الصفحة التالية

المدرسة وأخواتُها 1

 

أديب الخوري

 

سوف أفتتح مدرسةً للحياة الدّاخليّة
وسأكتب على بابها: مدرسة الفنّ.
(ماكس جاكوب)

 

أتحدَّث عن المدرسة في ما يلي بوصفها كينونةً اعتباريَّةً ومؤسَّسةً مستقلَّة.

أعلم أنَّه لا بدَّ من التَّمييز على أرض الواقع بين مدرسةٍ خاصَّة وأخرى حكوميَّة، وأعلم أنَّ المدارس الخاصَّة غالبًا ما تتبع أيضًا إلى مؤسَّساتٍ أوسع منها. لا يغيبنَّ عنَّا كذلك أنَّ المدارس الخاصَّة نفسها تخضع على العموم لأحكامٍ وقوانين عليها أن تتقيَّد بها... يعني هذا في المحصِّلة أنَّ حدود عمل وقرارات إدارة مدرسةٍ ما تبقى مقيَّدةً بطريقةٍ أو بأخرى. وإذا بدا أنَّني أقفز فوق كلِّ هذه الاعتبارات في ما يلي من حديث، فذلك أنَّني أتحدَّث عن المنشود أكثر من الرَّاهن، وعن المدرسة – الطموح أكثر ممَّا عن المدرسة في الواقع. وإذا كان تحقيق المنشود منوطًا بالجميع، فإنَّ ما أقدِّمه هنا هو دعوةٌ للتفكُّر موجَّهة إلى كلِّ شخصٍ بحسب موقعه وإمكانيَّاته، بدءًا من الأهل ومرورًا بالإدارات وأصحاب المدارس [أو أصحاب المؤسَّسات التي تضمُّ المدرسة] وصعودًا إلى الذين بيدهم القرارات الاستراتيجية في التربية والتعليم، محلِّيًّا وعالميًّا.

تتَّجه أذهاننا على نحوٍ تلقائيٍّ إلى كلمة "المدرسة" في كلِّ مرَّة يُطرَح فيها موضوع التَّربية والتَّعليم. والحقُّ أنَّ المدرسة تشكِّل إحدى المؤسَّسات ذات الطبيعة الخاصَّة والفائقة الأهمية في حياة كلِّ إنسان، أو هذا ما يُفتَرَضُ أن يكون. إنَّها المكان الذي يقضي فيه كلُّ واحدٍ من أبنائنا اثنتي عشرة سنة تنتهي بتحديد وجهته في الحياة! بيد أنَّ بعض ما يمكن أن يُلحِق الضَّرر بالمدرسة وبوظيفتها، وما يحدث فعلاً بدرجة كبيرة، هو عزل المدرسة - بدرجةٍ أو بأخرى وخصوصًا جدًّا في بلدان العالم الثالث - عن بقيَّة المؤسَّسات (أو الأماكن أو المصادر الأخرى للتَّربية) وأعني بكلمة عزل هنا إهمال أو تغييب الرابط بين المدرسة وكلٍّ من: الأسرة – الرَّوضة أو الحضانة – مؤسَّسات التَّعليم الدِّينيِّ – النوادي والمعاهد على أنواعها (أندية لرياضات بدنيَّة مختلفة – معاهد فنون تشكيليَّة أو موسيقا أو رقص أو شطرنج، الخ..) – مكتبات عامَّة – الشَّارع – الإعلام – وسائل الاتصالات... وتكاد القائمة لا تنتهي.. فلوحات الإعلان في المدينة، وحتى جدران أبنيتها، يمكن أن تشكِّل جزءًا من مصادر التَّربية إن شئنا أيضًا.

يتحمَّل الطَّرفان، المدرسة من جهة، وكلُّ المؤسَّسات الأخرى المذكورة من جهة أخرى، مسؤولية هذا الفصل، ما يوجب على الجميع بناء جسور التَّواصل من جديد. على الأهل على سبيل المثال ألاَّ ينتظروا مبادرة المدرسة حتى تدعوهم إلى اجتماع أولياء أمور الطُّلاب، وعلى المدرسة من جهتها ألاَّ تهمل هذا الموضوع أيضًا، بل وأن تقوم بمبادراتٍ تؤمِّن التَّواصل المستمرَّ بينها وبين أولياء التَّلاميذ، وكذلك بين الأهالي فيما بينهم، وإحدى الوسائل البسيطة التي باتت تُستخدم من أجل هذا الغرض اليوم هي إنشاء صفحاتٍ على مواقع التواصل الاجتماعيِّ، ويبقى شكل وهدف هذه الصفحات وحدود مشاركة الأهل فيها وأشياء أخرى عديدة أمورًا يمكن، ويجب، الخوض في تفاصيلها.

يعكس الاهتمام بالتَّواصل اهتمامًا بالطفل نفسه وحرصًا على واجب كلٍّ من المدرسة والأهل تجاهه، وإذا كان الكثير من الأهل يحتاجون إلى قدرٍ أو آخر من التَّوعية والنصح والتثقيف حول هذا الأمر فإنَّ من المفترض والأقرب إلى المنطق والأولى كثيرًا ألاَّ يغيب هذا الواجب عن برامج أعمال المدارس، وعن وعي كوادرها التَّربويَّة من مدراء وموجِّهين ومعلِّمين.

لا شكَّ أنَّ كلَّ ما ذُكِر أعلاه، تحت عنوان مؤسَّسات أو مصادر التربية، لا يشمل جميع الأطفال. فهناك أطفالٌ لا يلعبون في الشَّارع ولكنهم يذهبون إلى نادٍ رياضيٍّ، وهناك أطفالٌ يلعبون في الشَّارع ولا يذهبون إلى النادي، وهناك أطفالٌ لا شارع لهم ولا نادٍ وهناك العكس أيضًا.

سنحاول في الصفحات التالية أن نلقي ضوءًا على الأثر الذي يمكن أن ينقله وجود التلميذ في كلٍّ من هذه الأماكن أو المؤسَّسات على المدرسة وبالعكس. نؤكِّد قبل ذلك، ومن حيث المبدأ، على أنَّ كلَّ نشاطٍ إضافيٍّ – ضمن حدود مقدرة، الطفل ولا سيَّما ما كان منطلقًا من رغبته – يغذِّي إمكانيات لتقدُّم الطفل في المجالات الأخرى ولا يكون، على الأغلب، على حسابها. على سبيل المثال، لا يُحسَب الوقت الذي يمضيه تلميذٌ في الصَّفِّ الخامس في تعلُّم العزف على آلة العود في معهدٍ موسيقيٍّ أو على يد مدرِّسٍ خاصٍّ وقتًا ضائعًا. بل ينعكس، من حيث المبدأ، إيجابيًّا على "مستواه الدراسي" وليس العكس.

أولادكم ليسوا لكم!

البيت هو بلا شكٍّ الحضانة الأولى. والأمُّ بشكل خاصٍّ هي المدرسة الأولى والمعلِّمة الأولى والملهِمة الأولى للطفل. وإذا قبلنا بما تقوله الكثير من المدارس التَّربوية عن الدَّور الحاسم الذي تؤثِّر به السنوات الأولى على كلِّ مستقبل الشخص، فإنَّنا نلامس مدى الأهمية العظيمة لدور العائلة عمومًا والأمِّ خصوصًا في عملية التَّعلُّم والتَّعليم على المدى الطويل.

شهيرةٌ مقولة جبران خليل جبران هذه: "أولادكم ليسوا لكم. إنَّهم أبناء وبنات الحياة.." وكما فعلت في مرَّةٍ سابقة، أحاول كرَّةً أخرى النَّظر في الحالات المتطرِّفة والمثيرة للجدل كي أصل إلى الاعتدال والوسط. يمكن فهم "أولادكم ليسوا لكم" على أنَّها دعوة إلى وضع حدودٍ لأنفسنا في علاقتنا مع أولادنا، وإلى احترامهم بوصفهم أشخاصًا ذوي استقلاليةٍ وكينونةٍ منفصلةٍ عنَّا، وفي العمق إلى النظر إلى العلاقة لا باعتبارها ملكيَّةً حصرية، بل نوعًا من المسؤوليَّة وضربًا من التَّكليف.

واقع الأمر أنَّ الكثير من الآباء والأمَّهات يميلون حقًّا، وعن غير وعيٍ بالتَّأكيد، إلى التَّعامل مع الطفل وكأنَّه طفلهم فعلاً، أي بالمعنى التَّملُّكيِّ للكلمة. ولو حاولنا التَّدقيق في ما يدور بين أبٍ أو أمٍّ وولدهما خلال نهار كامل لاكتشفنا أنَّ جميع الأهل، وما أندر الاستثناء، يكادون يقتصرون في الحديث مع أولادهم على الإنشاء دون الخبر[1].

يندر بين الأهل من يجد وقتًا أو يبحث عن مناسبة، أو يشعر بضرورة أن يخبر ولده عن حدثٍ طريف جرى معه في عمله مثلاً. إنَّ أحاديث الأهل مع الأبناء تتركَّز أكثر في مجال الإنشاء، وليتنا نستخدم كلَّ أساليب الإنشاء بل إنَّنا نكاد نحصر أنفسنا بين الأمر والنَّهي، وهما، مع كلِّ أسف، الصِّيغتان اللَّتان يغلب استخدامهما من جانب صاحب العمل مع العامل، أو من جانب المدير مع الموظَّف، أو من جانب "السَّيِّد" مع "العبد"!

قد يكون أفضل ما يمكن للأهل عمله على هذا الصَّعيد هو تدريب أنفسهم على مشاركة أطفالهم في بعض وقائع حياتهم، وبالتالي تدريب أنفسهم على استخدام أسلوب الخبر في بعض أحاديثهم مع أولادهم، وهو الأسلوب الذي يتكرَّر استخدامه في حديث صديقٍ لصديقه... وفي الدرجة الثَّانية، وعندما لا يكون هناك بدٌّ من الإنشاء، فيمكن أن يمرِّن الأهل أنفسهم أيضًا على استبدال صيغتَي الأمر والنَّهي، حين يمكن ذلك، بصيغٍ أخرى ولا سيَّما الاستفهام والسؤال. فبين: "تناوَلْ كوب الحليب"! وبين "هل تفضِّل الحليب ساخنًا أكثر، هل تريد معه شيئًا من الكعك"؟... يمكن على المدى الطويل، أن يبني الأهل نمط علاقةٍ أفضل مع ولدهم، ما يبدو أكثر وضوحًا عبر السَّنوات.

عودةٌ إلى مقولة جبران خليل جبران: هل نسيَ الأديب الكبير الجانب الآخر ربَّما؟ ألم يكن من المناسب أن يقول أيضًا: "وأنتم لستم لأولادكم"؟ وبتحديدٍ أكبر إلى الأمَّهات: "أنتنَّ لستنَّ لأولادكن"؟ نعم، أريد هنا أن أتحدَّث عن الأهل "المتفانين" إلى درجةِ نسيان أنفسهم، وخصوصًا عن الأمِّ المثاليَّة جدًّا، الحاضرة دومًا، المتواجدة في كلِّ لحظة، المنتبهة لكلِّ نفَسٍ من أنفاس طفلها، التي لا تنام كي تغطِّي ولدها في الليل.. سواء كان الجوُّ باردًا أو لا!! جرى خلال ندوةٍ عن التربية أن أُلقِيت كلمات عديدة حول الدور العظيم والهامِّ للأمِّ، ومضى المحاضرون والمحاضرات في تمجيدها والإشادة بحنانها وسهرها... إلى أن حان وقت المداخلات والأسئلة، فعلَّق شابٌّ من الحاضرين، متوجِّهًا إلى الأهل، بالعبارة الآتية: "لا تقتلونا بمحبَّتكم، لا تخنقونا بخوفكم علينا مثلاً. النَّبتة كي تزهر يجب أن تتعرَّض للعوامل الطبيعيَّة من ريحٍ ومطر.."[2].

فهذه الأمُّ أيضًا – الأمُّ الدجاجة كما يقول الفرنسيُّون – التي تحيط أولادها بجناحيها، تجازف من حيث لا تدري بأن يبقى طفلها أسيرًا لها كلَّ حياته. يمكن أن يودي هذا الأمر، وفي بعض الحالات المتطرِّفة إلى رجالٍ يستنكفون عن الزَّواج، أو رجالٍ لا يتمكَّنون من إقامة علاقةٍ جنسيَّة مع زوجاتهم، لأنَّ تعلُّقهم بأمَّهاتهم، لأنَّ حاجتهم إلى الأمِّ التي لم تعلِّمهم الطيران بعيدًا، بل أبقتهم بقربها وفي حاجتها على الدوام تجعلهم في عجزٍ عن إتمام عملٍ هامٍّ بمفردهم، لأنَّ حبل السُّرَّة النَّفسي لم يُقطَع حتى الآن.

أذكِّر بأنَّني أطرح الفكرة في حدودها القصوى كي أبرزها. فليس هناك أبٌ أو أمٌّ لا يعيشان شيئًا من مشاعر التَّملُّك تجاه الطفل، وليس هناك أبٌ أو أمٌّ سويَّان لا يخافان بقدرٍ أو آخر على ولدهما... ولا يعني هذا أبدًا وجود مشكلةٍ كبيرة في التربية عمومًا. تقع المشكلة في حال الذهاب بعيدًا في مشاعر التَّملك وفي حال التصرُّف دومًا انطلاقًا منها، كما تكمن المشكلة في حال الإغراق في المثاليَّة وفي عدم ترك فسحةٍ من الحرِّيَّة وقدرٍ من المسافة بين الأهل والولد.

ألفت النظر من جهةٍ أخرى إلى أنَّ الحالتين اللتين وصفتهما أعلاه هما حالتان لاواعيتان على الأغلب وأنَّ المطلوب هو العلاج وليس الإدانة، كما أشير إلى أنَّهما لا تشكِّلان بالضرورة طرفي نقيض. أي أنَّ كون الأمِّ متملِّكةً (ولدي ملكي) لا يتعارض مع كونها أمًّا متفانية (أنا ملك ولدي) فيمكن للأمِّ نفسها أن تكون موزَّعةً بين الحالتين بحسب الموقف أو الظَّرف.. وكثيرًا ما نجد في مجتمعاتنا الشرقيَّة أمًّا تقع، إلى درجةٍ كبيرةٍ جدًّا، في فخِّ التَّملُّك في علاقتها مع ابنتها، فيما تقع، حتى درجةٍ كبيرةٍ جدًّا، في فخِّ المثالية في علاقتها مع ابنها. وهذا خللٌ يحتاج إلى عنايةٍ خاصة لأنَّه واحدٌ من أسباب التَّمييز بين الجنسَين على مستوى المجتمع.

من المناسب والمطلوب وربما الملحِّ أيضًا، أن توجد جهات تعتني بمساعدة وتدريب وتثقيف الأهل، ومن الأفضل جدًّا أن يجري ذلك قبل أن يصيروا أهلاً. يمكن لجمعيَّاتٍ أهليَّة مهتمَّة بهذا المجال أن تقدِّم خدمةً كبيرة على هذا الصعيد، ويمكن أن يجري ذلك بالتعاون مع جامعات وجهات أخرى مختلفة، بحيث يجري تحت رعاية أكاديمية ووفق مناهج موثوقة. ولكن، وهنا بيتُ قصيدنا: لم لا يكون للمدرسة نفسها دورٌ على هذا الصعيد؟!

غالبًا ما يبدأ الطفل حياةً مدرسيَّةً ناجحة ليبدأ في وقتٍ لاحق، يختلف بين طفلٍ وآخر، وبحسب أنظمة الامتحانات والقياس المتَّبعة، تراجُعًا يصعب على الأهل معرفة أسبابه. ولطالما يسمع المختصُّون التَّربويُّون هذه الصَّرخة من جانب الآباء والأمَّهات: "ما الذي أصاب ولدي، وكيف تراجع على هذا النحو وبطريقةٍ مفاجئة؟!".

ثمَّة حقيقةٌ عميقةٌ هنا غالبًا ما يصعب الإقرار بها: إنَّ علاقة الأهل بالولد، نوع ولهجة الخطاب الذي يسود البيت، ثقة الأهل بالأبناء، هامش الحرِّيَّة والاستقلاليَّة اللذَين يشعر بهما الطفل.. وباختصار: الطريقة التي يحضر فيها كلٌّ من الأمِّ والأب في حياة الطفل، وهي في نهاية الأمر نتاج شخصيَّتيهما وتكوينهما، تلعب دورًا كبيرًا جدًّا – وأكبر بكثير ربما من الدَّور الذي يلعبه عدد السَّاعات التي تُصرَف في مراجعة الدروس – في نموِّ (كي لا أقول "تحصيل") التلميذ الدِّراسيِّ. لكن ما يحدث في الواقع هو أنَّ الأهل لا يرون ما يمكن أن يغيِّروه في أنفسهم وفي البيت، كي ينعكس ذلك على مسيرة ولدهم، بل يحثُّونه فحسب، وبعباراتٍ مكرَّرةٍ تزيد من ردَّة فعله العكسيَّة، على المزيد من الدراسة.

هل هو ضربٌ من المثاليَّة أن نقترح على المدرسة إذًا:

1.    مساعدة أهالي الطلاَّب كي يصيروا أكثر قدرةً على مساعدة أولادهم؟! كم من المرَّات تستدعي المدرسة أهلَ أحد التَّلاميذ كي تشكو سلوكه، أو تدنِّي درجاته، وما هي الاقتراحات التي يقدِّمها الموجِّهون والمعلِّمون عادةً غير التَّشدُّد في "تأديبه" ودعمه بدروسٍ خاصَّة مثلاً؟! وكم من المرَّات (حتى اليوم) يقول الأهل للمعلّمة أو للإدارة: "اللحم لكم والعظم لنا"؟!... أيَّها السّادة، لا هذا لكم ولا ذاك لغيركم... حريٌّ بالمدرسة أن تستدعي الأهل لتساعدهم في إيجاد طرقٍ بديلةٍ للتَّعامل مع الطفل، حريٌّ بمؤسَّسة مختصَّة بالتَّربية (في مجتمعٍ "حديثٍ" يزداد كلَّ يوم سرعة وضجَّة وتعقيدًا وضغوطًا...) أن تساعد الأهل وربَّما ترافقهم (أو ترشدهم إلى مَن يرافقهم) في طريق تغيير أنفسهم كي ينعكس ذلك على أولادهم وليس العكس. أعتقد من جهتي أنَّ عمل "المرشدين" النَّفسيِّين أو الاجتماعيِّين في المدارس يجب أن يوجَّه نحو الأهل (وربما نحو زملائهم من كوادر المدرسة، وعلى اختلاف اختصاصاتهم) قبل أن، أو على الأقلِّ بقدر ما، يُوجَّه إلى التلاميذ والطُّلاَّب!

وهل يبدو أمرًا خياليًّا:

  1. أن تُطرَح في المناهج المدرسيَّة مواد أو فقرات، تحضِّر الطُّلاَّب الذين سيصبحون أهلاً بعد سنوات، كي يكونوا مربِّين ناجحين؟! ألا نجد هنا أيضًا مجالاً رحبًا وميدانًا واسعًا لعملٍ كبير يمكن أن يقوم به هؤلاء المرشدون والمرشدات في المدارس، وهم الذين ما يزالون، في معظمهم، يبحثون عن أدوارهم الحقيقيَّة والعميقة بين التَّلاميذ والطُّلاَّب، أوَلا نلتقي هنا بسؤالٍ قد يعود ليصادفنا مرَّاتٍ عديدةٍ قادمة ويرتبط بالدَّور الأساسيِّ للمدرسة، وهو سؤالٌ يمكن أن نختصره بعبارة: "ما الذي نعلِّمه في المدرسة"؟!

ولكن، هل يكفي وجود فقراتٍ "تربوية" في طيَّات المناهج، أو حتى مواد بكاملها، كي تخرِّج جيلاً جديدًا من الأمَّهات والآباء أكثر قدرةً على التعامل مع الطفل، أو أنَّ الأهمَّ هو:

3.    تدريبٌ مستمرٌّ للكادر التربويِّ المدرسيِّ بحيث يقدِّم للتلاميذ على الدوام صورةً أفضل ومثالاً أجدر بالتقليد في العلاقة والتعامل؟! فالتعليم الحقيقيِّ ليس في أن تتكلَّم – حسب ما يقول الكاتب الكبير أنطوان ده سانت أكسوبيري – بل في أن تقود.

في الخلاصة: تقع مسؤوليَّة المبادرة في العلاقة الإيجابية المثمرة بين المدرسة والأهل على المدرسة بالأكثر. وعبر بناء هذه العلاقة وتطويرها تلعب المدرسة دورها مع الأهل، على اختلاف إمكانيَّاتهم وثقافتهم ودرجة وعيهم، بطريقتَين. طريقةٌ مباشرة: عبر المشاركة والإصغاء والتشاور ومجالس الأولياء ومتابعة الحالات الخاصة والعمل على زيادة الوعي التربويِّ... وغير مباشرة أو بعيدة المدى باعتبار أنَّ أهالي اليوم هم تلاميذ الأمس وأن تلاميذ الحاضر هم أهالي ومربّو المستقبل.

الرَّوضة: الأخت الصُّغرى

ثمَّة ملاحظة أساسيَّة قبل أن أخوض في العنوان: إنَّ تردُّد الطفل إلى الروضة ثم إلى المدرسة في وقتٍ لاحق يجب ألا يعني تخفيفًا من دور الأمِّ والبيت، الذي يبقى أساسيًّا على الدوام. بعبارةٍ أخرى: حين يذهب الطفل إلى الروضة، فإنَّ عدد ساعات تواجد الأمِّ مع الطفل يصبح أقلَّ لكن حضورها في بقيَّة الوقت من النهار يبقى ضروريًّا وأوَّليًّا ويبقى المؤثِّر الأكبر. ولعلَّ القارئ يلاحظ على ما أرجو، أنَّني ميَّزت بين استخدام كلمتي: "تواجد" و"حضور"، فالحضور ليس مجرَّد التَّواجد، بل هو التَّواجد الفاعل والمنتبه والمحبُّ ولعلَّه باختصار "التَّواجد من أجل".

ملاحظةٌ أخرى هي حصيلةُ اختبارٍ ومعاناة: تفرض بعض الروضات، انطلاقًا من قناعاتٍ تربوية جديرة بالمراجعة، نظامًا صارمًا لا يختلف عن نظام المدرسة وقد يزيد عنه تشدُّدًا. وذلك من حيث وجوب التقيُّد بالوقت وأيام الدوام، ومن حيث التواجد ضمن الصَّفِّ والالتزام بالمنهاج (أوقات نشاطات محدَّدة، أوقات طعام، الخ...) فيما تبدي روضاتٌ أخرى مرونةً كبيرة وتفتح أمام الطفل فسحةً أكبر (وذلك في السَّنة الأولى من الروضة على الأقلِّ، بحيث يمكن أن يصل الطفل متأخِّرًا أو أن يأتي أحد والديه لاصطحابه مبكِّرًا، الخ..) الأمر الذي يجعله يتأقلم شيئًا فشيئًا مع عالمٍ جديدٍ كليًّا، فتصبح الروضة على هذا النحو معبرًا بين البيت والمدرسة... وهكذا يمكن أن نمهِّد لعلاقةٍ بين التلميذ المقبل والمدرسة: إمَّا أن تقوم على شعور بالنفور وبالاستسلام لأمرٍ لا بدَّ منه، يستمر كلَّ فترة الطفولة، ويُخشى أن يطبع كلَّ الحياة، أو تقوم على أريحيَّةٍ وشعورٍ بالرَّاحة مع المكان والمؤسَّسة والمعلِّمات والمعلِّمين وهو ما سينعكس إيجابًا على مدى الحياة أيضًا.. أودُّ أخيرًا أن أقول إنَّه يمكن فهم ضرورة هذه الملاحظة إذا علمنا أنَّ بعض الروضات ما تزال تنتهج أسلوب: "ضعوا أيديكم وراء ظهوركم" على سبيل المثال!

تختلف كثيرًا نسبة الأطفال الذين يلتحقون برياض الأطفال (3 – 6 سنوات) وذلك بحسب البلدان (متقدِّمة أو نامية)، وبحسب المناطق (المدينة أو الرّيف..) وبحسب كون الأمِّ عاملةً أو غير عاملة، وبحسب وجود أو عدم وجود جدَّةٍ قريبة مثلاً، وبحسب الثقافة السَّائدة عمومًا.

تختلف أيضًا الأسباب التي تدفع الأهل إلى إرسال أولادهم إلى هذه الرِّياض، بين مقتنعين بأهمِّيَّتها من أجل الطفل، وبين آخرين يجدونها وسيلةً لا بدَّ منها كي يتفرَّغ الوالدان لأعمالهما.

لقد صار أكيدًا ومعروفًا أنَّ تواجد الطفل مع أترابٍ له يقاربونه عمرًا أمرٌ مهمٌّ جدًّا لتطوُّره ونموِّه. يعني هذا أنَّ رياض الأطفال أو ما يشابهها يمكن ألا تبدأ في عمر الثّالثة بل قبل ذلك بكثير. يزداد انتشار الأماكن التي تستقبل مجموعاتٍ من الأطفال الرُّضَّع والصِّغار والتي تحمل في الفرنسية اسم garderie (والترجمة الحرفية للكلمة هي "المخفر"! أي المكان الذي يوضع فيه الطفل ليكون في موضع حراسةٍ) وهو اسمٌ يدلُّ على الفارق الكبير بين النظرة التربوية التقليدية التي عفا عنها الزَّمن وبين الفهم التربويِّ المعاصر. إنَّ الفارق بين المعنى الأصيل للمصطلح الفرنسيِّ واللفظ المقابل في العربية (حيثُ تُستخدم على الأغلب كلمة "الروضة" والّتي تُستخدَم هي نفسها للمرحلة الأكبر) يجب أن يكون حافزًا لنا كي نجعل المكان الذي يرتاده أطفالنا في هذا العمر المبكر مكان راحة وانبساط لا مكان تعب وانقباض.

تعتبر مثل هذه الأماكن في البلدان الغربية، والبلدان الأكثر تقدُّمًا عمومًا، ذات أهمِّيَّةٍ أكبر بسبب قلَّة عدد الأطفال. فالعائلة الواحدة تنجب ولدًا واحدًا أو ولدين على العموم، وفي الحالة الثانية يغلب أن يكون الفارق العمريُّ ملحوظًا بين الولدين. يندر بالنتيجة، في المجتمع الغربيِّ، أن نرى تكرار مناسبات يجتمع فيها على نحوٍ تلقائيٍّ عددٌ من الأطفال فاجتماع عشرة عائلاتٍ من الأقارب أو الأصدقاء قد لا يتواجد فيه غير عددٍ قليلٍ من الأطفال وقد يكونون من أعمارٍ غير متقاربة، زد على ذلك أنَّ مثل هذا الاجتماع لا يحدث كلَّ أسبوعٍ أو حتى كلَّ شهر.. أمَّا في المجتمعات النامية، حيث نسب التَّوالد أكبر، فإنَّ اجتماع عائلتين أو ثلاث في مناسبة ما، يمكن أن يكون فرصةً للقاء خمسة أطفالٍ مثلاً! وعمومًا يلتقي الأطفال الصِّغار بأترابٍ لهم في البناء الذي يقيمون فيه (ومَن منَّا لم يلعب مع أولاد جيرانه على درج البناء؟) وفي الزِّيارات العائلية، ويلعبون معًا ويتبادلون الخبرات والتعلُّم ويحفِّزون نموَّ بعضهم بعضًا وإن كانوا غير واعين لهذه العملية... لا ينفي كلَّ هذا أنَّ الالتحاق برياض الأطفال بعد سنِّ الثالثة يصبح أمرًا ذا أهمِّيَّة، خصوصًا إن كانت الروضة توفِّر شروطًا ومعايير مناسبة.

على الصعيد المحليِّ، تتنافس الرِّياض (الخاصَّة في غالبيَّتها العظمى) على اجتذاب الأطفال. لكن هذا يجري أحيانًا عن طريق "قيم مضافة" قد يكون ضررها أكثر من نفعها، فهناك رياض أطفال تحاول لفت نظر الأهل انطلاقًا من تعليم الفرنسية والإنكليزية معًا (ومعظمها في الواقع لا يعلِّم لا هذه ولا تلك، طالما أنَّها تحصر الأمر بوجود كتابٍ ومنهج) وثمَّة رياض أطفال تذهب في الاتِّجاه الآخر فتزيد من أوقات اللعب (الذي يُختَصَر بمجموعة من الألعاب لا تختلف عمَّا يوجد في كلِّ حديقة عامَّة أو في قاعة ألعاب خاصَّة بمطعم مثلاً).

نرى في الحالتين الارتجالية وعدم الدِّراسة، وغلبة العامل التِّجاريِّ. إنَّ نسبةً كبيرةً من رياض الأطفال الخاصة تدخل في المنطق المغلوط للكثير من الأهالي، وهو منطق المخفر garderie، أي تأمين مكانٍ لا بأس به يقضي فيه الطفل جزءًا من وقته، هو ذاك الذي تكون فيه الأمُّ منشغلةً أو متعبة، وكلُّ ما بعد ذلك إضافات لا أكثر. أكرِّر الفكرة لقناعتي بأهمِّيَّتها: إذا كان الكثير من الأهل الذين لم يتلقوا الثَّقافة التربويَّة الكافية معرَّضين للوقوع في هذا الفخِّ فإنَّ من غير المقبول أن تقع فيه مؤسَّسة تسمِّي نفسها تربوية وما أدعو إليه هنا هو الحدُّ المناسب من التوازن بين القصد التَّربويِّ والهدف التجاريِّ الذي لا أنفي شرعيَّته.

يجب ألا ننكر، على المستوى المحلِّيِّ، أنَّ تطوُّرًا كمّيًّا ونوعيًّا قد حدث في العقدين الأخيرَين، وذلك بعد افتتاح اختصاص رياض الأطفال في بعض الجامعات. لكنني أعتقد أنَّ هذه الرِّياض لا تزال تحتاج إلى الكثير من التَّنظيم والتطوير وكذلك إلى زيادة عددها أيضًا وأعتقد أنَّ هذه أولوية يجب أخذها بعين الاعتبار.

يبقى الأمر الأساسيُّ الذي أودُّ الحديث عنه هو ارتباط رياض الأطفال بالمدرسة. واقع الحال هو أنَّ معظم المدارس لا تلقي التفاتًا كافيًا، للوقت الذي أمضاه التلميذ قبل الالتحاق بالمدرسة. يُعامَل تلاميذ الصفِّ الأوَّل الأساسيِّ، في اليوم الأول من العام الدِّراسيِّ، وقبل أن تبدأ المعلِّمة باكتشاف الفوارق فيما بينهم، وكأنَّهم "صفحة بيضاء"، وتلك مقولةٌ شائعة تلخِّص على ما أظنُّ خطيئةً تربوية كبيرة، لأنها تهمل الطفل باعتباره شخصًا متميِّزًا وكائنًا فريدًا، لا عند بلوغه مرحلة المدرسة، بل منذ اليوم الأوَّل في حياته.

يزداد الاستغراب أكثر حين يكون هذا الفصل الحادُّ في مؤسَّسةٍ تعليمية تضمُّ روضةً ومدرسة معًا، أي حين تكون الروضة جزءًا من المدرسة نفسها، ونرى مع ذلك فصلاً كاملاً بين هاتين المرحلتين. كيف يمكن لمؤسَّسةٍ تربويةٍ بهذا الحجم أن تتبنَّى منهجًا تعليميًّا، وحتى رؤيا تربوية أحيانًا، مختلفة اختلافًا كليًّا بين مرحلةٍ وأخرى؟!

أظنُّ أنَّ من المهمِّ جدًّا، وهو أضعف الإيمان وأبسط صور الارتباط، أن يكون للولد في الروضة سجلٌّ يتضمَّن بعض الملاحظات عن نشاطه وطباعه وإمكانيَّاته وصعوباته، الخ... وأعتقد أنَّ مثل هذا الملفُّ يجب أن ينتقل مع التلميذ إلى المدرسة وأن يكون مساعدًا للمعلِّمة والإدارة والأهل معًا[3]. وعلى وجه العموم فإنَّ مرحلة الروضة، وهي مرحلةٌ شديدة الأهمِّيَّة بين مراحل نموِّ الطفل، يجب أن تلقى عنايةً أفضل، ويجب أن تكون مرتبطةً بوضوح مع مرحلة المدرسة المقبلة. ولا أتحدَّث هنا عن تحضير الطفل لمعرفة الأحرف أو الأشكال أو الأرقام... بل عن مساعدة الروضة للأهل في التعرُّف على الطفل نفسه ونقل هذه المعرفة إلى المدرسة القادمة. يكمن سبب هذا الإهمال على ما أظنُّ في كوننا لا نزال نهتمُّ بالقراءة والحساب أكثر من اهتمامنا بالتِّلميذ نفسه.

ألخِّص مرَّةً أخرى:

تؤثِّر السنوات الأولى من العمر على الحياة بمجملها تأثيرًا لا زلنا قاصرين عن إعطائه حقّه. يعيش الولد في هذه السنوات في بيته وفي جوار والدته على الأكثر. لكنَّ وجود أولادٍ آخرين في حياة الطفل يعتبر أمرًا كبير الأهمِّيَّة في الوقت نفسه. توفِّر الروضة للطفل لقاء أترابٍ له. ويُفترض بها أن تكون مكانًا لمثل هذا اللقاء بقدر ما تكون أيضًا، وبالدَّرجة الأولى مكانًا للَّعب، للفرح، للحياة المنبسطة، لممارسة أنشطةٍ شديدة التَّنوُّع (رياضة، رسم، موسيقا، طبخ، تشكيل، رقص، غناء..) ولملاحظة سلوك الطفل وتوجُّهاته. يمكن لهذه الملاحظات أن تُسجَّل بحيث تشكِّل مصدر معلوماتٍ ثريًّا للمدرسة المقبلة. وفي المستقبل الأبعد للشَّاب نفسه في مراحل حياته الحاسمة التي يختار فيها اختصاصه على سبيل المثال. ولا بأس على كلِّ حال أن يبدأ الطفل في الرَّوضة بالتعرُّف على بعض الحروف والأرقام، وهو الأمر الذي غالبًا ما تعطيه الروضات الأهمية الأكبر على حساب ما تَقَدَّم، وما أظنُّه الأهمّ.

يتبع...

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] تتوزَّع الجمل في اللغة العربية (وهناك ما يقابل هذا في اللغات الأخرى بالتأكيد) بين إنشاء وخبر. الجملة الخبرية كما يدلُّ اسمها هي التي تخبر عن أمرٍ ما، أمَّا الإنشاء فيتضمَّن كلَّ ما ليس خبرًا ومن ذلك: الطلب والأمر والنهي والاستفهام والقسَم والتعجب...

[2] راجع كتاب: التربية الرّوحيّة والتّنمية الإنسانيّة (ص 79)، دار الخليل للنّشر، دمشق 2014.

[3] راجع فصل "التّعليم الأساسيّ وتمييز المواهب".

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني