الكاتب الفرنسي مارك ليفي في سارق الظلال: حين يفقد الظلُّ شكله الطبيعي

كوليت مرشليان

 

سارق الظلال رواية الكاتب الفرنسي مارك ليفي الجديدة صدرت في باريس منذ نحو الشهر، وعلى الرغم من النقد الذي يطال مؤلفاته والذي يعتبر أنها "من الأعمال الروائية الرائعة لقراءات محطات القطارات والمترو والسفر الطويل" يبيع ليفي اليوم مئات الآلاف من هذه الرواية الجديدة التي يبدو أنها في مسار أعماله السابقة التي بيع منها حتى اليوم 19 مليون نسخة ليكون ليفي مع هذا الرقم، وحسب إحصاءات رسمية، "الكاتب الفرنسي الأكثر مبيعًا في العالم". والمعروف أن هذا الروائي الفرنسي الذي يتصدر اسمه هذه الإحصاءات بدأ الكتابة منذ عشرة أعوام وهو مولود في العام 1961 وكان قد عمل قبل ذلك في الصليب الأحمر حيث دخل متطوعًا واستمر ستة أعوام، وبعد دراسة لإدارة الأعمال أسس أكثر من شركة ثم ما لبث أن تخلى عن أعماله جميعها ليتفرغ للكتابة. وكان لروايته الأولى وإذا كان الأمر صحيحًا... النجاح الهائل فترجمت إلى 41 لغة عبر العالم وتم اقتباسها إلى السينما (دريم وركس) لستيفن سبيلبرغ، فكتب بعدها: أين أنت؟، سبعة أيام من أجل الأبدية، في المرة القادمة، رؤيتك من جديد، أولاد الحرية، أصدقائي وأحبائي، كل الأشياء التي لم نقلها لبعضنا البعض، اليوم الأول، والليلة الأولى. وفي كل مرة كان ليفي يصدر رواية، كان للنقاد مواقف متضاربة إلى حد ما، آخذين في الاعتبار أسلوبه السهل من ناحية وإقبال القراء على كتبه من ناحية ثانية. أما موضوع الكتاب الذي شغل الصحافة طويلاً قبل صدوره فهو يختصر بجملة كتبها ليفي في بداية الرواية: "... وماذا إذا التقى يومًا الولد الذي كنتَ بالرجل الذي أصبحتَ؟"، وهو يحكي الحنين إلى الطفولة وإلى الأحلام التي حملها كل ولد ولم تتحقق في حياته، من رواية ليفي سارق الظلال نقتطف هذا الفصل وننقله إلى العربية.

*

توقفت لحظة لأنظر عن كثب، ولم تكن مقاسات الشكل تتوافق مع شكلي، وكأن الظل الذي كان يرافقني على الرصيف لم يكن ظلي بل ظل آخر، ورحت اتفحصه بدقة، ومن جديد، رأيت فجأة مرحلة من طفولتي لم تعد تخصني... ستتأكد بنفسك، كل شيء سيجري على ما يرام...

الدخول إلى المدرسة

إنه يوم الدخول إلى المدرسة، وأنا واقف في ظل شجرة دلب اتكئ عليها، رحت أنظر إلى الفرق التي بدأت تتألف. لم أكن أنتمي إلى أي فرقة. لم أكن أمتلك الحق بأي ابتسامة أو بأي إشارة تؤكد سعادتي بانتهاء الفرصة الصيفية، كما لم يكن هناك أحد لأسرد له أحداث عطلتي. وكنت أعرف بأن كل من يبدِّل مدرسته سيعرف هذه الصباحات الخاصة من أيلول حيث تجد حلقك مربوطًا ولا تعرف كيف ترد على أسئلة أهلك حين هم يقولون لك على الدوام إن كل الأمور ستجري بأفضل حال. وكأنهم يتذكرون شيئًا من تلك الحقبة! الأهل قد نسوا كل شيء وليست غلطتهم، فهم بكل بساطة قد شاخوا.

في الملعب

في الملعب سمعت الجرس وبدأ التلامذة في الوقوف في الصفوف المتراصة أمام الأساتذة الذين بدأوا ينادون الجميع بأسمائهم. كنا فقط ثلاثة تلامذة نرتدي النظارات، لم يكن عددنا كبيرًا. كنت أنتمي إلى الصف "6 س"، ومن جديد أيضًا وجدت أنني كنت الأقصر بين الجميع. لم يكن ذوق أهلي جيدًا حين اختارا أن أولد في شهر كانون الأول وأيضًا كانا يفرحان كلما تذكرا أنني أسبق رفاقي بأكثر من ستة أشهر، هما كانا يفخران بذلك، أما أنا فكنت أعيش الخيبة كل عام!

أن تكون الأصغر في صفك يعني أمورًا كثيرة: أن تنظف اللوح، أن توضب الطبشور كذلك السجاد الخاص بالرياضة، وأن تضع الكرات العديدة على الرف العالي، تلك المستخدمة في كرة السلة، والأسوأ من كل هذا أن تجلس دائمًا وكل عام في الصف الأمامي وتبتسم للصورة التقليدية، فما من حدود للمذلات تلك حين تكون في المدرسة.

ولكن كل هذا لم يكن ليبدو مأسويًا لولا وجود ذاك الذي يدعى ماركيز في الصف "6 س"، ماركيز أو الرعب أو نقيضي الهائل.

وإذا كنت أنا صغيرًا على صفي بحدود حوالى الستة أشهر وذلك من حسن حظ أهلي ومن أجل سعادتهم فإن ماركير كان متأخرًا سنتين ولم يأبه أهله للأمر، وكان يسعدهم من ناحية ثانية أن ابنهم يمضي كل نهاره في المدرسة حيث يتناول وجباته في مطعم المدرسة ولا يعود إلى البيت إلا في آخر النهار. كنت أنا أضع نظارتين وكان ماركيز يتمتع بنظر ثاقب، وكنت أقصر من رفاقي بنحو العشرة سنتيمترات وماركيز أطول منهم بعشرة ما يعني الفرق الشاسع بيني وبينه. كنت أكره كرة السلة أما هو فكان يرتفع قليلاً عن الأرض ليضع الكرة في السلة. كنت أنا أهوى الشعر وهو الرياضة لكن هذا لم يكن يعني عدم الانسجام بالتمام. ولكن كنت أنا مثلاً أحب تأمل القبابيط على الشجر، أما ماركيز فكان يحب أن يلتقطهم لينزع لهم جوانحهم ومن ثم يقتلهم. ومع هذا كان لدينا قواسم مشتركة بل قاسم واحد: اليزابيت! كنا مغرمين بها لكن اليزابيت لم تكن لترانا حتى. وهذا الأمر وحَّدنا وجعل هناك ما يشبه التواطؤ بيننا، لكن بعد حين بدأت المنافسة. لم تكن اليزابيت أجمل فتاة في المدرسة لكنها كانت تمتلك سحرها، وكذلك طريقتها الخاصة في ربط شعرها وحركة جسدها الناعمة والمغناجة وابتسامتها التي وحدها يمكنها أن تضيء أكثر أيام الخريف حزنًا، أي حين تمطر كثيرًا وتروح أحذيتنا تطرق على الأرض "فليك فلاك!" أي أريد أن أقول تلك الأيام التي تبقى فيها مصابيح الطرقات مضاءة ليلاً نهارًا وصولاً إلى المدرسة.

هنا أمضيت طفولتي، في هذه المدينة الصغيرة منتظرًا بيأس أن تلتفت اليزابيت أليّ، منتظرًا بيأس أن أكبر.

(...) ألقيت السلام على الناطور ودخلت إلى البيت بفارق ساعة عن الدوام الاعتيادي وفكرت بأنه يجب أن أصل باكرًا وانتظرت أن أعرف كيف سيرحب بي أبي بعد هذه المدة الطويلة. وكان قد عاد من سفره ليلاً وشرحت له أمي سبب تأخري في المدرسة بسبب عقاب ما. وشعرت بأنه كان عقابًا صارمًا في السبت الأول من الأسبوع المدرسي الأول. وبينما كنت ماشيًا في الطريق وأنا أفكر في كل هذا، شعرت بأن ثمة ما يستوقفني بشدة. كانت الشمس عالية جدًا في السماء ووجدت أن ظلي كان كبيرًا بشكل مفاجئ، كان ظلاً طويلاً أكثر من العادة. توقفت لبرهة لأتمعن في الأمر عن كثب، ووجدت أن المقاييس كما أشكال الظل لا تتوافق مع مقاييسي وشكلي، وكأن الظل الذي كان أمامي على الرصيف لم يكن ظلي، بل ظل شخص آخر، فرحت أتفحصه وأراقبه من جديد، وفجأة رأيت مرحلة من طفولتي لم تكن تنتمي إلى حياتي فعلاً: رأيت رجلاً يقودني نحو حديقة لا أعرفها، ثم نزع حزامه عن خصره وراح يؤدبني بشدة وبصرامة.

والدي لم يفعل ذلك في حياته حتى في اللحظات التي كان يعرف فيها أشد الغضب. وفي لحظة شعرت بأنني عرفت من أي ذاكرة تعود هذه المشاهد المتذكرة. وما حضر في ذهني ربما كان غير أكيد كي لا أقول مستحيلاً. أسرعت في خطواتي وشعرت بأنني سأموت من الخجل وقررت أن أعود إلى منزلي بأسرع وقت ممكن. كان والدي ينتظرني في المطبخ، وحين سمعني وكنت أضع حقيبتي في الصالون، ناداني وكان صوته قاسيًا.

بسبب علاماتي المدرسية السيئة وبسبب غرفتي غير المرتبة وألعابي المكسرة، وتناولي الطعام ليلاً، وقراءاتي المتأخرة في المساء على ضوء خافت، والراديو الصغير الخاص بأمي الملتصق كل ليلة بأذني أثناء النوم من تحت المخدة، من دون ذكر ذلك اليوم الذي رافقت فيه أمي إلى السوبرماركت ورحت أحشر حبات السكاكر الكثيرة في جيوبي من دون أن تدري هي بذلك، كل هذه الأسباب جعلتني أنجح في جعل والدي يفاجئني بنوبات غضب عامرة. لكنني كنت أمتلك بعض الحيل الناجحة، منها مثلاً ضحكة ناعمة ولا تقاوم لترد عني كل الاحتمالات العنيفة.

ولكن في هذه المرة، لم أكن مضطرًا إلى استخدام أي وسيلة من وسائلي لأن والدي لم يكن غاضبًا، كان فقط حزينًا. وطلب مني أن أجلس قبالته على طاولة المطبخ وأمسك بيدي بين يديه. استمرت محادثتنا عشر دقائق لا أكثر، وشرح لي أمورًا حياتية كثيرة وقال لي إنني سأفهمها متى أصبحت في سنه. لم أفهم منها جميعها سوى واحدة فقط: أنه سيترك المنزل. وأننا سنستمر في مقابلة بعضنا البعض قدر الممكن لكنه كان عاجزًا عن الشرح لي حول "مفهومه" للممكن. ثم وقف أبي وطلب مني أن أذهب إلى غرفة أمي لمواساتها. ما قبل تلك المحادثة ما بيننا، كان يقول في "غرفتنا" ومن اليوم فصاعدًا، لن تكون سوى غرفة أمي. أطعت أمره وصعدت إلى غرفتها في الطابق العلوي. وحين أصبحت على الدرجة الأخيرة من الدرج، التفت إلى الوراء، كان أبي يمسك بحقيبة كبيرة، لوَّح لي بيده ليقول لي وداعًا وأقفل باب البيت وراءه، ولم أتمكن من رؤية والدي ثانية إلا بعد أن أصبحت راشدًا.

*** *** ***

المستقبل، السبت 24 تموز 2010، العدد 3720، ثقافة وفنون، صفحة 20

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود