشعور المقدّس ليست جديرة بالرّد. ومعظم البشر، المخدوعين منذ الطفولة، والموبوئين بوباء الوطنية، يعتبرون هذا الصّمت المتعجرف الحجّة الأكثر إقناعًا، ويواصلون الهمود في جهلهم. لذا؛ فالناس القادرون، بحكم وضعهم، على تخليص الحشود من ويلاتها، ويستنكفون عن القيام بذلك، يرتكبون خطيئةً كبرى. الشرُّ الأشدُّ هولاً في العالم هو النِّفاق. وليس عبثًا أنّ المسيح قد غضب مرّةً واحدةً فقط، وكان هذا موجَّهًا ضدَّ نِفاق الفرِّيسيين. ولكنْ، ما نفاق الفرّيسيين مقارنةً بنفاق زمننا. إذ إنّ الفريسيين- المنافقين، مقارنةً بمنافقينا، كانوا أكثر الناس استقامةً. وفنّهم في النفاق، مقارنةً بفنِّ منافقينا، مجرّد لعب أطفال. لا يمكن أن يكون الأمر على غير هذا النحو؛ فحياتنا برمّتها، مع الدين المسيحي، دين الوداعة والمحبّة، متّحدة مع حياة شيطانٍ قاطعِ طريقٍ مسلَّحٍ، ولا يمكنها أن تكون سوى نفاقٍ مرعبٍ متواصل. من المريح جدًا التديّن بذلك الدين الذي يتضمّن عند أحد طرفيه القداسة المسيحية، وبالتالي الطهارة، وعند الطرف الآخر سيفٌ وثنيٌّ ومشنقة، بحيث توضع القداسة قيد العمل عندما يكون الأمر ملائمًا ويكون خداع القداسة ممكنًا، ويشتغل السيف والمشنقة عندما لا يكون خداع القداسة في المتناول. دينٌ كهذا مريحٌ جدًا، ولكن سوف يأتي يومٌ يهترئ فيه نسيج الكذب هذا، وتغدو مواصلة التشبّث بالطرفين معًا مستحيلةً، بحيث لا يكون هناك مفرّ من الانحياز إلى أحدهما. وهو ما يحدث الآن فيما يتعلق بعقيدة "الوطنية". فسواء أراد البشر أم لا، يَمْثُل أمام البشرية السؤال التالي: كيف يمكن لتلك الوطنية، التي يعاني البشر بسببها آلامًا بدنيةً، وأخلاقيةً كذلك، لاتحصى، أن تكون ضروريةً، وصالحةً؟ والإجابة عن هذا السؤال أمرٌ لا مفرَّ منه. لا بدَّ من، إمّا بيان أنّ الوطنية هي ذلك الخير العظيم بحيث يفتدي كل تلك الفواجع التي سبَّبتها للبشرية، وإمّا الإقرار بأنّ الوطنية هي الشرّ الذي ليس فقط ينبغي عدم غرسه في البشر وإلهامهم إياه، بل هو الشرّ الذي يجب العمل على التخلّص منه بكلّ قوانا. C’est á prendre ou á laisser [إن شئتم انبذوا، أو شئتم لا تنبذوا] كما يقول الفرنسيون. إذا كانت الوطنية خيرًا فالمسيحية، التي تمنح السلام، حلمٌ فارغٌ، وكلّما اجْتُثَّ هذا الدين بصورة أسرع كلما كان أفضل. أمّا إذا كانت المسيحية تمنح السلام فعلاً، ونحن نرغب في السّلام حقًا، فالوطنية من بقايا الفترة الهمجية، التي لا يجب فقط عدم التحريض، والتربية، عليها، كما نفعل الآن، وإنما يجب اجتثاثها بشتّى السُّبل: الوعظ، الإقناع، الازدراء، السخرية. إذا كانت المسيحية "حقّـ"ـًا، ونحن نريد العيش في سلام، فليس فقط لا يجوز لنا التعاطف مع جبروت وطننا، بل يجب أن نفرح بتضعضعه، وأن نساعد على ذلك. يجب أن نفرح عندما تنفصل بولونيا وإقليم أوستزيه، وفنلندة وأرمينيا عن روسيا؛ وعلى الإنكليزي أن يفرح للأمر ذاته فيما يتعلق بإيرلندا والنمسا والهند وغيرها من المستعمرات، ويساعد على ذلك، لأنّ وطنية الدولة تكون أشرّ وأكثر وحشيةً، وتقوم سطوتها على آلامٍ أكثر، كلّما كانت الدولة أكبر. ولهذا، إذا كنّا نريد أن نتمثّل فعلاً ما نبشّر به فعلينا ليس فقط ألا نرجو تعاظم وطننا، كما نفعل الآن، بل أن نتمنّى تقلّصه وتضعضعه، والمساعدة على ذلك بكل قوانا، وتربية الأجيال الشابّة على هذا النحو. علينا تربية الأجيال الشابّة بحيث أنّ الشابّ الآن كما يخجل من إظهار أنانيته الفظّة، مثلاً: أن يلتهم الطعام كله دون أن يبقي شيئًا للآخرين، أو أن يدفع الأضعف عن الطريق لكي يمرّ، أو أن يستولي بالقوة على ما يحتاج غيره إليه - كذلك ينبغي أن يخجل من تمنّي تعاظم جبروت وطنه. وكذلك كما أنّ مديح المرء نفسَه يعتبر أمرًا غبيًا ومثيرًا للسخرية، ينبغي أن يعتبر أمرًا غبيًا مديح المرء شعبَه كما يحدث الآن في التأريخات واللوحات والنُّصُب والكتب التعليمية والمقالات والأشعار والخطب، الوطنية الكاذبة المتنوعة، وفي الأناشيد الوطنية الغبيّة. لكن ينبغي فهم أنّ التسلّح، الذي يُهلك الحياة الدنيوية والروحية للشعوب، سوف يستمر ما دمنا نمجّد الوطنية ونربي الأجيال الشابّة عليها، وستتواصل الحروب كذلك، الحروب المهولة المرعبة، مثل تلك التي نتجهَّز لها، والتي نرسل إلى ميدانها الآن، بعد إفسادهم بوطنيتنا، محاربي الشرق الأقصى المخيفين الجدد. الامبراطور ويلهلم، إحدى أكثر شخصيات زمننا هزليةً، الخطيب والشاعر والموسيقي والكاتب المسرحي والرّسام، والأهمّ، الوطني، قام منذ فترة قريبة برسم لوحة تُصوِّر كلّ شعوب أوروبا متسلِّحة بالسيوف، وواقفةً على شاطئ البحر، وهي تنظر، بأمرٍ من الملاك ميخائيل، إلى شخصي البوذا وكونفوشيوس الجالسين على مبعدة. بحسب مقصد ويلهلم، على هذا أن يعني أنّ شعوب أوروبا يجب أن تتوحّد لمواجهة الأخطار القادمة من هناك. وهو محقّ تمامًا من وجهة نظره الوطنية الفظّة، الوثنية المتخلّفة 1800 عام. قامت الشعوب الأوروبية، التي نسيت المسيح باسم وطنيتها، بتهييج تلك الشعوب المسالمة أكثر فأكثر، وتعليمها الوطنية والحرب، وقد هيّجتها في الوقت الراهن إلى درجة أنّ اليابان والصين، فيما إذا نستا تعاليم البوذا وكونفوشيوس كما نسينا نحن تعاليم المسيح، سوف تتعلّمان قريبًا فنّ قتل البشر. (سوف تتعلمان بسرعة، كما أظهرت اليابان). وباعتبارهما دولتين مقدامتين وحاذقتين وقويتين وكثيرتي السكان، فلا مناص من أنهما ستفعلان بشعوب أوروبا، فيما إذا عجزت أوروبا عن مواجهتهما بما هو أقوى من أسلحة إديسون واختراعاته، ما تفعله شعوب أوروبا بأفريقيا. "ليس التلميذ أفضل من معلِّمه، بل كلُّ من صار كاملاً يكون مثل معلِّمه" (لوقا، 6:40). عن سؤال أحد الملوك: كم عدد القوات التي ينبغي جمعها للانتصار على أحد شعوب الجنوب الذي لا يخضع له، وكيف؟ أجاب كونفوشيوس: "تخلّص من قواتك كلها، واستخدم ما تهدره الآن على القوات في تنوير شعبك وتحسين الزراعة، ولسوف يطرد شعب الجنوب مَلِكَه، ويخضع لسلطانك دون حرب". هكذا علّم كونفوشيوس الذي ينصحوننا بالخوف منه. أما نحن، وقد نسينا دين المسيح وارتددنا عنه، فنريد إخضاع الشعوب بالقوة، وبهذا نخلق، وحسب، لأنفسنا أعداءَ جددًا، أشدّ بأسًا من جيراننا. أحد أصدقائي، حين شاهد لوحة ويلهلم، قال: "اللوحة رائعة، لكنها لا تعني مقاصد صاحبها على الإطلاق. بل تعني أنّ الملاك ميخائيل يشير، لكلِّ حكّام أوروبا المصوَّرين في هيئة قطّاع طرقٍ مدججين بالأسلحة، إلى ما سيهلكهم ويبيدهم، وبالتحديد: دماثة البوذا وحكمة كونفوشيوس". وكان بمقدوره أن يضيف: "ووداعة لاو تسه". وبالفعل، لقد نسينا المسيح بسبب نفاقنا، واستأصلنا من حياتنا كلّ ما هو مسيحيّ إلى درجة أنّ تعاليم البوذا وكونفوشيوس أسمى، بما لا يُقاس، من تلك الوطنية الوحشية التي تُقاد بها شعوبنا المسيحية المزعومة. ولهذا، فإنّ خلاص أوروبا والعالم المسيحي عمومًا لا يكمن في أن ينقضّ قطّاع الطرق المدججون بالسيوف، كما صوّرهم ويلهلم، على إخوانهم فيما وراء البحار لقتلهم بل، على العكس من ذلك، يكمن في رفض بقايا الأزمنة الهمجية: أي الوطنية. وعبر رفضها، نزع الأسلحة، وإراءة شعوب الشرق مثال العيش الأخوي الذي علّمنا إياه المسيح، لا مثال الوطنية الوحشية المفترِسة. موسكو، 5 كانون الثاني، 1896 ترجمة: هڤال يوسف *** *** *** |
|
|