الصفحة السابقة

مفهوم الطاقة: حمولة وتفريغ، سَيَلان وحركة

 

ألكسندر لوِون

 

كما أكَّدتُ قبل قليل فالمنهج الحيوي الطاقي، هو دراسة الشخصية الإنسانية وفقًا لمصطلحات السياقات الطاقية للجسم. ويُستخدَم مصطلح الحيوي الطاقي أيضًا في الكيمياء الحيوية لتحديد مجال البحوث التي تتعامل مع السياقات الطاقية في المستويات الجزيئية وتحت الجزيئية. وكما بيَّنَ ألبرت جيورجي Albert Szent-Gyorgi أن الماكِنَة الحيوية بحاجة إلى طاقة من أجل تحريكها. وفي الحقيقة، إن الطاقة متضمَّنَة في حركة كل الأشياء، سواءً الحيَّة منها أو حتى الجامِدَة. وتُعتبَر هذه الطاقة في التفكير العلمي السائد ذات طبيعة كهربية. إلا أنه توجد وجهات نَظَرٍ أخرى فيما يتعلَّق بطبيعة هذه الطاقة، خاصةً عندما تُستخدَم من قِبَل الكائنات العضوية الحية. أكَّد رايش أن الطاقة الكونية التي أسماها بالأورغون لا تملك طبيعة كهربية. في حين أن الفلسفة الصينية تقبل بوجود طاقتين على علاقة قطبية فيما بينهما، وتدعَى هاتان الطاقتان باليَن واليانغ. وتكوِّن هاتان الطاقتان قاعدة الممارسة الطبية الصينية المسماة بالوخز بالإبر، وقد أذهلَت نتائجُها أطبّاءَ الغرب.

لا أعتقد أنه من الأهمية بمكان وفقًا لهذه الدراسة أن نحدِّدَ بدقة السمة الحقيقية لطاقة الحياة. وفي الواقع، إن كلاً من وجهات النظر هذه لها صحتها، لكنني لم أتمكَّن من التوفيق بين الاختلافات الموجودة فيما بينها. لكننا، نستطيع قبول المقترَح الأساسي بأن الطاقة متضمَّنَة في كل سياقات الحياة، في الحركات، والمشاعر، والأفكار، وتصِلُ هذه السياقات إلى نهايتها إذا ما تم استنفاد ينبوع طاقة الكائن الحي. فعلى سبيل المثال، إن النقص في الغذاء يؤدي إلى استنفاد طاقة الكائن الحي إلى درجة بوسعها أن تؤدي إلى الموت بشكلٍ قاسٍ جدًا، كما أن انقطاعًا في مسار الأوكسجين الضروري للكائن الحي يحول دون السياق الطبيعي للتنفس مما يؤدي بالفرد إلى الموت أيضًا. والسموم التي تعطِّل عمل النشاطات الاستقلابية للجسم، فتنقِص من طاقتها مسبِّبَةً بذلك العاقِبَةَ نفسَها.

إنه لأمرٌ مقبولٌ عمومًا أن طاقة الكائن العضوي الحيواني تصدر عن احتراق الطعام. ومن جهة أخرى، تملك الأعشاب القدرة على استقبال واستخدام طاقة الشمس في عملياتها الحيوية دامجةً طاقة الشمس هذه فيها، ومحوِّلةً إياها إلى أنسجَة عشبيَّة، لتصيرَ مهيَّأةً على هذا النحو كغذاء للحيوانات الآكِلَة للعشب. وبوسع الحيوان استهلاك الطاقة الحرَّة الناجمة من عملية تحويل الغذاء إليها، وهي طريقة عمل كيميائية معقَّدَة تتضمّن في مرحلتها الأخيرة استعمال الأوكسجين. وليس احتراق الطعام مختلِفًا عن الاحتراق الذي يحدث في محرقَة، لأن كليهما يحتاج إلى الأوكسجين للمحافظة على عمليتيْهِما في الاحتراق. وفي كلتا الحالتين، فإن مستوى الاحتراق متعلِّقٌ بكمية الأوكسجين المتوَفِّرَة.

لا تشرح هذه المقارنة البسيطة الظاهرة المعقَّدة للحياة. ينطفئ لهيب النار عندما يُستنفَد الوقود، وعدا عن هذا، فإن اللهيب يشتعِل على نحوٍ لاتمييز فيه عن ظاهرة الحياة المعقَّدَة دون أن نأخذ بالحسبان الطاقة المتحرِّرَة من خلال هذا الاحتراق. وفي المقابل، فالكائن العضوي الحي هو مثل نارٍ ذاتية الاحتواء، وذاتية التنظيم، وذاتية الحفاظ على ذاتها. إن الطريقة المستخدمَة لكي تحصل هذه المعجزة – الاحتراق دون التدمير الذاتي – هي سرٌّ عظيم أيضًا. لطالما أننا لسنا قادرين على إيجاد حل لهذا اللغز، فمن الأهمية بمكان أن نحاول فهم إحدى العوامِل المتضمَّنَة فيه، وذلك أننا كلنا نرغب بإبقاء شعلة الحياة حيَّةً في داخلِنا لكي تتَّقِدَ بقوةٍ وعلى نحوٍ لا انقطاع فيه.

إننا لسنا معتادين على التفكير بالشخصية انطلاقًا من مصطلحات الطاقة، لكن الحقيقة هي أن كليهما لا يستطيعان التواجد بمعزَل عن الآخر. إن ما يملكه الفرد من كمية طاقة وكيفية استعماله لها لسوف يحدِّدان شخصيته وينعكسان فيها. لدى بعض الأشخاص طاقة أكثر من الآخَرين وبعضهم أكثر ضعفًا. فعلى سبيل المثال، لا يتوصَّل شخص جموح احتواء أية لحظة في مستواها من الاستثارة أو الطاقة، وسوف يترتَّب عليه تفريغها بأقصى سرعة ممكنة. فالفرد المندفِع يوظِّف طاقته على نحوٍ مختلِفٍ. وسوف يتم تفريغ استثارتَه أيضًا ولكن وفقًا لأنماط من الحركة والسلوك منظومةً بشكلٍ صارم.

تظهر علاقة الطاقة بالشخصية على نحوٍ لا التباس فيه لدى الفرد المكتئب. وبالرغم من أن رد الفعل والميل للاكتئاب ينجمان عن فعل متبادل لعوامل جسمانية ونفسانية معقَّدَة، فإن أمرًا لا ريب فيه، هو أن الشخص المكتئب هو أيضًا مكتئب على نحو طاقيٍّ.

تُظهِر دراسات في علم الحركة أن شخصًا كهذا يقوم فقط بحوالي نصفَ مقدار الحركات التلقائية الطبيعية، وذلك وفقًا لتلك التي يقوم بها فرد ليس مكتئبًا. ومن المثبَت أنه في بعض الحالات الأكثر خطورة يفقد الشخص المصاب بالاكتئاب القدرة على الحركة، وذلك على نحوٍ يبدو فيه كما لو أنه قد فَقَدَ الطاقة الضرورية لقيامه بالحركة. وتعود حالته الانفعالية بشكل عام إلى صورة محسوسة: إنه الشخص الذي يشعر دائمًا بنقصان الطاقة فيه لكي يتمكَّنَ من منح الحياة لأية حركة في داخلِه. يمكنه أن يشكوَ لكونِه عصَبيًا، مع أنه ليس متعبًا. فالكآبة في مستواها الطاقيِّ يمكن أن يُنظَر إليها على أنها انخفاضٌ لكل وظائفه الطاقية، فالتنفس يكون في أدنى مستوياتِه، والشهية والدافع الجنسي يكونان ضعيفين. وسيكون من الصعوبة بمكان لفرد في هذه الحالَة أن يتجاوب مع نصائحنا بأن يبحثَ عن شيء يهتم به. وبالحرف الواحد، فهو لا يملك الطاقة لكي ينمِّي عنده أيَّ اهتمامٍ.

أتيحَ لي أن أعالِجَ الكثيرين من مرضى الاكتئاب، ذلك أن الاكتئاب هو إحدى المشكلات الأكثر شيوعًا بين الناس الذين يهرعون للعلاج. فبعد إصغائي لقصة مريض أعدتُ النظر وتقييم حالته، محاولاً مساعدته والنهوض من جديد بمستوى طاقته. وتكمن الطريقة الأكثر مباشَرَةً للتوصُّل إلى ذلك في العمل على زيادة تياره الأوكسجيني، بالعمل على أن يتوصَّل إلى التنفس بشكل أكثر عمقًا وامتلاءً. ويوجد عددٌ كبير من الطرق التي يمكن للفرد من خلالِها أن تتمّ مساعدتَه على تحسين تنفُّسه، وسيجري وصفها في الفصول اللاحِقَة. وأنطلِقُ من افتراض أن الفرد لا يستطيع فعل ذلك بمفرده، وفي حال عكس ذلك لن يكلِّف المرءُ نفسَه عناءَ المجيء إليَّ. وهذا يستلزِم عليَّ استخدام طاقتي للتوصل إلى جعلِ طاقتِه تنساب بحرية. ويتضمَّنُ هذا المنهج جعل المريض يشارك في بعض النشاطات البسيطة التي ستجعل من تنفسه رويدًا رويدًا أكثر عمقًا، مثلما هو الأمر في استعمال الضغطات الجسمانية واللمس لتنشيطه. والمهم في ذلك كله هو أنه بقدر ما يصير تنفُّس الفرد أكثر فعَّاليةً، بقدر ما يرتفِعُ مستوى طاقته. وعندما يعيد الفرد ملء نفسِه بالطاقة، فلابد أن يجري في ساقَيْه ارتجافٌ أو اهتزاز خفيفٌ لا إرادي. وهذا يُفسَّر كإشارة على وجود سيَّالَة ما أو استثارة في الجسم، خاصةً في الجزء السفلي. وعلى صوته أن يصير أكثر دويًا، وذلك بوجود كمية أكبر من الهواء المنساب عبر الحنجرة، وعلى الوجه أيضًا أن يصير أكثر حيوية. وعمومًا لا تمر أكثر من عشرين أو ثلاثين دقيقة لكي يحدُثَ هذا التغيُّر، مؤدِّيًا إلى شعور المريض كما لو أن "جسمه يرتفع من تلقاء ذاته". وفي الحقيقة، إن حالتَه الكئيبَة قد تم إيقافها، ولكن بشكلٍ مؤقَّت.

وبالرغم من أن تأثير التنفس، الأكثر امتلاءً وعمقًا، يمكن اختباره، كما يصير واضحًا للمريض بأنه لا يمكن بلوغ شفاء حالته الكئيبة مباشرة، يبقى أنه ليس مؤكَّدًا أن تأثير التنفُّس سوف يدوم، في حين أن الشخص نفسَه لا يتوصَّل على إبقاء هذه الحالَة من التنفُّس العميق، وذلك بشكلٍ تلقائي.

إن عدم القدرة هذه لهي مشكلة مركزية في حالة الاكتئاب، ذلك أنه لا يمكن التغلُّب عليها إلا إذا قام المريض بتحليل أساسي لكل العوامِل التي ساهمَت في تكوين جسمٍ شبه ميت نسبيًا، وشخصية كئيبة. ولكن التحليل في حدِّ ذاته هو الآخر لن يساعد كثيرًا فيما إذا لم يرافقه جهد مستمر للرفع من مستوى طاقة هذا الشخص وذلك بملء جسمه بالطاقة.

لا يمكن مناقشة مفهوم حمولة الطاقة دون الأخذ بعين الاعتبار تفريغ الحمولَة الطاقية. لا يستطيع الكائن العضوي الحي الوجود إلا إذا تمتع بتوازن بين حمولة الطاقة وتفريغِها. ومن الضروري بمكان الحِفاظ على مستوى الطاقة المنسجمَة مع حاجاتها وإمكانيَّاتِها. إن طفلاً في عمر النمو لديه دائمًا تيار أكبر من الطاقة إذا ما قارنَّا ذلك مع التفريغ، وبالتالي، يُستخدَم هذا الفائض من الطاقة في عملية نموه. نرى الأمرَ نفسَه في حالة النقاهة أو في حالة نمو الشخصية. فالنمو يستهلك طاقة. وعدا عن ذلك، عمومًا، فإن كمية الطاقة الممتصَّة من قِبَلِ شخص توافق كمية طاقة أي شخص يستطيع تفريغها من خلال أي نشاط.

تستلزِم كل النشاطات استخدام طاقات – من نبضات القلب، إلى الحركات التقلُّصية للأمعاء، حتى المشي والتكلُّم والعمل والجنس. ومع ذلك فما من كائن عضوي حي هو عبارة عن آلَةٍ. ذلك أن نشاطاته الأساسية لا تتطور على نحوٍ ميكانيكي وذلك باعتبارها تعبيرات عن كينونته. فالشخص يعبِّر عن ذاته من خلال أفعاله وحركاته، وعندما يكون تعبيره الذاتي حرًا ومطابقًا لحقيقة وضعِه، فسيختبِر إحساسًا بالإشباع واللذة الناجِمَة عن تفريغ الطاقة. هذه اللذة وهذا الإشباع ينشِّطان بدورِهِما الكائنَ الحيَّ على زيادة نشاطه الاستقلابي الذي ينعكس حالاً في تنفُّسٍ أكثر عمقًا وامتلاءً. وفي حالَة الإشباع فإن نشاطات الحياة الإيقاعية واللاإرادية تعمل في مستواها الممتاز.

إن اللذة والإشباع هما، كما ذكَرْنا، النتيجة الحالية لخُبُراتِ التعبير الذاتي. فإذا ما قيَّدنا حق شخص في التعبير عن ذاته فسوف تقيَّد فرصَه للذة والحياة الخلاَّقَة. ولهذا السبب بالضبط إذا ما قُيِّدَت قدرة الفرد على التعبير عن أفكاره ومشاعره، وذلك من خلال قوى داخلية (مكبوتات أو توترات عضلية مزمنة) فإن قدرته على الإحساس باللذة ستصير ناقصة أيضًا. وفي هذه الحال، سوف يُنقِص الفرد من تيار الطاقة لديه (وبالطبع على نحوٍ لاواعٍ) للإبقاء على توازن طاقيٍّ في جسمه.

لا يمكن الحصول على ارتفاع مستوى طاقة فرد لمجرَّد قيامِه ببساطة بالتنفس العميق. فيجب على طرق التعبير الذاتي من خلال الحركات والكلام والعيون أن تكون متساوية وغير معرقَلَةٍ بشكلٍ يسمح بالحصول على أكبر تفريغ للطاقة. وليس نادرًا حصول هذا بشكلٍ تلقائي عبر جريان تيار الطاقة. ومن الممكن للتنفُّس أن يصبح أكثر عمقًا على نحوٍ تلقائي مع استعمال كرسي التنفُّس الحمَّال. فجأةً، وبدون أي قصدٍ، قد يشرع المرء في البكاء، وذلك في اللحظة التي لا يعلم بالضبط ما هو الباعِث على البكاء؟! فقد فَتَحَ التنفُّس الأكثر عمقًا حنجرتَه، ونشَّطَ جسمَه، وأخرج انفعالاته المكبوتة إلى النور، مؤديًا إلى شعور بالحزن ينساب نحو الخارج. وفي بعض الأحيان يحل الغضب محل الحزن. إلا أنه قد لا يحدث شيء في مرات كثيرة، لأن المرء قد يكون خائفًا بشكل يحول دون السماح لاستسلامه وتحرير مشاعره. وفي هذه الحال، سيكون لديه وعيًا للـ"احتباس"، وللتوترات العضلية للحنجرة والصدر، والتي توقف نشاط التعبير عن الشعور. وإذاك سيكون من الضرورة بمكان استرخاء الاحتباس من خلال عمل جسماني مباشر على التوترات العضلية المزمِنَة.

بما أن الحمولة والتفريغ يعملان كوحدة، فإن المنهج الحيوي الطاقي يعمل مع كِلا جانبي المعادَلَة على نحوٍ تزامني، وبطريقة ترفع من مستوى طاقة الفرد، تحرير تعبيره الذاتي، وإنعاش تدفق المشاعر في جسمه. وبالنتيجة فإن التأكيد الدائم على التنفس، وعلى الشعور، وعلى الحركة، متعاضدة في محاولة ربط تأدية الوظيفة الطاقية الحالية للفرد مع قصة حياته. وتقود طريقة العمل هذه شيئًا فشيئًا إلى اكتشاف القوى الداخلية (الصراعات) التي تمنع الفرد من تأدية وظيفته ضمن قدرته الطاقية الكلية. يرتفع مستوى الطاقة كلما تم العثور على حل لإحدى هذه الصراعات الداخلية، وهذا يعني أن الشخص يستهلِك ويفرِّغ طاقة أكثر في نشاطات خلاَّقَة تقود للَّذَّة والإشباع.

أنا لا أقصد القول إن بوسع المنهَج الحيوي الطاقي أن يجد حلاً لكل الصراعات الخفية، وإزالة كل التوترات المزمنة، وتنشيط تيار المشاعر الحر والكلي في جسم أي شخص. إننا ربما لا نبلغ هذه الغاية كليًا، لكننا بعملِنا هذا سوف نقوم بترسيخ سياق للنمو يقودنا بدوره نحو هذا الاتجاه. فكل علاج له عيوبه، ذلك أن الثقافة التي نعيش في وَسَطِها لا توجِّه الفرد إلى النشاط الخلاَّق والشعور باللذة. وكما ذكرت في مؤلَّفٍ آخَر بأن ثقافة كهذه لا تركز على القِيَم وإيقاعات الجسم الحي، وإنما تركز على تلك التي للآلات والإنتاجية المادية. ليس بوسعِنا التملُّص من نتيجة أن القوى التي تمنع التعبير الذاتي هي التي تُنقِص من أداء الوظيفة الطاقية، وبأن هذه القوى أتت من ثقافتنا، وهي تشكِّل جزءًا منها. فكل كائن حسَّاس يعرف أنه من الضروري بمكان أن يحميَ ذاتَه بطاقة معتبَرَة من الإيقاع الجنوني للحياة الحديثة، مع ضغوطاتها وتوتُّراتها وعنفها وعدم أمانها.

يحتاج مفهوم السيَلان إلى تهيؤ ما. تشير كلمة سيَلان إلى حركة داخل الكائن الحي، وأفضل مثال على ذلك هو الجرَيَان الدموي. وبقدر ما يجري الدم عبر الجسم، بقدر ما ينقل الحريرات والأوكسجين إلى الأنسجة مقدِّمًا لها الطاقة ومزيلاً نواتج الفضلات الناجمة عن عملية الاحتراق. كما أن الدم ليس فقط وسيلة نقلٍ فهو في الحقيقة سيَّالةٌ طاقية. ووصوله إلى أي جزء من الجسم يعني حرارة، واستثارة لذلك الجزء. فهو ممثل وحامِل للإيروس. فلنفكِّر بما يحدث في المناطق المثيرة للشَّبَق، سواءً الشفتيْن، أو حَلَمَتَي الثدي، أو الأعضاء التناسلية. فعندما تمتلئ هذه المناطِق بالدم (وكل واحد من هذه الأعضاء متمتِّعٌ على نحوٍ غني بشبكات الأوعية الدموية)، ويصير الفرد مثارًا، ويشعر بنفسه حارَّ الاستقبال، وَدُودًا، ساعيًا للتواصل مع شخص آخَر. وتجري الاستثارة الجنسية بتزامن مع ازدياد الجريان الدموي نحو سطح الجسم، وخصوصًا نحو المناطق المثيرة للشَّبَق. وإذا كانت الاستثارة تجلب الدم أو أن الدم هو الذي ينقل الاستثارة فهذا أمر ضئيل الأهمية. وفي الواقع أن الاثنين يكونان دائمًا معًا.

كما يوجد في الجسم عدا عن الدم، سوائل طاقية أخرى، كاللمفا (مصل الدم)، وسوائل فتحات الجسم، والسوائل ضمن الخلايا. ولا يتوقف تيار الاستثارة على الدم فقط، بل هو يجوب الجسم من خلال سوائله كلها. ونقول على نحوٍ طاقيٍّ، بأنه يمكن رؤية الجسمِ كلِّه كخليةٍ واحدة يغلِّفها الجلد. ويمكن انتشار الاستثارة في داخل هذه الخلية في كل الاتجاهات أو حتى الجريان في اتجاهات معينة وفقًا لطبيعة ردَّة الفعل لعامل التحريض. ورؤية الجسم هذه كخلية واحدة لا تنكر واقع أنه توجد داخل الجسم عدة أنسجة متخصصة، كالأعصاب، والأوعية الدموية، وأغشية مخاطية، وعضلات، وغدد... إلخ، وتتعاون كلها معًا كجزء من كلٍّ لكي تنشر حياة الكل.

يستطيع أي فرد اختبار جريان الاستثارة كشعور أو إحساس غالبًا ما يتحدَّى الحدود التشريحية للجسم الإنساني. أفلم تشعر بالغضب يصعد في جسمك، محمِّلاً ذراعيك ووجهك وعينيك بطاقته؟ وهذا يمكن أن يتبدَّل إلى إحساس "بحرارة في الرقبة" حتى ذلك الانسداد الدموي السكتي للرأس والرقبة. وعندما يكون أحدهم غاضبًا فإنه يرى كل شيء أحمر اللون، وذلك بسبب امتلاء شبكة العين بالدم. ومن جهة أخرى، فإن الشعور بالغضب قد يجعل الفرد بمظهر أبيض وبارد وذلك بسبب انقباض العروق الدموية المحيطية التي لا تسمح للدم بالوصول إلى السطح. كما يوجد أيضًا ذلك السخط الشديد حيث يُغطَّى الغضب بغمامةٍ سوداء من البغض.

إن جريان الدم باتجاه الرأس والاستثارة بوسعهما إحداث انفعال مختلف بشكل كامل، وذلك عندما تسلكان أقنية مختلفة فتستثيران أعضاء مختلفة. إن تيار الاستثارة الذي يجوب القسم الأمامي من الجسم أي من القلب إلى الفم والعينين واليدين سيجعل من الفرد يشعر بنفسه أنيس المعشر ومنبسطًا، في حين أن تيار الغضب يجوب بشكل أساسي القسم الخلفي من الجسم. فالدم والاستثارة اللذان يتجهان إلى القسم السفلي من الجسم سيكون بوسعهما إحداث بعض الأحاسيس المهمة. وهذه يمكن اختبارها عندما نركب عربة القطار البهلوانية التي تصعد وتنزل وتدور بنا في مدينة الملاهي، أو في طَلَعَاتٍ أو نَزْلاتٍ خفيفة لمصعد ما. ويَفْرَحُ الأطفال بهذه الأحاسيس التي يمكن الشعور بها أيضًا في ألاعيب الأرجوحة. وتكون هذه الأحاسيس أكثر حدَّةً وتسبِّب أكبر لذة عندما تحصل على هيئة أحاسيس ناعِمَة بالذوَبان في البطن، مصحوبةً بحمولة جنسية قوية. إلا أن التيار نفسه يمكنه أن يكون مرافقًا لحالات من القلق مانحًا الفرد إحساسًا ببطنه يغرق في هذا التيار.

عندما نأخذ بالحسبان أن 99% من الجسم مكوّنٌ من الماء، حيث القسم الأعظم مكوَّن من أغلبية سائلة، فبإمكاننا أن نتخيَّلَ أحاسيسًا ومشاعر وانفعالات كما لو أنها تيارات أو أمواج لهذا الجسم السائل. فهذه عبارة عن إدراكات لحركات داخلية للجسم سائلة نسبيًا. تلعب الأعصاب دور الوسيط لإدراكات كهذه، وتنسِّق ردود الفعل، لكن الدوافع والحركات الكامِنَة متلازِمَة مع الحمولَة الطاقية للجسم، ومع إيقاعِه ونبضِه الطبيعيين، وتمثِّل هذه الحركات الداخلية قابليةَ الجسم للحركة متميزة عن الحركات الإرادية الخاضعة إلى سيطرة واعية. إنها أكثر وضوحًا لدى الأفراد الأكثر يفاعة، وعند النظر إلى جسم طفل، بوسعنا رؤية تحركاته المستمرة، كما لو كانت أمواج بحيرة، وحركات كهذه تسبِّبها قوى داخلية. وبقدر ما يصير الفرد أكثر كهولةً، تتضاءل قابليته للحركة. يصير الفرد أكثر صلابةً وبنيوية حتى أنه مع الموت في النهاية تنطفئ كل قابلية للحركة.

يوجد في كل حركاتنا الإرادية عامل لاإرادي يمثل قابلية الحركة الأساسية للكائن الحي. العنصر اللاإرادي، المكمِّل للفعل الإرادي، يستجيب من خلال حيوية وتلقائية أفعالنا وحركاتنا. وعندما يكون هذا العنصر غائبًا أو ضئيلاً تصبِحُ حركاتُ الجسم ذي سِمَةٍ آلية وبدون حياة. فالحركات المجرد إرادية أو واعية يحل مكانها على الأقل إحساسات أخرى ليست الإحساس بالحركة في التنقُّل في الفراغ. وإن طابع الشعور بالحركات المعبِّرَة تأتي من عنصر لاإرادي، عنصر كهذا ليس خاضعًا للسيطرة الواعية. إن اندماج العناصر الواعية واللاواعية أو العناصر الإرادية واللاإرادية يؤدي إلى انبعاث حركات ذات صِلَةٍ انفعالية، وتتأسَّس على أفعال منسَّقَة وفعَّالَة.

تتعلَّق حياة الفرد الانفعالية بقابلية جسمه على الحركة، وهذه الأخيرة هي بدورها عبارة عن وظيفة لتيار الاستثارة الذي يعبر الجسم. إن الاضطربات التي تطرأ على هذا التيار تحدث في هيئة توقفات عن العمل، وتظهر في مناطق حيث قابلية الجسم على الحركة تكون ناقصة. وفي هذه المناطق نستطيع بسهولة تلمُّس، والشعور بأصابعنا، التقلُّص العضلي. وعلى هذا النحو، فإن مصطلحات مثل "توقف عن العمل"، و"انعدام الإحساس"، و"توتر عضلي مزمن"، تشير كلها إلى الظاهرة نفسها. وبوسعنا بشكل عام أن نستدل على وجود توقف عن العمل من خلال التحقُّق من مجالٍ حيث يكون فيه انعدامٌ للإحساس أو من خلال الشعور بانكماش عضلي يبقي عليه.

وبناءً عليه، فالجسم عبارة عن نظام طاقيٍّ في تفاعل طاقيٍّ مستمر مع وَسَطِه المحيط. وباستثناء الطاقة الناجمة عن احتراق الطعام، يُستثَار الفردُ ويُحمَّل بالطاقة من خلال اتصالِه بالقوى الإيجابية. فيوم مشرق وصاحٍ، ومشهد رائع، وشخص مبتهِج، كل هذه عوامل لها تأثير محرِّض. والأيام العاتِمَة والثقيلَة، وكذلك الأشخاص القبيحون والمكتئبون، لهم وقع سلبي على طاقاتنا، ممارسين تأثيرًا مثبِّطًا للعزيمة. كلنا حسَّاسون للقوى أو الطاقات التي تحيط بنا ويختلِف تأثيرها من شخص إلى آخَر. فشخص مُحمَّلٌ بالطاقة بشكل عالي المستوى، يكون أكثر مقاوَمَةً للتأثيرات السلبية محوِّلاً إياها في الوقت نفسه إلى تأثيرات إيجابية للأشخاص الآخرين، خصوصًا عندما يكون تيار الاستثارة في جسمه حرًا وكاملاً. إن الاتصال بأفراد كهؤلاء يمنحنا السرور، وبوسعنا الإحساس بهذا بشكل بديهي.

أنت جسدك

يقوم المنهج الحيوي الطاقي على مقدمة بسيطة، وهي أن كل كائن هو جسده. ما من شخص يوجد خارج جسده الحي الذي يعبِّر من خلاله عن ذاته، ويدخل من خلاله أيضًا بعلاقة مع العالَم الذي يحيط به. ومن الغباء أن نبرهن عكس هذه المقدمة، لأننا قد نحاول الإشارة إلى أجزاء من أنفسنا لا تمت بصِلَة إلى جسدنا. فالعقل والروح والنفس هي مظاهر لأي جسد حي. فجسد ميت لا يملك عقلاً، وفَقَدَ روحه وغادرته نفسه أيضًا.

إذا كنتَ أنت جسدك، وجسدك هو أنت، فسيكون بمقدور هذا الجسد أن يُظهِر من تكون. فهذا أسلوب وجودك في العالَم. وبقدر ما تكون حيًا فكذلك يكون جسدك، وستكون أكثرُ حيويةً في العالَم. وعندما يفقد جسدُك جزءًا من حيويته في لحظة استنفاد طاقته على سبيل المثال، يكون حينئذٍ مَيْلُك هو للعُزلة. ويملك المرضُ التأثيرَ نفسَه مؤدِّيًا أيضًا إلى حالةٍ من الانكماش. فمن الممكن الشعور بأن العالَم على مسافةٍ ما منك، وأنت كما لو أنك تنظر من خلال الضباب. ومن جهة أخرى، تأتي أيام تشعر فيها نفسك حيًا ومشرقًا، والعالَم يبدو حواليك نيِّرًا أكثر، وأكثر قربًا وحقيقيةً. كلنا نرغب أن نكون ونشعر بأنفسنا أكثر حياةً، ويأتي المنهج الحيوي الطاقي ليساعدنا في تحقيق هذا الهدف.

وبما أن جسدك يعبِّر عمَّن تكون، فهو يشير أيضًا إلى شدَّة حضورك في العالَم. فليس عبثًا استخدامنا لمصطلَحَي مثل "لا أحد" للإشارة إلى عدم وجود شخص يصرِّح شيئًا بصدد وجوده، أو مثل "أحد ما" للإشارة إلى شخص يوصِل إلينا انطباعًا قويًا[1]. هذه هي فقط لغة الجسد. وعلى النحو نفسه بوسع الأشخاص الشعور متى تكون في حالَةِ انسحابٍ، وكذلك أيضًا بوسعهم الشعور بتعبك أو بأي سوءٍ تعاني منه. فالتعب يتم التعبير عنه من خلال إشارات سمعية وبصَرية مختلفة: فالكتفان هامدان، والانحطاط في الوجه، والنقصان للبريق في العينين ظاهران، وحركات بطيئة وثقيلة، وصوت أكثر جدية أو بدون نَغَمٍ. لا بل حتى الجهد في إخفاء هذا الشعور يخون نفسه، ويفضح سِمَةَ محاولةٍ قهرية.

ما يشعر به الفرد يمكن تحديده أيضًا من خلال تعبير جسده. فالانفعالات هي أحداث جسمانية، وحرفيًا، هي حركات أو دوافع داخل الجسد تؤدي بشكل عام إلى فعل خارجي. فالغضب يؤدي إلى توتر، كما بوسعنا رؤية الحمولة التي يسبِّبُها في القسم الأعلى من الجسم حيث تتموضع أعضاء الهجوم الأساسية، مثل: الأسنان والذراعان. وبوسعنا أن نتعرَّف على شخص يشعر بالغضب من خلال وجهه المحمرِّ، وقبضتيه المشدودتين، وأصوات همهمة تصدر من فمه. كما أن انتصاب وبر بعض الحيوانات على امتداد ظهرها ورقبتها، هو شكل آخر من المظهر الانفعالي. ومن جهة أخرى، فالمودَّة والحب يلطِّفان كل المظاهر، مالِئَيْن الجلد والعينين بالدفء، في حين أن الحزن يمنح الفرد مظهرًا يحرِّك المشاعر، موحيًا دائمًا أنه موشكٌ على الانفجار بالبكاء في أية لحظة.

يُظهِر الجسد ما هو أكثر من ذلك كله، إذ ينعكِس فيه موقف الفرد إزاء الحياة، وأسلوبه الشخصي في سلوكه، وفي وضعيته، وفي الطريقة التي يتحرك فيها. فمن هو ذو تصرف نبيل، وذو هيئة مهيبة يتميز بشكل جيد عن ذلك الآخَر ذي ظهر محدَّب، وكتفين منحنيين، ويميل رأسه على نحوٍ غير ثابت. فهذا كله يشير إلى الوقوع تحت رحمة حمولة قوية توزَنُ فوقَه. فمنذ وقتٍ ليس بالبعيد، عالجتُ فردًا ذا جسدٍ كبير، وبدين، وبشِع. كان يقول بأن لديه الكثير من الخجل لدرجة أنه يتقاعس عن إظهار نفسه في ثياب السباحة. وكان يشعر أيضًا بأنه غيرُ لائقٍ جنسيًا. وصارع سنين كثيرة لكي يتغلب على عيوبه الجسمانية، وذلك بتطبيقه لبعض الحِمْيَات الصحية، والتمارين البدنية، ولكن دون أن يحالِفَه النجاح. وخلال مدة علاجه، أخذ بعين الاعتبار أن مظهره الجسماني كان يعبر عن جانبٍ من شخصيته لم تُتَحْ له الظروف لكي يَقبَّلَه حتى ذلك الحين، فكان جزءٌ منه يتطابق مع كائن كبير وبدين وأكثر طفولية من كونه رجلاً. كان هذا ملحوظًا في هيئته غير اللائقة بجلوسه على كرسي، مثلما هو الأمر أيضًا بعدم اعتنائه بثيابه. إلى حين أدرك أنه بكونه طفل بدين وكبير وقذِر، بحيث كان هذا هو موقفه اللاواعي الذي اتخذه حيال المتطلبات المستمرة من قِبَلِ والديه كي ينموَ ويصير رجلاً ويتفوَّقَ مثل الآخرين. كانت صراعاته الحقيقية أكثر جدية مما تشير إليه تأكيدات إلى هذا الحد، لكنها تتلخص كلها في هذا المسلك الجسماني. فعلى المستوى الواعي أو الأنَويِّ، كان يتبع إرشادات الوالدين، ولكن لم تكن المقاومة اللاواعية لجسمه تخضع لهذه الجهود الإرادية. لا يستطيع شخص أن يكون ناجحًا في الحياة إذا حاول الصراع ضد نفسه، فالمجهود للتغلب على الجسد مصيره الإخفاق.

علينا التعرُّف على الهوية، بقدر ما هي الاختلافات بين السياقات الجسمانية والنفسانية. لم يكن مريضي فقط رجلاً كبيرًا، وبدينًا وطفوليًا، وغير لائق، بل كان أيضًا مواظبًا على نحوٍ جدِّيٍّ في التحرُّك على هذا المستوى. ورغم ذلك فهو لم يكن رجلاً بالكلية، على ما هو عليه لاوعيه وجسمه اللذين بقِيَا مثبَّتَيْن في المستوى الطفولي. كان رجلاً يحاول تحقيق مقدرته دون أن يجْدِيَ ذلك نفعًا. فكان جسده يظهر بشكل درامي، كلا الجانبين من شخصيته، ذلك أنه كان كبيرًا كجسد رجل، لكنه كان يُعَرِّف عن نفسه من خلال حَلَقَاتٍ دهنية كتلك التي للأطفال.

لدى أشخاص كثيرين عيوب مشابهة نظرًا للصراعات اللاواعية بين عدة جوانب من شخصيَّتِهم. والأكثر عمومية فيما بينها هي تلك الموجودة فيما بين احتياجات ومتطلَّبَات غير مشبَعَة في المرحلة الطفولية، وأشواق وجهود مرحلة الرشد. كما تتطلب من الشخص في حالة الرشد أن يكون مستقلاً، ويقف على قدميه، ويتحمَّل مسؤولية إشباع رغباته وحاجاته. فأولئك الذين هم على صراع ويعانون مع جهودهم لكي يصيروا مستقلين ومسؤولين عن ذواتهم، يظلون ضعيفين بسبب رغباتٍ لاواعية بأنه ثمة أحد يمنحهم دعمًا ويرمي على عاتقه مسؤولية الاهتمام الضروري بهم. والنتيجة هي أشخاص مشوَّشون على المستوى الجسماني وكذلك على المستوى النفسي بالمقدار نفسه. وعلى هذا سيُظهِر سلوكهم استقلالاً مفرطًا جنبًا إلى جنب الخوف من البقاء وحيدين، وإلى عجزهم عن اتخاذ قرارات. ومن الجدير بالذكر تلك الصورة المشوَشَة نفسها التي تبدو في أجسامهم. وبوسع جوانب الشخصية الطفولية أن تَظهَرَ من خلال أيديهم وأقدامهم الصغيرة، وسيقانهم الطويلة والنحيفة التي تظهر على نحو ليس بوسعها تقديم الدعم الكافي لأجسادهم، أو من خلال نظام عضلي متخلِّف لا يتمتع بالقدرة العدائية لبلوغ ما يحتاجه الفرد أو يرغب به.

في حالاتٍ أخرى، يبدو الصراع بين تسلية المرحلة الطفولية، وواقعية مرحلة رشد الشخصية. وظاهريًا يعطي الشخص انطباعًا أنه جدِّيٌّ وغير مرن وقاسٍ ومجتهد وأخلاقي. فإذا حاول الاسترخاء والاستمتاع فإنه يتحول إلى طفل. وهذا يُظهِر بشكل صريح أن شخصًا من هذا النوع يحب أن يثمَلَ إلى حدٍّ ما. فالطفل الموجود ههنا يعتاد على الظهور من خلال مزاح وطرائف دون أن يكون لها أية فكاهة. فما يلوح على الوجه والجسم هو التعب والقسوة والانحطاط، الأمر الذي يجعل من شخص كهذا يبدو أكثر كهولة. ثمة لحظات، يُلاحَظُ في الوجه تعبيرٌ صبياني، مصحوبًا بابتسامة خفية وخبيثة تشير إلى عدم النضوج.

يحدُثُ الصراع عندما لا يُسمَح للطفل بالتعبير عن نفسِه من خلال حب اللعب العفوي بحرية وبالتمام. كما لا تستطيع محاولة إلغاء الفضول الجنسي للطفل وميله للمزاح بخصوص مواضيع ذي صلةٍ بممارسة الحب أن تلغيَ هذه الميول. ذلك أنها تُدفَنُ في الوعي أو تُبعَدُ عنه، لكنها تستمر بوجودها في الطبقات التحتية للشخصية، وعندما تلوح فرصةً ما تنبعث في هيئة شذوذات عن الميول الطبيعية. وفي هذه الحال، فالصفات الطفولية لا يجري دمجها في الشخصية وتبقى معزولةً على نحو كبسولات مشكِّلَة أجسامًا غريبة عن الأنا.

الشخص إذن هو مجموعٌ كامل لخبراته في الحياة، وكل واحدة منها تُسجَّلُ في شخصيتِه وتصبِحُ منظومةً في جسمِه. مثل حطاب بوسعه قراءة تاريخ حياة شجرة من خلال المقطع الأفقي في جذعها إذ يُظهِر حلقات نموِّها السنوي، وكذلك أيضًا المعالِج الحيوي الطاقي فبوسعه قراءة تاريخ حياة شخص من خلال جسمِه. كلتا الدراستين تتطلبان المعرفة، والتجربة، لكنهما تقومان على المبادئ نفسها.

بقدر ما ينمو الكائن الحي الإنساني فإنه يضيف طبقات لشخصيته، وكل واحدة منها تظل حيةً وفي نشاط في مرحلة الرشد. وبقدر ما يكون بلوغها سهلاً بالنسبة للفرد فإنه يكوِّن شخصية متكاملة وحرة من الصراعات. وإذا كانت أية طبقة أو أية تجربة مكبوتة أو مُبْعَدَة من أن تكون مُتَاحَة، فالشخصية تدخُلُ في صراع، وبالتالي، تصير محدودةً. تبيِّن الصورة التالية رسمًا بيانيًا موجزًا لتشكُّل هذه الطبقات.

تضيف كل واحدة من هذه الطبقات صفات للحياة يمكن تلخيصها على النحو التالي:

-       طفل = حب ولذة

-       ولد = خلق وتخيُّل

-       صبي أو بنت = تسلية وحبُّ اللعب

-       مراهق = رومانسية ومغامرة

-       راشد = واقع ومسؤولية

ربما من الأفضل التحدث عن الصفات بالقول إن النمو المعتبَر ههنا هو التطور وتوسُّع الوعي. وبالتالي تمثل كل طبقة اتجاهًا جديدًا للكائن وقدراته، ووعيًا جديدًا للكائن مع العالَم. ورغم أن الوعي ليس وحدةً متميزة أو منعزِلة عن الشخصية، فهو وظيفة للكائن الحي ومظهر للجسد الحي يتطور على المستويات الجسمانية والانفعالية والنفسية للجسد. ويتعلَّق الوعي بالتجربة، فيبلغ العمق من خلال اكتساب المهارات، ويترسَّخ مع استمرار النشاطات.

لا أريد القول بتكافؤ الطبقات مع صفات الوعي، فكل مستوى جديد للكائن ينبعث لتوه على نحو كامل متكوِّنًا في الداخل وذلك وفقًا لمرحلة ما من العمر. وفي الواقع يأتي حب اللعب في الطفولة لكنه يبلغ كامل تطوره بعد عبور هذه المرحلة. وأعتقد أن الوعي الحقيقي للمزاح والتسلية صفات مميزة للصبيان والبنات أكثر من أن تكون كذلك للأطفال الأكثر حداثة. إن استعراضًا كاملاً لكل طبقة وصفاتها تجعل المعادلَة المقترحَة ذات معنى أوضح.

يتصف الطفل في رغبته بالحميمية والتقرُّب، وبشكل رئيسي من الأم. فهو يريد منها أن تحمله وتلمسه تحبُّبًا، وأن يكون مجيئه حسنًا ومقبولاً. فالحب كما نوَّهنا في كتاب سابق يمكن تعريفه على أنه رغبة بتقرُّب أكثر حميميةً. ويشعر الطفل باللذة عندما تُشبَع حاجته بالتقرُّب. في حين ينجم عن حرمانه من هذه الحاجة الضرورية بالتقرُّب حالة من الشعور بالألَم.

يأتي أي شعور بالحب لدى الراشد من هذه الطبقة لشخصيته. وليس الشعور بالحب لدى الراشد مختلفًا بالضرورة عن ذلك الذي للطفل رغم أنه من الممكن أن تختلِفَ طريقة التعبير عنه، إذ تكمن الرغبة بالاتصال الحميم في كل طرائق التعبير عن الشعور بالحب. يدرك الفرد الشعور بالحب من خلال اتصاله مع الطفل الذي كان إياه، والذي مازال يشكل جزءًا منه، هذا بالإضافة إلى أنه يتصل مع قلبه. ففي اللحظة التي يعزل الفرد فيها قلبَه أو طفولتَه الأولى، فهو لن يستطيع بعد اختبار الحب في كليته.

يضيف الطفل للحياة بعدًا ونوعية جديدين. فيحلُّ محلَّ الحاجة إلى حميمية دائمة حاجة جديدة لاستكشاف العالَم، وهي حاجة مُيسَّرَة من خلال أفضل تنسيق باعث للحركة لدى الطفل. فمن خلال استكشاف الأشخاص والأشياء والفراغ والزمن، فإنه يخلق العالَم في عقله. وبما أن الطفل ليس مرتبكًا مع حسِّه بالواقع المركَّب فيظلُّ خيالُه طليقًا. ويخلُقُ الطفل أيضًا أثناء هذه المرحَلَة على مستواه الواعي حسَّه بالوجود، وذلك خلال المدة التي يستكشف فيها تخيليًا إمكانيةَ تقمُّصِّه لأشخاصٍ آخرين كأمِّه على سبيل المثال.

أعتقد أن الطفولة تنتهي عندما ينتهي الفرد من تكوين صورة منسجمة مع عالمِه الشخصي ومع وجوده. وبإنهائه هذه الخطوة، فالصبي أو البنت يتَحَدَّان عالمَهما الشخصي، وذلك من خلال لَعِبِهما. فالسيطرة المتنامية للمهارات الباعثة على الحركة واللعب مع أطفالٍ آخرين، تؤسِّس شكلاً لنشاط اللعب المسلِّي لكونه حرًا بشكلٍ غني. كما توجد درجة أكثر علوًا من الاستثارة في ألعاب الصبي والبنت من تلك التي للأطفال الأكثر حداثة، واقع أنها تُضاف للشعور بالفرح المختبَر أثناء هذه المرحلة للحياة. ويوجد أيضًا حسٌّ أعظم بالحرية الآتية من الشعور بالاستقلال الذي مازال حرًا من الشعور بالمسؤولية.

أما المراهقة فهي متَّسِمَة أيضًا بازدياد أعظم في مستوى إمكانية الاستثارة المتعلِّقَة بالاهتمام البارز بالجنس الآخر مع اشتداد نمو الرغبة الجنسية. والصورة المثلى للمراهقة هي تلك التي لزمن الرومانسية والمغامرة المتوافِقَتَيْن مع قوَّة لذة الاتصال الحميم مع أشخاص آخرين، ومع التخيل والابتكارية العقلية للطفل، ومع تحدِّيات وتسالي أولئك الأكثر حداثةً. فإن فترة تدرُّب الراشد يمكن بلوغها عندما يتحمَّل الفرد مسؤولية العواقب الممكنة لأمر ما له واقع جدي.

الراشد هو شخص واعٍ للعواقب الممكنة لسلوكه والتي يتحمل المسؤولية عنها. إلا إذا فَقَدَ الراشِد الاتصال مع الشعور بالحب والحميمية التي أدركها حين كان طفلاً، ومع الخيال الخلاَّق للصِّبا بألعابِها وتسلِياتِها، ومع روح المغامرة والرومانسية التي وَسَمَت مراهقته، فيصير شخصًا عقيمًا وقاسيًا وصعب المراس. إن راشدًا سويًا هو رضيع وطفل وصبي أو صبية ويافع. يتضمَّنُ حسُّه بالواقع والشعور بالمسؤولية الحاجةَ والرغبة بالحميمية والحب وإمكانيَّتِه بأن يكون خلاَّقًا، والحرية لكي يتسلَّى وأيضًا روح المغامرة. وعلى هذا النحو يكون كائنًا إنسانيًا متكاملاً وواعيًا بشكل كلي.

لكي نفهم الجسد الحي، علينا استبعاد المفاهيم الميكانيكية. فآليات عمل الجسم مهمة، لكنها لا تفسِّر هذا العمل. فالعين على سبيل المثال لا تعمل فقط كعَدَسَة، فهي عضو من الحواس يدرك، وهي عضو للتعبير الذي يتفاعل. والقلب ليس مضخةً فقط، فهو عضو يشعر، الأمر الذي ليس هو بمتناول المضخة. فنحن كائنات حسَّاسَة، مما يعني أننا نملك القدرة على الشعور أو الإدراك واختبار أحاسيس ومشاعر. فالإدراك هو وظيفة العقل الذي هو بدوره مظهر للجسم. فالجسد الحي يملك عقلاً وروحًا ويحتوي نفسًا. كيف بوسعِنا أن نفهم هذه المفاهيم على النحو الحيوي الطاقي؟

عقل وروح ونفس

اعتدنا على القول في أيامنا هذه بثنائية العقل–الجسد، والتي هي بدورها ليست سوى نتاج للخيال الإنساني. وواقع الأمر هو أن العقل والجسد شيء واحد فقط. فمنذ وقت طويل كنا ننظر إليهما ككيانين منعزلين، يؤثر الواحد في الآخر، ولكنهما ليسا مرتبِطَين بشكل مباشر. ولم يتغير موقفنا هذا بشكلٍ كامل حتى الآن. تنقسِمُ طريقتُنا التربوية حتى الآن إلى بدنية وعقلية، شيئان ليس ثمة قاسِم مشترك فيما بينهما. ويعتقد قلَّةٌ من أساتذة التربية البدنية أن بوسعهم التأثير في القدرة على التعلم لدى الطفل من خلال برامج رياضية وألعاب قوى، الأمر الذي نادِرًا في الحقيقة ما يتوصَّلون إليه. وإذا كان أكيدًا أن العقل والجسد هما شيء واحد، فإن تربية بدنية حقيقية عليها أن تكون في الوقت نفسه تربية عقلية ملائمة والعكس بالعكس.

أعتقد أن المشكلة تعود إلى أننا نميل إلى مفهوم الوحدة بين العقل والجسد، ولكن على نحوٍ نظري فقط، وبدون أن نطبِّق هذا المفهوم في حياتنا اليومية. نظن أنه بمقدورنا تربية عقل الطفل دون الاهتمام بجسمِه. وتحت وطأة تهديداتِنا بمعاقبتِه في حال فشله، نقوم بإدخال المعلومة في رأسه عنوة. ولسوء الحظ لا تصيرالمعلومة إدراكًا إلا إذا أُمكِنَ تطبيقُها نسبيًا من خلال التجربة. غالبًا ما نُهمِل واقع أن تكون التجربة حدثًا للجسد، أو أنه بوسعنا فقط اختبار ذلك الذي يجري في الجسد أو معه. وسيكون للتجربة حياة تقريبًا على قدر ما يملك الجسد من حيوية أكثر أو أقل؟ عندما تؤثر في الجسد عوامل من العالَم الخارجي، يتوفَّر للفرد استعداد للإحساس بهذه العوامل، ولكن ما يحسُّه هو تأثيرها في جسده.

يكمن عيب تقنية التحليل النفسي في تجاهل هذه الأخيرة للجسد وذلك في محاولة هذه التقنية على مساعدة المريض في التغلب على صراعاته الانفعالية. فما لم تقدِّم أية تجربة هامة للجسد الأفكار التي تبرز خلال مدة العلاج، فستكون هذه الأفكار عاجزة عن إحداث تغييرات أكبر في الشخصية. كنت أرى غالبًا مرضى بعد سنين طويلة من التحليل النفسي، وقد توصلوا إلى معلومات كثيرة، ولكن إدراكهم قليل لحالتهم، وبقِيَت مشاكلهم على حالها، ولم يجدوا لها حلاً. فالمعرفة تصير إدراكًا عندما تكون مصحوبة بالإحساس، وفقط إدراك عميق مصحوب بإحساس قوي، يكون قادرًا على تغيير مستويات مكوِّنة للسلوك.

تطرقنا في كتب سابقة إلى مشكلة عقل–جسد بشيء ما من العمق. وبودِّي ههنا أن أتطرَّق إلى وظائف عقلية محددة، تقوم بأدوار هامة في المنهَج الحيوي الطاقي. وفي الدرجة الأولى فإن للعقل موقع القيادة بالنسبة للجسم. فمن خلال العقل يستطيع الفرد توجيه انتباهه إلى أجزاء مختلفة من الجسم، جاعلاً إياها أكثر وضوحًا. بوسعي اقتراح القيام بتجربة بسيطة. قم بمد يدك إلى الأعلى وفي مقابل وجهك، مبقيًا الذراع مسترخية، ووَجِّهْ إليها كلَّ انتباهِك. اجعل انتباهك مركّزًا وذلك لمدة دقيقة واحدة تقريبًا. تنفَّس بحرية، وسيكون بمقدورك أن تحسَّ فيها شيئًا مختلفًا. وغالبًا ما سوف تحس بارتجاف خفيف في اليد، وستكون هذه الأخيرة الآن محمَّلةً بالطاقة ونابضة. ومن الممكن أن يجري فيها اهتزاز أو تتأرجح قليلاً. وإذا وصلْتَ إلى حدِّ التمتّع بمثل هذه الأحاسيس فلسوف تعلم أنك قد وجَّهت تيارًا من الاستثارة أو الطاقة إلى يدك.

في مختبرات المنهج الحيوي الطاقي، اعتدتُ استعمال تنويع لهذه التجربة لجعلها أكثر شدة. أطلب من الأشخاص أن يضغطوا أصابعهم الممدودة لواحدة من اليدين على الأخرى، محافظين على الراحتين والمعصمين مبتعدين قدر الإمكان، وبالتالي، الإبقاء على الاتصال نفسه. أطلب تدوير اليدين باتجاه الداخل، على نحوٍ تؤشران به إلى الصدر، مدوِّرِين فيما بعد اليدين نحو الخارج دون أن تبتعدا عن بعضهما، ودون أن تفقدا الاتصال فيما بينهما. ويجب الإبقاء عليهما في هذه الوضعية من المدِّ الزائد لمدة دقيقة أثناء التنفس بحرية. وعند انقضاء دقيقة، ستكون اليدان مسترخيتين وممدودتين على نحوٍ مرتخ. وسيكون بوسعك مرة أخرى الشعور بالارتجاف والحمولة والنبض والاهتزاز. إذا ما قمتَ بهذا التمرين من التجربة مع الجسد، فسوف تلاحظ أن الانتباه مركز في يديك بسبب زيادة الحمولة التي حصَلَت هنا. ستكون يداك في حالة توتر مطرِد أو حمولة يمكنها الانتقال من مكانها إلى مكان آخر حيث يتوجَّه الانتباه. وإذا اقتربْتَ بيديك على مهل حتى تصبح الراحتان على بعد خمسة أو عشرة سنتيمترات الواحدة من الأخرى في حالتهما من استرخاء كلِّي، ولا تزالان مُحمَّلَتَيْن، فسيكون بوسعك الإحساس بحمولة فيما بينهما معطيًا الانطباع بامتلاك مادة وجسد.

بقدر ما يستطيع العقل توجيه انتباه الفرد إلى الجسم كذلك يستطيع توجيه انتباهه إلى أشياء خارجية. وفي واقع الأمر، بقدر ما بوسعنا تركيز طاقتنا في أنفسنا كذلك بوسعنا تركيزها في العالَم الخارجي. يستطيع شخص سليم أن يناوب عدة نقاط من التركيز بسهولة وسرعة على نحوٍ يكاد يكون له وعيٌ لجسمه وللعالَم الذي يحيط به في الوقت نفسه. وكذلك فإن شخصًا كهذا سيكون لديه وعي لما يحصل له في ذاته، وما يحصل مع أشخاص آخرين في الوقت نفسه. لكن، ليس لدى الجميع هذه القدرة. يصير بعض الأشخاص واعين جدًا لذاتهم الخاصة بطريقة يطوِّرون فيها وعيًا ذاتيًا مقتصرًا على ذاتهم. في حين يصير آخَرون واعين جدًا لما يحصل حولهم لدرجة أنهم يفقدون الدراية بأنفسهم. وهذا يؤدي غالبًا إلى أفراد حسَّاسين لدرجة مفرطة.

أن يكون المرء واعيًا لجسده، لهي واحدة من عقائد المنهَج الحيوي الطاقي، ذلك أن هذه هي الطريقة الوحيدة لاكتشاف من تكون، وما يكون عقلك. وبخصوص ذلك، يعمل العقل كعضو مدرِك ومتأمِّل يشعر ويحدِّد النفس والمشاعر وأشواق الفرد. فأن تعرف عقلك فعليًا، يعني أن تعرف ما تريد وما تشعر به. فإذا كنتَ مجرَّدًا من المشاعر، ولا يوجد شيءٌ تركِّز انتباهَك عليه، فهذا يعني أنه ليس لديك عقل. وعندما تكون أفعال شخص متأثرة بأشخاص آخرين وليس بمشاعره الخاصة، فإن شخصًا كهذا لا يملك عقلاً خاصًا به.

عندما لا يتوصل فرد إلى اتخاذ قرارات فهذا يعني أن لديه وعيًا لشعورين متناقضين بقوة متساوية، وفي أحوال كهذه، يصير القرار فيهما مستحيلاً، إلا إذا صار واحدًا من هذين الشعورين أكثر قوة وتفوقًا على الشعور الآخر. إن فقدان الرأس، كما في حالة الجنون، هو عدم معرفة ما يحسُّ به المرء. وهذا يحصل عندما تسيطر على العقل المشاعر التي لا يقبل بها، ولا يجازف بتركيز انتباهه عليها. وفي هذه الحال، يلغي الفرد أو يعزل هذه المشاعر عن جسده وإدراكه الواعيين. ومن الممكن جدًا أن يصير الفرد مفكك الشخصية، وغير منضبط، وبدون حضور للروح.

إذا لم يكن الفرد منتبهًا لجسده، فذلك لأن لديه خوفًا من إدراك أو اختبار مشاعره هذه. وإذا كان لدى هذه المشاعر سمة مهدِّدة فيتم إلغاؤها بشكل عام. وهذا يحصل من خلال توترات عضلية مزمنة لا تسمح بأي جريان للاستثارة أو لحركة تلقائية تنمو في المناطق المهمة من الجسم. فالأشخاص يلغون الشعور بالخوف، لأن لدى هذا الأخير تأثير يوقف فيه أية حركة أو فعل في المنظومة الحية. كذلك الأمر بالنسبة للشعور بالغضب، لكونِه خطِر بشكل زائد، والشعور باليأس لكونه مثبِّط للعزيمة زيادةً عن اللزوم. وأيضًا هو أمر عادي إلغاء الشعور بالألم، كألم رغبة غير مُشبَعَة، وذلك لعدم القدرة على احتماله. إن إلغاء الشعور يقلِّص حالة استثارة الجسم، ويحدث الأمر نفسه مع القدرة على تركيز العقل. فهذا هو السبب الرئيسي لفقدان قدرة العقل. إن عقولنا قلقة بشكل أساسي في حاجتِها إلى أن تبسط سيطرتها على حساب أن يكون المرء أكثر فأكثر حياة في كل مرة.

ثمة ارتباط أيضًا بين العقل والروح. إن كمية روح شخص هي محدودة أيضًا من خلال درجة حيوية العقل واهتزازه، أو بعبارة أخرى، وحرفيًا، من خلال مقدار الطاقة التي يحتوي عليها. فالارتباط بين الروح والطاقة هو ارتباط مباشر. فعندما يُستثَار الشخص فإن مستواه من الطاقة يرتفع، وترتقي الروح. وبهذا المعنى نقول عن شخص ما إنه ذكي أو كأنه حصان محنَّك[2]. وعلى هذا النحو، بوسعي تعريف الروح على أنها القوة الحيوية للكائن الحي والتي تظهر من خلال تعبير الفرد الذاتي. إن نوعيةَ روح شخص تميِّزُه كفرد، وعندما تكون هذه الروح قويةً فإن الفرد يتميَّزُ بين أقرانِه.

إن قوة حياة أو روح كائن حي مشتركة دائمًا مع التنفس. ففي الكتاب المقدس يوجد تأكيد على أن الله نفخ روحه في جبلةٍ من طين معطيًا إياها الحياة. وفي علم اللاهوت، فإن روح الله أو الروح القدس هو المدعو "بنيوما" Pneuma وهي كلمة يشرحها القاموس على أنها "النفس الحيوية أو الروح". والكلمة "بنيوما" Pneuma مصدرها يوناني، وتعني "ريح" و"نفْخٌ" أو "روح"، وهي مشابهة للمصطلح اليوناني "فِن" Phein، والذي يعني "نفخ" و"تنفس". تؤكد أديان مشرقية كثيرة بشكل خاص على التنفس باعتباره شكل من أشكال المشاركة مع الكون. فالتنفس يقوم بدور هام في المنهَج الحيوي الطاقي، ذلك أنه فقط من خلال تنفس عميق وكامل بوسعنا الحصول على طاقة من أجل حياة أكثر ذكاءً وروحانية.

النفس مفهوم لا يزال تفسيره حتى الآن أكثر صعوبة من العقل أو الروح. ومعناه الأولي هو "مبدأ الحياة، والشعور، والفكر، وفعل الإنسان". وتبدو النفس ككيان متميز ومنعزل عن الجسم. وهي مرتبطة بالحياة ما بعد الموت، وبالسماء والجحيم. أفكار يرفضها أشخاص سفسطائيون. وفي الحقيقة، يمكن لتنويه خاص بهذا الشأن في كتاب كهذا أن يُبْعِدَ بعض الأشخاص عن قراءته بعدما أكدنا بأن كتابنا هذا يملك أساسًا موضوعيًا. إن أشخاصًا كهؤلاء لا يتوصَّلون إلى مصالحة فكرة كيان منفصِل عن الجسد، مع مفهوم الوحدة الذي يطرحه المنهَج الحيوي الطاقي. عند هذا الحد، ولا أنا نفسي بوسعي بلوغ مصالحة كهذه. ولحسن الحظ، يرى الجميع النفس كما لو أنها في الجسد حتى لحظة الممات. وماذا يحصل مع النفس في لحظة الموت أو بعدها، فأنا لا أعرف. ولكن هذا السؤال لا يزعجني لطالما اهتمامي الأساسي منصبٌّ على الجسد في الحياة.

هل يملك الجسد الحي نفسًا؟ هذا يتعلق في كيفية تعريف مصطلح "نفس". إن قاموسًا مثل The Random house Dictionary يقدم لنا معنى رابعًا لهذه الكلمة: "الجزء الانفعالي للطبيعة الإنسانية، ومقام المشاعر والانفعالات". مرادفها هي الروح والقلب. وهذا لا يساعد كثيرًا، ذلك أنه بوسعنا ببساطة أن نقدِّمَ مصطلحًا كهذا. ولكن بالنسبة لي فلديه معنى مختلِف بشكل كامل، الأمر الذي يساعدني في فهم الكائن الإنساني.

إنني أرى النفس كإحساس أو شعور شخصي يشكل جزءًا من نظام أكثر اتساعًا أو كونية. وهذا الشعور يجب أن يصدر عن التجربة الحقيقية في تشكيل جزء أو بكونه في اتصال مع الكون بشكل ما حيوي أو روحاني. لا أستخدم المصطلح "روحاني" في معناه الضمني العقلي أو المجرد، وإنما في دلالة الروح "بنيوما" Pneuma أي الطاقة. أعتقد أن طاقة جسمنا على اتصال، وتعمل بشكل متبادَل مع طاقة العالَم والكون الذي يحيط بنا. فنحن لسنا ظاهرة منعزلة، ولكن لا يشعر الجميع بهذا الارتباط أو الاتصال. وانطباعي عن هؤلاء الأشخاص هو انطباعي عن فرد منعزل ومهلوس وخارج عن الاتصال الحي كما لو أنه لا يملك نفسًا على خلاف أولئك الأفراد الذين يشعرون بأنفسهم أنهم جزء من شيء أعظم منهم ذاتهم.

نحن وُلِدْنا متَّصلين. وبالرغم من أن الارتباط الأكثر وضوحًا هو الحبل السري، فهذا الأخير يتم إلغاءه أثناء عملية الولادة. وحينما كان هذا الحبل السري يعمل، فالجنين كان بشكل ما جزءًا من أمه، وعلى الرغم من أن الجنين منذ لحظة الولادة مصيره امتلاك وجودٍ مستقلٍ بشكل كلي، فهو يظل مرتبطًا انفعاليًا وطاقيًا بأمِّه. ينفعِل لاستثارتها ويتأثَّر بروحها. ليس لدي أدنى شك في شعور الطفل بهذا الارتباط وأنه يعرف بانتمائه إلى أمه. لدى هذا الطفل نفس، وفي نَظَرِه تتراءى خاصية ذلك المظهر العميق للكائنات التي تملك نفسًا.

يعني النمو اتساعًا في مستويات متعددة. تتشكل وتختبر ارتباطات جديدة. الأولى منها هي بخصوص أفراد العائلة الآخرين. وذات يوم يحصل ارتباط كهذا، ويبدأ تبادل الطاقة بالسّيَلان بين الطفل وكل فرد من أفراد العائلة، هذا فضلاً عن تبادل الطاقة مع العائلة ككل. ويصبح الأشخاص جزءًا من عالمه كما أن الطفل يصير بدوره جزءًا من عالَم العائلة.

بقدر ما ينمو الوعي ويزداد الاتصال فإن الشخص ينمِّي أيضًا دوائر أوسع من العلاقات، ويدخل الشخص ويتطابق مع دوائر تتضمن عالَم النبات والحيوان. وهناك أيضًا المجتمع حيث يعيش، والذي يصير بدوره مجتمعه هو في اللحظة التي يصير فيها فردًا منه. وهكذا يستمر مع التقدم في العمر، فإذا لم يقصِه المجتمع، فلسوف يشعُرُ بأنه ينتمي إلى النظام الطبيعي الكبير للأرض. فهو ينتمي إلى كليهما. وفي مستوى آخر من الفكر فإن مجتمعه الصغير يمتد ليتضمَّن الأمة وفيما بعد العالَم الإنساني بكامله. وأبعد من هذا توجد النجوم والكون بأسره. لدى عيون الأشخاص المتقدمين في السن نَظَرٌ بعيد كما لو أن رؤيتهم مركَّزَة على السموات، وكما لو أن النفس عند نهاية الحياة تدخل في اتصال مع مكان الراحة الأبدية.

يُظهِر الرسمُ البياني التالي اتساعَ علاقات شخص من خلال مجموعة من دوائر متَّحِدَة المركز. وهذا الرسم البياني مشابه لآخر بيناه في رسم ضمن الفقرة السابقة، وذلك في سياق آخر، ويعبِّر هذا الرسم عن مستويات نمو وعي الفرد. وبقدر ما يتسع الوعي فإن عددًا أكبر من عناصر العالَم الخارجي سوف تتجسم في النفس، وفي شخصية الفرد. وعلى قدر ما هو طاقي كذلك هو جسماني، فالكائن الحي حديث الولادة هو مثل زهرة آخذة بالتفتح رويدًا، وتتفتح للعالَم. في هذه الدلالة، تكون النفس حاضرة عند الولادة، ولكن على نحوٍ بدئي. ولكي تصير مظهرًا للكائن الحي تخضع النفس أيضًا لسياق طبيعي من النمو والنضوج حتى في النهاية تصير متَّحِدَةً بشكل كلي مع الكون، وتفقد صفتَها الفردية. بوسعنا تصور هذه الإمكانية أنه في لحظة الموت تتحرر الطاقة من الكائن الحي وتترك الجسد لتذوب في حقل الطاقة الكونية أو الشاملة، فنقول إن النفس تترك الجسد في ساعة الموت.

تصل الحياة للعالَم ككائن (تكون في)[3]، على الرغم أن "كائن" لا يعطي دلالة دقيقة للتحقيق. وصار هذا واضحًا بالنسبة لي عندما قال لي أحد مرضاي ""أن أكون" ليس كافيًا، فأنا أريد الانتماء (أكون في الزمن)[4] وأنا لا أشعر بهذا". إن امتداد الكائن في العالَم من خلال التطابقات والعلاقات يبعث إحساسًا بالانتماء. والكائن ملائم لهذا الامتداد أي يشكِّل جزءًا من كلٍّ[5]. الشعور برغبة في أمر ما، الحنين إلى شيء ما، واحد من أهم مشاعر الكائن الحي، ويعكس الحاجة إلى الاتصال مع الوسط المحيط ومع العالَم. عند الانتماء تتجاوز النفس الحدود الضيقة لذاتها دون أن تفقد معنى فردانيتها أو كينونتها، التي هي بالضبط معنى وجودنا الفردي.

حياة الجسد: تمارين حيوية طاقية

نوَّهتُ في الفصل الأول أنني قبل أن أتعرَّف على رايش، كنتُ أقوم بتمارين رياضية وجمبازية، فقد كان لحياة الجسد بالنسبة لي دائمًا إغواؤها الخاص، وهذا ما قادَني بشكل طبيعي إلى الهواء الطلق. لكنني كنتُ منغمِسًا بشكلٍ مماثل في حياة العقل، على نحوٍ لم أستطع فيه الاستسلام كليًا لجانبٍ آخر من شخصيتي. كنتُ أشعر أنني مجزَّأ بين هذه الحاجات المتصارعة فيما بينها، فحاولتُ العثور على حلٍّ لائقٍ بالنسبة إلى حياتي.

من الواضح أن هذه المشكلة لم تكن حكرًا عليَّ. فمعظم الأشخاص الذين يحيَوْن في ثقافات متحضِّرَة يعانون من الثنائية نفسها. وكان على القسم الأعظم من هذه الثقافات أن يطوِّر أشكالاً لإبقاء حياة الجسد مهتزَّةً ومنسابةً إزاء المتطلبات المتناقضة للحياة الفكرية. إحدى هذه الطرق الرئيسية لتحريك واقتحام الجسد بشكلٍ واعٍ في الثقافات الغربية كانت الألعاب الرياضية. وكان اليونانيون أول من أدرك أهمية حياة الجسد، فأوْلَوا أهمية خاصة للتمارين الجسمانية.

تزداد أهمية النشاطات الخاصة للالتزام بالجسم وتحريكه بسبب مباشر لابتعاد (أو نقص كلِّي للاتصال) الثقافة عن الطبيعة وعن حياة الجسد. وعلى هذا النحو، نستطيع حاليًا رؤية اهتمام في كل مرة أكثر بالألعاب الرياضية، مع إدراك متنامٍ بشكل دائم لأهمية التمارين المنتظمَة والمبرمَجَة للصحة الجسمانية. كما حَصَلَت عدة أساليب للتمارين على شعبية كبيرة في العقد الماضي، ومنها تمارين الآيروبيك، وتلك التي لـ القوة الجوية الملكية الكندية، ذات حركة أساسية هي الجري المراقَب مع تنفُّس إيقاعي. لسوء الحظ، وبصراحة، فإن موقف الأميركيين إزاء الجسد مكوَّنٌ من خلال اعتبارات الأنا. ونتيجة هذا الموقف يصير السرور والإشباع الجسدي اللذان ينجمان عن الألعاب الرياضية في المستوى الثاني بالنسبة لمعظم الأشخاص، وذلك على حساب إشباع الأنا لانتصاراتها في المنافسات. ويجلب قلق الانتصار للنشاط الرياضي درجةً من التوتر ترفض بشكلٍ مباشر قيمةَ النشاط في حدِّ ذاته من حيث هو تنشيط وتحرير الجسد. نعرف كلنا وضعية لاعب الغولف الذي يسوء صباحه نتيجة ضربة غير موفَّقَة بعصا الغولف. إن برامجنا للتمارين الرياضية موجَّهَةٌ من قِبَلِ الأنا التي تسعَى دائمًا للنجاح والصراع كي لا تبقى في الوراء. كما أننا نشارك في هذه التمارين لكي نحسِّنَ من مظهرنا، ونكمِلَ صورتنا عن الصحة، أو لكي ننمِّيَ عضلاتنا. لدى مثالنا عن الجسد صفات حصان أصيل، أملس، وناعِم، وفي حالةٍ جسمانية جيدة، وتأهُّبٍ، ونزعةٍ للانتصار.

إن حياة الجسد شعورٌ: شعور بأنه حيٌّ، ومهتزٌّ، وبخير، ومستثار، وساخِطٌ، وحزينٌ، وفرِحٌ، وأخيرًا مسرور. إن غياب المشاعر أو التشوش إزاءها هو ما يدفع الأشخاص غالبًا للعلاج. وأدركتُ أن الرياضيين والراقصين والمدمنين على الألعاب الرياضية يعانون من غياب المشاعر نفسها أو التشوش، فبقدر ما يحصلُ ذلك لأي شخص كذلك حصل معي إزاء انجذابي للألعاب الرياضية والجمباز. فمن خلال العلاج صرتُ قادرًا على بلوغ مشاعري والكشف عنها مستعيدًا بذلك جزءًا من حياة الجسد. فبقدر ما هو العلاج الرايشي، كذلك المنهَج الحيوي الطاقي يهدف كلاهما إلى هذه الغاية.

وظلَّت ثمة مشكلة رغم كل شيء: كيف نبقي على حياة الجسد مهتزَّةً ومنسابةً بعد انتهاء العلاج؟ فأحد مظاهر ثقافتنا تكمن في رفض الحياة، وثقافةٌ كهذه لا تقدِّم أية مساعدة بهذا الخصوص. ولم يمعن رايش النظر في سؤالٍ كهذا البتة. كان يعتقد أن بوسع أي شخص الحصول على إشباع وذلك فقط من خلال إظهار طاقاته. عبَّرَت فلسفته عن ذاتها في مقولة: "حبٌ وعملٌ ومعرفة هم ينبوع الحياة. وعليهم أيضًا أن يحكموها". يضع هذا التأكيد النشاط الجنسي فقط باعتباره الطريق لتجلِّي حياة الجسد، وخطٌ فكري كهذا محدود ومقيِّدٌ بشكل زائد.

كان حَلِّيَ الشخصي لهذه المشكلة يكمن في استخدام التمارين الحيوية الطاقية التي تطوَّرَت أولاً لكي تدعم العلاج كوتيرة منتظمَة في المنزل. أقوم بها منذ حوالي العشرين عامًا. ولا تجعلُني هذه التمارين على اتصال مع جسدي وصيانَةِ حياتِه فحسب، بل إنها تُكمِل النموَّ المتدرَّب عليه في العلاج. وأدركتُ أنها تمارين مفيدةٌ جدًا لدرجة أنني شجَّعتُ مرضايَ على ممارستِها في المنزل كتتمَّة للعلاج. وأكَّدَ صلاحيَتَها جميعُ الذين مارسوها. إننا نقيم الآن دروسًا نظامية للتمارين الحيوية الطاقية لمرضى أو أي شخص آخر لديه نوع ما من الالتزام مع حياة جسده. على أن هذا الالتزام هو مدى الحياة، وإننا نتوقَّع أن الفرد سوف يلتزِم بشكل مماثل بهذه التمارين.

إن الشعور بالإحباط إزاء الموقف المعادي للحياة الذي هو سِمَةُ الثقافة الغربية، جعلَ الكثير من الناس يهتمون بالدين والفلسفة والتعاليم الشرقية. يدرك الكثير من هؤلاء الأشخاص الأهمية الجوهرية لنوعٍ ما من برنامج للتمارين الجسمانية من أجل التطوُّر الروحي. إن الاهتمام الكبير باليوغا لهو إثباتٌ درامي لما أقول. فأنا كنتُ أمارس اليوغا قبل لقائي برايش، لكنني لم أجِدْني متلائمًا بشكلٍ جيدٍ معها بسبب عقليتي الغربية. ومن خلال عملي مع هذا العالِم، أدركتُ وجود بعض وجوه التشابه بين ممارسة اليوغا والعلاج الرايشي. ففي كلا المنهجين نجد التأكيد على التنفُّس. ويكمن الاختلاف بين هاتين المدرستين الفكريتين في اتجاههما، فالأولى اتجاهها نحو الداخل هادفةً للتطور الروحي، في حين أن العلاج الرايشي يتوجَّه نحو الخارج، هادِفًا إلى الخلق واللذة. ما من شك أنه من الضروري بمكان إجراء مصالحة بين هذين التيارين، وأملي أن يستطيع المنهج الحيوي الطاقي التشجيع على ذلك. فقد أظهر كثيرون من أساتذة اليوغا المرموقين في هذا البلد إعجابهم بإدراك الجسد المشجَّع عليه في المَنهَج الحيوي الطاقي، وإن إدراكًا كهذا استطاع ملاءمَة تقنيات اليوغا مع الحاجات الغربية.

صارت مؤخرًا تعاليم شرقية للجسد شعبيةً في هذا البلد. والأكثر أهمية فيما بينها تلك التي تشتمِل على تمارين التاي شي شوان التي يستخدمُها الصينيون. وبقدر ما هي اليوغا كذلك التاي شي شوان، كلاهما يؤكد أهمية الشعور بالجسد والحصول على التناسق والنعمة والشعور الروحي من خلال التطابق مع الجسد. وبهذا المعنى فإنهما يتعارضان على نحوٍ تجابهي مع برامج التمارين الغربية التي تنشد القدرة والسيطرة.

كيف بوسعنا أن نضع التمارين الحيوية الطاقية ضمن هذا المشهد العام؟ تُمَثِّل هذه التمارين تكاملاً للموقفين الغربي مع الشرقي. وهي كالطرق الشرقية تتجرد عن السعي للقدرة والسيطرة في سبيل النعمة والتناسق هذا فضلاً عن روحانية الجسد. ولكنها تسعى إلى إتاحَة التعبير الذاتي والجنسانية. وبالنتيجة، فهي تفيد لاستكشاف حياة الجسد الداخلية، كما تفيد في الوقت نفسه في المساعدة على توسيع الحياة في العالَم. ولها مقصدٌ وحيد ألا وهو مساعدة الأشخاص على الوصول إلى الاتصال مع التوترات التي تعيق حياة الجسد. وعلى غرار الممارسات الشرقية، فهي تعمَل فيما إذا صارَت تعليمًا بريئًا من الممارَسَة الآلية والقهرية، ومزوَّدةً بالشعور باللذة والإحساس بالمعنى.

لا أستطيع هنا أن أقدِّمَ قائمةً كاملة بالتمارين المستخدمَة في المنهَج الحيوي الطاقي، ولكنني آمِل أن أستطيع تجسيد هذا المشروع في كتاب آخر. ويتوجًّب عليَّ الإضافة إلى أن هذه التمارين ليسَت مُصَاغةً، وإنما يمكن ارتجالها على نحوٍ يجري تعديلها حسب الحاجة وحالة الفرد. وسأصِف عددًا كافيًا من هذه التمارين لإظهار العقائد الأساسية للمنهَج الحيوي الطاقي وأهدافه. طوَّرتُ على الفور في البداية واحدًا من هذه التمارين الأساسية كمساعِد لاستسلامٍ أكبر للساقين والقدمين، ولإحساسٍ أكثر رسوخًا بالاستناد على الأرض. ويُدعَى هذا التمرين بالقوس أو التقوُّس، ويُعتبَر وضعيةٌ أساسية للتوتر.

يشير الخط الموضوع فوق الرسم إلى القوس أو التقوُّس الصحيح للجسم. والنقطة الوسطى للكتفين متموْضِعَةٌ مباشرةً فوق النقطة الوسطى للقدمين، والخط الذي يوحِّد هذه النقاط هو قوس يكاد يكون كاملاً ويمر من خلال النقطة المركزية للمفصل الوركي.

عندما يكون الجسم في هذه الوضعية، تكون أجزاؤه في توازن كامل. ويكون التقوُّس (القوس) على نحوٍ ديناميكي مشكِّلاً ومهيِّأ للحركَة. ويكون الجسد على نحوٍ حيويٍّ طاقيٍّ محمَّلاً من الرأس إلى القدمين. وهذا يعني أنه توجد سيَّالَةٌ من الاستثارة عبرَ الجسم، ويمكن الشعور بالقدمين على الأرض والرأس في الهواء، وفي الوقت نفسه ثمَّة إدراك لتكامل واتصال كليِّين. ولكون هذا التمرين عبارة عن وضعية توتر فإنه مُحمَّل على نحوٍ طاقيٍّ، وتبدأ الساقان بالاهتزاز.

نستخدم هذه الوضعية لكي نجعل الأشخاص يشعرون بأنهم متكاملون ومتَّصِلون، أقدامهم مغروسَة بثبات ورؤوسهم مرفوعةٌ. لكننا نستخدمها أيضًا على نحوٍ تشخيصي لكونها تفضَح في الحال غيابَ تكامُلِ الجسد مشيرةً بدقَّة إلى مكان وطبيعة التوترات العضلية الرئيسية. وسأصف بالتالي كيف تستطيع هذه التوترات أن تؤثِّر على القوس.

استخدمنا هذه الوضعية، وهذا التمرين في عملنا منذ أكثر من ثمانية عشرة سنةً. تخيَّلوا دهشتي عندما أظهر لي مريضٌ صورةً عن AP (مؤسسة الصحافة) Associated Press عن صينيين يمارسون التمرين نفسه بالضبط (تم نشره في 4 آذار عام 1972).

هذا هو الرسم عن الصورة الشمسية والذي يُظهِر صينيين يمارسون تمرينًا يُدعَى بـ"التقوُّس الطاوي". ويقول النص: "ثلاثة مقيمين في شنغهاي يمارسون التمرين الصيني للتاي شي شوان. والتمرين له أصل في الفلسفة الطاوية، ويسعى للحصول على الانسجام مع الكون من خلال توافق حركات الجسم مع تقنية التنفس".

النص وتعليقه هو ما يحوي الأكثر أهمية، فالطريق للتاو يكون من خلال الانسجام بقدر ما هو في داخل الكائن، كذلك مع الوسط المحيط والكون. ففي الحقيقة يتعلَّق الانسجام مع العالَم الخارجي بالانسجام مع العالَم الداخلي، وهذا يمكن بلوغَه من خلال "توافق حركات الجسم مع تقنية التنفُّس". يسعى المنهَج الحيوي الطاقي إلى الانسجام نفسه من خلال الوسائل نفسِها. يستخدم الكثيرون من مرضانا عدة تمارين للتاي شي شوان مرفَقَةً بالتمارين الحيوية الطاقية. إلا أن الصينيين ينطلِقون من افتراض أنهم لا يعانون اختلالات جسمانية تمنعهم من ممارسة التمارين بشكل صحيح. في حين أن الغربيين لا يستطيعون افتراض شيء كهذا، وهناك أيضًا حدٌّ للتساؤل فيما إذا كان افتراضًا كهذا يُطبَّق على صينيّي هذه الأيام.

كنتُ أعثر بشكل عام على مشكلة لدى الأشخاص، وهي صلابةٌ تسيطر على الجسم كله، لدرجة أنها لا تسمح لهم بتقويسه. والخط الذي يصل النقطة الوسطى للكتفين بالنقطة الوسطى للقدمَيْن هي خط مستقيم. وتوجد ظاهرة عدم قابلية الانثناء للساقين، فالفرد عاجز عن ثني كعبه بشكل كامل. ويمنَع التوتر في المنطقة السفلى للظهر تقوُّسَه، ويبقى الحوض منكمِشًا بشكلٍ خفيف.

الحالة المعاكسة هي المرونة المفرِطَة للظهر الذي يميل بشكل زائد، مشيرًا بذلك إلى ضعف في عضلات الظهر. يرتبط هذا النقص مع انعدام الشعور بالرسوخ والعزم. ففي حين أن الجسد والشخصية الصلبة هما غير مرنين وذلك بشكلٍ زائد، وعلى خلاف هذا النمط أي الحالة المعاكسة له تُظهِر ليونةً زائدةً. وفي كلتا الحالتين يحصل التقوس بطريقة غير لائقة، على نحوٍ لا يوجد فيه أي حسٍّ بالتكامل أو الانسياب، ولا أي انسجام داخلي أو خارجي. ويميل خط التقوُّس حتى نقطة الانقطاع، ولا تشتغل المنطقة السفلى للظهر كمسند للجسم، ويتمُُّ تولِّي القيام بهذه الوظيفة العضلات البطنية التي تنكمش كثيرًا (انظر الصورة في الأسفل).

خلَلٌ عامّ آخر هو انقطاع في خط القوس الذي يعود إلى انكماش حادٍّ للحوض. ويعارض هذا المثال الحالة السابقة حيث يُدفَع الحوض إلى الأمام بشكل زائد. ويمكن رؤية هذا الخلل في الصورة في الأسفل.

وفي هذه الحالة، بدفع الشخص لحوضه إلى الأمام يجعل ركبتيه في الوضعية العمودية. ويمكن طيّ الركبتين فقط إذا ما كان الرَّدِفان مدفوعين إلى الخلف. يوجد ههنا توتر بارز في المنطقة السفلى للظهر، كما هو على طول الجزء اللاحِق للساقين.

عندما ننظر إلى الجسم من الأمام، فمن الممكن أحيانًا ملاحظة انقطاعات ما في أقسام الجسم. فالأجزاء الرئيسية، أي الرأس والرقبة والجذع والساقان ببساطة لا تتناسَق فيما بينها. فالرأس والرقبة يشكِّلان زاويةً غير طبيعية نحو اليمين أو نحو اليسار، ويميل الجذع في الاتجاه المعاكِس، وتنتهي الساقان لكي تصيرا في الاتجاه المعاكِس عن ذلك الذي للجذع. رسمتُ هذه الوضعية في الرسم في الأسفل، ويلوح في الوسط الخط الذي يُظهِر الالتواءات الزاوية.

تُظهِر هذه الالتواءات الزاوية أن الجسد لا ينساب بشكل متزامن. وهي تمثِّل تجزئةً لتكامل الشخصية، نموذجية للطبع المجزَّأ أو الفصامي. إن مصطلح الطبع المجزأ يعني انقطاعًا وانفصامًا. ينعكِس هذا الانفصام على الشخصية، وبالتالي أيضًا على المستوى الجسماني والطاقي. فالشخص هو جسده. منذ بضعة أعوام دُعيتُ أنا وزملائي لتقديم محاضرة وإقامة الدليل على النهَجم الحيوي الطاقي لمجموعة من أطباء وطلاب المعهد الوطني للصحة العقلية National Institute of Mental Health، وناقشتُ في محاضرتي العلاقة الحميمة الموجودة بين الجسم والشخصية. وتمَّت استشارتنا بعد المحاضرات، وأقمنا الدليل على قدرتنا في التشخيص الطبي النفساني للجسم، وذلك دون أن نعرف أي شيء فيما يتعلَّق بالفرد الذي يجري تشخيصه. تم تقديمنا بشكلٍ متتابِع لعدة أشخاص خضعوا لدراسة من قِبَل مجموعة الـ NIMH. طلبتُ من كل واحدٍ منهم أن يتَّخذَ وضعيةَ التوتر الأساسية الموصوفة أعلاه، وذلك للتمكن من تقييم هيئة اتساق الجسم وفق خط واحد. وبعد ملاحظة الجسم لفترة قصيرة جرى فَصْلَنا أنا ورفاقي في صالات منعزلة، ودُعِيَ كل واحد بدوره لتقديمه التشخيص على نحوٍ لا نستطيع فيه استشارة بعضِنا بعضًا.

قمنا كلنا بالتشخيص نفسه، وهذا بدوره تطابَقَ مع معطيات مجموعة الـ NIMH. فقد كان الانقطاع واضحًا في خطوط الجسم لدى مريضين اثنين، الأمر الذي يشخِّص شخصية فصامية كان قضيةً بسيطة. وفي الحالة الثالثة كانت الصلابة الزائدة هي الصفة المسيطرة. كما كان لدى أحد الفردين الفصاميين حالة غريبة: فقد كانت عيناه بِلَوْنَيْن مختلِفَيْن. وعندما أوضحتُ هذا الأمر، تفاجأت عند رؤيتي أنه ما من أحد من الأشخاص في الصالة قد لاحظ هذا الأمر. ومثل كثيرين من علماء النفس والأطباء النفسيين فقد تدرَّبوا لكي يصغوا لا لكي ينظروا. كانوا مهتمين بالعقل وفي تاريخ المريض، وليس في جسده وفي تعبيره. وأيضًا لم يتعلَّموا قراءةَ لغةِ الجسد.

تشكل اختلالات الجسد كما تمَّ رسمها أعلاه، قاعدة الأعراض التي تدفع بالفرد لكي يبحث عن علاج. فالفرد ذو الطبع الصلب سيكون غير مرن ومنغلِق في مواقف تتطلَّب لطفًا وأريَحية. وبالنسبة للفرد ذا الظهر الرخو فسوف تنقصه العدائية اللازِمَة لبعض المواقف. يشعر المرضى كلهم نقصانًا في الانسجام مع أنفسِهِم ومع العالَم. وفي هذه الأحوال لن تستعيد ممارسة تمرين التقوُّس انسجامًا كهذا، ذلك أنهم لن يمارسوه بشكله الصحيح، وإنما سوف يساعدهم على أن يشعروا بتوترات الجسد التي لا تسمح بتنفيذه بالشكل الصحيح. يمكن لتوترات كهذه أن يتم استرخاؤها من خلال تمارين حيويةٍ طاقية أخرى، وبعض منها سوف يجري وصفها في فصول لاحِقَة من هذا الكتاب.

لا أتردَّد ولا أتذبذب في القول بأن شخصًا يمارس تمرين التقوُّس بشكله السليم هو في انسجام مع الكون، فأنا لم أرَ شخصًا البته يعاني من مشكلة انفعالية جدية بوسعه ممارسة هذا التمرين بالشكل السليم. ليست مسألة ممارسة، لأنه لا يمكن تعلم وضعية كهذه. وليست هي وضعية سكونية، لأنه على الشخص أن يتنفَّس بعمق وامتلاء أثناء قيامِه بالتمرين. ويتوجَّب عليه أن يكون قادرًا على إبقاء عمل وتكامل الجسد تحت الضغط. إلا أن الممارسة المنتظمَة للتمرين تساعد كثيرًا في الدلالَة على إبقاء الشخص على اتصال مع جسمه، وجعله يشعر باضطراباته، فاهمًا معناها. وعدا عن ذلك تساعده هذه الممارسة في المحافظة على إحساسه بانسجامه مع الكون نظرًا لكونه بالفعل قد توصَّل إليه. وهذا لاشك هو تحدٍّ كبير في ثقافة تكنولوجية.

ترجمة: نبيل سلامة

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] في النسخة الأصلية يستخدم المؤلف عبارتي nobody وsomebody على التوالي. فالتلاعب باللفظتين من الصعوبة بمكان ترجمتهما لأن body في الإنكليزية تعني جسد، وهكذا تصبح الترجمة الحرفية على نحو "لا جسد" أو "جسد ما".

[2] في النسخة الأصلية spirited person أو spirited horse.

[3] في النسخة الأصلية "life comes into the world as being = be-ing.."

[4] في النسخة الأصلية "…I want to belong (be-long) and…"

[5] في النسخة الأصلية "…being longs for this extension, to belong"

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود