الفلسفيُّ المتجسِّد في السياسيِّ

نحو فلسفة ملتزمة

 

باسكال تابت

 

في ظلِّ الأحوال السياسية الراهنة نجد أنفسنا في حاجة للعودة إلى كتابات فيلسوف لبناني كبير، حمل لبنان في عقله وقلبه. إنه فيلسوف القومية اللبنانية وشهيد الفلسفة اللبنانية: د. كمال يوسف الحاج. من أهم مؤلفاته بين الجوهر والوجود أو نحو فلسفة ملتزمة، الذي يقول في مقدمته: "حدانا على كتابة هذه المباحث طلاق عندنا بين الفلسفة والسياسة." والكتاب هذا في قسمين: الأول نظري، عنوانه "وحدة الجوهر والوجود"؛ والثاني عملي، عنوانه "الفيلسوف حيال السياسة".

رأى كمال الحاج أن معضلة الجوهر والوجود أساسية في تاريخ الفلسفة، وأنها المعضلة الأم التي تجاذبتْ حولها النظرياتُ حينًا وتباعدتْ أحيانًا. فمن الفلاسفة من اعترف بأسبقية الجوهر على الوجود، ومنهم من تباهى بأسبقية الوجود على الجوهر – مما جعل الحاج يعود إلى بعض العمارات الفلسفية لدى "الفرنسيس"، بدءًا بالعمارة الديكارتية ("أنا أفكر، إذن أنا موجود")، إلى العمارة السارترية – نقيضة العمارة الديكارتية – ("أنا موجود، إذن أنا أفكر")، مرورًا بالعمارة البيرانية ("أنا أريد، إذن أنا موجود") والعمارة البرغسونية ("أنا أدوم، إذن أنا موجود"). وبدأ هذا الصراع مع ديكارت الذي اعتبر أن للجوهر وجودًا فوق الوجود، وانتهى مع سارتر القائل بأن للوجود وجودًا فوق الجوهر.

لكمال الحاج رأيٌ مختلف ومميَّز جدًّا في هذا الموضوع؛ إذ قال بتعادلية الجوهر والوجود، وبانعدام الفرق بينهما: "إنهما شيء واحد أساسًا، ولكن في هنيهتين متنوعتين." الفرق يكمن بين الجوهر وموجود ما. الوجود جوهر أيضًا وقاسم مشترك بين الأشياء: فالطاولة موجودة، الزهرة موجودة، والإنسان موجود. الجوهر هو العام، والوجود هو الخاص. مستحيل أن نتخيل جوهرًا غير موجود؛ فجوهر غير موجود ليس جوهرًا: "جوهر لا يُعبَّر عنه بالقول ولا يُفكَّر فيه هو لاجوهر."[1] كلُّ جوهر لا يتجسَّد في وجود لا يتزمَّن ولا يتمكن. الجوهر هو السقف، والوجود هو الركيزة. الجوهر سماء، والوجود أرض. فلا سماء بلا أرض، ولا أرض بلا سماء. بينهما تعانُق وتجاذب "ومدُّ أيدٍ للتصافح يجعل الأرض واجبة الوجود لجوهر السماء كما يجعل السماء واجبة الجوهر لوجود الأرض"[2]. كلٌّ من الجوهر والوجود كائن في الآخر، متجلٍّ في الآخر. إن جوهرية الجوهر مستفيضة، تدفعه إلى أن يتكثَّر ويتجسَّد في وجود متزايد. المحبة خير مثال لما ذكرناه: إنها تلك الحرارة التي جعلت الله يخلق الكائنات. من فرط محبته لم يستطع البقاء جامدًا، بل قام بأعظم فعل، بأعظم تجسيد للجوهر: الخلق.

زبدة القول إنه أمر خطير أن نبني سماءً من دون أرض، أو أن نبني أرضًا من دون سماء. ينبغي أن نحذر من التطرف. لا نستطيع فصل الجوهر عن الوجود، لأن ذلك يؤدي بنا إلى التشاؤم واليأس. إن جوهرًا لا يتجسَّد في وجود يجعل الإنسان يائسًا، عاجزًا عن الفهم والتخيل؛ كما أن وجودًا لا يُقوَّم في جوهر يخلق أيضًا لدى الإنسان حالة يأس وغربة. الحقيقة ذات جناحين: "إنها جوهر من حيث التقييم ووجود من حيث التحقيق."[3] الحقيقة تضيع وتقع وتموت وتفقد ماويَّتها إذا فقدت أحد جناحيها. وهل يمكن للطير أن يطير بجناح واحد فقط؟

***

بعدما برهن كمال الحاج، في القسم الأول، عن أن الفكر وحدة وجودية لا تتجزأ، وأنه، كالحياة، إذا فُصِلَ بعضُها عن بعضها الآخر فقدتْ حياتَها، انتقل إلى موضوع مهم جدًّا على الصعيد العملي التطبيقي، هو علاقة الفلسفة بالسياسة. رأينا نظريًّا كيف أن الجوهر هو السقف، والوجود هو الركيزة. الفلسفة، عمليًّا، هي السقف، أي المثال، وهي التي تشرِّع؛ والسياسة هي الركيزة التي تنفِّذ، هي الواقع: "الفلسفة غاية، والسياسة واسطة؛ الفلسفة لاهوت سماء، والسياسة ناسوت أرض."[4] إذا غابت الفلسفة تهافتتْ السياسة، وأضحت وظيفة إدارية خالية من القيم، خالية من الجوهر.

الفلسفة عقيدة؛ وعلى كلِّ سياسة أن تنطلق من عقيدة وأن تجسِّدها. الفلسفة أوسع المعارف؛ إنها "شمولية، عقلانية، تعميرية وكينونية"[5]، تتلون بأصباغ المجتمع الذي ينتمي إليه الفيلسوف، كما تنطبع بمزاج فيلسوفها.

إنه جزء من تحديد الفلسفة، بحسب كمال الحاج. أما في ما يتعلق بتحديد السياسة، ففي نظره يعود المجتمع القومي إلى مقولتين كبريين: المكان والزمان. الأول: "العالم المادي"، وهو أرض واقتصاد؛ والثاني، "العالم النفسي"، وهو تاريخ ولغة. السياسة تقوم في أرض ووطن وبيئة ومجتمع معين. الكيان السياسي يجسِّد الوحدة القومية؛ والفيلسوف ليس ناسكًا جالسًا في صومعته، بعيدًا عن العالم وعما يجري فيه، بل، على العكس، هو ابن أرضه ووطنه وبيئته ومجتمعه، ولا يستطيع الانفصال عنها. ندرس في الفلسفة تجربة فيلسوف، فندرس، بالتالي، تجربة مجتمع، لأن الفيلسوف إنسان ويخضع، كأيِّ فرد، لأحكام مجتمعه. لا تتضح لنا فلسفة الفيلسوف إلا من خلال قوميته. الفيلسوف يعالج القضايا الراهنة ويعالج المعضلات السياسية بخاصة. فكلَّما قصَّرتْ السياسة أنَّبتْها الفلسفة؛ وكلَّما انحرفتْ قوَّمتْها. الفلسفة ترفع السياسة نحو المثالية، فلا تبقى السياسة مجرد مناصب سياسية وأحزاب، بل تتسامى وتصبح سياسة "قيم"، كما أن الفلسفة "تتأرَّض" وتعالج مشكلات دولية: "الفكر لا يُقَيَّم إلا في ساحات العمل."[6] لا قيمة للفلسفة إذا بقيت طيرانًا في السماء؛ ولا قيمة للسياسة إذا بقيت زحفًا على الأرض.

والفلسفة تتجسَّد في السياسة عندما يتسيَّس الفيلسوف، من دون "الانضمام بالفعل إلى حزب سياسي والعمل جماهيريًّا تحت رايته، لأن ذلك يعبِّر عن تخصيص في فكر الفيلسوف"[7]. وبتفلسف السياسي تسقط الديكتاتوريات المتنكِّرة بالديموقراطية، وتصبح الدولة في سبيل الشخص، بدلاً من أن يكون هذا الأخير في سبيل الدولة.

المؤسف أن سياستنا اليوم لم تُعطَ فيلسوفًا يرفعها من انحطاطها. إنه واقع لا يمكننا إنكاره. الفلسفة غائبة عن الساحة اللبنانية. لا تخطِّط، ولا تضع قواعد، ولا تقترح، ولا تحلِّل. أين نحن من رسالة الفلسفة القومية؟ فلنُعِدْ طرح بعض الأسئلة مع كمال الحاج: "تاريخ لبنان تاريخ واقع؛ فلم تجعلون سياسته اليوم، سياسة الأمر الواقع؟"[8]، و"لماذا لا يلتزم فلاسفتُنا القوميةَ اللبنانية في الأمة العربية؟"[9]

*** *** ***

عن النهار، السبت 4 كانون الثاني 2003


[1] كمال يوسف الحاج، بين الجوهر والوجود أو نحو فلسفة ملتزمة، دار النهار للنشر، بيروت، 1971، ص 24.

[2] المرجع ذاته، ص 33.

[3] المرجع ذاته، ص 105.

[4] المرجع ذاته، ص 14.

[5] المرجع ذاته، ص 145.

[6] المرجع ذاته، ص 186.

[7] المرجع ذاته، ص 183.

[8] د. كمال الحاج، فلسفة كلَّفتني دمي، منشورات رابطة الفلسفة اللبنانية، 1978، ص 1.

[9] بين الجوهر والوجود، ص 225.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود