ابن سينا ومسألة التقمص

 

محمد علي عبد الجليل

 

كثيرًا ما تكون اللغة قاصرةً عن التعبير عن مسائلَ كثيرةٍ؛ فتزيد من غموضها بدلاً مِن أنْ توضحَها. والتقمص واحدة من هذه المسائل. حتى إنَّ للتسمية نفسِها عدةَ مرادفات، هي: التناسخ (وأنواعه الأربعة هي: النسخ [انتقال النفس إلى جسد آدمي] والمسخ [انتقال النفس إلى حيوان] والرسخ [انتقال النفس إلى نبات] والفسخ [انتقال النفس إلى جماد])، العودة إلى التجسد، العَود للتجسد. ويفضِّل بعضُ الباحثين الثيوصوفيين تعبيرَ "العَود للتجسد" reincarnation بدلاً من التقمص نظرًا لما علِقَ بهذا الأخير من مفاهيمَ مغلوطةٍ[1]. ولكنَّ الكلمة العربية الشائعة والأكثر تداولاً حاليًا هي "التقمص" وتعني: ارتداء النفس قميصًا جسديًا جديدًا بمقتضى قانون كَرْمَى (أو الكارما) الرحيم العادل (قانون "الجزاء"، قانون "الفعل وردِّ الفعل"، قانون "بالكيل الذي تكيلون يكال لكم"، قانون "ما تزرعْ تحصدْ"، قانون "فمن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيرًا يرَه ومن يعملْ مثقالَ ذَرَّةٍ شرًا يرَه"[2]، قانون "تُوَفَّى كلُّ نفسٍ ما كسبَت"[3]، قانون "فبما كسبَتْ أيديكم"[4]، قانون "كلُّ نفسٍ بما كسبَتْ رهينة"[5]، قانون "مصونية الطاقة" الأخلاقية) وذلك من أجل استنفاد تدريجي لرصيد أفعالها السابقة. وقد عبّر الهندوسيون عن مفهوم التقمص بالكلمتين السنسكريتين: "سمسارا –ﭭـادا" samsara-vada و"بونارجانما" pounarjanma. بينما يشار في الإنكليزية إلى التقمص بالكلمات: Reincarnation [العَود للتجسُّـد] وRebirth [الولادة من جديد]، Metempsychosis [التناسخ]. أما اللغة الفرنسية فتعبِّر عن التقمص بالكلمات: Transmigration des âmes [هجرة الأرواح]، Réincarnation [العَود للتجسُّد]، Métempsycose [التناسُخ]، Renaissance [الولادة من جديد]، Palingénésie [العَود الدَّوري أو الميلاد الجديد]، cyclogénèse (بالإنكليزية: Cyclogenesis) [الجريان الدائري الكوني، العَود الدَّوري]. لكنَّ عِلْم الإيزوتيريك L'ésotérisme [العِلْم الباطني أو السِّـرَّانيّ] يفرِّق بين العَود للتجسّد وبين التقمص (التناسخ)، فالأول يشير إلى ارتداء النفس البشرية العليا العاقلة جسدًا بشريًا جديدًا (بشريًا حصرًا) لدى عودتها إلى الأرض، بينما يشير الثاني إلى إمكانية انتقال النفس العاقلة إلى جسد بشري أو حيوان أو نبات أو جماد. إنَّ الثيوصوفيَّ الذي ولجَ عوالمَ روحانيةً قلَّما يجد الكلماتِ. لقد أطاعت اللغةُ النِّـفَّـريَّ في التعبير عن عجز اللغة بقوله: "كلما اتَّسعَتِ الفكرةُ ضاقت العبارةُ."

لنعرِّجْ أولاً على مفهوم الإنسان ومَرْكباتِه السبع من وجهة نظر الثيوصوفيا (الحكمة الإلهية) Theosophy ونسلِّط الضوءَ على مفهوم التقمص، ثم نتطرَّق إلى موقف ابن سينا منه.

ينطوي الإنسانُ، بحسب الثيوصوفيا، على سبعة أجسامٍ أو هياكلَ أو بُـنَىً أو مَرْكباتٍ أو مستوياتِ [تدرُّجاتِ] طاقةٍ أو طبقاتٍ أو أغلفةٍ أو حُجُبٍ أو مبادئَ؛ وتتألَّف هذه السُّباعية من مجموعتين: ثالوث عُلْوي ورابوع سُفلي، وهي (مرتَّبةً من الأخفِّ الأشَفِّ إلى الأثقل الأكثف):

1.    الجسم الآتمي (الآتما Atma أو الروح)، وهو الشعلة الإلهية الكامنة في الإنسان (الموناد أو الإله الباطن)؛

2.    الجسم الإشراقي Buddhi (الجسم البودهي)، وهو مَرْكبة تحمِل الروحَ؛

3.    الجسم العِلِّي أو الجسم السببي higher Manas (الجسم العقلي الأعلى أو الأرفع)، وهو النفس العليا أو أنِّية الفردية، وهو الذي يعود للتجسُّد، بحسب الثيوصوفيا.

ذاك الثالوثُ العُلْويُّ يسمَّى الفردية (النفْس العليا الخالدة).

4.    الجسم الرغائبي kamarupa (الجسم العقلي الأدنى lower Manas)، مقر الرغبات، وهو النفس الدنيا (الفانية) أو أنِّية الشخصية؛

5.    الجسم النجمي astral body (الجسم النوراني، مركز الأحاسيس والانفعالات والعواطف والشهوات)؛

6.    الجسم الأثيري etheric body (البرانا prana أو طاقة الحياة)؛

7.    الجسم الفيزيقي physical body (الجسم المادي أو الجسم الجِرْمي).

تلك الرباعية الدنيا تسمَّى الشخصية (النفْس الدنيا الفانية).

وإذا دقَّـقْنا في الاشتقاق اللغوي لكلمة "تقمُّص" وجدْنا أنها مشتقَّة من كلمة "قميص"[6]. والقميص هو السربال أو الثوب الذي يغطِّي النصفَ الأعلى من جسد الإنسان؛ وهذا يشير إلى أنَّ الذي يتقمص في الإنسان هو النفس العليا (الفردية). ويدلُّ معنى "القميص" على التبديل عندما يبلى ويهترئ. فكما أنَّ الإنسانَ يبدِّلُ أكثرَ من قميص في حياته الواحدة، كذلك تُبدِّلُ الفرديةُ أكثرَ من قميص جسدي في حياتها.[7]

بتعبير آخر، يمكن أيضًا تقسيم الإنسان، لسهولة الدراسة والفهم، إلى: 1-الجسد، 2-الهالة، 3-الجسم الوهمي، 4-النفس الحيوانية، 5-النفس البشرية، 6-النفس الروحانية، 7-الروح. وقد قسَّم بولسُ الرسولُ والمسْلمون أيضًا الإنسانَ إلى ثلاثة أقسام هي: جَسَد (الجسم المادي والجسم الأثيري والجسم النجمي) ونَفْسٌ (الجسم الرغائبي والجسم العِلِّي والجسم الإشراقي) وروحٌ (أتما). وقسَّمَ المسلمون النفْسَ إلى ثلاثة أقسام (أو أنواع) هي: أمَّارة [بالسوء] (تُقابِل الجسمَ الرغائبي والجسمَ النجمي) ولوَّامة (تُقابِل الجسمَ العقلي الأعلى) ومطمئنَّة (تُقابِل الجسمَ الإشراقي والجسمَ الأتمي).

يتألف الإنسان، إذًا، من شخصية personality فانية (من كلمة [8]persona وتعني القِناع) ومن فردية individuality خالدة. الشخصية الفانية الحادثة هي أداة تستعملها الفرديةُ أو هي ثوب تلبسه الفرديةُ في تَجَسُّد أرضي واحد أو بالأحرى هي قِناع persona مركَّب مؤلَّف من أقنعة فكرية إيديولوجية عقائدية انفعالية؛ بينما الفردية خالدة وتأخذ أكثر من تجسُّد، أيْ: تتقمَّص، أيْ: تلبس أو ترتدي قمصانًا جديدة، أقنعةً جديدة بحسب محصِّلة قناعاتها وأفعالها السابقة، أيْ: تنتقل الفرديةُ من صورة بشرية (قميص أو قناع) إلى صورة بشرية أخرى حاملةً معها من تجسُّدها السابق محصِّلةَ أعمالها على شكل صفات وطباع وفُرَص وظروف، ولكن الفردية هي الأخرى ستزول عندما يهبط ليل براهما. فخلودها نسبي، هي خالدة مقارنةً بالنفس الدنيا وبالجسد. إنَّ الذي يتقمص إذًا هو الفردية الخالدة (النفس العليا العاقلة) وليست الشخصية الفانية.

فكما تخضع شخصيتُنا الفانية (جسدُنا المادي وملحقاتُه: الأثيري والنجمي والرغائبي) لثنائية اليقظة والنوم حيث تمارسُ نشاطًا في اليقظة وتَخْلُد للراحة في النوم لكي تهضمَ خبرة يومِها السابقِ وتستعدَّ لاستيقاظ جديد، كذلك تخضع فرديتُنا الخالدة (روحُنا وملحقاتُها: الإشراقي والعقلي الأعلى) لثنائية الحياة والموت حيث تمارسُ أفعالاً في الحياة وتَخْلُد للراحة في الموت لكي تهضمَ خبرةَ حياتِها السابقةِ وتستعدَّ لولادة جديدة. وقد عبَّرَ نبيُّ الإسلام تعبيرًا بليغًا عن هذا التشابه بين الثنائيتَينِ: ثُنائيةِ اليقظة والنوم وثُنائيةِ الحياة والموت، حيث قال في إحدى خُطَبه: "واللهِ إنَّكم لتموتُنَّ كما تنامون، ولتُبعَثُنَّ كما تستيقظون، ولتُجزَوُنَّ بالإحسانِ إحسانًا وبالسوء سوءًا (ولَتُحاسبُنَّ بما تعملون) [قانون كَرْمَى]، وإنها لَجَنَّةٌ أبدًا أو لَنارٌ أبدًا." فالقانون واحد ويسري على جميع مراتب الوجود، وكلُّ شيء مترابط متواصل. الكَرْمَى هو أساسًا تواصُلُ الفعل؛ فالإنسانُ يُولَد على ما كان عليه [في حياة سابقة] ويموتُ على ما عاش عليه ويُبعث على ما مات عليه. فالموتُ والحياة حلقتان في سلسلة طويلة. والوجودُ أرحاءٌ[9] تدور وعجلاتٌ تسير. فقانونُ التجلِّي الدَّوري (المتناوب) يسري في كل مراتب الوجود على شكْل بَسْط (انفلاش) وقبْض (انكماش) متعاقبَين: الشهيق والزفير - الانبساط والانقباض - النشاط والراحة – اليقظة والنوم – الليل والنهار – الحياة والموت – المَـنْـفَـنْـتَـرَى [المَـنْـوَنْـتَـرَى] Manvantara [فترة التجلِّي الكوني] والبْـرَلَـيَى Pralaya [فترة الراحة الكونية]. الوجود كله كالقلب ينبض، كالرئتَين يتنفَّس، كالعَين يرِفُّ، كالجَناح يَخفِق، كالموجة يهتزُّ، كالضوء يومِض، كالنهر ينهُر، كالسيل يسيل... و"السَّفَرُ طويل"[10]. تُقِرُّ الثيوصوفيا بأنَّ العَود للتجسُّد هو مَظْهَر من مظاهر هذا القانون الكوني. في الإسلام، تُفسِّر بعضُ الفِرَق الباطنية، أو لنقلِ العرفانية أو الغنوصية، بعضَ الآيات القرآنية على أنها إشارة واضحة إلى التقمص. لغويًا، يمكن أنْ يشيرَ الحقلُ الدلاليُّ لهذه الآيات إلى مفهوم عَود النفس العليا للتجسد أكثرَ من مرة. ومن هذه الآيات: "فلا! أقسمُ بالشفق [حمرة الأفق قبل الغروب]، والليلِ وما وسَق [ضمَّ وجمعَ وستَر]، والقمرِ إذا اتَّسق [اجتمعَ نورُه واكتمل]، لَتركبُـنَّ طَبَقًا [حالاً] عن طَبَق؛ فما لهم لا يؤمنون؟!"[11] ومما يُفهَم من هذه الآيات هو أنَّ القرآن يقْسم بعناصرَ من الكون للإشارة إلى القانون الذي يحكم هذا الكون، فكما أنَّ الشمس تغيب ويأتي الليلُ (تعاقُب الليل والنهار) وكما أنَّ القمر ينتقل من حال إلى حال (هلال وبدر) في قانون حركي دائري سرمدي (تكوين دوري Cyclogenesis)، كذلك فإنَّ هذا القانون يسري على البشر أيضًا فينتقلون من حياة إلى موت إلى حياة في حركة مستمرة (سَمْسَرا Le samsāra). كما يمكن أنْ يُفهَمَ من آية "لَتركبُنَّ طَبَقًا عن طَبَق" إنكم لسوف تنتقلون من حال إلى حال، وهو الموت والحياة، فتمرُّون متجسِّدين في جميع الأجناس والأعراق البشرية والحالات الاجتماعية في تلك الأُسْرة الإنسانية الواحدة وستمرُّون في كلا الجنسين الذكر والأنثى. والتفسير التقليدي عند السُّنَّة ليس ببعيد جدًا عن هذا المعنى، وإنْ لم يُصرِّحْ بمفهوم العَود للتجسُّد. بمعنىً أوسع، كل شيء يتغير ويتحوَّل من حال إلى حال في حركة دورية دائرية سرمدية متَّخذًا أشكالاً متعاقبة يشكِّلُ تسلسلُها خلال فترة محدَّدة مفهومَ التكوين genèse. لقد صرَّح بإيمانه بالتقمص كثيرٌ من المفكرين والفلاسفة على مر العصور مثل: فيثاغورس، أفلاطون، أرسطو، أوريجينيس، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمه، ﭭيكتور هيغو [هوغو]، بلزاك، غوته، أوفيد، شوبنهاور، شيشرون، جيوردانو برونو، هيلموت، اسبينوزا، لايبنز، سويدنبورغ، بنيامين فرانكلن، عمانوئيل كانط، تايلور، كيركيغارد، أديسون، كارل غوستاڤ يونغ، تولستوي. وأشار القرآنُ الكريم إلى مفهوم العَود للتجسد في أكثر من آية أَوْضَحُها هي: "كيف تَكْفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يُميتكم ثم يُحييكم ثم إليه تُرْجَعون؟!"[12] ويشير ﭙـيير لوري Pierre Lory إلى أنَّ "المصنَّفات الجابرية [جابر بن حيان] يتخلَّلها مذهب في التناسخ: فمن دَور إلى آخر يترقَّى العارفون إلى منازلَ أعلى فأعلى في العرفان."[13]

فحياةٌ واحدة من حيوات الجسم المادي ليست سوى نهارٍ من نهارات النفس العاقلة، وحياةٌ واحدة من حيوات النفس العاقلة ليست سوى نهارٍ من نهارات الأتما (الروح)، وحياةٌ واحدة من حيوات الأتما ليست سوى نهارٍ من نهارات براهما، وحياةٌ واحدة من حيوات براهما ليست سوى نهارٍ... والنهرُ جارٍ... تدورُ الكينونةُ على ذاتها فنكون.

لكنَّ اللَّبس الذي يحصل في مفهوم التقمص هو الفكرة التي يعتقدها كثيرٌ من الناس والتي يرفضون على أساسها التقمصَ، وهي اعتقادهم بأنَّ تقمُّصَ الروح يعني انتقالها إلى جسد إنسان آخر. وهذا خطأ. فالتقمص، كما تطرحه الثيوصوفيا، هو تغيير ثيابٍ بكل بساطة. والذي يغيِّر ثيابَه يبقى هو هو.

يُعَدُّ ابنُ سينا[14] من أكثر فلاسفة الإسلام اهتمامًا بالنفس. يقول الدكتور جميل صليبا: "ولعلَّ ابن سينا أكثر فلاسفة الإسلام اهتمامًا بأمر النفس."[15] فقد صنَّف لها عدةَ رسائل وأتى على ذِكْرها في كتاب الشفاء والإشارات والنجاة وأدلى ببراهينَ على وجودها كبرهان الاستمرار والبرهان الطبيعي (السيكولوجي) وبرهان الرَّجُل الطائر (المعلَّق في الفضاء) الذي اعتبرَه ابنُ رشد محضَ تخيُّلات.[16] إلاَّ أنَّ مفهومَ النفس غير واضح تمامًا عند ابن سينا (ماهيَّةُ النفس؟ ومن أين جاءت؟ وما علاقتُها بالبدن؟ وما مصيرها؟) فهو يرى بأنَّ "المراد بالنفس هو ما يشير إليه كلُّ أحد بقوله: (أنا)".[17] ويرى بأنَّ الأنا "مغايرة لجملة أجزاء البدن".[18] يبدو مما وصلَنا أنَّ مفهومَ النفس السينوَيَّ أقرب إلى المادية منه إلى الروحانية. لا بد أنْ يكونَ اشتغالُه بالسياسة وصحبتُه للأمراء وحبُّه للجاه والسلطان وانغماسُه في الشهوات الحسية قد أثَّرَ تأثيرًا كبيرًا على فكره. فغلبَ عليه الفكرُ المادي، لاشتغاله أيضًا بالطب (حقل عمله هو الجسم المادي الجِرْمي)، وقد غلَبَ اشتغالُه بالسياسة على اشتغاله بالطب. وقد رأى الغزالي بأن فلسفة ابن سينا مليئة بالإلحاد وبأنَّ تصوُّفَه ليس إلاَّ سترٌ لهذا الإلحاد.[19] وفي هذا إشارة إلى ماديته. فكان ابنُ سينا يردُّ على من يتَّهمه بالكفر والزندقة بقوله: "إنَّ تكفير مثلي ليس بالأمر الهيِّن، ولا يوجد إيمان أقوى من إيماني، أنا وحيد دهري وأكون كافرًا؟! إذَنْ لا يوجد في العالَم كلِّه مسلم واحد."[20] كان متعاظمًا متعاليًا فخورًا معتدًا بنفسه[21] منغمسًا في الشهوات ومعاقرة الخمرة مستهترًا بصحته يُكثِر من الطعام والشراب متقرِّبًا من السلطة ساعيًا إلى الجاه حتى أنه وُلِّيَ الوزارةَ مرةً بعد مرة. فهو القائل متفاخرًا:

بأيِّ مأثُـرةٍ ينقاسُ بي أحــــدٌ                بــأيِّ مكرُمةٍ تحكينيَ الأمـمُ
أمَّـا البلاغةُ فاسألْ بي الخبير بها                أنــا اللسانُ قويمًا والزمانُ فمُ
كانـــت قناةُ علوم الحقِّ عاطلةً                حتى جلاها بشرحي الفهمُ والقلَمُ[22]

لقد "قضى ابنُ سينا شطرًا طيبًا من حياته في صحبة الملوك والأمراء والرؤساء ومجالستهم فشغل ذلك أوقاته."[23]

كان يفاخِر بنفسه كثيرًا وهو يترجم سيرتَه الذاتيةَ التي رواها أبو عبيد الجوزجاني[24] فيقول:

وأحضرتُ معلِّمَ القرآن ومعلِّمَ الأدب وأكملتُ العشرَ من العمر، وقد أتيتُ على القرآن وعلى كثير من الأدب حتى كان يُقضَى مني العجب.[25]

كان ابنُ سينا يعلِّم نفسَه بنفسه. ولكنَّ غرقه في الشهوات المادية[26] أعاقه كثيرًا عن فهم علوم ما وراء الطبيعة. فعندما قرأ كتابَ ما بعد الطبيعة لأرسطوطاليس التبسَ عليه غرضُ واضعِه ولم يستبِنْ مقاصدَه وعسُرَ عليه العِلْمُ الإلهي فانكبَّ على الكتاب يعيد قراءته أربعين مرة. يقول في سيرته الذاتية:

[...] وكذلك حتى استحكمَ معي جميع العلوم. وكلُّ ما علِمْتُه في ذلك الوقت فهو ما علِمْتُه الآن لم أزدَدْ فيه إلى اليوم. [...] ثم عدَلْتُ إلى الإلهي وقرأتُ كتابَ ما بعد الطبيعة فما كنتُ أفهم ما فيه والتبس عليَّ غرضُ واضعِه حتى أعدْتُ قراءتَه أربعين مرة وصار لي محفوظًا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود منه، وأيستُ من نفسي وقلتُ: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه.

ألهذا الحد كان كتابُ ما بعد الطبيعة صعبًا على عبقري مثل ابن سينا حتى يقرأه أربعين مرةً ويحفظه ولا يفهمه! والغريب في القصة أيضًا أنه قد وجدَ متَّسعًا من الوقت ليقرأَ كتابًا واحدًا أربعين مرة، على الرغم من قضاء جُلِّ وقته مع الملوك والأمراء! وعلى الرغم من أنه عندما طُلِبَ إليه شرْحَ كُتُبِ أرسطوطاليسَ قال إنه لا فراغَ له إلى ذلك، ولكنه يصنِّف كتابًا يورد فيه ما صحَّ عنده هو من هذه العلوم من دون مناظرةٍ مع المخالفين ولا الاشتغال بالرد عليهم.

لقد انتقده ابنُ سبعين[27]، إضافة إلى الغزالي وابن رشد وغيرهما، بقوله:

إنَّ ابن سينا مموِّه ومسفسِط، كثير الطنطنة، قليل الفائدة، وما له من التآليف لا يصلح لشيء، وزعم أنه أدرك الفلسفةَ المشرقية، ولو أدركها لتضوَّعَ ريحها عليه، وأكثر كتبه مؤلَّفة ومستنبَطة من كتب أفلاطون. [...] وكلامُه لا يعوَّل عليه، والشفاء أجلُّ كُتُبِه وهو كثير التخبُّط.[28]

جاء في أرجوزته الكبرى (الألفية) قولُه:

الطبُّ حِفْظُ صحةٍ برءُ مرضْ             من سببٍ في بدنٍ منذُ عرَضْ

وهو ما يشير إلى اشتغاله على مستوى الجسم المادي (الأعراض symptoms) دون الغوص في غياهب النفس لمعرفة الأسباب الكامنة، بل جعلَ السببَ في البدن، مما يدلُّ أيضًا على ماديته؛ وعليه سار الطبُّ من بعدِه فاصلاً بين المادة والروح. فابنُ سينا نفسُه عندما أصابه القولَنجُ جعلَ يحقِنُ جسمَه الجِرْميَّ ثمانيَ مرات يوميًا فتقرَّحَتْ أمعاؤه وخارت قواه، ولكنه استمرَّ في معالجة بدَنِه فقط حتى استطاع المشيَ فعاد إلى الإفراط في الشراب فانحطَّت قواه من جديد، فقال: "المدبِّر الذي كان يدبِّرني قد عجزَ عن التدبير..." أيْ أنه عالَجَ جسمَه الماديَّ فقط بدون أنْ يُغيِّرَ سلوكَه وما في نفسِه.

تلك الشواهد والانتقاداتُ المذكورةُ آنفًا ليس هدفُها انتقاصَ الرجُل حقَّه، بقدر ما هدفها الإشارة إلى أنَّ مذْهبَه كان يميل إلى المادية.

لقد كانت شهرةُ ابن سينا أكبرَ بكثيرٍ من عِلْمِه. فالشهرة أصلاً ليست دليلاً على صحة الآراء أو عمقها. فها هي الفيلسوفة سيمون ﭭـايل Simone Weil ترى بأنَّ الفيزيائي الشهير ماكس ﭙـلانك[29] "لم يكنْ مفكرًا كبيرًا" وبأنَّ

كتابه الأخير، الذي تُرجِمَ إلى الفرنسية بعنوان Initiations à la physique [تعلُّـم الفيزياء]، يمتلئ ثلاثةُ أرباعه باعتبارات فلسفية ويقدَّم شرحًا جديدًا لحكاية أندرسِن. فلو تغاضينا عن شخص المؤلِّف لكان هذا الكتابُ بحقٍّ شِبْهَ فارغ من الأهمية إلاَّ في بعض الصفحات.[30]

ولا يخفى على الباحث أنَّ الفِكْرَ الصوفي والفلسفي عند محمد بن عبد الجبار النِّـفَّـري الذي لم يبلغْ شهرةَ الشيخ الرئيس ابن سينا أعمقُ بما لا يقارَن من الفِكْر الصوفي والفلسفي عند صاحبنا الذي ضربَتْ شهرتُه الآفاقَ.

هناك قصيدةٌ شهيرةٌ تُنسَب إلى ابن سينا وتتطرَّق إلى موضوع النفس التي يرمز إليها في القصيدة بالورقاء (الحمامة الرمادية). وقد شكَّ بعضُ الكُتَّاب في صحة نسبتها إليه، لكون أسلوبها أعلى من أسلوبه، ومنهم أحمد أمين الذي قال:

الناقد الأدبي يقطع بأنها ليست لابن سينا لأنه إذا ما تذوَّقَ ما لابن سينا من شِعر وأراجيز وتذوَّقَ هذه العينيةَ يرى أنها أرقى بكثير من شعر ابن سينا. فابنُ سينا غامضُ اللفظ في شِعره وفلسفته، سمجُ التعبير.

والقصيدة هي وقفة شعرية تأمُّلية مع النفس أكثر من كونِها موقفًا فلسفيًا. وهي:

هَبَطَتْ إليكَ مِنَ المَحَـلِّ الأرفَــعِ                وَرْقَاءُ[31] ذَاتُ تَعَـزُّزٍ وتَـمَـنُّـعِ
مَحجوبةٌ عَنْ كلِّ مُـقْـلَةِ عـارِفٍ                وَهْيَ التي سَـفَرَتْ ولمْ تَتَبَرقَـعِ[32]
وصلَتْ على كُرْهٍ إليكَ وَرُبَّـمــا                 كَرِهَتْ فِراقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَـفَـجُّعِ
أَنِفَتْ وما أَلِـفَتْ فلمَّا واصــلَتْ                 أَنِسَتْ مُجاوَرَةَ الخَرابِ البَـلْقَـعِ[33]
وأظُنُّهـا نَـسِـيَتْ عُهُودًا بالحِمى                ومَنازِلاً بفراقِهـا لـمْ تَـقْـنَـعِ
حتَّى إذا اتَّصلَتْ بِـ"هَاءِ" هُبُوطِهـا                عَنْ "مِيمِ" مَرْكَزِها بِذاتِ الأَجْرَعِ[34]
عَـلِـقَتْ بِها "ثاءُ" الثَّقيلِ فأصبحَتْ                بَيْنَ المَعالِمِ والطُّلُولِ الخُـضَّـعِ
تَبكِي إذا ذَكَرَتْ عُهُودًا بــالحِمى                 بِمَدامِعٍ تَهْمِي ولَـمَّـا تُقْلِــعِ
وتَظَلُّ ساجِعَةً[35] على الدِّمَنِ[36] التِي                دَرَسَتْ بِتِكْرارِ الرِّياحِ الأَرْبَــعِ[37]
إِذْ عاقَها الشِّرْكُ الكثيفُ وصَدَّهَـا                 قَـفَصٌ عَنِ الأوْجِ الفَسِيحِ المُرْبِعِ
حتَّى إذا قَرُبَ المسيرُ مِنَ الحِـمى                ودَنا الرحيلُ إلى الفضاء الأوسعِ
وغَدَتْ مُفَارِقَةً لِكُلِّ مُـــخَـلِّفٍ                  عنْها حَـلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشيِّع
سجَعَتْ وقد كُشِفَ الغطاءُ فأبصرَتْ                ما ليس يُدرَكُ بالعيونِ الهُـجَّعِ
وبدَت تُغرِّدُ فوق ذروة شــاهقٍ                  والعِـلْـمُ يَرفعُ كلَّ مَن لم يُرفَعِ
فلأيِّ شيءٍ أُهبِطَتْ مِن شــاهقٍ                 عالٍ إلى قعرِ الحَضيضِ الأوضعِ
إنْ كان أهبطَها الإلهُ لـحـكـمةٍ                 طُوِيَتْ على الفَذِّ اللبيبِ الأروعِ
فهُبُوطُها إنْ كانَ ضَرْبَــةَ لاَزِبٍ                  لِتكُونَ سـامِـعـةً بِما لمْ تَسْمَعِ
وتَعُودَ عالِمةً بِكُـــــلِّ حقِيقَةٍ                 في العالَمَيْنِ فخَرْقُهـا لـمْ يُرْقَعِ
وَهْيَ التِي قَـطَـعَ الزَّمانُ طَريقَها                حتَّى لقَدْ غَربت بِعَيْنِ المَـطْـلَعِ
فكأنَّها بَرْقٌ تَـأَلَّــــقَ بالحِمى                ثُمَّ انْطَوَى فكأنَّهُ لـمْ يَـلْـمَـعِ

يشير ابنُ سينا في قصيدته إلى أنَّ النفس العاقلة هبطَتْ من أعلى إلى أدنى، من عالَم الروح إلى عالَم المادة. ولكنَّ ابنَ سينا لم يكنْ يؤْمن بوجود النفْس قبل البدَن. وعليه، إذا صحَّت نسبةُ القصيدة إليه فإنَّ المقصودَ بهبوط النفس هنا هو اتِّصالُها بالبدن. ويشير في البيت الثالث إلى أنَّ النفسَ دخلَت الجسدَ كارهةً وتَخْرج منه كارهةً لأنها ألِفَته وأنِسَت به. ويشرح في البيتين 6 و7 علاقةَ النفس بالبدَن. فـ"هاءُ" الهبوط تشير إلى دخول النفس في علاقةٍ مع الجسد، و"ميمُ" المركز تشير إلى لحظة ظهور النفس في عالَم الروح، و"ثاءُ" الثِّقَل أو الثقيل تشير إلى أجزاء الجسد الأولى التي تتَّصل النفسُ بها وهي القلبُ والنفس الحيوانية. ويتساءل (في البيت 15) لماذا هبطَت النفسُ من أعلى إلى حضيض المادة. فإذا كان الهدف هو الحصول على معرفة من أجل الكمال (البيتان 17 و18) فلماذا تغادر الجسد قبل بلوغ المعرفة وقبل سد ثغرات جهلها (البيت 18)؟ ويميل ابنُ سينا إلى نفي التناسخ (البيت 19)، إذْ يرى بأنَّ الزمانَ قطعَ على النفس طريقَها نحو الكمال فغابت من حيث طلعَت قبل أنْ ترقِّعَ ثغراتِها.

يقول الدكتور عبد الكريم اليافي[38] حول موضوع قصيدة ابن سينا العينية:

هذا وقد جاء في كتاب الكشكول للعلاَّمة بهاء الدين العاملي (953 - 1031هـ.)، بعد أنْ أوردَ مؤلِّفُه قصيدةَ ابن سينا أنَّ "حاصل الأبياتِ التسعة (فلأيِّ شيء... فكأنها برقٌ)، أنها لأيِّ شيء تعلَّقَت النفسُ بالبدن؟ إنْ كان لأمرٍ غيرِ تحقيق الكمال فهي حكمةٌ خفية على الأذهان، وإنْ كان لتحصيل الكمال فلِمَ ينقطعُ تعلُّقُها به قبل حصول الكمال؟! فإنَّ أكثر النفوس تُفارقُ أبدانَها من دون تحصيل الكمال، ولا تتعلَّق ببدنٍ آخر لبطلان التناسخ. (تحقيق طاهر أحمد الراوي، ج 2، ص 35)[39]

ونظرًا لشهرة العينية فقد عارضَها عددٌ من الشعراء: الشاعر أحمد شوقي في قصيدة نشرَها في مجلة المقتطف، مجلد 64، عدد يناير 1924م؛ والشاعر الصوفي عفيف الدين سلمان بن عبد الله بن علي التلمساني [العفيف التلمساني] (الجزائر 1213 – دمشق 1291)؛ وعادل الغضبان في قصيدة نشرها في عدد أبريل 1952 من مجلة الكتاب؛ والدكتور عبد الكريم اليافي. وعارضَها كاتبُ هذه السطور بقوله:

فردًا أتيتُ وحاملاً سِـرًا مـعـي                 حتَّى أُرَقِّعَ بعضَ ما لم يُـرْقَـعِ
آتي لأُوْفيَ بعضَ دَينٍ سـابــقٍ                 ولكسبِ تجربةٍ بذات الأجـرَعِ[40]
أسعى لأسمعَ صوتَ روحي هامسًا                 يا خيبةَ المسعى إذا لـم أسمـعِ
لا بدَّ من وعي الحقيقـةِ جاهـدًا                 أو أنْ أعيدَ تـجـسُّـدًا إنْ لم أعِ

رفضَ ابن سينا إذَنْ فكرةَ التناسخ métempsycose.[41] إذْ يقول:

فكلُّ بدَن يستحقُّ حدوثَ مزاجه مع حدوث نفس له وليس بدَنٌ يستحقه وبدن لا يستحقه، إذْ أشخاص الأنواع لا تختلف في الأمور التي بها تتقوَّم. فإذا فرضْنا أنَّ نفسًا تناسخَتْها أبدانٌ، وكلُّ بدَنٍ فإنه بذاته يستحقُّ نفسًا تُحْدَث له تتعلَّق به، فيكون البدَنُ الواحد فيه نفسانِ معًا. ثم العلاقة بين النفس والبدَن ليس هي على سبيل الانطباع فيه، كما قلنا، بل علاقة الاشتغال به حتى تشعرَ النفسُ بذلك البدَن، وينفعل البدَنُ عن تلك النفس. وكلُّ حيوان فإنه يستشعر نفسَه نفسًا واحدةً، هي المصرفة والمدبِّرة للبدن الذي له. فإنْ كان هناك نفسٌ أخرى لا يشعر الحيوان بها ولا هي بنفسها ولا تشتغل بالبدَن فليست لها علاقة مع البدن، لأنَّ العلاقة لم تكن إلاَّ بهذا النحو، فلا يكون تناسخٌ بوجهٍ من الوجوه.[42]

إنَّ أحد براهين ابن سينا على وجود النفس هو برهان الاستمرارية، أي استمرارية وعي الإنسان بذاته خلال حياته، حتى وإنْ تغيَّر بَدَنُه. يقول في رسالة في معرفة قوى النفس الناطقة:

تأمَّلْ أيها العاقل في أنكَ اليوم في نفسكَ هو الذي كان موجودًا في جميع عمركَ، حتى أنكَ تتذكَّر كثيرًا مما جرى من أحوالكَ، فأنتَ إذَنْ ثابت مستمر لا شك في ذلك. وبَدَنُكَ وأجزاؤه ليس ثابتًا مستمرًا. [...] فتعْلَمُ نفسُكَ أنكَ في مدة عشرين سنة لم يبقَ شيءٌ من أجزاء بدنكَ، وأنتَ تعلم بقاءَ ذاتكَ في هذه المدة، بل في جميع عمرك، فذاتُكَ مغايرة لهذا البدن وأجزائه الظاهرة والباطنة.[43]

فالإنسانُ، بحسب هذا البرهان، يعي بأنه هو اليومَ نفسُه البارحةَ. وهذا البرهانُ إذا سحبْناه وطبَّقناه على النفس العليا (الروح) فإنه يُعَدُّ برهانًا على العَود للتجسد. فقياسًا على هذا البرهان، يمكن القولُ، لإيضاح فكرة التقمص عند الثيوصوفيا، بأنَّ النفسَ العليا تعي استمراريتَها في أكثر من تجسُّد مثلما تعي النفسُ الدنيا استمراريتَها في أكثر من يوم وسنة في التجسد الواحد. لكنْ إذا كان يُقصَد بالتناسخ إمكانية انتقال النفس العليا العاقلة إلى جسد غير آدمي فإنه مرفوض في الثيوصوفيا.

ويرى ابن سينا بأن النفس جوهر قائم بذاته مستقل عن البدن ومذهبه في الإنسان اثنَيني، أيْ أنَّ الإنسان مركَّب من جسد ونفس وكلٌّ منهما يؤثِّر في الآخر. وقال بحدوث النفس، أي تحدث بحدوث الجسد. وقال أيضًا بخلودها لأنها ذات روحانية غير مركبة وكونها صورة للجسد لا يعني أنها تفسد بفساده. وقسَّمَ النفسَ إلى النفس النباتية (التي تقوم بوظيفة النمو والتوالد والتغذية وهي موجودة في النبات والحيوان والإنسان) والنفس الحيوانية (والتي تدرك الجزئيات وتتحرك بالإرادة وهي موجودة في الحيوان والإنسان) والنفس الإنسانية (الناطقة التي تدرك الكلِّـيَّاتِ وتمارس وظيفتَها بالاختيار الفكري).

كما يرى ابنُ سينا بأنَّ النفسَ حادثةٌ وخالدة. وفي هذا تناقض. فكل ما له بداية له نهاية. فهو يقول بأنَّ الوجود صفةٌ ذاتية للنفس، فمن غير الممكن أن يكون الفناء صفة ذاتية لها أيضًا، لأنه من غير الممكن أن تشتمل على أمرين متناقضين. ولكنْ كونُها حادثةً يعني أنها لم تكنْ موجودةً مسبقًا، ويعني أيضًا أنَّ الوجودَ ليس صفةً ذاتيةً لها. ولهذا، ينتقد ابنُ رشد بشدةٍ ابنَ سينا لقوله بحدوث النفس حدوثًا حقيقيًا مع قوله ببقائها.[44]

ويَعتبِر ابنُ سينا عِلمَ النفس جزءًا من العِلم الطبيعي ويرى أنَّ النفس والجسم عنصران لجوهر واحد متَّحدان اتِّحادًا جوهريًا كاتِّحاد الصورة والهيولى.[45] والعلاقةُ بينهما علاقة اشتغال. فهما "وجهان لعملة واحدة"، في نظره. وبهذا، فالنفس، عنده، تُقابِلُ إلى حد ما الشخصيةَ الفانيةَ (باستثناء الجسم المادي) عند الثيوصوفيا.

جاء في كتاب ابن سينا والنفس الإنسانية:

تأثَّر ابن سينا برأي أرسطو في ماهية النفس فقال بأنها صورة للبدن. ولكنه يرى أنها حقيقة مغايرة للجسم. ويرى د. عبد الكريم عثمان حول مدى تأثر ابن سينا بالفلسفة اليونانية أن قوله بأنها صورة للبدن أو هي كمال أول لجسم طبيعي آلي مقتبس من كتاب النفس لأرسطو، فلفظُ كمال ليس سوى ترجمة للفظ أنتِـليشيا Entelechy اليوناني.[46] ورأي ابن سينا في النفس رأي مادي.[47]

لكنْ إذا توخَّينا الدقةَ فإنَّ رأيه في النفس لا هو مادي تمامًا، وإنْ كان يميل إلى المادية، ولا هو روحاني تمامًا. ويبرِّر مؤلِّفا الكتاب رفْضَ ابن سينا للتقمص بالقول:

لأنه يخالف صريحَ الإسلام من أنَّ كل نفس بما كسبَت رهينة وأنه لا تزر وازرةٌ وزرَ أخرى.[48]

وفاتَهما أنَّه خالفَ الإسلامَ في كثير من الآراء أهمُّها قوله بأزلية المادة وخالفه أيضًا في سلوكه الشخصي. فضلاً عن أنَّ التقمص لا يخالف الآيتَين السابقتين بل يؤكدهما. فما الحكمة إذَنْ من مسايرة الإسلام الرسمي السائد في مسألة التقمص بالتحديد؟ فهو يرى بأنَّ العالَم قديم باعتبار الزمان لأنه وُجِدَ أزلاً منذ كان الله؛ مثلما كان الفارابي يرى بأنه لا يكون شيء من لاشيء. وفي الوقت نفسه يرى ابنُ سينا، مناقضًا نفسَه، بأنَّ العالَم حادث لأنه وُجِدَ بغيره، أيْ أوجده الله، فالله تعالى هو العلة.[49] وهنا فقد وافق أرسطو بقوله بأزلية العالَم وسايرَ الإسلامَ بقوله بحدوثه.

نستنتج أنَّ النفس عند ابن سينا تُقابِلُ في الثيوصوفيا الشخصيةَ الفانيةَ (النفس الدنيا أو أنية الشخصية)، أيْ تُقابِل: الجسمَ الأثيري والجسمَ النجمي والجسمَ الرغائبي. هذه الشخصية الفانية هي التي تَحدُث مع اتِّصال الروح الفردية بالجسم المادي أو البدَن، وعليه فإنها حادثة وفانية وليس الوجود صفةً ذاتيةً لها. وبما أنَّ العَود للتجسُّد (التقمص) لا يقع على الشخصية الفانية (النفس الدنيا) التي تتلاشى بعد فترة من تلاشي الجسم المادي (الفيزيقي) وإنما يقع على الروح الفردية (النفس العليا) الخالدة فإنَّ ابن سينا قد رفض العَودَ للتجسد reincarnation، وإذا توخَّينا الدِّقَّةَ فإنه رفض التناسُخَ metempsychosis من حيث المبدأ. يبدو أنَّ تركيز ابن سينا على البَدَن جعلَ اهتمامَه لا يتعدَّى البَدَنَ وصورتَه المتمثِّلة في الجسم النجمي والجسم العقلي الأدنى. ثم على العكس، لماذا لا يكون البَدَنُ هو صورةُ النفْسِ والنفْسُ صورة الروح، إذا ما نظرنا إلى القضية من الجهة الأخرى؟ لا ضيرَ في أنْ يميلَ ابنُ سينا إلى المادية. فليست المادةُ أصلاً أقلَّ شأنًا من الروح، فكلاهما طاقة ويختلفان في درجة الاهتزاز. وتقرُّ الفيزياءُ الحديثة بأزلية المادة وبعدم فنائها، إذْ "لا يكون شيءٌ من لاشيء"، مخالِفةً بذلك "سيناريو" الخَلْق في الأديان التوحيدية الثلاثة. المسألة تكمن في جهة الرؤية فإذا نظرنا إلى الوجود من جهة المادة المتحولة باستمرار رأينا صورةً تختلف عن الصورة التي نراها إذا ما نظرنا إلى الوجود من جهة اللامادة أو الوعي. لكنَّ مذهب ابن سينا غير واضح ويتخبَّط بين المادية والروحانية إلى حد التناقض.

من الأدلة التي قدَّمتْها الثيوصوفيا على وجود التقمص، أو بتعبير أدق العَود للتجسد، وليس من بين هذه الأدلة، بالضرورة، القصصُ الشعبية التي يوردها بعضُ المؤمنين بالتقمص عن أطفال تكلَّموا في الصغر عن تجاربَ من حيوات سابقة:

-       الرحمة الواسعة لكل شيء والعدل الصارم الإلهيان يقتضيان إعطاءَ أكثر من فرصة للنفس العاقلة لإكمال خبراتها وتصحيح أخطائها، ولا يتم ذلك خارجَ الجسد. فالغاية ليست معاقبة النفس بل تفتُّح وعيها.

-       مسيرة النضج الروحي وتفتُّح الوعي تدريجيًا يتطلَّبان وقتًا أطول بكثير من حياة أرضية واحدة. فزمنُ الروح غير زمن الجسد، بمعنى أنَّ "يومًا عند ربك كألف سَنَةٍ مما تَعُدُّون"[50]، إذا ما حملْنا هذه الآيةَ على المعنى الثيوصوفي. فيومُ الروح قد يقابل ألف سنة أو يزيد من أيام الجسد على الأرض.[51]

-       مبدأ الوحدة الكونية يشمل كل شيء. فالقوانين واحدة، وتسري على عالَم الروح كما تسري على عالَم المادة. ("كما في السماء كذلك على الأرض."[52] "كما في الأعلى كذلك في الأدنى.") فقوانين المادة هي انعكاس لقوانين الروح. وبما أنَّ المادة يحكمها التحول الدوري المستمر (نشاط وراحة / يقظة ونوم)، كذلك لا بد أنْ يحكم النفسَ العاقلةَ القانونَ نفسَه وهو الموت والحياة بصورة دورية.

ومن الأدلة التي قدَّمها ابنُ سينا على بطلان التقمص، أو بتعبير أدق التناسخ:

-       حدوث النفس مع اتِّصالها بالبدَن. فتَحْدُثُ لكلِّ بدَن نفْسٌ خاصةٌ به متعلقة به، صورة له، لكنْ ذات حقيقة مغايرة له.

-       عدم إمكانية أن يكون البدن الواحد فيه نفسان.

-       العلاقة بين النفس والبدَن علاقة اشتغال.

لكنْ ربما كان رفضُ ابن سينا للتقمص يعود إلى عدة أسباب منها: تأثُّره بعقيدة الإسماعيلية[53] التي سارت على خطى المسيحية في إلغائها للتقمص؛ تأثُّره بالمادية؛ عدم توفُّر الإمكانية والوقت والرغبة لديه للتعمق في عقيدة التقمص الموجودة في العقائد الأخرى، نظرًا لقضائه جُلَّ وقتِه في صحبة الملوك والأمراء.

إنَّ تعريف التناسخ بأنه انتقال النفس من جسد إلى جسد آخر تعريف عام جدًا وغامض جدًا ينقصه الكثير من الدقة. وإذا أخذنا بهذا التعريف التبسيطي للتناسخ فلا بد أن نوافق ابن سينا في رفضه للتناسخ. وحتى كلمة "نفْس" كلمة غامضة ولها حقل دلالي واسع جدًا. فإذا افترضنا أنَّ النفسَ هي كل ما ليس بجسد مادي (جِرْمي) فإنَّ هناك "عناصرَ" في النفس تَحدُث مع اتصالها بالبدن وتتحلل بعد تحلله وهناك "عناصر" أخرى ترحل لتبحث عن تجسُّد جديد.

والذاكرةُ هي من "العناصر" التي لا تنتقلُ مع الروح الفردية إلى التجسد التالي وإنما تتلاشى بعد تلاشي الجسم المادي. إنَّ ما يُرَحَّلُ إلى التجسد التالي هو محصِّلة الأعمال أو الرصيد الكارمي أو الدَّين غيرُ الموفَّى. وما الدِّينُ إلاَّ طريقة لسداد الدَّين. ولذلك ينسى الإنسانُ تفاصيلَ تجسُّداتِه السابقة، كما لمَّحَ القرآنُ الكريم إلى ذلك: "ولقد عَهِدْنا إلى آدمَ [الإنسان العاقل] مِن قَبْلُ [في الماضي] فنسيَ ولم نجدْ له عَزْمًا."[54] مع أنَّ اللهَ قد أبقى في حياة الإنسان الجديدة علاماتٍ من حياته الماضية، مؤكِّدًا القرآنُ ذلك: "ولقد تركناها آيةً فهل من مُدَّكِر؟!"[55] "وفي أنفسِكم أفلا تبصرون؟!"[56] أيْ أنَّ علاماتِ الحياة السابقة وبقاياها مترسِّبةٌ في أنفسنا على شكل طباع وصفات وظروف أفلا نرى ببصيرتنا؟! ثم يقول القرآنُ: "أفرأيتَ مَن اتَّخذَ إلهَهُ هَواه وأضلَّه اللهُ على عِلْمٍ وخَتَمَ على سَمْعِه وقَلْبِه وجعل على بصَرِه غِشاوةً فمن يهْديه مِن بَعدِ الله أفلا تَذَكَّرُون؟! وقالُوا: ما هي إلاَّ حياتُنا الدنيا نموتُ ونحيا وما يهلكُنا إلاَّ الدهرُ وما لهمْ بذلك من عِلْمٍ إِنْ هُمْ إلاَّ يَظنُّون."[57] وإذا أردنا صياغةَ الآيتَين الأخيرتَين بعبارات ثيوصوفية نقول: "هل نظرْتَ أيها الإنسانُ نظرةَ منتبِهٍ متذكِّرٍ معتبِر إلى الإنسان الذي يجعل مستوى وعيِه على المستوى النجمي الانفعالي الأهوائي بدلاً من أنْ ينقلَ وعيَه إلى المستوى الأتمي الروحي، فيتلقَّى أوامرَه من شهواته وهواه؛ إنَّ ذلك الإنسانَ الذي هبطَ بوعيه إلى درَك الشهوات بدلاً من أنْ يرتقيَ به إلى مرتبة الروح لا يهديه الروحُ حتى ولو كان عنده عِلْم، لأنه لم يتَّخِذِ الروحَ دليلَه، فتُعطِّلُ الشهواتُ مقدراتِه النفسيةَ مِن سَمْعٍ (انتباه) وعقلٍ (وعي) وتُشكِّل أمام بصيرته (عينه الثالثة) حجابًا يمنعه من الرؤية الحقيقية؛ وعندئذٍ لا يعود لذلك الإنسان التائه من أحد يدلُّه على طريق الخلاص، لأنه لا هاديَ إلاَّ الروحُ. أيها الجنسُ البشري! لماذا لا تتذكَّرون هذه الأمورَ؟! نسيتم الروحَ هاديًا لأنكم اتَّخذْتم الشهواتِ عائقًا. ولكنَّ الذين يتَّخذون الشهواتِ إلهًا يجيبون: "ليس لنا من حياة غير حياتنا الدنيا فلا يوجد عَود للتجسد"، ذلك لأنهم نسوا أنَّ لهم روحًا فرديةً خالدةً تتجسَّد ونسوا قانونَ كَرْمَى ولم يدركوا سوى نفسِهم الدنيا أو أنيتهم الشخصية الفانية. إنهم إذًا متوهِّمون."

فلننظرْ في أنفسِنا لعلَّنا نتذكَّر.

*** *** ***

دمشق، شباط، 2010


 

horizontal rule

[1] مقالة في التقمص في ضوء التعاليم الثيوصوفية، ديمتري أﭭييرينوس، سلسلة الحكمة 2، دار مكتبة إيزيس، دمشق 1998، ص 8.

[2]  سورة الزلزلة، الآيتان 7 و8.

[3]  سورة البقرة، الآية 281.

[4]  سورة الشورى، الآية 30.

[5]  سورة المُـدَّثِّـر، الآية 38.

[6] أغلب الظن أنَّ كلمة "قميص" العربية وكلمة "chemise" الفرنسية مشتقتان من اللاتينية camisia المشتقة من الإيرلندية القديمة caimmse المشتقة من كلمة cams في اللغة الكورنيكية le cornique (إحدى اللغات الكلتية) وتعني: ثوب الكهنوت الأبيض alba liturgique (l'aube)، ومن اللغة البروتونية (البريتانية) breton camps وتعني: كفة أو غبنة الثوب ourlet. (عن موقع القاموس الحر "ويكاموس" Wikitionary وموقع الموسوعة الحرة "ويكيبيديا" Wikipedia).

[7] جاء في كتاب البهاغاﭭـادا-غيتا Bhagavada-Gita (2: 22): "كما أنَّ المرءَ يخلع أثوابَه الباليةَ فيرتدي أثوابًا أخرى جديدة، كذلك النفس المتجسِّدة تخلع جثَّتَها الباليةَ وترتدي جثَّةً أخرى جديدة." (الشاهد مستقى من مقال بعنوان: إكسير الحياة، ديمتري أﭭـييرينوس).

[8] كلمة persona تعني "القناع" masque الذي يضعه الممثلون، مشتقة من الفعل اللاتيني per-sonare: "تكلَّـمَ من خلال". يستخدم كارل غوستاڤ يونغ Carl Gustav Jung هذه الكلمةَ ليُـعَـبِّرَ بها عن الجزء من الشخصية الذي ينظِّم علاقةَ الفرد بالمجتمع.

[9]  الأرحاء: جمعُ "رحى"، وهي الحجرُ المستدير الذي يُطحَنُ به. مُثَنَّاها: رَحَيان ورَحَوان. وتصغيرُها: رُحَـيَّـة. يُقال: "دارت رحى الحربِ"، أيْ: نشبَتِ الحربُ. و"دارت رحى الموتِ" على امرئٍ، أيْ: مات.

[10]  إشارةً إلى حديث نبوي يقول: "يا أبا ذَر! أحكِمِِ السفينةَ فإنَّ البحرَ عميق واستكثِرِ الزادَ فإنَّ السَّـفَرَ طويل وخفِّـف ظهرَكَ فإنَّ العقبةَ كَـؤود [صعبة] وأخلِصِ العملَ فإنَّ الناقدَ بصير [إشارةً إلى قانون كَرْمَى الرحيم العادل]." رواه البخاري ومسلم.

[11] سورة الانشقاق، الآيات: 16 و17 و18 و19 و20.

[12] سورة البقرة، الآية 28.

[13] من مقال بعنوان: تاريخ المعرفة ومعرفة التاريخ عند جابر بن حيان، ﭙـيير لوري، ترجمة ديمتري أﭭـييرينوس، موقع سماوات.

[14] ابن سينا (Avicenna / Avicenne): هو الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا (وُلِدَ في أفشنة قرب بخارى 980 – توفِّي في همدان 1037)، عالِم فارسي اشتغل بالسياسة والطب والفلسفة والشعر والفلك.

[15] تاريخ الفلسفة العربية، د. جميل صليبا، ص 241.

[16] كتاب: ابن سينا والنفس الإنسانية، د. محمد خير حسن عرقسوسي وحسن ملا عثمان، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1982، ص 119 – 122.

[17] كتاب: ابن سينا، بمناسبة الذكرى الألفية لمولده، مطبعة الكاتب العربي، دمشق، 1980، فصل: علاقة الفلسفة الحديثة بمفهوم العقل عند ابن سينا، د. غانم هنا، ص 92. انظر أيضًا: رسالة في معرفة النفس الناطقة، طبعة نادر، ص 29.

[18] النفس البشرية عند ابن سينا، ألبير نصري نادر، بيروت، 1968، ص 92 و38.

[19] تهافُت الفلاسفة والمنقذ من الضلال.

[20] كتاب: ابن سينا، بمناسبة الذكرى الألفية لمولده، مطبعة الكاتب العربي، دمشق، 1980، فصل: طرائفه العلمية والخاصة، د. عَـزَّة مريدن، جامعة دمشق.

[21] المرجع المذكور، فصل: حياة ومآثر ابن سينا، د. سليم عمار، جامعة تونس.

[22] عيون الأنباء 2: 12، خزانة الأدب للبغدادي 4: 466، ديوان ابن سينا: 17، 73-81. نلاحظ أنَّ هذه الأبيات هي معارَضة شعرية لقصيدة المتنبي: واحرَّ قلباه ممن قلبُه شبِمُ / ومن بجسمي وحالي عنده سقَمُ.

[23] من مقدمة رسالة أسباب حدوث الحروف، للدكتور شاكر الفحام والأستاذ أحمد راتب النفاخ، مطبوعات مجْمع اللغة العربية بدمشق، 1982، ص 7.

[24] الجوزجاني: نسبةً إلى ولاية جوزجان شمال أفغانستان وعاصمتها شبرغان.

[25] من الكلمة التي ألقاها الدكتور شاكر الفحام في رحاب جامعة دمشق بتاريخ 1/11/1980 في افتـتاح مهرجان الاحتفال بالذكرى الألفية لمولد ابن سينا. انظر أيضًا: تاريخ الحكماء للقفطي، عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة، تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي، الوافي بالوفيات للصفدي.

[26] من خمريات ابن سينا:
قم فاسقـنِيها قهوةً كـدَمِ الطِّلا                   يـا صاحِ بالقدَحِ المِلا بين المَلا
خمرًا تظلُّ لها النصارى سُجَّدًا                   ولـها بنو عمرانَ أخلصَتِ الوَلا
ولو أنها يومًا وقد ولِعوا بـهـا                 قالت: "ألسْ
تُ بربِّكم؟" قالوا: "بلى"

[27] عبد الحق بن سبعين (1217 – 1269): فيلسوف ومتصوف أندلسي اشتُهِر برسالته المسائل الصقلِّية التي كانت عبارةً عن أجوبة لأسئلة أرسلها الإمبراطور فريديريك الثاني إليه. فذاع صيتُه في أوروبا في عصره وقال عنه البابا: "إنه ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه." تُـعَـدُّ فلسفتُه أحدَ المنعطفات الفكرية والإضافات التي عمَّـقت طريقَ البحث الفلسفي ضمن إطار الدين.

[28] تاريخ الفلسفة العربية، ص 218، نقلاً عن نصوص نشرها ماسينيون بالفرنسية. انظرْ أيضًا: كتاب: ابن سينا والنفس الإنسانية، المرجع المذكور، ص 183.

[29] ماكس بلانك Max Planck: هو ماكس كارل إرنست لودﭭيغ ﭙـلانك Max Karl Ernst Ludwig Planck، عالِم فيزياء ألماني ولد في 23 نيسان/أبريل 1858 وتوفِّىَ في 4 تشرين الأول/أكتوبر 1947. يُعتبر مؤسسَّ نظرية الكم وأحد أهم فيزيائيي القرن العشرين.

[30] سيمون ﭭـايل، مختارات، رهانات العِلْم: حول النظرية الكوانتية، ص 65، دار معابر، 2009.

[31] الورقاء هي الحمامة التي لونُها كالرماد فيه سواد. وجمعها وُرْق.

[32]  سَفَرَت المرأةُ سُفورًا: كشفَت عن وجهِها. وتَبَرْقَعت المرأةُ: لبِسَت البُرْقُعَ وهو غطاء للوجه. ومعنى البيت هو أنَّ النفس (التي هبطَت من عالَم الروح إلى عالَم المادة) غير مرئية حتى لعين العارف ولكنها مع ذلك مكشوفة وكل إنسان يقرُّ بوجودها فهي باطنة ظاهرة في آنٍ معًا. نلاحظ أنه في هذا البيت، كما وصلَنا، يقول: "محجوبةٌ عن كلِّ مقْلةِ عارفٍ" والأقرب إلى الصواب أنْ يقولَ: "محجوبةٌ عن كلِّ مقلة ناظرٍ"، كما ورد في بعض النُّسَخ، لأنَّ النفس محجوبة عن النظر فقط وليس عن المعرفة.

[33] البَلْقَع: الأرض القَفْر الخالية من كل شيء.

[34] الأجرع: الأرض ذات الحُزُونة (الخشنة الغليظة الجافة) تُشاكِلُ الرَّمْـلَ. وجمعه: أجارِع. والجَرْعاء: رملة مستوية لا تُنبِتُ شيئاً.

[35] الساجعة هي الحمامة التي تردِّد صوتَها على طريقة واحدة. يقال: سجَعَت الحمامةُ (وكذلك اليمامةُ والورقاء) أي: هدَرَت وردَّدَت صوتَها على طريقة واحدة، فهي ساجعة وسَجوع، والجمع: سُجَّع وسَواجع.

[36] الدِّمَن: جمع دِمْـنة، وهي آثار الناس وما سوَّدوا.

[37] ربما يقصد بالرياح الأربع طبائع النفس وهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليَبوسة.

[38] عبد الكريم اليافي (حمص 1919 – دمشق 2008): أديب وطبيب وباحث وأستاذ جامعي سوري وعضو مجمع اللغة العربية. كان من أشد المدافعين عن اللغة العربية.

[39] من مقال بعنوان: القصيدة العينية في النفس ومعارضاتها، د. عبد الكريم اليافي، موقع اتِّحاد الكُتَّاب العرب.

[40] ذات الأجرع إشارة إلى العالَم المادي. والأجرع هي الأرض الخشنة الغليظة الجافة.

[41] تعني كلمة métempsycose في اليونانية: "انتقال النفْس". وتُعرَّف بأنها انتقال النفس إلى جسد آدمي [نسْخ] أو حيوان [مسْخ] أو نبات [رسْخ] أو جماد [فسْخ].

[42] كتاب النجاة، فصل في بطلان القول بالتناسُخ، ص 156، موقع الفلسفة الإسلامية.

[43] رسالة في معرفة قوى النفس الناطقة، ص 9.

[44] تهافت التهافت، ص 315. انظرْ أيضًا: في فلسفة ابن سينا، تحليل ونقد، د. محمود ماضي، دار الدعوة، مصر، 1997، ص 118.

[45] كتاب: ابن سينا والنفس الإنسانية، د. محمد خير حسن عرقسوسي وحسن ملا عثمان، بيروت، 1982، المرجع المذكور، ص 113.

[46] الأنتِـليشيا (بالفرنسية: Entéléchie وبالإنكليزية: Entelechy): هي الكمال الأول عند أرسطو أو الطاقة الفاعلة.

[47] المرجع المذكور، ص 166 وص 117. انظرْ أيضًا: المدخل إلى فلسفة ابن سينا، تيسير شيخ الأرض، ص 255، دار الأنوار، بيروت، 1967.

[48] المرجع المذكور، ص 117.

[49] في فلسفة ابن سينا، تحليل ونقد، د. محمود ماضي، المرجع المذكور، ص 63.

[50] سورة الحج، الآية 47.

[51] تقول الثيوصوفيا بأنَّ المدة الزمنية التي يقضيها المتوفَّى في الديفاخان (سوخافاتي أو السماء) تتناسب طردًا مع الكارما الصالح له خلال حياته الأرضية، وقد تتراوح عند الإنسان العادي بين 1000 و1500 عام. (راجِعْ مقال: دراسات ثيوصوفية، الجزء 3، جهاد الياس الشيخ، معابر).

[52] الصلاة الربية (إنجيل لوقا، إصحاح 11 الآيات: 2، 3، 4، وإنجيل متَّى، إصحاح 6، الآيات من 9 إلى 14).

[53] جاء في كتاب نصير الدين الطوسي في مرابع ابن سينا: "إنَّ صدورَ فلسفة ابن سينا عن الإسماعيلية، وبصورة خاصة عن الأكادميين الموسوعيين إخوان الصفاء، لا يحتاج إلى دليل أو بيان أو دفاع." (د. عارف تامر، بيروت، 1983، ص 104)

[54] سورة طه، الآية 115.

[55] سورة القمر، الآية 15. والآية هي استفهام بمعنى الأمر، أيْ: اذكروا واتَّعِظوا. وتعني كلمة "مُـدَّكِر": متذكِّر ومعتبِر ومتَّعِظ، من الفعل "ادَّكَرَ" وأصلُه اذْتكَرَ (من الفعل: ذَكَرَ) فأُدغِمَ بعد قلبِ التاء دالاً (اذْدَكرَ تصبح: ادَّكَرَ)، يقال: ادَّكَرَ بعدَ أَمَهٍ، أيْ: ذكَرَهُ بعدَ نسيان.

[56] سورة الذاريات، الآية 21.

[57] سورة الجاثية، الآيتان 23 و24.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود