الآخر الهامشي
سلمى بالحاج مبروك
تمهيد
يرتبط الآخر الهامشي ارتباطًا وثيقًا بعلاقة الغير ونظرة الآخر فهي
تراهن وتسائل مفاهيم الفردية والجسم الاجتماعي بالتناوب سواء تم ذلك
بالنفور منها أو الرفع من شأنها، و
تبرز ظاهرة الهامشية على أساس شكلين أساسيين، أولاً واقع الطبقات
الاجتماعية المغتربة منذ زمان بعيد عن المشاركة الواقعية في خيرات
وأنشطة المجتمع، إنها الهامشية الاجتماعية والاقتصادية التي تعود
جذورها إلى بنى الإنتاج والتنظيم الاقتصادي للمجتمع. والشكل الثاني
للهامشية يظهر من خلال رفض إرادي وجلي للاندماج في المجتمع الذي نلفظه:
إنها الهامشية الاجتماعية الثقافية[1].
ومهما تكن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تفرز ظاهرة
"الآخر الهامشي". فإن هذا الموضوع ظل من المسكوت عنه وهو ما يدفعنا
للتساؤل التالي: هل لأنه "هامشيٌّ" لم يهتمّ الباحثون في مجال العلوم
الاجتماعية والإنسانية بمسألة "الآخر الهامشي" أم أن هذا الآخر الهامشي
صار هامشيًا بفعل انصراف المنشغلين بالشأن الإنساني عن الاهتمام به
ومحاولة فهمه كظاهرة اجتماعية وإنسانية؟ ولعل ما يبرِّر تساؤلنا هذا هو
الندرة التي اعترضتنا في مستوى الدراسات والمراجع المخصصة لهذا المشكل
سيما أنه يعتبر حقلاً فتيًّا في مجال العلوم الإنتروبولوجية حتى أنه
كما أشار إلى ذلك
Antoine .S Bally:
لم تظهر عبارة "الإنسان الهامشي" إلا مع عالم الاجتماع روبار بارك (Park
Robert)
سنة 1928، حيث ظلت طويلاً مقتصرة على الاقتصاد، وبفضل نظرية "القيمة
التبادلية" أخذت مكانة في الأدب العلمي. في حين فضَّلت العلوم
الاجتماعية طويلاً مفاهيم أخرى من قبل الفقر، الأقلية، المنحرف
والمقصيِّ والمختلف عبارات متعددة تغطي بطريقة مختلطة ظواهر اجتماعية
واقتصادية وحتى مكانية[2]...
تتميز بالإقصاء والتهميش وكأن كل مجتمع ينتهي بطبعه إلى إنتاج مهمشيه
ومنبوذيه وغربائه. ففي كل زمان ومكان هناك أفراد يعيشون على هامش
المجتمع في مواجهة مع الرأي العام والثقافة الشعبية والتقاليد
الاجتماعية، فقد وضعوا بعيدًا وتمت إزاحتهم من الدائرة الاجتماعية لأن
حضورهم ينظر له على كونه تهديدًا للجسم الاجتماعي فعندها يمكن أن يتخذ
التهميش بعدًا تراجيديًا ويصير هذا الإنسان المبعد "آخرًا هامشيًا".
ولئن كانت الظاهرة موجودة بصفة دائمة، فإن طريقة الاستبعاد أو التهميش
لم تكن هي نفسها لأن القيم التي تستند إليها المجتمعات تختلف من مجتمع
إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، ففي قلب الجسم الاجتماعي توجد مراجعات
مستمرة لبديهيات وقيم المجتمع المتغيرة وفقًا لسياقات تاريخية وعلمية،
فالآراء المشتركة والقيم والمعايير ليست ثابتة بل مرتبطة ارتباطًا
وثيقًا بالصيرورة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإذا كان الشذوذ
الجنسي مثلاً وداخل المدينة اليونانية القديمة مسموحًا به بل ومتسامحين
معه فإنه في عصور أخرى قد وقع قمعه وتجريمه ومنعه. غير أن فعل التهميش
ليس دومًا إكراهًا اجتماعيًا بل قد يكون خيارًا حين يتعلق الأمر بشكل
من التمرد أو الهروب من الحياة الامتثالية المتطابقة مع قيم وقواعد
المجتمع. وهو ما يدفعنا لطرح الإشكاليات التالية: ما معنى الآخر
الهامشي، هل الهامشية عقاب أم خيار؟ وهل هو من يقرِّر الانسحاب والعزلة
الطوعية أم هو من يلفظه عالم القيم الاجتماعية وعالم الإنتاج
والاستهلاك خارج حدوده ويلقي به داخل عزلته المظلمة؟ لما نصرُّ على
رؤيتنا للآخر الهامشي بوصفه يمثل خطرًا وتهديدًا إذا كانوا لا يمثلون
سوى أقلية من الشعب؟ فكيف للكثرة أن تخشى الأقلية في مجتمعات ديمقراطية
من المفترض فيها أن تكون الفاعلية فيها للأغلبية لا للأقلية؟ أليس لهذا
لآخر الهامشي مكانة قيمية يتصدَّر بها وجاهة الحياة الاجتماعية ويساهم
من خلالها بإثراء قيم المجموعة سيما أنه حامل قيم وسلوكيات تختلف عما
هو سائد في المجتمع؟ وإلى أي حد يمكن لمجتمع ما أن يكون متسامحًا مع
اختلافاته؟ ثم إلى أي حد يمكن اعتبار تصنيف المجتمع لأفراده إلى أفراد
مركزيين وآخرين هامشيين مشروعًا قانونيًا وأخلاقيًا؟ هل من إمكانية
لفهم الآخر الهامشي وقبوله بدل من رمي حجارة الإدانة والتأثيم عليهم
دون ندم؟
في معنى الآخر الهامشي
الآخر الهامشي هو كل شخص ينسحب من المجموعة التي ينتمي إليها سواء بفعل
اختياره أم مجبرًا على ذلك. وعادة ما نتحدث عن الآخر الهامشي كشخص يعيش
على حافة المجتمع أو هامشه أو حتى خارجه، إذ إن الهامشي يمكن أن يكون
هامشيًا داخل المجتمع الذي يعيش فيه أو خارج حدود هذا المجتمع، فالعيش
على هامش المجتمع يمكن أن يشمل العيش بعيدًا مع أشباهه في شبه عزلة
مادية ومكانية وجغرافية أو بمعنى العيش خارج المعايير بمعنى رفض الخضوع
والامتثال لأخلاقيات وقوانين الحياة المشتركة والذي قد تنتج عنه عزلة
أخلاقية وثقافية وإيديولوجية، بل قد تشتدُّ هامشيته لتتحول إلى شكل من
العزلة النفسية القاسية ذلك الجانب المظلم من الوحدة، أن تكون دون
الآخرين عندما يكون هؤلاء الآخرون الذين يضيئون كل وعينا يقومون
باختزالنا إلى حدِّ التألم دون انقطاع عن القلق وطول الانتظار، فهو لا
يتصل سوى بغياب الآخرين ولا يستطيع العيش إلا كانتظار مؤلم لحضورهم.
غير أن ارتباط الآخر الهامشي بمجتمع ما تجعلنا نعتبر أن وقوع فعل
"التهميش" على "الآخر الهامشي" نسبي لأنه يخضع لخصائص ومعايير مؤسسة من
قبل المجتمع وأن هذه المعايير والخصائص تتغير كما تتغير خصائص الآخر
الهامشي، فنحن هامشيون مقارنة بمجموعة ما مؤسسة في حقبة ومكان ما وفي
علاقة بمرجعية ذات معايير اجتماعية وأخلاقية وذهنية، فهي تحيل إلى
محتوى وتعريفات مختلفة. فكيف نشأت ظاهرة الآخر الهامشي؟ وهل الهامشية
خيار أم عقاب؟
كيف نشأت ظاهرة الهامشية
مصطلح الهامشية، بمعنى الشخص الذي يعيش على هامش المجتمع، يتحدد كنتاج
للمجتمع ومدى استعداده للتسامح مع هذا الآخر الهامشي بحيث يصبح هذا
الأخير انعكاسًا مقلوبًا لهذا المجتمع، وهو ما يعطي انطباعًا أوليًا
سلبيًا عن ظاهرة التهميش التي ظهرت في القرن العشرين لتوضح مفهوم
"الطبقة الدنيا"، فهي ليست محايدة بل تحيل إلى دلالة سلبية، حيث في
عالم يتميز بالتعقيد والتناقض يصبح الضغط كبيرًا وثقيلاً إلى درجة عدم
الاحتمال لدى البعض ويجدون في رفض مبادئ وأساليب السلوك المفروضة من
قبل الحياة الاجتماعية وسيلة وحلاً للهروب من وطأة الحياة اليومية،
ولئن كانت الهامشية ليست نتيجة دومًا لاختيار حياة الهامش على المركز،
إذ يمكن أن يكون المجتمع هو القوة الطاردة والنابذة للآخر، فإن ما
يوحِّد بين الهامشية القسرية والهامشية الاختيارية هو الشعور بعدم
الفهم والرفض المتبادل بين الكائن والمجموعة، بما ينجر عنه تعامل فظٌّ
من قبل المجتمع قد يصل إلى تهميش الآخر جسديًا وإثنيًا وعرقيًا وجنسيًا
وذهنيًا ودينيًا بطرق تتراوح بين الطرد والنفي والشفقة أو اللامبالاة.
لكن الأهم في كل ذلك أن مفهوم "الآخر الهامشي" أو "الإنسان الهامشي" لم
يظهر إلى حيز الوجود كظاهرة اجتماعية إلا سنة 1928 كما أشرنا سابقًا مع
Park
في مقاله المعنون
Human Migration and the marginal Man
[3]
حيث اهتم بارك بسؤال الانتماء الثنائي للفرد المهاجر من جهة لمحيطه
الثقافي ومجتمعه الأصلي ومن جهة أخرى انتساب هذا الفرد إلى محيط ثقافة
ومجتمع الاستقبال الجديد، حيث حاول أن يفهم ما يحدث من حميمية داخل
الشخصية التي تعيش مثل هذه الوضعية ذات الانتماء المزدوج منطلقًا من
ملاحظة ظواهر الهجرة التي لا تطرح مشاكل ديمغرافية وجغرافية فحسب ولكن
أيضًا مشاكل ثقافية ونفسية، حيث تمثل ظاهرة "الهجرة" هنا حسب رأيه
عاملاً أساسيًا لتطور الثقافات، إذ يثبت تاريخيًا أن كل تقدم في ثقافة
ما يبدأ بفترة هجرة، ولكن ما هو جديد بالنسبة للعصر الراهن أن حركية
الأفراد بصدد النمو في حين الهجرة الجماعية للشعوب تنخفض بصورة ملموسة،
ينشأ عن هذا التصور المزدوج حسب بارك تكوُّن نموذج جديد للشخصية يحدده
روبار بارك بـ "الإنسان الهامشي"، فالمهاجر الذي اختار الابتعاد عن
مجتمعه الأصل أو الذي تمَّ إبعاده دون أن يكون قد اندمج فعليًا وبعمق
في مجتمعه الجديد يبدأ أكثر فأكثر عزلة ويجد نفسه في مواجهة ثقافتين.
فما هي النتائج المترتبة عن هذا الوضع الهامشي الذي يعيشه الفرد داخل
مجتمع ما؟
من الأكيد أن مثل هذا الوضع الذي يعيشه الإنسان الواقف على شفا ثقافتين
متناقضتين هو استحالة التماثل التام والممتلئ مع إحدى الثقافتين أو
كليهما التي ينتمي إليهما ومن المفروض المشاركة فيهما. إنه فرد قد
أجبره المصير على العيش داخل مجتمعين وثقافتين ليس فقط مختلفتين بل
متضادتين وحتى يمكن أن تكون عدوتين تعكس في روحه الاختلافات والتنافر
والانجذاب في نفس الوقت لهذا العالم وهو ما يؤدي إلى نوع من القلق ووضع
قاس وحاد يدخل الاضطراب الأخلاقي والنفسي لأن الآخر الهامشي يعيش في
نفس الوقت في عالمين إلى حدٍّ ما؛ غريب بما هو "شخص لا ينتمي وليس
جزءًا من المجتمع الذي يختار المكوث فيه". هذا فيما يتعلق بالآخر
الهامشي الذي هو يكون نتاجًا لظاهرة الهجرة التي ركزت عليها مدرسة
شيكاغو الاجتماعية، غير أن الآخر الهامشي لا تنتجه ظواهر الهجرة فقط بل
توجد عوامل أخرى لا تتأتى بفعل الانتقال الجغرافي من مكان إلى آخر، بل
توجد نماذج أخرى مختلفة من الآخر الهامشي قد تختلف من زمن إلى آخر ومن
مجتمع إلى آخر متكونة من أناس يعيشون على هامش المجتمع ونذكر على سبيل
المثال: المتشردون والمتسولون ومن لا مأوى لهم، فهم "صعاليك" غلاظ حسب
تصنيف المجتمع لهم على الرغم من أن لهم حقوق اجتماعية ومدنية وسياسية.
كما أن في العصور الوسطى أعتبر آخر هامشي المرضى (مثل مرض البرص)
والمعوقين والمتورطين في مهن غير شريفة (مثل ممارسة مهنة البغاء)، وحتى
الأقليات من مختلف الإثنيات مثل اليهود والهراطقة. فهل أن الآخر هامشي
هو من يقرِّر طواعية الانسحاب والعزلة من المجتمع أم أنه من يلفظه
المجتمع خارج حدوده ويدبِّر له مكيدة الإقامة على هوامش المدينة
الاجتماعية؟
الآخر الهامشي: بين تراجيديا الانصياع للهامشية وإرادة الاختيار لها
إذا كان الآخر الهامشي هو نتاج لمنظومة اقتصادية واجتماعية وحتى
سياسية، وأن هذه المنظومات هي التي تلقي به خارج أسوار الانتماء إلى
المجموعة حسب سلم المعايير التي الذي اختارته لنفسها ذلك أن المجتمع هو
الذي يحدد منظومة قيمه ويلزم أفراده بالانصياع لسلطتها، فإن انزياح
الفرد عن نظام المجموعة يلقي به في دائرة الآخر الهامشي ويفرض عليه
المجتمع نظرة دونية متلبسة بالاحتقار تجبره على الانطواء والانكماش على
ذاته، حيث يتحول التهميش إلى فعل قسري. فما معنى أن يكون الآخر الهامشي
خارج دائرة المركز؟
الهامشية القسرية أو الآخر خارج دائرة المركز
إن الآخر الهامشي المتموقع ضمن نظام اقتصادي واجتماعي محدد قد يجد نفسه
خارج النسق الاجتماعي دون أن يكون راغبًا في ذلك حيث يلفظه عالم
الإنتاج خارج حدوده سواء كان هذا الإنتاج اقتصاديًا أو رمزيًا ثقافيًا
يتجلى في شكل المنظومة القيمية والرمزية والثقافية لمجتمع ما، وهذا
النفي والتهميش يمكن أن يكون نفيًا من النسق الاجتماعي أو نفيًا داخل
النسق الاجتماعي، فبما أن كل مجتمع يفترض معايير خاصة به، فإنه في
اللحظة التي يقرر فيها فرد ما عدم التوافق هذه المعايير أو رفضها
وتعطيلها، فإنه يصبح في تصور المجتمع الذي ينتمي إليه كهامشي، ويتخذ
"عقاب التهميش" أبعادًا مختلفة، وهو ما يدفعنا للتساؤل عن الطريقة التي
يتبعها المجتمع تجاه الخارجين والمتمردين على سلطة معاييره؟
1. الوحدة (la
solitude):
يعيش الآخر الهامشي حالة من الوحدة وتعني الوحدة "وضعية موضوعية تتمثل
في خاصية الشخص المنفصل عقليًا وجسديًا عن أشباهه"[4]،
يكون الانفصال جسديًا حين تمنع عناصر بيئية الفرد على أن يكون في تواصل
مع الآخرين، وعقليًا عندما لا يتواصل الأول (أي الفرد) مع الثاني (أي
الآخرين) حتى في حالة حضوره. نظرًا لأن الوحدة حالة موضوعية فإن
الوضعية التي يوجد فيها الشخص وحيدًا هي "محايدة"، هذا يعني أن الوحدة
لا هي مؤلمة ولا هي جيدة في ذاتها. هذا يعني أن الوحدة لا هي بالخير
المحض ولا هي بالشر المحض، ولكن يمكن أن تجعلنا سعداء أو تعساء حسب
الطريقة التي تعاش بها. إنها في بعض الأحيان مطلوبة لأنها تسمح للفرد
أن يستعيد حياته الخاصة والحميمية وتوازنه النفسي. إنها يمكن أيضًا أن
توفر لحظات من الإثارة الشديدة في أنشطة مثل التفكير والتأمل في حين
أنه عندما تكون الوحدة مفروضة بدل أن تكون مرغوبة فيها، فإنها تخلق
شعورًا بالوحدة وانطباعًا بالهجر والتخلي أو اليأس. أما الشكل الثاني
الذي يتجلى فيه الآخر كهامشي فهو من حيث هو ذات مغتربة، فماذا نعني
بالاغتراب؟
2. الاغتراب
l’aliénation:
استعار كارل ماركس مفهوم الاغتراب من الفلسفة الهيغلية وأدخله في علم
الاجتماع، واستعمل هذا المفهوم من قبل العديد من الكتاب الذين أعطوه
دلالات كثيرة. هذا المفهوم له معنى مشترك بالنسبة لأغلبية المفكرين
الذين استعملوه بمعنى فكرة الخارجية (l’idée
d’une extériorité)
بمعنى المسافة بين الكائنات الإنسانية والأشياء. والخارجية يمكن أن
تأخذ شكلين: بمعنى الفصل بين الكائنات والأشياء أو بمعنى سلب الكائنات.
الشكل الأول هي الوحدة لأن الفرد الذي هو مفصول عن أشباهه هو ضرورة
وحيد. لكن هذا النموذج من الاغتراب مرتبط بالآخر. الكائن المسلوب عن
ذاته، كما بينه ماركس، يصبح غريبًا سواء بالنسبة لشخصه الخاص أو
بالنسبة للآخرين.
بالإضافة إلى ذلك يعكس مفهوم الاغتراب في نفس الوقت حالة موضوعية
ومشاعر تلهم الوضع الحالي. هذه الفكرة تمَّ توسيعها من قبل الاجتماعيين
المعاصرين الذين يستعملون مفهوم الاغتراب. يعتبر الفرد الهامشي بالنسبة
لهم معزول اجتماعيًا أو هو الذي يشعر أنه وحيد سيكون مغتربًا بما أنه
مفصول ومنقطع عن أشباهه. وهو ما يعني أن سوسيولوجيا الاغتراب هي
سوسيولوجيا الوحدة. غير أن الآخر الهامشي يمكن أن تصل وحدته إلى حد
العزلة الاجتماعية حيث يفقد اتصالاته وعلاقاته الاجتماعية الحميمية
التي هي أساسية بالنسبة للكان البشري. فما المقصود بالعزلة الاجتماعية؟
3. العزلة الاجتماعية
l’isolement social:
يصف مفهوم العزلة الاجتماعية الحالة الموضوعية التي يوجد فيها من تم
فصله عن محيطه وعن المجتمع. فالعزلة الاجتماعية هي إذن شكل آخر من
الهامشية والوحدة والاغتراب. إضافة إلى ذلك فإن هذه الظاهرة لها أبعاد
كمية ونوعية. كمية في علاقة بحجم العلاقات الاجتماعية التي يملكها
الناس البالغون أو لعدد الأدوار التي يلعبونها في محيطهم. ونوعية من
حيث الشخص المعزول الذي تنقصه العلاقات التي تسمح له بالتفتح وإعطاء
صورة إيجابية عن ذاته. هذا النوع من العزلة التي تصيب الآخر الهامشي
تعزى في الغالب إلى شعور الوحدة. حيث ينتاب الفرد شعور بالألم
وبالحرمان من العلاقات الاجتماعية.
حسب
Weiss
يوجد نموذجان للشعور بالوحدة: واحدة نتيجة للعزلة الاجتماعية وأخرى
متأتية من العزلة العاطفية. الشعور الأول مثبت عندما لا يكون الشخص
ملتزمًا داخل شبكة اجتماعية ثرية وديناميكية لتلبي احتياجاته العاطفية
والاجتماعية. والشعور الثاني يظهر عندما لا يكون الفرد في ارتباط وثيق
بأشباهه[5].
لا شك أن الآخر الهامشي حين يفرض عليه مجتمعه هذه الأنواع المختلفة من
التهميش والإقصاء والنفي والاستلاب والوحدة والعزلة فذلك يعود في
الأساس لكون هذا الآخر يرفض التأقلم مع منظومة المعايير التي يكونها
المجتمع لنفسه سواء المملاة من قبل القوانين أو سواء كانت نتيجة توافق
المجتمع حول مجموعة من المعتقدات والأحكام المسبقة حيث تمنحها القوانين
مصادقتها الشكلية وحيث يتم نقلها إلى الأطفال بفعل التربية منذ الطفولة
لتساعده على التواصل مع الآخرين وتطمح إلى الحد من نرجسيته وحريته
اللامحدودة بطريقة تجعل هذه الحرية قابلة للحياة ويصير هو مقبولاً من
قبل المجموعة التي ينتمي إليها، من هنا نفهم شدة العقاب المسلط على كل
ذات تبيح لنفسها التمرد على قيم ومعايير المجتمع التي تؤدي كما رأينا
سابقًا إلى تهميش الفرد والنظر إليه نظرة جحيمية تسلبه انتماءه
للمجموعة بما أن فعل تقييم السلوك داخل المجتمع يتم بالعودة إلى سلوك
الأغلبية حيث يصير ليس "الإنسان بصيغته الذاتية المفردة مقياس الأشياء"
كما حددها بريتاغوراس بل المجموعة والمجتمع وما يحمله من عادات
وسلوكيات ومعتقدات هي المقياس والمرجع (مع الملاحظة هنا أن القيم تختلف
عن المعايير فالأولى تتموضع على صعيد العقل الخاص أما المعايير فتتموضع
على صعيد العقل العمومي فهي نتيجة توافق اجتماعي تمتلك صبغة إلزامية
قهرية وبالرغم من كونها لا يمكن فصلها عن النسق القيمي للمجتمع فإنها
متقدمة عليه من حيث التوافق الاجتماعي).
بالتأكيد أن الرأي المشترك متكون بالضرورة من القيم فنحن معًا لأن لنا
تصور معين للخير والشر والقبح والجمال. في حين يكون مجتمع ما نرسيسيًا
حين يستمد تصوراته هذه للجمال والخير من نخبته ومن أعضائه الأكثر قوة
وسلطة وما هو قبيح وشرٌّ ممن يمثل حالة فشل وعذاب، من يقود عملية
اختراق ضد القوانين، من يضع موضع خطر رفاهية وعيش المجتمع، ومن هنا فإن
الآخر الهامشي هو بالضرورة إلى جانب الشر الذي يمكن أن يأخذ دلالة
أخلاقية أو استعارة بمعنى المرض فكل شخص مناهض للمعايير الاجتماعية أو
يعيش خارج المجتمع يُنظر إليه ليس كهامشي فقط بل كمريض مؤقت أو أبدي.
يتعلق الأمر بلفظ المجتمع عضوًا غير أهل للحياة الاجتماعية الصارمة.
أثار ميشال فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة مسألةَ علاج
المجرمين على مر العصور، التي كانت تقوم على مشهدية العقاب المادي
ومسرحته بحضور جمهور اجتماعي غفير إلى نوع من العقاب الروحي اللامرئي
تختفي وراء جدران السجون الحديدية الصامتة حيث تتم إعادة إنتاج وبث
الانضباطية الاجتماعية ممن تتم إدانته من قبل المؤسسة الاجتماعية حيث
يقول فوكو:
إن السجن والاعتقال والأشغال الشاقة والمؤبدة ومنع الإقامة والإبعاد –
والتي احتلت مكانة هامة في الأنظمة الجزائية الحديثة – تشكل بالتأكيد
عقوبات جسدية... فالجسد بموجب هذا النوع من العقاب، إنما يؤخذ ضمن نظام
من الإكراه ومن الحرمان ومن الالتزامات المحظورة[6].
*** *** ***