|
أطلبوا الثورة ولو في الصين!
ليس من المستغرب إطلاقًا أن تسارع دور النشر الغربية إلى إصدار أعمال تتخذ لها موضوعًا ما صار يُعْرَفُ بثورات "الربيع العربي". فقد عوَّدتنا المطابع الأنجليزية والأمريكية والفرنسية والألمانية على الدوران بأقصى سرعتها كلما جدَّ جديد عساها تلاحق وتيرة الأحداث عبر العالم وتضع قرَّاءها النََّهِمِينَ في قلب الحدث. وعلى امتداد سنة ونيف ظهرت عشرات العناوين التي سعى فيها أصحابها جاهدين إلى فهم ما جرى وما يجري في تونس ومصر وليبيا واليمن وبلاد العرب السعيدة بربيعها (أدامه الله وحفظه من "التخريف" قبل الأوان وبعد الانتخابات!). لا يتسع المقام لاستعراض كلِّ العناوين التي صدرت في الغرض ولكن تكفينا الإشارة إلى البعض منها كالكتاب الجماعي الأمريكي الصادر حديثًا عن منشورات مجلس العلاقات الخارجية The Council on Foreign Relations تحت عنوان الثورة العربية الجديدة The New Arab Revolt، أو كتاب الفرنسي جون بيار فيليي Jean-Pierre Filiu الصادر عن دار نشر "فايار" Fayard تحت عنوان الثورة العربية – عشرة دروس حول الانتفاضة الديمقراطية La révolution arabe – Dix leçons sur le soulèvement démocratique، أو كتاب المصري كريم الجوهري الصادر باللغة الألمانية عن دار نشر Verlag Kremayer & Scheriau تحت عنوان يوميات الثورة العربية Tagebuch der arabischen Revolution. ولأنَّ الأنجليز كعهدهم دومًا يحتفظون بالمفاجآت ويقودون على اليسار خلافًا لسائر خلق الله الميمِّنين، أصدرت منشورات أكسفورد في الأيام القليلة الماضية كتيبًا صغير الحجم عن ثورة ألهبت الحماسة وألهمت الكثيرين في ستينات القرن العشرين وسبعيناته. إنها الثورة الثقافية في جمهورية الصين الشعبية التي قامت في ظلِّ الزعيم القائد ماوتسي تونغ (أم ترانا نقول تحت شمس أفكاره الحارقة؟!)، ثورة قامت فأقامت معها العالم، ولكنها سرعان ما أقعدته حين خَبَتْ وأفل نجمها كأنما بفعل فاعل. إلى هذه الثورة التي يفصلنا عنها اليوم ما يناهز نصف القرن، يعود الكاتب ريتشارد كورت كروس Richard Curt Kraus، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أوريون بالولايات المتحدة الأمريكية، لينفض غبار المسلَّمات وأنصاف الحقائق من خلال كتابه الثورة الثقافية – مدخل وجيز The cultural revolution – A very short introduction. ثورات للذكرى... وثورة للنسيان! ليس ثمَّة من ثورة في التاريخ إلا وهي حريصة على ذاكرتها، ترعاها وتحافظ عليها وتحتفظ بسجل وقائعها، وغالبًا ما تختار لها يومًا تتخذه عيدًا وطنيًا هو بمثابة النقطة المرجعية ذات البعد الرمزي الجامع الموحد. ولكن الثورة الثقافية التي شهدتها جمهورية الصين الشعبية على امتداد عشرية كاملة (من سنة 1966 إلى سنة 1976) تبدو مخالفة للمألوف على أكثر من صعيد. فعناصر ما عُرف بـ"الحرس الأحمر" أي هؤلاء الشبان الذين كانوا وقود الثورة ومتصدري صفوفها الأمامية الأولى والذين صار عدد كبير منهم قادة البلاد الحاليين لا يحكمهم اليوم إلا هاجس واحد، هاجس النسيان والصمت. فكأنهم يجهدون النفس – كلاً على طريقته – من أجل التكتُّم على تلك السنوات الثورية العشر التي طبعت مسيرتهم وأثَّرت في حياتهم وفي حياة أكثر من مليار نسمة من البشر. سنوات عشر يُرادُ أن يُهالَ عليها التراب وأن يُقام بينها وبين الدارسين والمعنيين بالشأن الصينيِّ الحجاب. سنوات عشر لا ندري لفرط الغموض الذي يلفُّها إن كانت سمانًا أو عجافًا ولكن كتاب ريتشارد كورت كروس يسلِّط عليها الأضواء ويخرج بها من الصمت إلى الإبانة؛ منطلقه في ذلك الإقرار بأنَّ "قسمًا كبيرًا مما نظن أننا نعرفه عن الثورة الثقافية يبدو اليوم مشوَّشًا"؛ وهدفه النهائي "أن يقدِّم رواية متماسكة للأحداث"، رواية ترفع عن الثورة وعن المعطيات المتداولة بشأنها بعض ما علق بها من غموض وتشتُّت وتعقيد ظلَّ يتراوح بين الإبهام والأوهام والحقائق والأحلام. وما كان لريتشارد كورت كروس أن يُقدم على مثل هذه المراجعة لولا تضافر ثلاثة عوامل أساسية: - عامل أول يتصل بالمادة العلمية التي تراكمت تدريجيًا رغم الصمت ومحاولات النسيان. فقد خُصِّصت لموضوع "الثورة الثقافية" عديدُ الدراسات الجامعية ورسائل الماجستير، مما سمح للكاتب بأن يعيد تجميع قطع البوزل Puzzles المتفرِّقة وأن يشكِّل صورةً أقرب ما تكون إلى الدقة والشمولية والموضوعية. - عامل ثانٍ يتعلَّق بالمنهج المعتمد، فعلى امتداد فصول الكتاب الستة نلاحظ أنَّ ريتشارد كورت كروس لا يتوقف عند ظاهر التواريخ ولا يكتفي بها، بل يحاول بشتَّى الطرق أن يتخطَّى الحدود المدرسية والروايات الرسمية من أجل تلمُّس الطريق إلى ما وراء الأحداث بالوقوف على العناصر الأكثر ثباتًا وديمومة فيها. إنه يتجاوز سطح الوقائع المتقلِّبة المتسارعة للنفاذ إلى عمقها المحرِّك. - عامل ثالث، يتعلَّق بالرؤية الكلية التي حكمت الكتاب وحدَّدت مسارات التحليل فيه. فقد ظلَّ ريتشارد كورت كروس ينبِّه في كلِّ حين إلى خطورة تناول موضوع الثورة الثقافية الصينية من زاوية نظر غربية خالصة منغلقة على ذاتها تكتفي بإسقاط المفاهيم والأحكام الجاهزة دون مراعاة لخصوصيات السياقات التاريخية القديمة والراهنة، وهي خصوصيات كان الكاتب حريصًا على إبرازها، ممَّا جعل النتائج التي انتهى إليها على قدر كبير من النسبية زمانًا ومكانًا. الجعجعة والطحين! في الفاتح من أكتوبر/تشرين الأول 1949 أُعلن عن قيام الجمهورية الشعبية الصينية في أعقاب حرب أهلية طاحنة وضعت وجهًا لوجه أبناء البلد الواحد الذين انقسموا حزبَيْن: الحزب الوطني بزعامة القائد العسكري جيانغ جياشي Jiang Jieshi (1887-1975) الذي انكفأ على هزيمته واستقلَّ بإقليم تايوان؛ والحزب الشيوعي بزعامة ماو تسي تونغ Mao Zedong (1893-1976) الذي ورث إمبراطورية مترامية الأطراف في حجم الخسائر الفادحة التي تكبَّدها حزبه والتضحيات الجسيمة التي قدَّمها مناصروه. كان الحزب الشيوعي الصيني الصاعد إلى سدَّة الحكم يسابق الزمن، فعلى امتداد سبع عشرة سنة (أي من سنة 1949 تاريخ إعلان الجمهورية الشعبية إلى سنة 1966 تاريخ انطلاق الثورة الثقافية) شهدت البلاد حملات متتالية استهدفت تغيير المجتمع والعلاقات التي ظلَّت سائدة فيه طيلة فترة إمبراطورية الموتشوكينغ Mandchoue Qing (1644-1912). ففي سنة 1950، تمَّ تغيير قانون الأحوال الشخصية في مسعى إلى تحرير المرأة وتمكينها من تخطِّي القيود التي كانت تكبِّلها. وفي السنتَيْن المواليَتَين 1951-1952، أقيمت حملة لمجابهة الفساد والتبذير والبيروقراطية. وفي سنة 1953 سعى الحزب الشيوعي الصيني إلى دكِّ أركان الإقطاع وتوزيع الأراضي على الفلاحين بصورة أكثر عدالة. وفي سنة 1956 انطلقت حملة "المائة وردة" من أجل استقطاب المثقَّفين ضمن حظيرة الحزب الشيوعي وتوسعة هامش حرية التعبير في نطاقه. وتتويجًا لهذا المسار، دشَّن ماوتسي تونغ حملة "القفزة الكبرى إلى الأمام"، قفزة أريد من خلالها تحويل وجه الصين من "امبراطورية مزارعين" إلى "دولة عمَّال وصناعيين". ليست لهذه التواريخ وللحملات والبرامج ومحاولات الإصلاح التي صاحبتها دلالة في ذاتها، فقد آل أغلبها إلى الفشل الذريع ولا سيما الحملة الأخيرة، حملة "القفزة الكبرى إلى الأمام" التي دُفع فيها المزارعون دفعًا إلى التخلِّي عن فلاحة أراضيهم من أجل العمل في ورشات صناعية ليس فيها من الصناعة إلا الاسم. فوجدت الصين نفسها – في خاتمة المطاف – على حافة المجاعة وكان على ماوتسي تونغ أن يُطعم ملايين الجائعين، الذين نزحوا من أريافهم إلى المدن بحثًا عمَّا يسدُّ الرمق، دون جدوى. في هذا السياق المأساوي الذي أفاقت فيه الصين الشيوعية على عمق الهوَّة التي تفصل عظمة اليوطوبيا عن بؤس الواقع، أقدم ماوتسي تونغ على الاستقالة من رئاسة الجمهورية الشعبية مكتفيًا برئاسة الحزب وقيادة القوات المسلَّحة (ديسمبر 1958). وما كان لمنافسيه داخل الحزب/الدولة أو الدولة/الحزب أن يفرِّطوا في مثل هذه الفرصة التي أتتهم على طبق من ذهب، فقد أقدم كلٌّ من "لي شاووكي" Liu Shaoqi (1898-1969)، الذي خلف ماوتسي تونغ على سدَّة رئاسة الجمهورية، والماريشال "بينغ ديهوياي" Peng Dehuai (1898-1974)، وزير الدفاع آنذاك، ودينغ زياوبينغ Deng Xiaoping (1904-1997)، المحنَّك في الشؤون المالية، على نقد سياسة "القفزة الكبرى إلى الأمام" محمِّلين مسؤولية نتائجها الكارثية للرفيق ماوتسي تونغ. وفي ردِّ فعل منه على هذا النقد الذي صدر عن "الرفاق" قبل أن يصدر عن "الأعداء"، أطلق ماوتسي تونغ شرارة الثورة الثقافية في 06 من أوت/أغسطس 1966، ثورة أرادها صاحبها أن تكون عودة إلى "الينابيع الصافية" للفكر الشيوعي وتذكيرًا بمبادئه الأساسية الكبرى. ولكن هذه العودة وهذا التذكير منزَّلَيْن في سياق الصراع الداخلي بين مراكز القوى داخل الحزب/الدولة أو الدولة/الحزب يكتسبان دلالة عميقة تتجاوز ما يطالعنا به ظاهر الأحداث والوقائع. فالثورة الثقافية بالصيغة التي بشَّر بها ماوتسي تونغ وحرَّض عليها لم تكن إلا محاولة منه للحفاظ على موقعه القيادي. لقد كانت "مزايدة" على الرفاق، و"تلاعبًا" بالشباب باسم المبادئ الكبرى للمذهب، و"هروبًا إلى الأمام" بدعوى السعي إلى تكريس المُثل في الواقع. واستنادًا إلى هذه القراءة التي لا ينفي فيها ريتشارد كورت كروس دور العوامل الذاتية والصراعات الفردية والمؤامرات الفئوية في توجيه الحدث التاريخي وتحديد مساره، ينتهي الكاتب إلى جملة من النتائج أهمُّها: - أولاً: أنَّ الثورة الثقافية لم تبدأ في 6 أوت/أغسطس 1966، تاريخ إعلان ماوتسي تونغ الرسمي عنها، بل إنَّ ملامحها الأساسية الكبرى المميَّزة بدأت فعليًا قبل ذلك بسنتين على الأقلِّ، أي في 1964. - ثانيًا: أنَّ الثورة الثقافية كانت بروليتارية في طموحها وأفقها أكثر ممَّا هي عليه في الواقع. بدليل أنَّ مسار الثورة قد انحرف تدريجيًا ليضحي شكلاً من أشكال التمجيد للزعيم القائد ماوتسي تونغ. - ثالثًا: أنَّ الثورة الثقافية بالرغم من الطابع الوطني العام الذي يوهم به خطابها (وما خطابها إلا مقتطفات من خطب الزعيم القائد ماوتسي تونغ جُمِّعت في "الكتاب الأحمر") حملت عديد الخصائص المحلية المرتبطة بهذه المنطقة أو تلك من أقاليم الصين الشاسعة. إنها – بعبارة أخرى – وطنية الأفق، محلية الحدود. - رابعًا: أنَّ الثورة الثقافية قد نجحت في زعزعة البنى التقليدية ولكنها لم تتمكَّن من كسرها. ومع ذلك، فإنَّ تحليلاً منصفًا ومتوازنًا للأحداث والوقائع والدوافع والنتائج لا يمكن أن يختزل الثورة في مجرَّد صراع بين ماوتسي تونغ ومنافسيه، أو أن يعتبرها مجرَّد هجمة ماوية على أعداء ماو. لقد كانت الثورة في عمقها تصفية حساب مع الماضي، مع الثقافة التقليدية ورموزها الإقطاعية التي كرَّستها العادة ورسَّخها الاستبداد، كما كانت توقًا إلى قيم جديدة قد يكون بلوغها مجرَّد حلم أو يوطوبيا ولكن السعي إليها ومحاولة إدراكها أكسبا المجتمع الصيني على امتداد حقبة الستينات والسبعينات حركية استثنائية تجلَّت بشكل لافت من خلال النقاشات الثقافية والسياسية العميقة. لقد كانت جعجعة الثورة الثقافية الصينية أكثر من طحينها، ما في ذلك شكٍّ. ولكن الطحين على قلَّته كان ذا نوعية جيدة بالرغم من تهوُّر عناصر "الحرس الأحمر" الذين قدَّموا بعض نفائس الثقافة التقليدية الصينية طُعْمًا للنيران دون تقدير لقيمتها. كانت الثورة الثقافية (في سنتَيْها الأولَيَيْن على وجه الخصوص) عاصفةً مدوِّيةً لم تُبْقِ ولم تَذَرْ، كانت راديكالية إلى أبعد حَدٍّ، طموحةً فائقة الطموح إلى درجة دفعت بماوتسي تونغ نفسه وبزوجته الممثلة جيان كينغ Jiang Qing (1914-1991) إلى الحدِّ من غلوائها من خلال الترخيص بعزف البيانو وممارسة هواية الرسم الزيتي اللّذَيْن رأى عناصر "الحرس الأحمر" فيهما ضربًا من ضروب الفنِّ البرجوازي المقيت! وبين جعجعة مدوِّية فارغة وطحين قليل ولكنه جيد اهتدى أحفاد ماوتسي تونغ إلى طريق حداثتهم، حداثة حقَّقوا فيها الحلم الأمريكي بأياد صينية! الحلم أمريكي... والأيدي صينية! لم ينفكّ ريتشارد كورت كروس على امتداد فصول كتابه الستة عن تذكير قارئه بضرورة تجاوز المسلَّمات والأحكام المسبقة التي طبعت وعي الغربيين بالصين. ومن أهمِّها الاعتقاد الخاطئ بأنَّ التاريخ الحقيقي لهذا البلد وصعوده على مسرح الأحداث العالمية إنما بدأ بعد وفاة ماوتسي تونغ سنة 1976 وبعد الإعلان بشكل شبه رسمي عن نهاية الثورة الثقافية. لقد كانت الصين في وعي الغربيين صينَيْنِ: صينًا شيوعية عدوَّة فرضت عليها الدول الرأسمالية حصارًا خانقًا لا لشيء إلا لأنها تجرأت على التباهي بقوَّتها ووقفت في مواجهة القوى الإمبريالية، ولا سيما أثناء الحرب الكورية في الخمسينات. وصينًا حديثة انبثقت فجأة دون سابق إعلان وأخذت تُغرق أسواق العالم (بما في ذلك الأسواق الغربية) ببضاعة زهيدة الثمن لا تختلف في شكلها وفي مظهرها عمَّا تنتجه أرقى المصانع الأوروبية والأمريكية. وفي صميم هذه الازدواجية التي طبعت وعي الرجل الأبيض بالصين نسجت وسائل الإعلام الغربية صورةً مخيالية قوامها الإيهام بتفوُّق العالم الحرِّ وبأنَّ الثورة الثقافية كانت شرًا كلَّها لأنها دمَّرت التعليم والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والحياة السياسية والقيم الثقافية والإبداعية. ومن بين ما رسَّخته وسائل الإعلام الغربية في الأذهان "الأكذوبة الكبرى" التي مفادها أنَّ خلاص الصين إنما تمَّ على يد دينغ زياوبينغ الذي قبر ماوتسي تونغ وأفكاره إلى الأبد. أمَّا لماذا اعتبرت الصحافة الغربية دينغ زياوبينغ مُخَلِّصًا فالجواب على ذلك بسيط (أو بالأحرى مُبسَّط بل غاية في التبسيط!)؛ لأنه تخلَّى عن اليوطوبيا الماوية حين طعَّم النظرية الشيوعية بجرعات ليبيرالية فائقة، حتى إذا ذاق الصينيون حلاوة الدولار واليورو انقلبوا على أعقابهم فحقَّقوا الحلم الأمريكي بأيادٍ صينية! لا يُخفي الكاتب ريتشارد كورت كروس رفضه القاطع لمثل هذا التحليل السطحي الذي تتداوله وسائل الإعلام الغربية في محاولة منها لتعليل "سرِّ الانبثاق المفاجئ" للصين على ساحة العلاقات الدولية، ولا سيما في المجال الاقتصادي. وفي المقابل، فإنه يدعو إلى إعادة الاعتبار للثورة الثقافية والنظر إليها على أساس أنها ليست شرًا كلَّها ولا خيرًا في مجملها ولكنها (ككلِّ حدث تاريخي) في منزلة بين المنزلتَيْن. إنها (بكلِّ بساطة ولكن دون تبسيط مُخِلٍّ) لحظة اجتهد خلالها الصينيون في التعامل مع ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، لحظة فعلت فيها اليوطوبيا الثورية فعلها، وتركت فيها قسوة الواقع المرِّ أثرها ولكن توتر ما بين الماضي والحاضر لم يمنع الصينيين من التطلُّع إلى المستقبل. مستقبل حلموا به مع ماوتسي تونع وفي قائم حياته ثم بعد وفاته وها هو المستقبل (أو ما كان يُنظر إليه كذلك) يضحي اليوم حاضرًا ماثلاً أمام أعين الصينيين وأمام أعين العالم. مستقبل/حاضر ما زالت فيه الفوارق الاجتماعية قائمة كأنَّ الصين لم تنجح في تخطِّي مرحلة العبودية. مستقبل/حاضر أضحت فيه البيئة قضية يعاني ويلاتها أكثر من مليار من البشر. مستقبل/حاضر أخذت فيه القضايا الإتنية تُطلُّ برأسها في بلد متعدِّد الأعراق والقوميات. ورغم المشاكل العديدة التي يواجهها الصينيون اليوم فإنَّ الثورة الثقافيّة تظلُّ – بحلوها ومرِّها – لحظة فارقة في وعيهم ولاوعيهم. صحيح أنَّ بعضهم يسكت عنها وأنَّ بعضهم الآخر يحنُّ إليها ولكنهم أبدًا لا يستطيعون التفصِّي منها لأنها جزء من تاريخهم الجمعي. هل نطلب الثورة في الصين؟ لا تفصلنا عن ذكرى الثورة الثقافية الصينية إلا أربع سنوات معدودات ستدور فيها الأفلاك دورتها الأبدية حتى ينغلق مسار الزمن على نصف قرن. فما الذي يعنينا من هذه الثورة اليوم، نحن الذين نخوض ربيع ثوراتنا العربية؟ ربما بدت المقارنة في غير محلها (وإنها لكذلك من دون شكٍّ). ولكن، لا مانع من أن نتعلَّم من التاريخ بعض دروسه، فطلب الثورة في الصين لا يختلف عن طلب العلم فيها. درسٌ واحدٌ يكفينا، في مثل هذا المقام، درسُ الجدلية المستمرة بين طوباوية الحلم ومرارة الواقع... جدليّة لا ينبغي أن توهن العزائم، ولا مجال لأن تقوِّض السعي إلى ما هو أفضل وأجمل، جدلية لا يمكن أن نسمح فيها بإسكات الأصوات الصادحة بنشيد الحرية. وحتى إن خَبَا لهيب الثورة وانطفأ ألقها وصار في حجم ذاك الصندوق الذي نُسمِّيه صندوق الاقتراع فلا بدَّ أن نصرخ بأعلى صوتنا: "الثورة مستمرة". الكتاب: الثورة الثقافية The cultural revolution – A very short introduction. المؤلِّف: ريشارد كورت كروس Richard Curt Kraus. دار النشر: Oxford University Press، لندن، 2012. *** *** *** الأوان، الأربعاء 21 آذار (مارس) 2012 |
|
|