|
الحقيقة والجسد
لسعني سوط مملوء شوكًا 1
أول شيء قريب مني، ملتصق بي، محدد لوجودي ويفوق طاقتي على الفهم، وتعجز اللغة عن الإحاطة به، في علاقاته وأصله وبنائه وحمولته وحركته وتحولاته ووعيه وحسه وفكره وقوته وأناه وموته... هو الجسد. جسدي الخاص. جسد الإنسان الفرد. أتعاطى معه وأتحاور أنا السائل، أنظر إليه وكأنه موضوع خارج ذاتي، أو هو بالأحرى ينظر إلى نفسه. يحملني ويواجهني ويحتويني ويصنعني. هو الذي يتكلم ويرى ويسمع ويفهم ويتحاور. يشكل تعددية وفردانية غريبة بينه وبين ذاته. والغريب في الأمر أنه هو من يناقض نفسه ويطرح السؤال وليس آخر. هو السائل الذي يسأل عن نفسه. وهذا معناه أنه لا يعرف ذاته ولا يحتويها رغم أنه هو ذاته. وأصل ومنطق الأشياء في ما أعتقد هو أن تعرف الذات ذاتها، ألا تسأل الذات عن ذاتها أصلاً! أن يسأل عنها آخر يمكن قبول ذلك ولكن أن ينبع السؤال من الذات عن ذاتها فهذا قمة العبث! لأنه كيف تستطيع العيش والتماهي والاندماج المطلق مع ذاتك ووحدتك وإزالة التفكير في الحدود والفواصل الكونية وأنت جاهل بذاتك، تسأل عنها كأنها موضوع تنظر إليه خارجًا – في مقاربة فنية شبه مستحيلة – وكأنها ليست ذاتك. الجسد، كعظم ودم ولحم حي... كواقع وكإحساس وكحقيقة... الجسد وعملية التحاور معه والتفاعل معه والإحساس به، تشكيل لوحدة غير منفصمة. لا نتحدث عن أطراف. لا يفصم بين أجزاء الجسد إلا ضرورات التقسيم والتوزيع والفرز التي تقتضيها اللغة والتواصل والتفاهم وتضيع معها الحقيقة. عملية تقسيم الجسد وتجزئته على مستوى اللغة والإدراك والفهم تقضي على الجسد وتقضي على الحقيقة. إنما الجسد عقل هائل، تعددية ذات معنى واحد، حرب وسلم، قطيع وراع. أداة لجسدك، هو ذا يا أخي، عقلك الصغير الذي تسميه "روحًا" أداة صغيرة ولعبة لعقلك الكبير[1]. إنني مستمر في العيش بفضل أعضاء جاهزة ومسبقة، ليس لي فيها يد (القلب، المخ، الأجهزة العصبية، الخلايا، الدورة الدموية... إلخ). لا حكم لي عليها ولا دخل لي في نموها ولا اشتغالها. مستقلة تمامًا عن وعيي وعن إرادتي. تشتغل دون كلل. تحكمها وتضبطها عبقرية هائلة. دقيقة ومنظمة بشكل خارق ولكنها قابلة للمرض والتلاشي وفانية في النهاية. وفنائها يعني فنائي. فناء الوعي بذاتها وبالعالم. من هنا العطب الرئيسي والشرخ الذي يحمل على الوعي ويفرض عليه التفكير – المنبثق هو نفسه من تركيب أعضاء الجسد – من خارج الجسد! هناك هزؤ في العملية برمتها. جسدك في نهاية الأمر مستقل عنك، منفصل عن ذاته. والمسألة لا تحل من خلال استجلاب مضامين أو صور خيالية مبهمة غير معروفة ولا مؤكدة من قبيل الحديث عن ثنائية ما أو ثلاثية: (روح وجسد ونفس) أو (عقل وجسد) أو (نفس وجسد) أو (روح ومادة)... وغيرها من الكلمات والمصطلحات التي تبحث عن حل انفصالي متعسف عليه! فقط للقضاء على حرقة السؤال الصعب وإقصاء الجسد وإيجاد أجوبة مهما كانت وبأي ثمن، المهم أن نحصل على جواب بغرض تلبية حاجة نفسية أو سياسية أو أخلاقية! منذ أن عرفت الجسد أفضل – قال زرادشت لأحد أتباعه، ما عادت الروح عندي أكثر من كلمة تقال: وكل هذا "الذي لا يفنى" إن هو أيضًا إلا رمز[2]. الجسد ينمو ويكبر ويتفاعل ويشبع ويجوع ويسعد ويتألم وينام وينسى ويفكر ويتمثل ويمرض ويموت وينحل. يتكون من آلات وعلاقات وغرائز هائلة كثير منها غير معروف. حركته المعقدة والخفية لا تنتهي حتى أثناء النوم. ينبض بحركة لا تنقطع منذ انبلاجه في بطن الأم حتى نهايته/موته، بل وقبل ذلك بكثير إذا اعتبرنا ارتباطاته الوجودية والكونية والعضوية. لا أحد يعرف أصله. لا يقف الأصل عند بطن الأم في الحمل، فتلك مرحلة متقدمة جدًا من النمو، بل يمتد الأصل إلى من أنتج الحمل والذي أنتج من أنتج الحمل وهكذا لا نقف عند حد أو على الأقل لا نعرف أين الحدود التي نقف عندها وما إذا كانت هناك فعلاً حدود، اللهم في الكتابات المتخيلة للأساطير وثقافات الشعوب. المؤكد هو أن هذه الارتباطات الإنسانية المعقدة المكونة لجسد الإنسان لا تقف عند حدود الأب والأم أو الأجداد، هي ارتباطات كونية تضرب في الأعماق البعيدة وهي مجهولة تمامًا. ولكن بكل أسف ننسى ذلك ولا نحس به ونتعاطى مع الجزئي والضئيل. ونبني على ذلك حياة وأخلاقًا وقوانين. لذلك فلا قرار لنا ولا مستقر! يكون الجسد، ما ليس عليه فعلاً. يكون ما أريد له أن يكون ضمن استراتيجية سياسية وثقافية. أحمل جسدًا متناقضًا وفارغًا، وهو لا يعرف في النهاية ما يكونه، تاه عما يكونه، عما هو عليه، تاه عن حقيقته التي لم يعد يعرف عنها شيئًا، وكأن الحياة تقتضي لنحياها هذا النوع الغريب من عدم المعرفة! هذا الجسد الذي نفكر وننظر للكون ونحيا من خلاله، لا نعرف ما هو في كليته. تتكون وتكون من معنى معين لا تعرفه، بل لا تستطيع معرفته. إنها الغرابة أن تلقى في هذا الكون وتعي أنك لا تعرف كنه نفسك، جسدك، وكأنها أمور محتم اختفاؤها وتقتضي معرفتها موتًا أو انقلابًا جذريًا في موازين الحياة. ستحيا طالما أنك لا ترى نفسك. نبوءة محيرة قالها العراف تيريسياس لـ"نرسيس الأسطورة". "ستحيا طالما أنك لا ترى نفسك" وكأن الحياة تقتضي بالضرورة هذا النوع من الخفاء. وتقتضي المعرفة ويقتضي الظهور، الهلاك! 2
قد تكون هذه المركبات المتناقضة للوجود وحقيقته هو ما أضجر عددًا من الفلاسفة والشعراء وألهمهم في الوقت نفسه. فالبحث في كينونة الإنسان "الضعيف والمتناهي" صعب ومقلق للغاية، لأنه مرتبط مباشرة بالعيش والشعور الداخلي والحياة اليومية، مرتبط بإرادة إدراك الذات الإنسانية لذاتها وانسجامها وشعورها بحكمة وجودها رغم زمانيتها. يقول كيركجرد في إحدى كتاباته: إن ما أحتاج إليه حقًا هو أن أتطابق مع نفسي عما يجب علي أن أفعل لا عما يجب علي أن أعرف إلا إذا كانت المعرفة ستكون مقدمة للعمل. وما يهم هو فهم قدري وما يريده (مني) الله أن أفعله، أن ما يهم هو اكتشاف حقيقة تكون حقيقية (بالنسبة لي) وأن أجد (تلك الفكرة التي أعيش وأموت من أجلها)[3]. بحثًا عن خلاص صعب، وفي نفس سياق القلق وإرادة الحياة والاندماج الوجودي الكلي، يطرح بودلير أيضًا المعادلة نفسها تقريبًا: ما يهم ما تستطيع أن تكون الحقيقة الموضوعة خارج نفسي إذا هي ساعدتني على أن أعيش وأن أشعر أني موجود ومن أنا[4]. لقد أراد هذا الشاعر أن ينظر إلى مرآة نفسه ويستغرق فيها، فأودت به أقدار الفكر والوجود والتأمل إلى ما يمكن نعته بالتراجيديا البودليرية التي أنبتت أزهارًا وفنًا وحياة، فحدث له ما حدث لنرسيس الأسطورة، الذي تعرَّف على "جسده" وكان عليه أن يذهب كل يوم إلى البحيرة ليتأمل بهاءه فسقط من شدة ولعه بصورته في الماء وغرق، وفي المكان نفسه الذي غرق فيه ومات استنبتت زهرة النرجس. ليس لبودلير – كما يقول جون بول سارتر في مقدمته لديوان LES FLEURS DU MAL –: شعور مباشر لا تخترقه نظرة مرهفة. نحن عندما نتأمل مثلاً شجرة أو بيتًا نستغرق في هذه الأشياء وننسى أنفسنا، أما بودلير فإنه لا ينسى نفسه أبدًا، فهو يتأمل نفسه عندما يتأمل الأشياء، وهو ينظر إلى نفسه ليرى نفسه ينظر. إنه يتأمل شعوره بالبيت وبالشجرة لذا لا يراها إلا أشد ضآلة وأقل وقعًا كما لو كان ينظر إليها من خلال عدسة مصغرة. فلا تدل إحداهما على الأخرى كما يدل السهم على الطريق أو الإشارة إلى الصفحة. وفكر بودلير لا يضيع أبدًا في متاهاتها ولكن على العكس يرى أن المهمة المباشرة لها هي أن تعيد له شعوره بذاته. لقد كتب يقول: "ما يهم ما تستطيع أن تكون الحقيقة الموضوعة خارج نفسي إذا هي ساعدتني على أن أعيش وأن أشعر أني موجود ومن أنا". وفي نفسه كان همه ألا يظهر الأشياء إلا من خلال جدار سميك من الشعور الإنساني عندما يقول في كتابه الفن الفلسفي "ما هو الفن الخالص في المفهوم الحديث؟ هو أن تخلق سحرًا متلاحقًا يحتوي الموضوع والعلة والعالم الخارجي للفنان والفنان نفسه، بشكل يستطيع معه إلقاء محاضرة بعنوان ضآلة الحقيقة في العالم الخارجي" ذرائع، انعكاسات، أطر الأشياء كلها لا قيمة لها مطلقًا بذاتها وليس لها من مهمة سوى أن تعطي الفنان فرصة تأمل نفسه وهو يراها[5]. يهتم سارتر بالجسد كمشكلة وكعلاقة بين الذات والغير لا يمكن حلها في نظره إلا "بتقرير نظام من التأملات مطابق لنظام الوجود". يعني عدم الخلط بين المستويات الوجودية. يتوجب البحث عن طبيعة الجسد كوجود-لذاته، والبحث في طبيعته كوجود-للغير. فمشكلة الجسد وتعقيده تتجلى في وضعه كشيء له قوانين داخلية تحكمه وهو محكوم أيضًا بالتحديد الخارجي. فرغم أنني أنا هو نفسي فإني أربط شعوري لا بجسدي ولكن بجسد الآخرين. جسدي الذي أصفه على أنه مؤلف من الجهاز العصبي والدورة الدموية ومجموعة من الأعضاء والخلايا والمخ... إلخ "ليس جسدي كما هو بالنسبة إلي" لأنني لم أطلع على محتوياته الداخلية ولكن علمت بها فقط من الآخرين من خلال قراءة الكتب أو عند تشريح جثت بشرية في المختبر. وحتى إن استطاع الأطباء الجراحون القيام بعملية مباشرة على جسدي الذي لا أعرفه بنفسي فذلك تم باعتباره جسدًا في "وسط العالم وكما هو بالنسبة إلى الغير. وجسدي كما هو بالنسبة إلي، لا يبدو لي في وسط العالم. ولا شك أنني استطعت أن أرى بنفسي على شاشة، أثناء فحصي بالأشعة، صورة فقراتي، لكنني كنت في الخارج، وسط العالم، وأدركت موضوعًا تام التكوين، كأنه هذا بين هذات أخرى، وبواسطة الاستدلال فقط عودته لي أنا: لقد كان ملكي أكثر جدًا من أن يكون وجودي". وبالمثل فإنني أتحسس أعضاء جسدي على اعتبار أنها أشياء ضمن الأشياء في العالم أو عن طريقها أعرف وتكشف لي عن الأشياء لا عن نفسها، فأنا أكون كالغير بالنسبة إليها. والعملية المزدوجة المتعلقة بالإحساس بأعضائي، من خلال لمس إحدى هذه الأعضاء مثلاً (الأصبع، الساق، اليد...)، والإحساس بهذا اللمس، غير مشكوك فيها ولكنها ظاهرة ليست جوهرية بدليل أن شدة البرد أو إبرة المورفين كافية لكي تزيل الإحساس باللمس. وكذلك لا يمكن الجمع بين ظاهرتي ما يطلق عليه "الإحساس المزدوج"، يعني كون المرء يلمس والشعور باللمس، لأنهما – حسب سارتر دائمًا – متميزان تمامًا، ويوجدان على مستويين لا يمكن التواصل بينهما. فحين ألمس ساقي، أو حين أراه، فإني أتجاوزه إلى إمكانياتي الخاصة: فمثلاً للبس سروالي، أو لإعادة ربط جرحي. ولا شك في أنني أستطيع في نفس الوقت أن أهيأ ساقي بحيث أستطيع "الشغل" عليه على نحو أكثر تمكنًا، لكن هذا لا يغير شيئًا في هذه الواقعة وهي أنني أتجاوز إلى الإمكان الخالص "لشفائي". وتبعًا لذلك فإني حاضر لها دون أن تكون أنا ولا أكون أنا إياها. وما أصنع به هذا هو الشيء "الساق"، لا الساق كإمكان أن أمشي، أو أعدو أو ألعب الكرة، وهكذا، بالقدر الذي به جسدي يشير إلى إمكانياتي في العالم فإن رؤيته ولمسه هو تحويل هذه الإمكانيات التي هي إمكانياتي إلى إمكانيات ميتة. وهذا التحول لا بد أن يجر بالضرورة إلى عمي كامل فيما يتعلق بماهية الجسد من حيث هو إمكان حي للجري، والرقص، إلخ. واكتشاف جسدي كموضوع هو انكشاف لوجوده. لكن الوجود الذي انكشف لي على هذا النحو هو وجوده-لغيره[6]. أما نيتشه فهو يقدم للجسد الإنساني كل زاده وقوته. "يشيد" بالجسد ويعده أعظم من الروح بكثير. فالشعور أو الروح أو النفس بالنسبة إليه شيء فقير ضيق النطاق محصور، بل إن هذا الشيء ليس إلا أداة تقوم بخدمة "الجسد": إن الجسد الإنساني، الذي به يحيا وسيحيا كل الماضي القريب والبعيد، ماضي الأحوال العضوية، والذي يجري فيه سيل هائل يتخلله ويعلو عليه وينفذ في جميع نواحيه؛ هذا الجسد (بهذا المعنى) فكرة أروع من فكرة الروح أو النفس القديمة. ولقد كانت النفس القديمة تنظر إلى الجسد في سخرية واشمئزاز، وكانت تحتقره وتحسب هذا الاحتقار، أو يحسب الإنسان هذا الاحتقار للجسد، أعظم شيء يستطيع القيام به. فكان يعذبه، وكان يجوعه، وكان يعمل على جعله هزيلاً. وكانت لذة الروح في القسوة عليه. ولكن هذا كله يفقد الإنسان "معنى الأرض"، أي معنى الحياة الحقيقية التي لا حياة غيرها. أما الآن فيجب أن نعد "الجسد" أعظم من الروح. فالجسد هو "العقل الأكبر" والروح هي "العقل الأصغر": "وأنتم يا إخواني! فلتحدثوني عما يقوله جسدكم عن روحكم: أليست روحكم فقرًا ودنسًا وغرورًا يستوجب الرثاء؟[7] وقد زاد من قلق الإنسان واستلابه والهجوم عليه، توظيف وتوطين الجسد الفردي والجماعي ضمن استراتيجية وأفق التطور التقني والإعلامي، حيث تعمل مركبات التقنية – بكل منتجاتها وتفاصيلها – كل الوقت على حفر الجسد والتنقيب فيه وتشريحه وبالتالي الهيمنة عليه واحتلاله وتدميره. هكذا "أناي" في النهاية غريب عن جسدي. الأنا يندحر إلى الهاوية وكأنه منتف بالنظر لمحاولات تكريس رؤيا عن الجسد ناتجة عن التربية والتقنية والإعلام، بسيطة وملفقة ومغرضة وتسعى إلى أن أكون ما يستفيدون منه وليس ما أنا عليه حقًا. "أنا" تقول معتزًا بهذه الكلمة. لكن ما هو أعظم – ما لا تريد اعتقاده – إنما هو جسدك: إنه لا يقول "أنا" لكنه يصنع الأنا. يقول نيتشه[8]. 3
لوحة الخوف من النور احتقر المربون الحياة ودنسوها أكثر عندما أنهكوا الجسد بمحمولات قيم نسجوها بعيدًا عن الطبيعة وعن الحقيقة. فلم تعد هذه المحمولات تعني أو تفسر شيئًا ولم تعمل أبدًا على حل معضلات الإنسان الوجودية والحياتية. فالقوى المهيمنة عبر مسار التاريخ الإنساني، تركيب القوى المشكلة لثقافة الجسد، لم يسعفها أن يكون للجسد مكان. عزلت الروح والعقل والقلب والنفس عن الجسد للتمويه ومحاربة الجسد وتفكيكه كي يصبح ضئيلاً ومقدورًا عليه. اختارت الجانب المظلم من الحقيقة: التمويه اللغوي والرمزي والعاطفي، فأصبح الناس يعيشون حياة لغة قاصرة، جوفاء، وليس حياة وجود. أقصي الجسد بعيدًا... ذلك أن تكوينه المتعدد والواحد: هائل، خفي، مركب، مهيب، خارق. ولم يكن من بد إلا أن يتم إنهاكه بالمرض والوهم والضياع. لجؤوا لمواجهة غليانه وقوته إلى لعبة الفصل والتجزيء والتمويه والضبط والحصر والمراقبة والتوجيه. فقد وضع العلماء والفقهاء والساسة والمربون حدًا لإمكانيات الجسد. ومع ذلك بقيت شرارته عصية عن التحكم الكلي ولا يزال الجسد قويًا ومتمردًا ويخلط أوراق وأهداف استراتيجيات الهيمنة عليه. غير مسموح أن يكون الجسد ما هو عليه. ليسوا مستعدين لتجربة الجسد-الحقيقة. لأن يذهب الجسد بعيدًا جدًا في قدراته وقواه وحريته. اقتلعوا جذوره وحاولوا ما أمكن قولبته وحبسه وتشريحه في مختبرات تقنية وسياسية وحسابية. غير أنهم لم يحسموا أمره أبدًا ومهما فعلوا. لأنه كان دائمًا ينفلت ويتوق وغرائزه الظاهرة والخفية إلى الحرية، إلى الحقيقة، إلى الأصل. أنهكوه وعذبوه وكذبوا عليه وروضوه بأشكال هائلة ودقيقة لا تخطر على بال أحد، ولكنهم لم يستطيعوا التحكم فيه كليًا أو إلى الأبد. الجسد يتجلى ويعلن بوضوح وقوة عن بهجته وغربته في الرقص والفن، ويعبر عن قدراته الخفية في أنه أكثر مما هو عليه. يتواصل باللغة المفتوحة للفن مع اللذة ومع الألم ومع الحياة ومع الذوات الكونية المتوقدة. إنه أكبر من أي عقل، أقوى من كل وعي، أوسع من أية لغة. لا يوجد ما هو أكثر حقيقة من الجسد. الجسد البشري نتاج تعسفي معقد لعدد هائل من القوى. وفي الحقيقة، حسب ما يقول سبينوزا: لم يبين أحد بعد ما يقدر عليه الجسد. وما يستطيع الجسد أداءه وما لا يستطيعه. وفعلاً ليس لأحد من المعرفة الدقيقة بتركيب الجسد ما يمكنه من تفسير جميع وظائفه. ولست بحاجة إلى أن أشير هنا إلى ما يلاحظ في البهائم من بصيرة تفوق بصيرة البشر بكثير. وإلى ما يقوم به غالبًا السائرون أثناء النوم somnumbuli من أفعال لا يجرؤون على القيام بها في اليقظة؛ وهذا يكفي لإثبات أن الجسد قادر بقوانين طبيعته وحدها على أشياء كثيرة تحار لها النفس. وفضلاً عن ذلك، لا أحد يعلم كيف تحرك النفس الجسد وما هي وصائلها، وكم درجات الحركة التي تستطيع أن تبعثها فيه، وبكم سرعة يمكنها أن تحركه، وعليه فعندما يقول الناس إن أصل أفعال الجسد هذه أو تلك هي النفس التي لها سلطان على الجسد، فهم لا يفقهون ما يقولون، وكل ما في الأمر أنهم يعترفون، بألفاظ مموهة، بجهلهم للسبب الحقيقي للأفعال التي يتحدثون عنها دون أن تتملكهم الدهشة[9]. تنبهت القوى المهيمنة إلى قوة الجسد وخطورته ونفوذه الكوني، فعمدت بأقصى درجات التدبير الاستراتيجي السياسي والاقتصادي والثقافي إلى محاولة ضبطه والتحكم فيه وتوجيهه. الجسد البشري منذ القدم كان ولا يزال – وهذا ما لا يعلن عنه في الغالب – هو الهدف من المعرفة والسلطة ويتم الوهم بأن هناك شيئًا آخر هو المقصود. الجسد هو علة كل مصائب الدنيا وآلامها وهو الذي يحول بيننا وبين المعرفة والحقيقة والنعيم. هذا ما علمونا إياه وما يوهموننا به. الجسد منعدم القيمة، دليل، يشير إلى كل ما هو خسيس ومقزز وشرير ومريض و«أنثوي». هو التعبير المجازي عن كل الخطايا والذنوب، وهو سبب كل المصائب والحروب والموت، بل هو تجسيد للموت المريع، حيث يصبح جيفة متحللة كريهة المنظر والرائحة. إنه الغريزة النهمة، الجشعة، علة العنف والحرب ومآسي الكائنات جميعها. فعوضًا عن أن يكون الجسد هو الضحية الذي تراكمت عليه كل مآسي تاريخ الوجود والكون ويؤدي ثمنها، أصبح هو أساس آلام الناس والبيئة والعالم! كل ما هو دنيء فهو منسوب للجسد. وللإمعان في هذا الإذلال يتوجب مواجهة كل الأماكن التي يظهر ويتجسد فيها بقوة والسيطرة عليه. فالأنثى التي أضحت مرادفة للجسد لأنها تمعن في إظهاره وتذكر الجميع بالعودة إليه يترتب عليها هذا التقسيم: بينما يمتلك الرجل القدرة على السمو فوق جسده عبر العقل أو العقلنة، يفترض أن المرأة لا تمتلك تلك القدرة. يعني هذا التقييم الأدنى للجسد، وبالتالي للعاطفة والغضب، ارتباط الغضب بالحاجة البيولوجية إلى الجسد. لكنه يخضع لسيطرة عقل الرجل. ومن ناحية ثانية، لا يمكن بتاتًا السيطرة على العاطفة في المرأة بسبب «النقص» في العقلانية عندها. تصبح هذه النظرة تبريرًا للإساءة إلى النساء وأداة بأيدي الرجال للسيطرة عليهن، بزعم أنهن غير قادرات على التحكم في أنفسهن. ولهذا فإن اندلاع الاضطراب والفوضى في المجتمع تحت السلطة الذكورية يعني أن هناك قوى أخرى فاعلة غير قوة عقل الرجل العقلاني. وإلا لكان العقل المقدس عند الرجل العقلاني قد ساد. ويجب أن تعزى مثل هذه اللاعقلانية إلى الجسد الشرير الخاطئ والأدنى، باختصار إلى كل ما لا يمت إلى الرجل العقلاني[10]. 4
بروميثيوس منذ أن تشكلت الحقيقة على هذا المنحى، عندما بدأت البشرية تزيغ عن مسارها الطبيعي-الحقيقي، شنت الحرب على ذاتها من خلال الحكم على الجسد ومعاقبته ومحاربته وسجنه ووسمه. مهما كانت الخطيئة وكيفما وأينما كان المخطأ، وكيفما كان موضوع الإدانة أو علتها، فإن الهدف المشترك بين جميع المستهدفين هو الجسد. منذ القرون القديمة وإلى اليوم، المعذب والمعاقب لا يكونه إلا الجسد. مهما تفنن الكتاب والمربون والساسة الإيعاز أن الجسد ليس هو المقصود من العذاب والعقاب فإن آلامه وقوة حضوره تؤكد ما ذهبنا إليه. مهما كان المراقب أو المعذب، قوة عليا أو سلطة فردية أو جماعية، ومهما كانت النوايا، إصلاحية أو عقابية أو حتى بهدف محاربة "الشياطين"، فإن الجسد هو المستهدف الوحيد. هو الذي يتجرع أباطيل العالم وأحكامه وجراحاته. التاريخ يشهد بقوة الألم التي تعرض لها جسد الإنسان الفرد وما مدى الإمعان في تعذيبه. العالم بثقافاته وقوانينه وآلياته وجبروته باشر الجسد وعذبه وكانت طريقة تعذيبه له والانتقام منه إما ضمنية من خلال استراتيجيات دقيقة وآليات تقنية وثقافية ونفسية هائلة، وإما مباشرة، تشهيرية، احتفالية. صوَّر ميشيل فوكو تعذيب الجسد ومعاقبته وضبطه وترويضه أعظم تصوير في كتابه المراقبة والمعاقبة. وهو كتاب علَّق عليه جيل دولوز كما يلي: كوميديا إلاهية للعقوبات: ومن حق أي امرء أن يفتن ويسحر إلى حد الموت من الضحك أمام هذا القدر الهائل من الابتكارات الشاذة، وذلك العدد العديد من الخطابات الوقحة، والفظاعات المرعبة. فمن الآلات المانعة من الاستمناء بالنسبة للأطفال، حتى آليات الحبس والسجن بالنسبة للبالغين، تنبسط سلسلة بكاملها مثيرة لضحك مباغت لن يحول دون استمراره سوى الخجل أو المعاناة أو الموت. نادرًا ما يضحك الجلادون، أو أنه ضحك ليس من طينة الضحك، أو ليس هو الضحك نفسه. لقد سبق لـ"فاليص" J.Vallès أن التمس في الرعب والفظاعة بهجة وسرورًا، خاصين بالثوريين، يقابلان بهجة الجلادين الفظيعة والمهولة. ويكفي للكراهية أن تكون حية بالقدر اللازم، كي يصير بالإمكان جني شيء ما منها، كالفرحة الكبرى، لا الفرحة الممزوجة بالغضب، لا فرحة الكراهية، بل فرحة الرغبة في تحطيم ما يشوه الحياة. كتاب فوكو مفعم بالفرحة الممزوجة بروعة الأسلوب وسياسة المضمون. كتاب موزون وموقع بأوصاف شنيعة رتبت بشغف: كالمحنة الكبرى التي تعرض لها القديس داميان Damien هو ومريدوه، المدينة المصابة بوباء الطاعون والحصار الذي ضرب عليها، وطابور المحكومين بالأشغال الشاقة يعبرون المدينة مكبلين بالأغلال، يتكلمون إلى المارة، ثم من جهة أخرى، آلة العزل الجديدة: السجن، عربة السجناء، والتي تعبر عن "وعي" جديد بفن العقاب. لقد تفنن فوكو دائمًا في تشكيل لوحات رائعة يرسمها بتحاليله. التحليل هنا، تحليل ميكروفيزيائي أكثر فأكثر، واللوحات فيزيائية أكثر فأكثر، توضح "آثار" التحليل لا بالمعنى العلي والسببي، بل بالمعنى البصري، الضوئي للون: من الأحمر القاني الذي يصور التعذيب والتنكيل حتى الرمادي القاتم الذي يصور السجن. التحليل واللوحة يسيران جنبًا إلى جنب وينتميان إلى المستوى نفسه، ميكروفيزيائية السلطة والتسخير السياسي للجسد. لوحات مزخرفة بالألوان على خارطة ملمترية[11]. سرد فوكو في بداية كتابه المراقبة والمعاقبة رسمًا تنويريًا رائعًا وفظيعًا من عقاب الجسد من خلال مباشرة وتعذيب جسد داميان المدان بجريمة قتل أبيه في الثاني من آذار/مارس سنة 1757. أجدني مضطرًأ لنقل تلخيص لهذا المثال المعبر وهذه اللوحة الهائلة للجسد رغم طولها بعض الشيء: حكم على داميان بأن يدفع غرامة معنوية هي الإقرار بذنبه علنًا أمام باب كنيسة باريس الرئيسي، حيث يجب أن يسحب ويقاد في عربة عاريًا إلا من قميص يستره، حاملاً مشعلاً من الشمع الملتهب، وزنه قرابة الكيلوغرام. ثم وفي العربة نفسها، عند ساحة غريف Gréve، وفوق منصة الإعدام التي ستنصب هناك، يجري قرصه بالقارصة في حلمتيه وذراعيه، وركبته وشحمات فخذيه، على أن يحمل في يده اليمنى السكين التي بها ارتكب الجريمة المذكورة، جريمة قتل أبيه. ثم تحرق يده بنار الكبريت. وفوق المواضع التي قرص فيها يوضع رصاص مذوب، وزيت محمى، وقار صمغي حارق، وشمع وكبريت ممزوجان معًا، وبعدها يمزق جسده ويقطع بواسطة أربعة أحصنة، ثم تتلف أوصاله وجسده بالنار، حتى تتحول إلى رماد يذرى في الهواء. هذا هو الحكم الذي أشار إليه فوكو في كتابه. الحكم الذي صدر رسميًا وأمعن في التفنن للوصول إلى أقصى ما يمكن من درجات تعذيب الجسد والانتقام منه. الجسد كوسيلة وكهدف في الوقت ذاته. ينتقل بنا الحكم إلى توقيعه بالفعل على الجسد، وقد دامت العملية مدة طويلة جدًا لأن الأحصنة التي استخدمت لم تكن متعودة على الجر، بحيث إنه بدلاً من أربعة، كان لابد من استخدام ستة، ومع ذلك فلم يكن هذا كافيًا فتوجب من أجل اقتطاع ركب البائس التعيس قطع أعصابه ومفاصله بالفأس. ... الآلام البالغة حملته على الصراخ الرهيب، وفي أغلب الأحيان كان يكرر: "يا إلهي، أشفق علي، يا يسوع عونك". وقد اطلع المشاهدون على اهتمام كاهن كنيسة سان بول الذي لم يترك، رغم تقدمه في السن، أية لحظة دون مواساة المعذب [...] جرى إشعال الكبريت – في يده – ولكن النار كانت خفيفة حتى إن جلد أعلى اليد فقط لم يتأذ إلا قليلاً. وبعدها جاء أحد منفذي التعذيب، وقد شمَّر عن ساعديه إلى أعلى من المرفق، وأخذ الكماشة الفولاذية المصنوعة خصيصًا لهذا الغرض وطولها ما يقارب قدمًا ونصف قدم، فأخذ يقرصه في شحمة الفخذ الأيمن ثم في الركبة، وانتقل منها إلى قسمي شحمة الذراع الأيمن، ثم انتقل إلى الحلمتين. هذا المنفذ وإن بدا قويًا متينًا، لقي الكثير من العناء في اقتلاع قطع اللحم التي كان يأخذها في الكماشة مرتين أو ثلاث مرات من الجانب ذاته وهو يفتل، وما كان يطلع معه كان يشكل في كل قسم جرحًا بضخامة قطع نقود كبيرة. بعد هذه القراصات، كان داميان الذي كان يصرخ كثيرًا، دون أن يكفر، يرفع رأسه وينظر إلى حاله، وكان القارص ذاته يأخذ بملعقة من حديد من طنجرة من هذا الدواء الغالي شيئًا ينثره رشًا فوق كل جرح. وبعدها تم ربط أمراس صغيرة بالأمراس المخصصة للربط بالأحصنة، ثم ربطت الخيول فوقها بكل طرف على طول الركب والأفخاذ والأذرعة. واقترب السيد لوبرتون ككاتب، عدة مرات من المعذب، لكي يسأله إذا كان لديه ما يقوله. وكان الجواب دائمًا بالنفي؛ كان يصرخ كما يوصف المعذبون، الوصف الذي لا يحتاج إلى بيان بالقول، فيقول عند كل هجمة تعذيب: "عفوك يا إلهي! عفوك يا رب". ورغم كل هذه الآلام المذكورة أعلاه، كان يرفع رأسه من وقت لآخر وينظر إلى حاله بجرأة. وكانت الأمراس المشدودة جدًا من قبل الرجال والتي كانت تشد أطرافه تؤلمه ألمًا يصعب التعبير عنه، ومع ذلك اقترب منه السيد لوبرتون مرة أخرى وسأله إذا كان يريد أن يقول شيئًا. فرد بالنفي... وشدت الأحصنة، فسحب كل منها طرفًا بشكل متواز، وكان كل حصان يقوده منفذ. وبعد ربع ساعة، تكررت الحفلة ذاتها، وأخيرًا وبعد معاودات، كان لا بد من تغيير اتجاه الخيول عند الشد. فخيول الذراع الأيمن سحبت باتجاه الرأس، وخيول الركب ردت باتجاه الركب مما أدى إلى كسر الذراعين عند المفاصل. وتكررت هذه السحوبات عدة مرات دون جدوى. لقد كان يرفع رأسه وينظر إلى حاله. وكان لا بد من الاستعانة بحصانين لوضعهما أمام ذينك المربوطين بالركب بحيث صارت الخيول ستة دون جدوى. وأخيرًا قال المنفذ سمسون للسيد لوبرتون إنه لا أمل بالقضاء عليه، وطلب إليه أن يسأل «الأسياد» إذا كانوا يريدون تقطيعه إلى قطع. وأصدر السيد لوبرتون بعد أن خرج من المدينة أمرًا ببدل جهود جديدة، وهذا ما حصل. ولكن الخيول توقفت. وسقط أحدها الذي كان مربوطًا بالركبة على الأرض... وبعد محاولتين أو ثلاث محاولات، سحب كل من المنفذ سمسون والمنفذ الذي قرصه سكينًا من جيبه، وكانت الخيول الأربعة في أقصى قوتها تشد. فسحبت الفخذين وراءها، أي الفخذ من الجهة اليمنى أولاً، والآخر بعده، وبعدها حدث ذات الشيء بالذراعين وفي موضع الكتفين والباطين وفي الأقسام الأربعة. لقد توجب قطع اللحم حتى العظم تقريبًا، وكانت الخيول تشد بكل قوتها فسحبت الذراع الأيمن ثم الذراع الآخر بعده. وبعد اجتزاء هذه الأقسام، نزل المعرفون لكي يكلموه، ولكن جلاده قال لهم إنه مات، رغم أني في الحقيقة كنت أرى الرجل يضطرب والفك السفلي تذهب وتجيء كما لو كان يتكلم. وبعد ذلك بقليل قال أحد الجلادين إنهم عندما رفعوا جذع الجسم لرميه فوق الحطب المشتعل كان ما يزال حيًا. وسلخت الأطراف الأربعة عن أمراس الخيول ورميت فوق الحطب المشتعل المعد داخل العرصة على خط مستقيم من منصة الشنق، ثم غطي الجسم بالحطب وبالرزم ووضعت النار في القش المختلط بهذا الخشب... ... تنفيذًا للقرار، تحول كل شيء إلى رماد، وكانت القطعة الأخيرة التي وجدت في الجمر، لم تترمد كلها إلا فيما بعد الساعة العاشرة والنصف ليلاً، وظلت قطع اللحم والجذع حوالي أربع ساعات تحترق. وظل الضباط الذين كنت واحدًا منهم، وابني أيضًا، مع رماة بشكل فصيلة في المكان إلى حوالي الساعة الحادية عشر[12]. إلى هذا الحد أصبح الإنسان ينتقم من نفسه، يعنفها ويعذب ذاته، جسده، معتقدًا أنه يقوم بشيء آخر. هناك تطور واختلاف في المسألة العقابية فيما يتعلق بطريقة الانتقام من الجسد وتعذيبه. فالتعذيب الآن يتسم بسرية وتبطين كبيرين وأقل مباشرة وتشهيرًا مما كان عليه الأمر. نوع من إعادة ترتيب الأوراق والمواقع وتوزيع الأدوار. أصبح فن التعذيب يراقب المعذب طيلة الوقت وأصبح عميقًا ودقيقًا أكثر و"علميًا" يستهدف ويشرح المعذب في كليته: فكره، إرادته، استعداداته، قناعاته، غرائزه... إلخ. أصبح الأمر مرتبطًا أكثر بأهداف واستراتيجيات الاقتصاد والسياسة والهيمنة والسلطة. الجسد مخيف ومقيت إلى حد عدم تفويت الفرص للتشهير به ووسمه بالعار والألم. وبالنظر إلى قوته، فقد كان لا بد من التفكير في إخضاعه وتوظيفه ما أمكن. ليس باتجاه تأكيد حقيقته واستغلاله كأساس ووسيلة للمعرفة، ولكن استعماله لأغراض السيطرة والهيمنة. الجسد المفروض أن يعول عليه كوجود لاستنفاذ ما تبقى منه للحقيقة غاطس ضمن حقل سياسي. فعلاقات السلطة تعمل فيه عملاً مباشرًا، فهي توظفه، وتطبعه، وتقومه، وتعذبه، وتجبره على أعمال، وتضطره إلى احتفالات، وتطالبه بدلالات. هذا التوظيف (الاستثمار) السياسي للجسد مرتبط، وفقًا لعلاقات معقدة ومتبادلة، باستخدامه اقتصاديًا، وإلى حد بعيد، كقوة إنتاج، يزود بعلاقات سلطوية وسيطرة. ولكن بالمقابل إن تكوينه كقوة عمل لا يكون ممكنًا إلا إذا أخذ ضمن نظام استعبادي... ولا يصبح الجسد قوة نافعة إلا إذا كان بآن واحد جسدًا منتجًا وجسدًا مسترقًا[13]. الجسد إذن الذي عبره تتشكل الأنا، عبره تتشكل الحقيقة، عبره أحيا وأسأل وأكتب وأتلقى وأفكر. الجسد بكل ما يطبعه من استرقاق وجهل وترويض وقمع، لا يمكنه وهو كذلك أن يكون جادًا في معرفة الحقيقة...! وما دام الأمر كذلك، فإنه يتوجب معرفة الجسد واستغلاله على غير ما هو عليه. محاولة استجماع البقايا الحقيقية للجسد، لأنه كيفما كان الحال، فهذه البقايا قد تشكل قوة لا يستهان بها. إنها ما تبقى لنا على كل حال، وعبرها فقط نستطيع أن نبدع نوعًا من جسد حقيقي. حتى ولو لم نكن قد وفرنا قدرًا من الأجوبة لمسار آخر، فإن الأساسي أن نعلم فظاعة وخطورة وخطأ ما نحن عليه، ونعلم أن التشويه الذي لحق الجسد أفرز إنسانًا مريضًا وحياة مريضة وولادات مشوهة. *** *** *** * مقطع من نص أكادي لقصة أيوب، يعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد. عثر عليه سنة 1875 وأعلن توازيه رسميًا مع قصة أيوب التوراتية سنة 1954، ورد في ديوان الأساطير سومر وأكاد وآشور، الكتاب الثاني، نقله إلى العربية وعلق عليه: قاسم الشواف، قدَّم له وأشرف عليه: أدونيس، الطبعة الأولى، دار الساقي، بيروت، ص 439. [1] ديوان نيتشه، فريدريش نيتشه، ترجمة: محمد بن صالح، الطبعة الأولى، 2005، منشورات الجمل، كولونيا–بغداد، ص 20. [2] المرجع السابق، ص 140. [3] كيركجرد، تأليف الكاتب الدنماركي: فريتيوف برانت، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1981، ص 10. [4] أزهار الشر، شارل بودلير، ترجمة: حنا الطيار وجورجيت الطيار، مقدمة: جان بول سارتر. [5] المرجع السابق. [6] الوجود والعدم، بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية، جون بول سارتر، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، منشورات دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، آب (أغسطس) 1966. راجع الصفحات: 499 – 500- 501- 502- 503. [7] نيتشه، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الخامسة، 1975، ص ص 239 - 240. [8] ديوان نيتشه، ص 21. [9] علم الأخلاق، سبينوزا، ترجمة: جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر، تونس، ص ص 164 - 165. [10] الأنماط الثقافية للعنف، باربارا ويتمرب، ترجمة: ممدوح يوسف عمران، عالم المعرفة، العدد 737، مارس 2007، ص 26. [11] المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو، جيل دولوز، ترجمة: سالم يفوت، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، بيروت- لبنان، الدار البيضاء، المغرب، ص ص 29- 30. [12] المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن، ميشيل فوكو، ترجمة: د. علي مقلد، مراجعة وتقديم: مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي بيروت، 1990. انظر الصفحات: 47-48-49 وكذا هوامش الفصل الأول، ص 68. [13] المرجع السابق، ص 64. |
|
|