الغشتالت علم نفس وعلاج

 

نبيل سلامة

 

مقدمة:

على الرغم من كل الإنجازات العظيمة لمدرسة التحليل النفسي إلا أنها اعترفت على لسان مؤسسها زيغموند فرويد بأن مصير الكائن الإنساني هو البؤس والشقاء، ورغم أن مؤسِّسها "فرويد" قام بتعديلات لعدة أمور تتعلق بنظرية التحليل النفسي ونظرتها الفلسفية فقام بمجهود مشكور عليه، ولكن مآله كان ينحو غالبًا نحو إحباط الكائن الإنساني وقد تجلى هذا الأمر في مؤلفه ما فوق مبدأ اللذة!

وقد وصف فريديريك بيرلز فرويد بأنه ذلك الشخص الذي يجمع في ذاته (القديس والشيطان والعبقري)، ونعته بأنه أديسون علم نفس بسبب إماطته اللثام عما يسمى اللاوعي الفردي، وآلية الدفاع "الكبت" من قِبَل "الأنا العليا"، حيث أن "الهو" أو "الإد" (منبع الغرائز) يسعى لإشباع غرائزه التي يقف لها بالمرصاد "الأنا الأعلى" حيث يكبت الأخير الغرائز وفقًا لمبدأ الواقع، مما يفاقم وضع الإنسان النفسي فتبدأ أعراضه العصابية بالظهور، ويمكن اكتشاف الكبت من خلال زلات اللسان والأحلام وغيرها.

يركز الفرويديون على ذكريات الطفولة وما يصرح حولها المريض في تحليل حالته والعمل على معالجتها. ولكن مدرسة التحليل النفسي بالغت في إعطاء الدافع الجنسي، الليبيدو، كل الأهمية، وفي أن كبته يقف وراء ظهور الأعراض العصابية فيما بعد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فما اعتمده التحليل النفسي في العملية العلاجية القائمة على التحليل هو اللغة التي يعبر من خلالها المريض عن ذكرياته في طفولته حيث تكمن الحوادث الرضية ذات الطبيعة الانفعالية، والمكبوتات، وجذور عقدة الأوديب التي اعتبرها فرويد نواة كل عصاب نفسي يظهر في أفق الكائن الإنساني في لحظة ما أثناء نموه نحو النضج فيقع في الفخ أو المأزق وينفجر العصاب الذي يغير من مسار تطوره بالكامل ويبدأ القدر بضرباته الموجعة في محاولات العصابي أن يفلت من قبضة العصاب الفولاذية التي لا ترحم.

إذن، وعلى أثر ظهور التحليل النفسي كمدرسة علاجية حكمت مسبقًا أن مصير الكائن الإنساني هو البؤس والشقاء عوضًا عن الشفاء والسعادة اللذين يجب أن يكونا الهدف الأخير من وجود مدرسة وعلاج وفلسفة تتناول الوجود الإنساني، كان لابد من ظهور ردود فعل كبيرة على مستوى علم النفس، فظهر أولاً تلميذ فرويد الأثير عند معلمه والذي كان يتوقع منه أن يكون خليفته في زعامة مدرسته التي أسسها في التحليل النفسي وانتشرت في العالم، وأصبح معترفًا بها كمرجعية علمية لها مصداقيتها العالمية، وأضحى لها مؤتمراتها السنوية وإلى ما هنالك؛ كارل غوستاف يونغ.

ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ انشق هذا التلميذ عن معلمه الذي غضب منه كثيرًا، ووصفه بأنه يعاني عقدة قتل الأب، وبالطبع الأب هنا هو زيغموند أي الأب الروحي لتلميذه، وحصلت أخيرًا القطيعة بينهما، مما دفع يونغ إلى تأسيس مدرسة جديدة على غرار مدرسة معلمه الأول فأسماها مدرسة علم النفس التحليلي أو علم النفس المركب، وأعطى الليبيدو الذي أوعز المعلم الأول أنه أساس كل شيء في الحياة النفسية للإنسان، واقتصر هذا الليبيدو أو هذه الطاقة كما أسلفنا الذكر على الدافع الجنسي، [أعطاه] مفهومًا أوسع فاعتبره الطاقة النفسية ككل، والتي يشكل الدافع الجنسي أحد تجلياتها، وركز هذا الأخير على دور الحياة الروحية عند الإنسان، وأن أحد أهم أسباب العصاب النفسي عند الإنسان الحديث هو القطيعة مع حياته الروحية الداخلية!

ثم أتى العالم الكبير "إيريك فروم" وهنا بدأت علوم النفس بتكوين نفسها من جديد لكي تصل بالكائن الإنساني إلى النضج والتكامل النفسي والحرية الداخلية، وبالتالي السعي للوصول بهذا الكائن عبر معاناته إلى مرفأ الشفاء والسعادة وذلك من خلال معرفته لنفسه، والعمل على تطويرها. فأسمى علمه بـ "العلم النفس الإنسانوي" أو ما أطلق عليه البعض "الفرويدية الجديدة". بعد إيريك فروم توالت مدارس العلاج النفسي ومدارس علوم النفس ذات الطابع الإنساني كالسيكولوجيا الإنسانية، وزعماؤها، ومن إحدى هذه المدارس ظهر زعيم جديد هو فيلهلم رايش، وعالم كبير آخر قضى في تحليل نفسه على يد فيلهلم رايش نحو الخمس سنوات ألا وهو العالم الكبير فريديريك بيرلز مؤسس العلاج الغشتالتي موضوع بحثنا هذا. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن فريديريك بيرلز كان بوذا علم النفس كما سوف نرى في سياق هذا البحث.

فريديريك بيرلز

وُلِدَ بيرلز Perls في الثامن من تموز عام 1903 في حي يهودي من برلين في ألمانيا وخلال شبابه اهتم كثيرًا بالمسرح الذي لعب فيما بعد دورًا كبيرًا في مدرسته العلاجية من خلال تقنية الكرسي الفارغ، حيث كل كرسي يمثل حالة ما يمر بها المريض، فالمريض يبدأ بالحوار انطلاقًا من الحالة التي يمر بها مع فريديريك الذي يوجه له أسئلة تهدف إلى بلوغ المريض الـ awerness أي اليقظة. كما أنه لجأ في مدرسته العلاجية إلى إقامة ورشات عمل تهدف إلى العلاج من خلال الأحلام، فنظريته حول الأحلام كانت تتلخص في أن الحلم بكل جزئياته يمثل الحالم نفسه لا أكثر ولا أقل... وهكذا من خلال ورشة العمل كان يتعامل مع كل شخص يروي حلمه إلى دفعه من خلال هذا الحلم إلى الـ awerness.

لكي لا نبتعد عن فحوى هذه الفقرة، نعود إلى سيرة بيرلز Perls. إذن، عند بلوغه الحادية والعشرين من عمره دخل إلى كلية الطب في جامعة برلين حيث تخرج منها عام 1920 مع اهتمامات بالطب النفسي العصبي المجال الذي بدأ العمل فيه. وفي عام 1926 أجرى تحليلاً نفسيًا لذاته على يدي كارن هورين Karen Horney، وانتقل إلى فرانكفورت Frankfurt حيث كانت لديه الفرصة للعمل كمساعد لـ كورت غولدشتاين Kurt Goldstein الذي كان يدرس الظواهر السلوكية لمن يعانون من أذيات دماغية انطلاقًا من تصورات ما سوف نقوم بدراسته على أنه علم نفس الغشتالت. وشاءت الأقدار أن يتعرف هناك على الفتاة التي أصبحت زوجته لاورا في اللغة اللاتينية ولاورا في الجرمانية Laura من عائلة بوسنر Posner، وهي خريجة تحليل نفسي وعالمة نفس متخرجة أيضًا فيما كان يُعرَف آنذاك بعلم نفس الغتشتالت Gestalt. وعند عودتهما إلى برلين بدأ بيرلز بتحليل نفسي عميق لذاته على يدي فيلهلم رايش في نفس الوقت الذي كان يدرس فيه التحليل النفسي.

في عام 1935 هرب بيرلز من ألمانيا إلى أفريقيا الجنوبية، وبعد ذلك بسنة سافر إلى تشيكوسلوفاكيا بصدد المشاركة في المؤتمر الدولي للتحليل النفسي وفي جعبته دراسة قام بها حول ما أسماه بالمقاومات الفموية. ومنذ ذلك الحين بدأ الخلاف يدب بينه وبين مدرسة التحليل النفسي.

في عام 1942 طبع بيرلز كتابه الشهير "الأنا، والجوع، والعدائية"، وكان هذا كتابه الأول الذي يحوي أفكاره حول المقاومات الفموية وبذور العلاج النفسي الغشتالتي الذي يُعدُّ بيرلز مؤسسه بلا منازع. وضمَّن كتابه هذا تقنية "العلاج بالتركيز" أو ما أسماه علم نفس التركيز.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية هاجر مع زوجته لاورا إلى الولايات المتحدة (وكان بيرلز قد بلغ الثالثة والخمسين من العمر) واستقرا في نيويورك. وهناك كونا فريق عمل مشترك كان أبرز من فيه بول غودمان Paul Goodman الذي كان شاعرًا وناقدًا أدبيًا ومفكرًا فوضويًا anarquista ساهم بإظهار العمل الكبير إلى النور وهو مؤلَّف كبير يتضمن أسس العلاج الغشتالتي من تأليف فريديريك بيرلز وبول غودمان ورالف هفرلاين Ralph Hefeline في عام 1951. وبناء عليه أسس بيرلز وزوجته لاورا المعهد الغشتالتي لنيويورك Gestalt Institute of New York مفتتحًا على هذا النحو البداية لنشر منهج العلاج النفسي الغشتالتي في الولايات المتحدة الأميركية الذي بلغ ذروته نحو عام 1968 مع حركة "الثقافة المضادة"، ولاحقًا من خلال حلقات دراسية قدمها بيرلز نفسه. وهكذا انتشر العلاج الغشتالتي في العالم بأسره. والآن فلنأت إلى تقديم فكرة حول ماهية الغشتالت ومعناها.

معنى كلمة غشتالت

Gestalt كلمة ألمانية تُكتَب بالحروف المائلة كونها كلمة غريبة عن اللغات الأجنبية الأخرى، أي أننا لا نجد لها مرادفًا في هذه اللغات. تأتي هذه الكلمة من كلمة Gestalten ويمكن ترجمتها على نحو "منح هيئة" أو "إعطاء بنية ذات معنى" وهكذا نستطيع تفسير كلمة غشتالت Gestalt على أنها "كل مُنظَّم"، أو "بنية ذات معنى"، أو "كلانية" فحسب، وأيضًا "إعطاء هيئة"، أو "تشكُّل"... الخ.

علم نفس الغشتالت

لاشك أن الإرهاصات الأولى لهذا العلم تعود إلى بداية القرن العشرين على أثر تجارب، في علوم عدة، أخذت تنضج في مفهوم لا يوجد إلا في اللغة الألمانية حيث كانت تجري هذه التجارب. والحق أن هذه التجارب طالت علومًا كالفيزياء، والفيزيولوجيا، والفلسفة، وعلم النفس.... هذه العلوم التي تشكل ركائز ودعامات ما سُمِّي فيما بعد بعلم نفس الغشتالت.

أما الفلسفتان الأساسيتان اللتان اعتمدهما هذا العلم فهما الفلسفة الوجودية والفينومينولوجيا أي علم الظاهراتية الذي يدرس الظاهرة في حد ذاتها ما هي وكيف. ولا يهمه الـ "لماذا؟" وإنما يهمه الظاهرة نفسها.

إذن ظهرت نظرية الغشتالت في بدايات القرن العشرين في ألمانيا، وكما ذكرنا في المقدمة أعلاه فإن السبب كان في قصور علم نفس العناصر الذي أدى إلى المطالبة بعلم نفس الوحدات الكلية، وعلم نفس بنية الوعي التي أهملها التحليل النفسي. وهكذا نشأت هذه الحركة من حيث تجانسها أو من حيث أهمية إسهامها التجريبي، ونعني تلك التي تسمى في ألمانيا بمدرسة برلين، هذه التي اشتهرت بأسماء فرتهايمر وكوهلر وكوفكا وليفين...

كيف يتشكل الغشتالت

من الجدير بالذكر أن هناك غشتالتات للزمن لأن الزمن هو حيز الحدث قبل وأثناء لحظة الاتصال أي لحظة الحدث، ثم الحدث في حد ذاته، ثم انتهاء الحدث ثم ما بعد الحدث. هكذا يكون الغشتالت قد تكوَّن ولعل إغلاقه أي إتمامه هو أحد أهم قوانين الغشتالت.

وبما أنني تطرقت لغشتالت الزمن فمن الجدير بالذكر لإيضاح الفكرة أكثر أن مؤسسي العلاج الغشتالتي رسَّخوا وصفًا قريبًا جدًا لما أسماه هوسرل Hussrel، مؤسس علم الظاهراتية أي الفينيومينولوجيا، انسياب معايشتنا الحميمية للزمن.

فالماضي جوهريًا هو ما ليس قابلاً للتغير أما المعلوم غير المتغير فهو يذوب في احتمالات كثيرة ويُنظَر إليه على أنه إمكانية، وبقدر ما يستمر التركيز فهذه الإمكانيات يُعاد تحويلها في شكل جديد ينبعث من قاع الإمكانية نفسها، سوف نأتي على شرح تفصيلي لأهمية مصطلحي "الشكل والقاع" في علم نفس الغشتالت والعلاج الغشتالتي.

وعلى هذا النحو فالمستقبل هو توجيه السياق اعتبارًا من إمكانيات كثيرة نحو شكل جديد.

أما حدود الاتصال بين الذات والآخر، بين العضوية والمحيط فهي تنعكس هنا في الحدود بين الماضي والمستقبل أي الحاضر القابل للتحول، فهذه هي حدود الاتصال، أي حدود الحدث. وهو ما يسميه بيرلز وهيفرلاين وغودمان بـ "الآن هنا". فما قبل الاتصال ليس أكثر من استعداد مُسبَق لمعايشاتنا السابقة كقاع اعتيادي مفتوح لأفعالنا الحالية.

بالتالي فالاتصال النهائي هو أيضًا لحظة انفتاح إلى تجربة جديدة، وبالتالي الانتقال من غشتالت إلى آخر، الأمر الذي يتطلب استرخاء وذوبانًا وانحلالاً لغشتالت سابق يتم تمثله كقاع من أجل تجارب اتصال جديدة مع الواقع.

ولعل علم البرمجة اللغوية العصبية منبثق من هنا رغم أنها تختلف تمامًا من حيث ابتعاد علم نفس الغشتالت عن إعطاء الأهمية للغة، ففي علم البرمجة اللغوية العصبية يتم التركيز على اللغة كطريقة للإيحاء. ولكن ما نريد الإشارة إليه هو أن هذا العلم قد أخذ عن الغشتالت مفهومه بالعلاج بخط الزمن!

سوف أتعاطى قليلاً هنا مع العلاج بخط الزمن وفق مفهوم البرمجة اللغوية العصبية لأهمية مفهوم الزمن في كلا العلمين: العلاج بخط الزمن والعلاج الغشتالتي. سوف أشير باختصار إلى بعض الملاحظات فمثلاً في المشرق يقولون: "سوف آتي بعد الظهر (بعد الظهر يمتد من الظهر حتى المغرب... أي أربع ساعات تقريبًا). وفي أوروبا يكون الموعد بالدقائق... فلماذا هذا الفرق في التعامل مع الزمن؟ الفرق هو أن غالبية الشرقيين يفكرون "في الزمن"، وغالبية الغربيين يفكرون "خلال الزمن".

والحقيقة أن مؤسسي البرمجة اللغوية العصبية قد أدركوا ماهية الغشتالت الزمني، وبالتالي ابتكروا العلاج بخط الزمن حيث يوجد خط زمن خاص لكل واحد منا،

... وأثبتت التجارب أنه وبواسطة الخبير بهذه التقنية يمكنه تغيير خط الزمن للشخص أو المستفيد كأن يغير في طوله أو زاويته أو اتجاهه... وبالتالي يمكنه إضاءة أي جزء من خط الزمن أو إضافة الألوان الزاهية إليه... فالجزء الذي يمثل المستقبل يمكن غمره بالصور والأضواء الجميلة. وهكذا فباستخدام خط الزمن يمكن تغيير الماضي والحاضر والمستقبل، فعلى سبيل المثال الشخص الذي يرتبط ارتباطًا كبيرًا بالماضي... ويكرر دائمًا أخطاء الماضي... من الأفضل له أن يغير ماضيه على خط زمنه، وذلك بأن يزيد أو يُنقِص منه ما يشاء. وأخيرًا يتوصل إلى تصميم خط الزمن الذي يريده.

لن أخوض في تفاصيل هذا الموضوع كي لا أبتعد عن الهدف الأساسي من ذكر علاقة الزمن بعلم نفس الغشتالت ومفهوم الغشتالت والعلاج الغشتالتي الذي يشكل عموده الفقري توصل المريض إلى أن يعايش "الآن هنا"، هذه المعايشة التي تحمل الشفاء النفسي والروحي لا بل والاستنارة أيضًا وفق المفهوم البوذي للكلمة.

نعود إلى موضوع فقرتنا الأساسي أي تشكل الغشتالت. فقد تحدثنا ما فيه الكفاية عن علاقته بمفهوم الزمن. والآن فلنتخذ مثالاً حيًا:

ماريانا Mariana تعمل أثناء النهار، وتدرس في المساء. وغالبًا ما تبدأ عملها في الساعة الثامنة صباحًا وتصل إلى المنزل في الساعة الحادية عشرة والنصف مساء. واليوم هي قلقة خصوصًا لأنه يتعين عليها حضور اجتماع في السابعة والنصف صباحًا. بيد أن درسها ينتهي باكرًا بنصف ساعة أبكر، فتصل إلى المنزل في الساعة الحادية عشرة مساءً. وعند وصولها إلى المنزل تجد زوجها وهو يُغلِق سمَّاعة الهاتف. ويقول لها: "زوجتي لقد وصلتِ أبكر اليوم". وعند مرورها إلى جانب سماعة الهاتف تجد قطعة ورقية كُتِبَ عليها روبرتا Roberta وإلى جانب اسمها رقم هاتفها.

هناك تحولات شخصية في استمرارية الحكاية. وهذا ما يهمنا من وجهة رؤية نظرية الغشتالت:

لدينا هنا عنصران مختلفان حاضران في الحكاية كما لو أنهما عنصر واحد، فعند وصول ماريانا Mariana ترى زوجها يغلق سماعة الهاتف، وترى القطعة الورقية المدون عليها اسم روبرتا ورقم هاتف إلى جانبه... بشكل آلي يجتمع الحدثان، ويشكلان كلانية. فالمكالمة الهاتفية التي انتهت لتوها، هي بالضرورة على علاقة بذلك الرقم وذلك الاسم.

يمكن فهم الأمر بشكل مختلف من حيث أن الزوج أراد أن يهيئ مفاجأة لزوجته عند وصولها فقرر قبل نصف ساعة من موعدها المعتاد أن يتصل بمطعم للوجبات السريعة حيث تعمل روبرتا Roberta، وبالتالي فرقم الهاتف ليس بالضرورة رقمها هي وليس بالضرورة أن زوجها يخونها، فالرقم قد يكون هو هاتف المطعم حيث ترد على الهاتف روبرتا، ولكن حصل إحباط للزوج عند وصول زوجته أبكر بنصف ساعة مما أبطل المفاجأة التي يحضرها لها... وهناك عدة رؤى مغايرة لما يمكن أن تتصوره ماريانا بأن زوجها على علاقة مع روبرتا يستغل غيابها لإقامتها...

وهكذا نجد في الحقيقة أن معظم الحكايات أو الأحداث تنزع إلى توحيد عنصرين معًا عوضًا عن فصلهما. لماذا؟ لكي نفهم هذه الحالة بمقدورنا الاستنجاد بمفهوم "الكلانية" أو "بنية الوعي" وفقًا لنظرية الغشتالت. وبالتالي فمن المقدمات الأساسية لنظرية "الغشتالت" تؤكد بأن هناك نزعة بنيوية لإدراك الأحداث ككلانيات وليس كأجزاء منفصلة. فبالنسبة للغشتالت "الكلانية" هي أعظم دائمًا من مجموع الأجزاء. وتُدرَك بطريقة مميزة عن مجموع سمات عناصرها المنعزلة مثل ذرة الماء التي هي اجتماع ذرتين من الهيدروجين مع ذرة من الأوكسجين.

بناء على ذلك، ظهرت في العلاج الغشتالتي انعطافة صوب التجربة غير اللغوية، وفتح السبيل لمنهج عضوي تمامًا لعلنا نرى شيئًا منه في موضوع دراستنا القادمة بعنوان "المنهج الحيوي الطاقي".

ومن الجدير بالذكر

أن محدد العلاج الغشتالتي إنما هو بنية الوعي في حد ذاتها التي أهملها فرويد، والتي تتمظهر على نحو غشتالتي كما سبق وذكرنا. فالوعي يشكل إن تم فهمه جيدًا ظاهرة نشيطة تتحرك لبناء كليات منتظمَة ذات معنى (غشتاليات) بين العضوية ومحيطها. والغشتاليات أنماط تتضمن كل هياكل الوظيفة العضوية من فكر وشعور وانفعالية وفاعلية. ولا يكون العصاب تبعًا لذلك سوى انقسام غير طبيعي في تشكل الغشتاليات، كالمثال المذكور آنفاً في حالة ماريانا Mariana.

وبالتالي يعتقد بيرلز أن الجمود والانحراف صوب اللغوي يزيد الانقسام العصابي بين الفكر والشعور. ومما يزيد الانقسام المذكور محاولة المعالج إرجاع المريض إلى الماضي، ودفعه خارج الموقف العلاجي الراهن، مما يجعل مهمة المعالج تسيء إلى العلاج، ويستدعي إبدالها العمل على زيادة الوعي "للآن وهنا" كما سبق وذكرنا أنها تقود إلى ما تسميه البوذية باستنارة الوعي. فعلى العلاج أن يعمل على السماح للعضوية في تحقيق إمكاناتها التي يحملها الموقف الراهن، أي لتسهيل تكون الغشتاليات. فالوعي النشيط للحاضر هو ما يولد الشفاء.

لعل القارئ يستوقفني هنا، ويقول لي:

لقد أضعتنا، فأنت تقول من جهة تسهيل تكون الغشتاليات يساعد في عملية الشفاء، ومن جهة أخرى تقول لنا أن أحد أسباب العصاب هو تكون "غشتالت" على النحو الذي تم ذكره في حالة ماريانا Mariana.

حسناً، صديقي القارئ، فلنسم "العصاب" هنا من المفهوم الغشتالتي أنه "حالة لم يتم إنجازها" أي "حالة ظلت غير منجزة" أي أنه غشتالت مفتوح إن صح التعبير. وأحد أهم قوانين الغشتالت هو انغلاقه أي إتمام الحدث.

إذن فالغشتالت بنية للوعي لم يكتمل ولم يحقق انغلاقه في حالة العصاب. فهذا الوعي والحدث لم ينته فقد ظل مفتوحًا على عدة احتمالات تدخل منها شياطين العصاب. وهذا ما يسميه التحليل النفسي بالحالة الرضية. وأشرنا إليه بشكل أو بآخر في حديثنا عن علاقة مفهوم الزمن أيضًا بالغشتالت من جهة، وبالعصاب النفسي من جهة أخرى.

ويشير من جهته الدكتور دانا أولمن في مؤلفه اكتشف الطب التجانسي طب القرن الحادي والعشرين إلى

أن بعض مبادئ العلاج بحسب مدرسة "الغشتالت" في علم النفس، هي الأخر تجانسية إلى حد بعيد. وكما يدل الاسم Gestalt (ومعناه الكل الموحد) فإن العلاج بطريقة الغشتالت، هو في النظر إلى مشكلة محددة في سياق المريض ككل موحد. إذ بدلاً من علاج المشكلة، وكأنها خارجية ومنفصلة عن المريض والعمل على مجرد تغييرها، يعمد المعالجون من هذه المدرسة (والمعالجون من مختلف المدارس الفكرية المشابهة لها أيضًا) إلى تشجيع مرضاهم لكي يعززوا وعيهم لذواتهم ككل، وإلى تغيير كينونتهم. وعلى سبيل المثال، إذا كان المرء يعاني من مشكلة جنسية، فإن المعالج بطريقة "غشتالت"، مثله مثل الطبيب التجانسي، لن يفهم المشكلة كـ "مشكلة جنسية" فقط، ولكن كـ "مشكلة الشخص ككل".

خصائص الغشتالت

إن الميلوديا (أي اللحن) تتألف من أصوات موسيقية، والشكل من خطوط ونقط. ولكن لكل من هذين المركبين "وحدة" و"فردانية". ولكن إدراكنا لها يتم على نحو كلي أي "غشتالتي" فنحن لا ندرك نغمة "دو" أو "ري" أو "مي"... وإنما ندرك اللحن ككل، وكذلك الشكل فنحن لا ندرك النقطة هنا، والخط المستقيم هناك، والخط المنحني أمامنا، وكل لون على حدة، وإنما ندرك اللوحة ككل أي "غشتالت" فالميلوديا والشكل هما غشتالتان.

نظرية الغشتالت

الوقائع النفسية غشتالتات، بمعنى أنها وحدات عضوية تتفرد وتتحد ضمن الحقل المكاني والزماني للإدراك أو التمثل". فنظرية الغشتالت تبدأ من الغشتالتات أو البنيات بوصفها معطيات أولى. إنها لا تعترف بمادة خالية من الصيغة. وكل صيغة هي دالة متغيرات متعددة، وليست حاصل جمع عناصر متعددة كما ذكرنا في الأمثلة أعلاه كالماء على سبيل المثال.

ومن الجدير بالذكر أن الحياة العقلية تبرز في أحضان الحياة الفيزيولوجية وتضرب بجذورها في الكائن العضوي. إن الإدراك والتفكير يرتبطان كلاهما بالوظائف العصبية والانتظام الذي يدرسه عالم النفس ينبغي تقريبه من الانتظام الذي يدرسه عالم الفيزيولوجيا. وبالتالي فثمة هناك موازاة بين غشتالتات فسيولوجية ونفسية تتميز باتفاق في البنية.

في الغشتالتات الفيزيولوجية يستجيب العضو ككل كما ذكرنا آنفًا في استشهادنا بالدكتور دانا أولمن. ومن الجدير بالذكر أن هناك صلة بين المفاهيم الثلاثة للغشتالت الفيزيائية والفيزيولوجية والسيكولوجية وصولاً لغشتالتات الإدراك.

الشكل والقاع (الأرضية أو خلفية الشكل)

لا يمكن أن يوجد شيء ندركه إلا بالنسبة إلى "قاع"، وهذا القول ينطبق على الأشياء المرئية وأيضًا المسموعة، فالصوت الموسيقي له قاع من الضجيج أو السكينة، كما يتميز الشيء المرئي فوق قاع مضيء أو مظلم. والقاع شأنه شأن الشيء يمكن أن يتكون من مثيرات معقدة وغير متجانسة، فإني أرى شخصاً فوق قاع يتكون موضوعياً من الحائط والأثاث واللوحات الفنية... الخ.

ونستطيع أن نتساءل ما إن كان التمييز ما بين الشكل والقاع لا يناظر التمييز ما بين الموضوع الواضح للانتباه والمنطقة الهامشية الغائمة التي تحيط به.

إذن يشكل مفهوم "الشكل والقاع" في العلاج الغشتالتي موقعًا هامًا خصوصًا فيما يتعلق بتشكل العصاب الذي قلنا آنفًا أنه حدث غير منجز، أو غشتالت غير منغلق. وبالتالي ثمة مشكلة في الاتصال مع الواقع. فما قبل الاتصال أو الحدث يشكل الجسد "القاع" ورغبته الناجمة عن مثيرات الوسط المحيط هي الشكل. ولكن كبت الرغبة يشكل قاعًا، حيث هذا القاع يخلق شكلاً من العادة التي تصبح فيزيولوجيا ثانية للجسد. وفي هذه الفيزيولوجيا الثانية يتم فقدان الأنا لوظائفها وتهيمن الحالة العصابية كشكل على قاع من الكبت وتجنب الاتصال بالواقع أي الحدث.

لتبسيط موضوع "الشكل والقاع" وهو علم في حد ذاته يطال علومًا أخرى، نستطيع القول إن الشكل أو الصورة هي كل ما ينبعث من القاع ويميزها. ويحتل الشكل الفاعلية الأساسية في العضوية. فالقاع يمثل حضوره كواقع مستمر يحيط بالشكل أو الصورة ويمنحها حدودًا. ولكن الصورة تظل على علاقة بالقاع الذي يمنحها وجودها وتفسيرها.

وهناك الأشكال غير الطبيعية وهي ناجمة عن أحداث رضية وحالات من دون معنى بالنسبة للشخص. أو أنها تجسد مهمة تم فرضها على الشخص قادته إلى تصرفات صلبة وآلية.

مفهوم الذات

يمكن فهم "الذات" في العلاج الغشتالتي بطريقتين، في الطريقة الأولى، يُنظَر إلى "الذات" على أنها منظومة من الاتصالات أي الأحداث مع الخارج والداخل، مع الآخر والأنا، مع الكل والجزء... الخ. وبناء على ذلك فهي بنية علائقية، ويمكن استيعابها في الطريقة الثانية على أنها بنية غير متغيرة (ظاهريًا) لديها أساسها الأونطولوجي السابق للاتصال أي للحدث.

من المنظور الأول يمكن الملاحظة أن استيعابًا كهذا يعني أننا نوجِد أنفسَنا اعتبارًا من الاتصالات التي نقوم بها. فنحن إذن الاتصالات التي نقوم بها. فالذات من هذا المنظور لها علاقة بتشكيل وتدمير الغشتالتات أو الصور. فهي على علاقة بما ينبعث حينما يكون الاتصال مرسخًا. "فهي سياق تكويني في تغير مستمر...".

وكما ذكرنا أن الغشتالت كعلم نفس وعلاج يعتمد على الفلسفة الوجودية والفلسفة الإنسانية، وهنا نضطر لاستيعاب مفهوم الذات في نظرية الغشتالت الاستعانة بالفيلسوف الكبير مارتن بوبر وفلسفته الجدلية بالأنا والأنت، ووفقًا لهذا الفيلسوف العظيم الشخص يتجدد عندما يكون في علاقة، فـ"الأنا لا يوجد في ذاته" لأن "الأنا" لاحق للعلاقة، واعتبارًا من هذه العلاقة يُحدِّد "الأنا" وجوده الخاص به. ولكن في سياق نظرية الغشتالت "الأنا" هو إحدى وظائف "الذات".

وعند هذه النقطة نستطيع أن نتطرق إلى وجهة النظر الثانية حيث يمكن النظر إلى "الذات" على أنها "قاع"، والمركز الذي تنبعث منه الأشكال المختلفة للاتصال.

الذات منظومة مركزية، داخلية كما لو أنها العمود الفقري، فهي مجمل ذلك الذي نصيره على امتداد الحياة... معنى الأشياء، ونحن أنفسنا نصدر منه.

الذات هي جوهر أبعد من الوجود، وهي "قاع" أيضًا أبعد من الشكل. ولديها بنية دائمة تقريبًا، وباعتبار أنها عمق فهي تسبق الاتصال ذات مرة نولد معها. توجد نواة، جوهر يظل كمركز يعطي وحدة، واستمرارية ومعنى للوجود التي بالرغم من كونها بنيوية فهي غير متغيرة.

ومع ذلك فهي ديناميكية، وتوجد حركة كثيفة في فضائها الداخلي، تفاعل مستمر بين الأجزاء، وجدلية مستمرة بين الأقطاب، تُنتِج توازنًا واستقرارًا مؤقتًا فقط.

يمكننا النظر إليها من منظور "القاع والشكل" على نحو عكسي، فهي "شكل" (الوضع الأول) وهي "قاع" (الوضع الثاني). وهكذا فهي أيضًا غشتالت.

ومن وجهة النظر العضوية، فالذات هي كلانية عضوية ذات طبيعة نفسانية وفردانية في البعد الجوهري والوجودي، بنيوية، وذات منظومة اتصالات (أحداث)، واعية ولا واعية.

إذن، نعود إلى ارتباط مفهوم الغشتالت ونعتبر الذات هي غشتالت أولي ويمكن تمييزها بمصطلحات "القاع والشكل" حيث أن الذات باعتبارها بنية فهي تتماهى مع "القاع"، وجزؤها الأكثر تجريبيًا وسطحيًا يتمايز عن "القاع" وينبعث على أنه "الأنا الحقيقي" الجانب المرئي من الذات. ذكرت "الأنا الحقيقي" لتمييزها عن الـ ego الأنا الذي هو هنا إحدى وظائف الذات والذي هو أساس آليات الدفاع العصابية وفقًا لما شرحه بيرلز بإسهاب ليسنا هنا في صدد بحثها.

نتيجة

إذن، أول شيء يمكن أخذه بعين الاعتبار هو أن العضوية تعمل دائمًا على أنها كلٌّ. وبالتالي لا نستطيع أن ندرس الكبد أو الأعضاء الأخرى بمعزل عن العضوية ككل، وهكذا نصل للجانب الإيكولوجي من الذات لا يمكننا فصل العضوية عن الوسط المحيط بها.

مفهوم الخلاء

ثمة خشية من الفراغ، ثمة خشية مما هو موجود، ولذلك نعمل ونسعى دائمًا لملء الفراغ حيث يكمن مستقبلنا الحقيقي، وعوضًا عن تحقيق هذا المستقبل، هذا الجديد، هذا التطور... الخ، فإننا نخاف منه لأنه يحوي أيضًا "المجهول". إذن نستعيض عن ذلك بالتأمينات الاجتماعية ومشاريع تمنحنا الشعور بالأمان والمكانة الاجتماعية... الخ. وكل ذلك لكي نتجنب مواجهة الخلاء، المجهول، المستقبل الذي ينتظرنا.

ولكن من الجدير إدراكه أن هذه الحياة التي نحقق فيها شعورًا ما بالأمان هي أكثر خطورة بكثير من أن نحيا على نحو خطر دائمًا، وأن نجازف في مغامرة النمو والخوض في المجهول.

لعل القارئ سوف يسألني ما علاقة "الخلاء" وما نتحدث عنه بموضوعنا الأساسي "الغتشتالت"؟

حسنًا، إن فريدريك بيرلز في علاجه الغشتالتي تتراءى له عدة طبقات تتموضع فوق الذات، ويتموضع فيها الوعي الإنساني قبل أن يعود إلى مركزه في "الذات". والطبقة الأولى أو مجازًا ما نقول عنه بـ"القناع" فهي ما تحويه من أداء، أي أن الفرد هنا يؤدي دورًا ما، فهو ممثل يمثل على نفسه وعلى الآخرين لكي يخفي صراعه الوجودي أو عصابه النفسي.

الطبقة التي تقع خلف القناع هي ما يسميه بيرلز "اللاشيء" أي "الخلاء". وعندما نقول "لاشيء" فثمة هنا "ثقب"، "فراغ"، أمر ما كالموت. وعندما يقول الشرقي "لاشيء" فهو يرمي من خلال قوله هذا إلى أنه ليس هناك أي شيء، ما من أشياء، وإنما فقط سياق، حدث ما، فاللاشيء لا يوجد بالنسبة لنا بالمعنى الضيق للكلمة لأنه يقوم على إدراك اللاشيء. وإذا كان هناك ثمة إدراك للاشيء فهذا يعني أن هناك ثمة شيء ما. ولكن عندما نقبل ما هو موجود أي اللاشيء فإننا ندخل في ذلك اللاشيء، في الخلاء، ووقتذاك نكتشف أن صحراءنا الداخلية بدأت بالإزهار. فالفراغ العقيم يصبح الفراغ الخصب. وفراغ الفراغ يكسب حياة ويمتلئ. وأشعر أنني لستُ شيئًا وإنما فقط ممتلئ باللاشيء، اللاشيء هو الواقع.

بوذية الزن والطاوية في العلاج الغشتالتي

يقول بوذا في قصيدة مشهورة:

لا تركضون وراء الماضي، ولا تسعون إلى المستقبل، فالماضي قد مضى، والمستقبل لما يأت بعد، ولكن إرصد بوضوح هذه اللحظة، ذلك الموجود الآن، وإذاك سوف تكتشف وتعايش حالة من العقل الصامت والساكن.

على هذا النحو نستطيع إدراك فكرة "الآن وهنا" في العلاج الغشتالتي المرتبطة بالفكرة البوذية في أن تكون حاضرًا، حيث في الحاضر فقط نوجد بالواقع، ونستطيع بلوغ الاستنارة. يعلِّم الزن أن اليقظة (ساتوري) هي النتيجة النهائية من الترقب المنتبه الذي يجب أن يكون سهرًا أو مراقبة للاشيء أي من دون موضوع. فليس هناك شيء للانتظار كما ذكرنا في الفقرة السابقة.

إذن، تقترب هذه الفكرة كثيرًا من المفهوم الغشتالتي للـ awareness أي اليقظة، فالـ awareness يحدث عندما نترك الطاقة تنساب، وعدم مواجهة أي ممانعة أو مقاومة لها. وبعبارة أخرى عندما نستسلم للموجود. ولكي يحصل هذا علينا أن نفهم جيدًا اللاشيء، الفراغ.

بالنسبة للزن، فإن هذه الحالة من الخلاء ذات أهمية أساسية، وههنا تكمن الحقيقة، فالفراغ الخصب هو تلك اللحظة القصوى من التخلي والاستسلام للموجود.

أما الطاوية، فالطاو يعني الطريق، ويعني أيضًا الكل. وبالتالي فالطاوية على علاقة حميمة مع المفهوم الغشتالتي، فكل شيء هو تجلي للطاو. وهذا الأخير هو كلانية مكونة من قطبين: الين واليانغ. وهما متكاملان، ومتعلقان الواحد بالآخر. فثمة انسياب طبيعي بين هذين القطبين، وتوازن ديناميكي لأن كل قطب يحوي شيئًا من نقيضه.

لقد أعطى الحكيم الكبير لاوتزو الاسم العابر "الطاو" للقوة الكونية الأصلية التي تعني شيئًا ما مثل "الطريق" كما ذكرنا آنفًا، وبالتالي يوحي بحركة الكائنات ومجريات الأحداث من خلال الزمن والفراغ، والطاو يطور ذاته بذاته، وينظم ذاته، ويتحول على نحو ما من دون توقف. وهو أساس الأشياء كلها في السماء والأرض.

للختام

العلاج الغشتالتي هو فلسفة تحاول أن تضع في تناغم بالتوافق مع الكل، مع الطب، ومع العلم، ومع الكون، ومع ذلك الموجود.

وهكذا نُبطِل نظرية الغريزة كلها ونتخذ بعين الاعتبار العضوية ببساطة كمنظومة تكون في توازن عندما تعمل على نحو لائق. وهكذا فالعضوية تتمتع بالتنظيم الذاتي.

ومن الأهمية بمكان في العلاج الغشتالتي هو اكتساب الوعي في ذاته وللذات نفسها الأمر الذي يقود إلى الشفاء الداخلي لأنه مع اكتساب الوعي الكامل، فالكائن الإنساني يحقق الانتظام الذاتي العضوي، ويستطيع أن يترك العضوية تقود ذاتها من دون تدخل، ومن دون انقطاعات أو توقفات، ويمكننا الثقة بحكمة عضويتنا بأكملها.

ثمة حاجز بين الوعي واللاوعي، وفي اللاوعي تكمن القدرة غير المستخدمة، فإذا ما توصلنا إلى التخلص من هذا الحاجز، فبوسعنا إذاك أن نكون أنفسنا كما نحن، وعلى هذا النحو تغتني شخصيتنا بموارد اللاوعي اللامتناهية وتتحرر بادئ ذي بدء الأجزاء المكبوتة والمقموعة من شخصيتنا.

وهكذا فالعضوية تنمو، ويظهر العصاب عندما يطرأ اضطراب على نمو الكائن الإنساني، ومن البديهي أن النمو يهدف إلى بلوغ النضج، الأمر الذي يعني عدم التبعية للآخرين والاستقلال الذاتي والتكامل والتكافل مع الآخرين ومع الطبيعة. ويكتشف الكائن الإنساني أن بمقدوره فعل الكثير وأكثر مما يظن بوسعه أن يفعل. وفي سياق النضج يتحول دعم الوسط المحيط للكائن الإنساني إلى الدعم الذاتي أيضًا فيتحرر من تبعيته للوسط المحيط.

والأمر الأكثر أهمية هو عودة المرء إلى مركزه الطبيعي "الذات" فمن دون مركز كل شيء يذهب إلى المحيط، وليس هناك مركز تنطلق منه أفعالنا. فالتمركز إذن يعني التجذر في الذات نفسها. وهذه هي حالة الإنسان الأكثر رقيًا التي يمكن للكائن الإنساني أن يبلغها.

*** *** ***

المراجع

-        علم نفس الغشتالت، تأليف: بول جييوم، ترجمة: د. صلاح مخيمر.

-        Clinica da neurose na Gestalt – terapia, Marcos josé Muller Granzoto

-        رحلة عبر البرمجة اللغوية العصبية، ترجمة وإعداد: المهندس أيمن خلف

-        موقع إلكتروني

-        دليل العلاج النفسي، تأليف: د. ميخائيل إبراهيم أسعد.

-        اكتشف الطب التجانسي، تأليف: دانا أولمن، إعداد: د. يوسف البدر.

-        SAUDE E DOENCA EM GESTALT TERAPIA, WALDIR BEZERRA MIRANDA

-        GESTALT – TERAPIA EXPLICADA, FREDERICK S.PERLS

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني