الرِّسَالَةُ السَّادِسَة
إلى قَطْرِ النَّدَى

 

غياث المرزوق

 

وَكَانَ حَرِيًّا بِهَا أنْ تُجْهِشَ بِالبُكَاء
غَيْرَ أَنَّ حُورِيَّةَ المَاءِ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَذْرِفَ الدُّمُوع
فَحِينَمَا يَعْتَرِيهَا الحُزْنُ مِنْ شَيْءٍ
لا بُدَّ أَنَّهَا تُكَابِدُ الأَلَمَ أَكْثَرَ مِمَّا يُكَابِدُهُ مَعْشَرُ الإِنْس
.
ه. ك. أندرسون

 

/...
فَأَيْنَ اخْتِلافَاتُ الدَّغَل؟
وَأَيْنَ اشْتِبَاهَاتُ النَّغَل؟

***

كَانَ يَا مَا كَان
في سَالِفِ الزَّمَان
كَانَ، ثَمَّةَ، في حَيِّزٍ مُتَرَامٍ
دَغَلٌ مِنَ الأدْغَالِ مُدْهَامٌّ
وَقَدْ تَحَجَّرَ فِيهِ مَاءُ بَحْرٍ هَامٌّ
فَانْحَسَرَ الأَمَل، وَانْقَبَضَ اللِّسَان
وَانْشَقَّ طَوْدٌ مُتَشَامِخٌ،
وَانْدَلَعَتْ رَقْصَةٌ مِنْ أُفْعُوَان
وَبَعْدَ وِقْفَةٍ وَجِيزَةٍ
تَصَاعَدَتْ نَفْثَةٌ مِنْ دُخَان
ثُمَّ اسْتَمَالَتْ بِجِيدٍ وَجِذْعٍ وَجُهْدٍ
حَتَّى اسْتَطَالَتْ، وَاسْتَطَالَتْ
في المَدَى كَالدَّيْدَبَان

***

يَقُولُ ذَاكَ الدَّيْدَبَان:
«وَهَا،... نَغَلٌ مِنَ الأَنْغَالِ نُصِّبَ حَاكِمًا
عَلى حِينِ غِرَّةٍ مِنْ بَنِيه
وَنُصِّبَ، أَيْضًا، رَغْمًا عَنْ أُنُوفِ قَاطِنِيه»

***

فَثَارَ القَاطِنُونَ ثَارُوا في الدَّغَل
يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَلَمْ يَفْرَنْقِعِ النَّغَل
في البَدْءِ، كَانَتِ الشِّعَارَاتُ، لا الخِيَارَات
كَانَ شِعَارُهُ الأوَّل: «النَّغَل أَوْ يُحْرَقُ الدَّغَل»
وَكَانَ شِعَارُهُ الثَّانِي: «النَّغَل أَوْ يُحْرَقُ الدَّغَل»
وَكَانَ شِعَارُهُ الثَّالِث: «النَّغَل أَوْ يُحْرَقُ الدَّغَل»

***

مَا عَلَيْنَا،... حـُرِقَ الدَّغَل
وَتَشَرَّدَ القَاطِنُونَ مِنْ مَنْ سَلُّوا سَالِمِين
وَتَشَرَّدَ القَانِطُونَ مِنْ مَنْ حَلُّوا حَالِمِين
وَتَشَرَّدَ النَّاطِقُونَ مِنْ مَنْ كَلُّوا كَالِمِين
فَلِمَاذَا، إِذَنْ، مَا افْرَنْقَعَ النَّغَل؟

***

حَسْبَمَا يَعْنيهِ فَحْوَاءُ الشِّعَار
لا فَحْوَى الخِيَار
يُدْرِكُ القَاطِنُ مِنْهُمْ:
«إِمَّا بقاءُ النَّغَل، وإِمَّا فَنَاءُ الدَّغَل»
وَيُدْرِكُ القَانِطُ مِنْهُمْ:
«إِمَّا نَعِيمُ النَّغَل، وإِمَّا جَحِيمُ الدَّغَل»
وَيُدْرِكُ النَّاطقُ مِنْهُمْ:
«إِمَّا خُلُودُ النَّغَل، وإِمَّا مُلُودُ الدَّغَل»

***

فَلِمَاذَا، إِذَنْ، بَقِيَ النَّغَل؟
وَلِمَاذَا، إِذَنْ، نَعَمَ النَّغَل؟
وَلِمَاذَا، إِذَنْ، خَلَدَ النَّغَل؟

***

لكنْ،
لكنْ، يَبْدُو لِلْقَاطِنِ وَالقَانِطِ وَالنَّاطِقِ مِنْهُمْ
أَنَّ النَّغَلَ المُتَنَغِّلَ يَلْتَذُّ بِأُسْلُوبٍ خَاصٍّ
في فَكْفَكَةِ اللُّغَةِ المَوْسُومَةِ بِالضَّادِ قُرُونًا
بَيْنَ رُؤُوسِ الأَشْهَاد
قَدْ رَشَّحَ هذا النَّغَلُ المُتَنَغِّلُ دَفَّتَهُ المَشْرُوخَةَ
في الحُكْمِ المُعْتَاد
وَتَبَوَّأَ عَرْشًا سَلْجُوقِيًّا فَوْقَ جَمَاجِمِ أَطْفَالٍ
مِنْ كُلِّ سَوَاد
وَتَأَفْعَى في السِّرِّ عَلى إِيقَاعِ حَرَائِقِ
أَثْدَاءٍ عَصْمَاء
وَتَبَوَّأَ ثَانِيَةً عَرْشًا هُولَاكِيًّا فَوْقَ أَرَائِكِ
أَشْلاءٍ صَمَّاء

***

نَغَلٌ مُنْتَغِلٌ يَتَنَغَّلُ في مُنْتَغَلٍ
قَدْ ظَنَّ بِأنَّ اللهَ يَحِنُّ عَلَيْهِ تِبَاعًا،
أَوْ بِالأَحْرَى،
سَيَمُنُّ عَلَيْهِ، كَمَا مَنَّ عَلى الآبِ،
بِدَوْرَةِ حُكْمٍ أُخْرَى

***

هَلْ يَحْكُمُ هذا النَّغَلُ المُتَنَغِّلُ في الأَرْضِ رُكَامًا؟
أَمْ نَسِيَ الآنَ بِأَنَّ ذُؤَابَتَهُ، حتَّى قَبْلَ جُؤَابَتِهِ،
قَدْ صَارَتْ جُزْءًا لا يَتَجزَّأُ
مِنْ كَوْمِ رُكَام؟
أَمْ آنَ لَهُ أنْ يَدْفَعَ جِزْيةَ أَسْيَادٍ أنْغَالٍ جُدُدٍ تَتَكَاثَرُ
في يَوْمِ حُطَام؟

***

هَدَادَيْكِ، يَا قَطَرًا مِنْ نَدًى
هَدَادَيْكِ، مَا زِلْتُ أُرْهِفُ سَمْعِي إِلى الحُبِّ
صَنَّاجَةً وَصَدًى

/... في بِلادِ الشَّآمِ
طَوَاغِيتُ مَخْشُولَةُ الخَشْمِ قَدْ بَخَعَتْ «إِنْسَهَا» مَرَّةً،
لا لِشَيْءٍ،
سِوَى أَنَّ شَهْوَتَهَا الآدَمِيَّةَ قَدْ غَيَّرَتْ جِلْدَهَا مَرَّتَيْنْ:
حِينَ رَاءَتْ عَلى القُرْبِ مِنْ ظَهْرِ أَفْعَى الأفَاعِي،
وَحِينَ تَرَاءَتْ عَلى البُعْد مِنْ جَوْفِ دَبَّابَةٍ دَابَّةٍ
دُونَ مَنْزِلَةِ الحَيَوَانِ القَمِيءْ

/... في بِلادِ الشَّآمِ
طُغَاةٌ عُتَاةٌ ذَوَاتُ قُلُوبٍ كَما الصَّخْرُ،
لا بَلْ أَشَدُّ قَسَاءً مِنَ الصَّخْرِ،
إِنَّ مِنَ الصَّخْرِ، حَقًّا،
لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ نَمِيرُ الفُرَاتِ الجَمِيلِ بِطَلْعَتِهِ،
-أَوَتَذْكُرُ يَا مَرْكَزَ الكَوْنِ؟-
إِنَّ، كَذَلِكَ، مِنْهُ لَمَا يَنْحَنِي خَاشِيًا، خَاشِعًا،
خَاشِعًا لِنُزُولِ الْكِتَابِ الأَرِيبْ

/... في بِلادِ الشَّآمِ
جُنُودٌ عَبِيدٌ تَرُودُ رِيَادًا، كَمَا «الأُوتُومَاتُونُ»،
مَغْسُولَةَ الأَدْمِغَهْ،
إِذْ تُعَلِّقُ، في طَرْفَةِ المَوْتِ، لَحْمَ الحَوَاصِنِ
فَوْقَ مَطَالِعِ حَرْبِ البَسُوسِ الحَدِيثَةِ،
مِثْلَ قَرَابِينِ «فَالُوسْ»،
وَالذينَ، هُنَاكَ، يَعِيثُونَ في «الحِجْرِ» عَسْفًا،
وَعُهْرًا،
أُولَئِكَ قَدْ عَاهَدُوا اللهَ أَلَّا يُرِيقُوا الدِّمَاءَ مُطَهَّرَةً،
أَوْ مُظَهَّرَةً، فَأَقَرُّوا أَمَامَ الدِّيَارِ وَهُمْ يَشْهَدُون،
وَلَكِنَّهُمْ قَدْ أَرَاقُوا دِمَاءَ ذَوِيهِمْ، كَمَا المَاءُ فِيهِمْ،
يَذُودُونَ عَنْ نَاقِلاتِ الهَوَامِّ هَبَاءً،
وَحِنْثًا بِمِيثَاقِ أَنْفُسِهِمْ أَخْرَجُوهُمْ خُرُوجَ القَطِيعِ،
وَأَشْلاؤُهُمْ تَتَزَاحَمُ، في البَرْبَرِيَّةِ، خَلْفَ خُطَاهُمْ،
/....
فَلا وَقْتَ لِلدَّمْعِ حِينَ يَصِيرُ التُّرَابُ دَمًا، وَالدِّمَاءُ تُرَابًا،
وَلا وَقْتَ لِلدَّمْعِ حِينَ يَصِيرُ الهَوَاءُ دَمًا، وَالدِّمَاءُ هَوَاءً،
«وَلا وَقْتَ لِلدَّمْعِ، لِلدَّمْعِ، يَا أَيُّهَا العَرَبُ»
«وَحْدَهَا النَّارُ، في فُسْحَةِ التِّيهِ، تَنْتَحِبُ»
/...
فَإلَيْكُمْ، إِلَيْكُمْ، عَلى هَذِهِ الأَرْضِ جَنَّتَكُمْ،
وَادْخُلُوهَا إِذَنْ مِنْ مَدَاخِلَ مَطْرُوقَةٍ، مُتَفَرِّقَةٍ،
بَعْدَ قَصْفِ المَدَارِسِ طَبْعًا،
وَقَصْفِ «الأرَاجِيحِ» طَبْعًا،
وَقَصْفِ «التَّرَاغِيفِ» طَبْعًا،
وَطُوبَى لَكُمْ في "انْتِصَارَاتِ" مَطْهَرِكُمْ،
ثُمَّ طُوبَى لَكُمْ في "شِعَارَاتِ" فِرْدَوْسِكُمْ،
وَإِلَيْهِمْ، إلَيْهِمْ، جَحِيمَ الحَيَاةْ

/... في بِلادِ الشَّآمِ
قُضَاةٌ جُنَاةٌ تَعُوسُ الظَّلامَ، كَمَا الدَّرْدَبِيسُ،
لِكَيْمَا تُحَرِّفَ،
في رُقْعَةِ الشَّطَرَنْجِ، زَعِيقَ الوَقَائعِ، جَاهِدَةً،
وَلِكَيْمَا تَظَلَّ عَلى فَشْخَةٍ مِنْ بُلَهْنِيَةِ العَيْشِ،
في وَضَحِ الجَهْرِ،
لَكِنَّهَا، مِنْ وَرَاءِ الكَوَالِيسِ، تَخْنُسُ خَنْسًا،
وَتَلْعَقُ، أَوْ تَتَقَضَّمُ، مِثْلَ صِغَارِ الجَرَاذِينِ،
حَتَّى مَسَامِيرَ أَحْذِيَةِ القَصْرِ، قَصْرِ الخِلافَةِ،
تَخْبُو، أَخِيرًا، مَدًى، وَمَدًى،
ثُمَّ تَصْئِي دَمًا، وَدَمًا، وَدَمًا،
وَالذينَ، هُنَالِكَ، يَسْتَأْجِرُونَ فُرَادَى البَنَادِقِ مُسْتَشْزَرَاتٍ،
أُولَئِكَ، في البَوْحِ، قَدْ يُفْلِحُون

***

حِينَ يَسْتَأْجِرُ المَرْءُ بَارُودَةً
قَدْ يُحَقِّقُ، بِالفِعْلِ، غَايَتَهُ مِنْ مَمَاتِ امْرِئٍ
إِذْ يَقُولُ المُغَنِّي:
«يَدُ اللهِ لَيْسَتْ بِجَانِبِهِ
أَوْ بِجَانِبِهَا بِالحَرِيّ»
بَيْدَ أَنَّ الذينَ، هُنَالِكَ، يَسْتَأْجِرُونَ عَوَاصِمَ «أَنْتَلِجَنْسْيَا»
وَيَسْتَوْلِدُونَ حَشَاهَا مِرَارًا
فَقَدْ يَنْتَهُونَ إِلى قَتْلِهِمْ فِكْرَةً جَادَّةً، صَادَّةً
أَوْ قَصَائِدَ مَأْهُولَةً بِالحَيَاةِ بِأَكْمَلِهَا
أَوْ شُعُوبًا بِأَكْمَلِهَا

***

آهِ يَا قَطَرًا مِنْ نَدَىْ
نَعْرِفُ الآنَ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ ضَيْمٍ عَدَاْ
نَعْرِفُ الآنَ
أَنَّ الذينَ رَمَوْا لامَ مَمْلَكَةِ اللهِ نَحْوَ الخَوَاءِ
رِجَالٌ وِجَالٌ يَقُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ قَادَةَ الدِّينِ
وَالدِّينُ –تَاللهِ، تَاللهِ– مِنْهُمْ بَرَاء
فَهَا هُمْ يَهِيمُونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
وَيَصْؤُونَ، يَصْؤُونَ عَنْ جَنَّةٍ في السَّمَاء
وَلكِنَّهُمْ، في خِضَابِ الحَقِيقَةِ،
يَسْتَذْئِبُونَ وَيَسْتَكْلِبُونَ عَلى جَنَّةِ الأَرْضِ
وَالأَرْضُ فِيهِمْ عُبُودِيَّةٌ شَاهِبَهْ

***

قَالَ طَيْرٌ مِنَ الشَّرْقِ في نَفْسِهِ،
ذَاتَ يَوْمٍ:
«وَهَا،... تُرْجُمَانُ الوَغَل
لَمْ يَعُدْ نَغَلٌ، في الخَلِيقَةِ،
يَجْرُؤُ حَتَّى عَلَى الزَّحْفِ
نَحْوَ رَفِيفِ حِتَارِ الدَّغَل
/...
فَلِكُلِّ زَمَانٍ شَدِيدٍ أُصُولِيَّةٌ لاهِبَهْ
وَلِكُلِّ زَمَانٍ شَرِيدٍ فُلُولِيَّةٌ جَاهِبَهْ
وَلِكُلِّ زَمَانٍ شَهِيدٍ بُطُولِيَّةٌ ذَاهِبَهْ»

*** *** ***

دبلن، فبراير (شباط) 2002

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني