مذبحة الأرمن: «داعش» وأسلافها

 

بطرس الحلاق

 

من ديار بكر إلى الموصل فالرقة وفلسطين، أو بالعكس، لا يزال المنطق نفسه يتحكم بنا، مهما تعددت وجوهه. منطق يقول بالوحدانية المطلقة: وحدانية القومية الضيقة، وحدانية هوية أسطورية مسندة إلى وعد إلهي، وحدانية تأويل أسطوري لعصر ذهبي خلاصي، وحدانية شهوة الاستئثار بالخيرات. منطق يتماشى على مستوى ما مع عقلانية حداثية منفكة من عقالها.

في مثل هذه السنة وهذا الشهر من القرن الماضي، أقدمت حكومة «تركيا الفتاة»، بدافع قومية شوفينية، على مجزرة ضد مواطنيها من الأرمن، أودت بحياة أكثر من مليون نسمة. مجزرة لا تزال الحكومة التركية تكابر في نفيها، ولا تزال دول «العالم الديموقراطي» تراوغ في فرضها. مجزرة استكملها «المستنير العلماني» كمال أتاتورك، حين أقدم على تطهير عرقي شامل أدى إلى طرد ملايين عدة من غير الأتراك المسلمين من ديارهم الأصيلة: ثلاثة ملايين من الأرثوذكس الناطقين أيضًا باليونانية، مئات الآلاف من الأقليات الآشورية والسريانية والكلدانية والمسيحيين العرب فضلاً عن بقايا الأرمن. ترافق ذلك مع الاستيلاء على أراض سورية تقع على امتداد سفح جبال طورس الجنوبي كانت حتى في عهد الدولة العثمانية التابعة لولاية حلب. وتمَّ ذلك بمباركة «الحلفاء» حين عمدوا، بهدف فصل تركيا عن حليفتها التاريخية ألمانيا لاستمالتها إلى جانبهم في صراعاتهم المقبلة، إلى تعديل قرارات «معاهدة سيفر» 1920، المنبثقة عن «مؤتمر فرساي» إثر الحرب العالمية الأولى، وفق رغبات أتاتورك في معاهدة لوزان 1923. وكانت آخر منطقة «مطهرة» لواء الاسكندرون وأنطاكية التي أهدتها فرنسا للدولة التركية قبيل الحرب العالمية الثانية. وتشير الوثائق التاريخية إلى أن هذا التطهير استمر حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فشمل اليهود أيضًا. فأصبحت تركيا صافية العرق والدين، إلا من الأكراد الذين ساهموا في عملية التطهير، إلى أن انقلبت الدولة ضدهم. يمكن التأكد من ذلك بالرجوع إلى الوثائق التاريخية التي تتكاثر في هذه الأيام، وبعضها بقلم مفكرين أتراك تجاوزوا حدود الخوف (راجع مثلاً العدد الأخير من «لوموند دبلوماتيك»).

ولا بد من الإشارة إلى مصير مئات الآلاف من الأرمن الذين نجوا بأنفسهم باعتناق الإسلام وتغيير أسمائهم بحيث غاب تاريخهم عن ذريتهم على مدى عقود. عرف هؤلاء بلقب «بقايا السيف»، وعاشوا منبوذين من جيرانهم الأتراك المسلمين ومستبعدين من المناصب الرسمية. وقد نشرت في الفترة الأخيرة شهادات الأحفاد عن أجدادهم، وعن سعيهم الأليم إلى معرفة هويتهم ونسبهم (راجع سلسلة فيديوات تنشرها جريدة «مديبارت» الإلكترونية بمناسبة مئوية المذبحة).

تلك الوحدانية القومية العرقية، التي أدَّت إلى أول تطهير عرقي في تاريخ المنطقة الحديث، شرَّعت الأبواب لسلسلة طويلة ليست «داعش» إلا آخر حلقة من حلقاتها. في هذه السلسلة يندرج التطهير العرقي الجاري في فلسطين منذ 1948، على يد الوحدانية اليهودية الصهيونية ضد العرب بأديانهم كافة وضد من لجأ إلى فلسطين من بقايا مذبحة الأرمن. تمت هذه الحلقة أيضًا بتواطؤ مفضوح من دول «العالم الديموقراطي». أما الحلقة التالية فتلت الحروب الأميركية والغربية على العراق. لم تنجم عن وحدانية دينية أو عرقية، بل عن وحدانية سلطوية دفعت السياسة الغربية إلى تفكيك أوصال العراق، وفق خطة معلنة مسبقًا، إلى دويلات سنيَّة وشيعية وكردية، ما أدى عمليًا إلى استشراء إرهاب «القاعدة» الذي أفرغ بلاد ما بين النهرين العريقة بتعدديتها من أقلياتها الأخرى، من مسيحيين وصابئة ومندائيين وكاكائيين وايزيديين وبهائيين و... وما إن بزغ نجم «داعش» الخلاصي حتى امتد التطهير إلى الشمال السوري ومنه إلى مناطق نفوذ المعارضة السورية المسلحة في حلب وما يليها صوب تركيا، وفي منطقة الغاب وغوطة دمشق وحتى الجنوب السوري. لم يعر التحالف الغربي - العربي تلك العمليات التطهيرية أي اهتمام فعلي، بدليل أنه لم يسع حتى الآن إلا إلى صد «داعش» عن منابع النفط والمناطق الكردية بهدف دفعه إلى مواجهة نظام الأسد؛ وكذلك بدليل استمرار دعمه، المباشر أو عبر حلفائه العرب، للمعارضة المسلحة المنتمية إلى كوكبة «النصرة» وغيرها في أكثر من منطقة سورية.

هذه الوحدانية التطهيرية اقتلعت من جذورها ما تبقى من تعددية حضارية وبشرية ترعرعت على مدى خمسة آلاف سنة في حوض الرافدين وما جاوره إلى حدود النيل والهندوس (ما يسمى بالرقعة الآرامية البارثية)، حيث ظهرت أولى اكتشافات الإنسانية (المدينة والزراعة والأبجدية والدستور) مع آدابها وفلسفتها وتوحيدها، ومن تراثها نهلت الحضارة الإغريقية والعربية ثم الأوروبية في عصور النهضة. أنجزت هذه الوحدانية التطهيرية ما لم تنجزه الحروب الصليبية وحملات التتار. وفي واقع الأمر، استأنفت واستكملت مشروعًا حققته الدولة الإسلامية الأولى حين أخلت شبه الجزيرة العربية من غير المسلمين. فهل من عجب أن يتم لها ذلك في ظل الوهابية، رمز الوحدانية المطلق، التي منها استمدت نسغها الإيديولوجي حتى زاودت عليه، والتي إلى نفطها استسلمت سياسة غربية خرقاء تتحكم بها إرادة التفوق ليس إلا؟

إنه منعطف تاريخي قلَّ مثيله، شارك في صنعه شبيهان نقيضان: فكر غيبي عدمي، وحداثة تحولت من موقف إنسانوي إلى عقلانية إنتاج واستهلاك محورها التسلط، وإن أدى إلى تدمير الإنسان والبيئة. منعطف يبدو حتميًا بسبب القربى المخيفة بين الوحشين المتصارعين والمتداخلين في آن: العالم الداعشي ومعسكر الوهابية وحلفائه الحداثويين. ولن تكون هزيمة «داعش» إلا لمصلحة الوهابية، أقله في القريب المنظور. وهابية تخشى على عروشها فتفتعل حروبًا جديدة عفَّى عليها الدهر ترقى إلى الصراع السياسي الذي احتدم في القرن الأول من الهجرة بين معاوية وعلي. وهابية لا تزال تبسط سلطانها على العالمين العربي والإسلامي منذ هزيمة 1967، وليس في الأفق بديل لها اليوم. وأما العالم العربي بشعوبه وثقافته العريقة وحتى بلغته فيتأرجح على كفِّ عفريت... إلى أن يجف النفط أو يحدث المستحيل. عسى ألا يكون المستحيل مستحيلاً.

لا، ليست المجزرة الأرمنية التي نعف عن الخوض فيها مجزرة شعب بمفرده. إنها مسار يعصف بكل شعوب المنطقة ولن تسلم الإنسانية من شرِّه... بانتظار أن يشفى العالم المصنع من عقلانية شوهاء أنتجت تقدمًا علميًا مدهشًا، ما فتئ أن ارتد دمارًا على الإنسان والإنسانية!

*** *** ***

السفير، 2015-04-21، قضايا وآراء

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني