العقلانية

جون كوتنغهام قارئًا لتاريخها:

فلسفة السؤال الإنساني عن الوجود والكينونة

 

نجم الدين سمان

 

في تصنيف لا يزال ساري المفعول قال قاضي طليطلة الأندلسي صاعد بن أحمد: "في كلِّ أمة طبقتان: أولاهما تُعنى بالعلم، والثانية لا تُعنى به، بل وتُعاديه، من حيث تدري أو لا تدري." وتلك الثانية استشرتْ بعد سقوط غرناطة وخلال العصر الثاني لملوك الطوائف. وفي راهننا العربي، لا يزال ينطبق عليها توصيفُ صاعد بن أحمد، من حيث "لم يُنقَلْ عنها فائدة حكمة، ولا رُؤيَتْ بها نتيجة فكرة"!

من هو "العقلاني" rationalist؟

يُقدِّم جون كوتنغهام في كتابه العقلانية: فلسفة متجددة* فحصًا نقديًّا عن العقلانية الفلسفية، منذ أفلاطون حتى يومنا هذا، مُستبعِدًا – على عادة الغربيين – فيلسوف العقل العربي ابن رشد وغيره، في معادلة مزدوجة: أول طرفيها استعلاء الغربي بما أنجزه، وثانيهما انكفاء العربي على ما كان قد أنجزه في غابر الأيام والعصور! والملاحظة الثانية التي تؤخَذ على استقصاء كوتنغهام تجاهُلُه للمساهمة الفرنسية الفلسفية في كتابه، وخصوصًا المدارس الفلسفية الحديثة.

العقلاني، بحسب كوتنغهام، هو الشخص الذي يؤمن بالعقل وبالمحاجَّة العقلية كشرط مسبق لكلِّ بحث فكري، منوِّهًا: "أن يكون المرء عقلانيًّا بالمعنى الفلسفي لا يعني بأية حال أنه مُنكرٌ لوجود الله. فبعض من أشهر الفلاسفة العقلانيين قد وضعوا الله في الصميم من أنظمتهم الفكرية."

ومع أن تاريخ "سؤال العقل" يبدأ من شرق في انزياحه الحضاري غربًا، يستبعد جون كوتنغهام الكونفوشية وأسئلة كتاب الـتاو تِه كنغ، ومعهما زرادشت وبوذا وماني وتراث الغنوصية السوري القديم كلَّه، ليبدأ من أثينا الإغريقية، ومن سقراط الذي ركَّز على استخدام العقل، لأن "الحياة التي لا تُمتحَن غير جديرة بالعيش". وقد دفع حياته ثمنًا لإيمانه بالعقل وممارسته المستقلة في العام 399 ق م. تلاه أرسطو بنظريته في الطبيعة الإنسانية التي جعلت "العاقليَّة" rationality الصفةَ المميزة التي تُعرِّف الإنسان على أنه "حيوان عاقل"، مؤكدًا في كتابه الأخلاق على أن سعادة الإنسان السامية تكمن في ممارسته قدرات العقل النظرية الخالصة.

مع ذلك، فإن أرسطو لم يكن عقلانيًّا بالمعنى التقني، على الرغم من تأكيده الكبير على العقل والعاقلية، حيث يبدو مصطلح "العقلانية" rationalism عند كوتنغهام رحبًا وشديد التنوع. وكثيرًا ما كان مُفكِّرو التنوير الأوروبي في القرن 18 يوصَفون على نحو فضفاض بأنهم "عقلانيون". فبينما ينتمي لايبنتس إلى المعسكر العقلاني بوضوح، نجد ديفيد هيوم خارجه بالتأكيد؛ بينما تُزوِّدنا أعمال برتراند راسل بمثال آخر عن الغموض في صفة "العقلاني". فتأييد راسل للعقل والمحاجَّة ضد لاعقلانية لورانس تجعل من التلقائي أن ندعوه "عقلانيًّا" بالمعنى الواسع. إلا أن جُلَّ مذاهبه ومناهجه الفلسفية تنتمي إلى التراث التجريبي؛ وهي بذلك على نزاع شبه كلِّي مع النظرة العقلانية بالمعنى التقني لهذه العبارة.

التجريبي: نملة... العقلاني: عنكبوت!

يؤكد "العقلانيون" على الدور الذي ينهض به العقل، متباينًا عن الحواس في اكتساب المعرفة، بينما يؤكد "التجريبيون" أن المعرفة البشرية مُستمَدَّة كلَّها من التجربة الحسِّية، في الوقت الذي يرى فيه العقلانيون الحواسَّ بوصفها مصدرًا للشبهة، مؤكدين على "المعرفة القَبْلية a priori، كونها المعرفة التي تُمتَلَك قبل التجربة، بنور العقل وحده، بمعزل عن التجربة. في حين يرى التجريبيون أن كلَّ القضايا التي يعرفها البشر قبْليًّا هي من قبيل "تحصيل الحاصل"، ولا تقدِّم أية معلومات ملموسة، من مثل: "كلُّ العُزَّاب غير متزوجين"!

وينوِّه المؤلِّف إلى كون العالَم الأنكلوسكسوني هو الأكثر تشرُّبًا لوجهات النظر التجريبية فيما يتعلق بالعلم الطبيعي، حيث يعتبرون المشروعَ العقلاني في البحث الخالص، المجرَّد، المستقل عن التجربة الحسية، لعبةً انطوائية قائمة على الانغماس الذاتي للفرد، وليس لها سوى القليل من القيمة العلمية؛ وهو موقف كان فرانسيس بيكون قد أعلنه قبل ثلاثة قرون: "التجريبيون كالنمل: إنهم يجمعون ويضعون كلَّ شيء موضع الاستفادة؛ لكن العقلانيين كالعنكبوت: ينسجون الخيوط من أنفسهم"!

والصراع بين العقلانية والتجريبية امتداد للصراع بين "الأبولونية" العقلية الخالصة و"الديونيسية" في الطبيعة البشرية. ولهذا نرى نيتشه يمجِّد الأسرار الديونيسية في فلسفته، مُحتقرًا أرسطو بقسوة بالغة، حيث "الفلاسفة هم منحطُّو الثقافة اليونانية"! وبالريبة نفسها حيال قيمة العاقلية الخالصة، يؤكد الروائي د.هـ. لورنس: "تأتي المعرفة الحقيقية من المجموع الكلِّي للوعي، فتأتي من بطنك بمقدار ما تأتي من دماغك وعقلك؛ وليس بمقدور العقل إلا أن يُحلِّل ويُعَقْلِن."

وفي المعركة المفتوحة بين العقلانيين والتجريبيين، لا مسوِّغ للتسليم بانتصار أحد الطرفين، حيث يكمن التاريخ الفلسفي الأشد فتنة في الأسلوب الذي تكون فيه المنازعات الفلسفية مستعصية على "الحسم" النهائي!

من أفلاطون، أبًا للعقلانية، إلى أبنائها

يفرِّق أفلاطون في كتابه الجمهورية بين المعرفة والاعتقاد: "المعرفة ترتبط بما يكون، على حين يرتبط الاعتقاد بما يكون وبما لا يكون." أما "الجميل" فهو الجميل بذاته ولذاته، أي الجمال المطلق، الذي لا نصادفه في الحياة اليومية، ولا يمكن للحواس أن ترصده، بل هو من طبيعة مجرَّدة كلَّ التجريد، تُفهَم بطريقة عقلية خالصة.

يُصرُّ أفلاطون على أن المعرفة الحقيقية تقتضي الانتقال من العالم الحسِّي إلى عالم المعقولات، حيث يفهم العقل وحده موضوعاته؛ وليس أي عقل، بل عقل الفلاسفة، حيث "لن نرى نهاية لمتاعب البشرية إلى أن يصبح الفلاسفة هم الملوك"، على حدِّ قوله. فالواقع لا يمكن فهمه تجزيئيًّا، وإنما في وحدته الكلِّية؛ وعلى الفيلسوف أن يكون لديه فهمٌ موحَّد – وهو ما أكد عليه اسبينوزا أيضًا. وردَّ التجريبيون في القرنين 18-19 بسؤال جوهري: هل الفهم الموحَّد للواقع ممكن عمليًّا؟

أرسطو التجريبي... أفلاطون العقلاني

كان لأرسطو اهتمام "غير أفلاطوني" بالسلوك وببنية الأشياء المادية في العالم القابل للرصد. أما مقاربته للأونطولوجيا – البحث عمَّا يوجد في العالم – فتشير إلى كونه أقرب إلى الأرض من أفلاطون. فقد صاغ المذهب التجريبي القائل: "لا يوجد شيء في العقل ما لم يكن في الحواس من قبل"؛ وهو ما تبنَّاه توما الأكويني فيما بعد. وأرسطو – تلميذ أفلاطون – يرفض بشدَّة "نظرية المُطْلَقات"، ولا يرى مع أستاذه بأن المعرفة مترابطة كلَّها، مصرًّا على اختلاف منهج الأخلاق عن منهج العلم. وهو يختلف معه في نقاط غيرها، بما جعل الفلاسفة التجريبيين، بعد قرون طويلة، يعتبرونه أبًا للتجريبية في نوازعها الأولى.

أنا أفكر، إذًا أنا موجود

انتقل رونيه ديكارت (1596-1650) بالفلسفة من كلاسيكيَّتها إلى حداثتها الأولى، من حيث يبدأ "الفيلسوف" عنده من لاشيء، متحررًا من الفرضيات والآراء المسبقة التي اكتسبها من أبويه وأساتذته. ومبدأ "الشك الديكارتي" يقوم على ثلاث: الشك في الحواس لأنها تخدع، والشك في أيِّ حكم إزاء العالم الخارجي، والشك في الوجود، مادامت الروح الشريرة موجودة. أما "الفرد الديكارتي" فيعرف أنه موجود، وأنه كائن مفكر، كامل، مدرِك لنواقصه؛ وهي فكرة وضعها "الله" في نفسه. وكشأن أفلاطون، يُلحُّ ديكارت على فصل العقل عن الحواس، وصولاً إلى المعرفة العقلية الخالصة، التي مفتاحها "نور الطبيعة"، وهي قدرة فطرية غرسها الله في عقولنا للوصول إلى الحقيقة.

ويرى ديكارت أن الفلسفة شجرة: تشكِّل الميتافيزيقا جذورها، والفيزياء جذعها، والعلوم الأخرى فروعها. أما اقتراحه للتخلص من "الكيفية" لمصلحة "الكمية"، فصار سمة مميِّزة للعلم الحديث. إذ جاء نيوتن ليوفِّر للبشرية المعادلات الرياضية التي ستعطيها مقياسًا حقيقيًّا للتنبؤ بسير الطبيعة وبسيروراتها.

اسبينوزا: الاستنباطي بامتياز

في موازاة هندسة إقليدس، أنشأ اسبينوزا نظرية ميتافيزيقية للكون، بدءًا من جوهر واحد، مستقل، سرمدي، هو علَّة ذاته، ويوجد بالضرورة وبصفة أزلية. فثمة انسجام بين الفكرة وشيئها، حيث كلُّ جزء من الطبيعة منسجم مع الكل، ولا يمكن تعليل أيِّ فعل أو ردِّ فعل إلا على مستوى علاقته ببنية الكون في كلِّيته.

يرفض اسبينوزا ثنائية ديكارت التي تفصل بين العقل والجسم، معتبرًا أنهما الشيء الواحد ذاته، حيث كلُّ الأشياء في الكون مشروطة بأن توجد وتعمل على نحو خاص بضرورة الطبيعة الإلهية. لكن اسبينوزا يعترف بوجود مقدار من "الحرية الفردية" لدى البشر، يتمثَّل في القدرة التي يسعى بها كلُّ شيء ليستمرَّ في وجوده، مؤكدًا في ذلك على مبدأ "الجبرية"، حيث من علَّة محددة ينجم معلول بالضرورة.

وجاء لايبنتس بعده بوصف فلسفي كلِّي الشمول للكون، قائلاً بالتعدد في الجوهر بحسب أرسطو، حيث القضايا صنفان: أولهما حقائق العقل التي هي ضرورية، ونقيضها محال، وثانيهما حقائق الواقع التي هي محتملة، ونقيضها ممكن، ليؤسِّس بذلك لمبدأ التناقض الذي يقول بصحة أية قضية إذا كان نقيضها يشتمل على تناقُض، معتبرًا أن الوحدة الفردية للجوهر – "الموناد" Monade – محمَّلة بماضيها، حُبلى بمستقبلها. وكلُّ "موناد" مستقلة تمامًا عن الجواهر الأخرى، لأنها مرآة إدراكية حسِّية حية للكون. والله، في خلقه للكون، قد أوجب على كلِّ المونادات أن تعمل معًا، على نحو مستقل، لتشكِّل الكلَّ الأكمل، حيث هي على صورته. فالله هو الجوهر الأسمى الذي، بتشريعه للكلِّ، قد نظر إلى كلِّ جزء، ولاسيما إلى جوهره.

العقلانية والثورة التجريبية المضادة

أخضع جون لوك نظرية "الأفكار الفطرية" لفحص دقيق، من كونها أساسًا لفلسفة أفلاطون (نظرية "المُثُل") إلى تطورها عند ديكارت إلى "نور الطبيعة" الفطري، مؤكدًا (لوك) أن الوصول إلى المعرفة لا يحتاج للمعرفة "القَبْلية"، ولا يتم بمساعدة "الانطباعات الفطرية" التي ترى أن الحروف مطبوعة في ذهن الإنسان، مولودة معه. فالذهن عند الولادة، بحسب لوك، لوح أملس، صفحة بيضاء، خالية من أيِّ حرف؛ والمعرفة، بأصنافها، اكتساب من خلال التجربة وحدها، وليس من فطرة مسبقة.

وهو ما تابعه ديفيد هيوم الاسكتلندي، مؤكدًا أن الطفل، إذا احتُجِزَ في مكان لا يرى فيه غير لونين – الأسود والأبيض – حتى يصير رجلاً، فلن تكون لديه أية أفكار مسبقة عن الأخضر أو القرمزي أكثر مما لديه عن نكهتي المحار أو الأناناس اللتين لم يذقهما في طفولته!

وقد بدا الفيلسوف العقلاني لايبنتس، في ردِّه على جون لوك، مسلِّمًا بأن الإدراك الحسِّي قد يُحدِث المعرفة، لكنه غير كافٍ لاكتسابها، حيث لا توجد نظرية متكاملة في المعرفة لا تُقرُّ بالإسهام الذي يقدِّمه العقل نفسه. وهي فكرة كان لها دور حاسم في مساهمات كانط المتأرجح بين التجريبية والعقلانية، وفي تبنِّي نعوم تشومسكي لها، في إصراره على أهمية البُنى الذهنية المسبقة الوجود، ولاسيما في حقل اللغة.

وكان هيوم، في هجومه على العقلانيين، قد أكد أن أفكارنا مستمَدة من الخبرة التي يحتويها العقل؛ وهو ما أيقظ كانط من سباته الدوغمائي، ليقدِّم أهم كتبه: نقد العقل الخالص، الذي يوحي بموقف مضاد للعقلانية، فيما يهدف الجزء الثاني منه، في الباب الموسوم بـ"الجدل"، إلى إضعاف ادعاءات الميتافيزيقيا العقلانية، مؤكدًا على أن موضوعات "المعرفة" الممكنة هي "الظواهر"، أي موضوعات العالم الفيزيائي القابل للرصد تجريبيًّا، منتقدًا، في الوقت ذاته، الرؤية التجريبية عند لوك وهيوم، التي تجعل من الانطباعات الحسِّية وحدها أساسًا للمعرفة، بقوله: "الأفكار من دون محتويات فارغة، والحدوس [جمع حدس] من دون المفهومات عمياء"، مستعيرًا من ميتافيزيقا أرسطو مصطلح "المقولات الأساسية"، على أنها مصدر كلِّ مفهومات الفهم، بوصفها مفهومات قَبْلية، لا تصبح التجربة ممكنة إلا من خلالها، وهي ترتبط بالضرورة وبالتجربة معًا.

وقد سمَّى كانط هذه المقاربة للمعرفة "ثورته الكوبرنيكية"، على غرار تفسير كوبرنيكوس لدوران الشمس والنجوم، بافتراض أن المُشاهد الأرضي هو الذي يدور، وليست هي. وكان ديفيد هيوم قد سبقه إلى هذا، حين حلَّل مفهوم "الرابطة السببية"، من حيث لا وجود لضرورة حقيقية في العالم، لكن الشعور بالضرورة لا ينشأ إلا من تلقينات الذهن البشري.

يشير جون كوتنغهام في كتابه إلى نقد العقل الخالص لكانط كأهمِّ عمل فلسفي في العصور الحديثة، وكنقطة انطلاق لأيِّ نقاش بين العقلانيين والتجريبيين، مثلما انطلقت الفلسفة العقلانية في القرن العشرين على يد فيخته وهيغل.

في انعطاف العقلانية نحو القرن العشرين، يتجلَّى تراث هيغل (1770-1831) كفلسفة تثير الجدل والتساؤلات، وحتى التجاهل والنبذ، ولاسيما في الثقافة الأنكلوسكسونية، حتى بدايات القرن العشرين في إنكلترا، وإلى حدٍّ أقل في أمريكا.

هيغل: جدل العقلانية

يشكِّل وصف هيغل الجدلي لظهور الوعي الذاتي في كتابه فينومينولوجيا الروح مَعْلمًا مهمًّا في تطور الفكر العقلاني، بوصفه درب نجاة من المأزق الذي واجهه كبار الميتافيزيقيين في القرن 17، بتأكيده على أن الفيلسوف لا يرفض "التجربة الحسِّية" لأن الإدراك المحسوس تُزال تناقضاتُه، فيما يحتفظ الفيلسوف بعناصره القيِّمة، ليعيد دمجها في نوع معرفي أعلى من إدراكنا اليومي، مؤسِّسًا في ذلك على أفلاطون، حيث التفكير الجدلي صراع صاعد للعقل في محاولاته التقدمية لتحقيق الفهم الفلسفي النهائي، آخذًا من اسبينوزا الفكرة القائلة بأن فهم الحوادث والأشياء الخاصة يحتاج إلى دمجها في "كلٍّ" واحد يشمل كلَّ شيء، مطوِّرًا فكرة كانط عن "المحاجَّة المفارقة" التي تكشف بُنى الفهم العقلي، والتي هي مفترَضة مسبقًا في التجربة الإنسانية.

"التجريبية الحديثة" كهجوم على العقلانية

سرعان ما تعرضت الأفكار الهيغيلية، منذ بداية القرن الماضي، إلى هجوم قوي من "الفلسفة التجريبية" ومن "الوضعية المنطقية" التي مهَّد لها اشتغال برتراند راسل الفلسفي، ومعه فتغنشتاين – من حيث لا يدريان! –، وذلك حين قدم راسل دفاعًا عن وجهة نظر ديفيد هيوم بأن معرفتنا بالعالم يجب أن تقوم على التجربة الحسِّية، وأن مفهوم المعرفة إنما هو تجريبي بقوة، وذاك من دافع إبستمولوجي آتٍ من اهتمامه بمسألة "كيف تكون المعرفة البشرية ممكنة، وكيف يمكن لمزاعمنا أن تتحقق". بينما طرح فتغنشتاين نظرية "الصورة"، من غير أن يدخل طرفًا في الصراع بين العقلانيين الميتافيزيقيين والتجريبيين. لكن التجريبيين وجدوا في نظريته أسلحة إضافية، من حيث إن الصور هي لغات إشارية للواقع، كما في التدوين الموسيقي (النوطة) أو التدوين الصوتي (الأبجدية)، حتى في المعنى الأكثر اعتيادية لما تمثِّله، مؤكدًا أنه لو كانت هناك أية قيم فلا بدَّ لها من أن تكون خارج العالم، خارج ما هو واقع. وهو ما اتخذه التجريبيون نقطة انطلاق جديدة، مضادة للعقلانية الميتافيزيقية، من حيث يؤكد فتغنشتاين على التعبير العلمي كنموذج للامتلاء بالمعنى، بينما المزاعم الميتافيزيقية تخفق في ذلك بوصفها خاوية من المعنى. وعلى هذا، يقول: "فما لا يمكن التحدث عنه، يجب إهمالُه في صمت."

"حلقة فيينا": الوضعية المنطقية

ازدهرت هذه الحلقة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ممثَّلةً بأبرز أعضائها: موريتس شليك، رودُلف كارناب، أوتو نويرات، ونصيرها البارز في العالم الأنكلوسكسوني: أ.ج. آير، حيث قدموا تحديًا هائلاً للعقلانية، انطلاقًا من أن أيِّ تعبير يشير إلى واقع يتجاوز حدود الخبرة الحسِّية الممكنة لا يمكن له أن يتضمن أية دلالة حرفية موثوق بها. إذ كيف يمكن لمزاعم اسبينوزا حول "الجوهر"، أو لمزاعم لايبنتس حول "المونادات"، أو لمزاعم هيغل حول "المطلق"، أن تخضع كلها للتحقيق وللتحقق التجريبي حتى يتم الإقرار بأنها ذات معنى؟ وقد ذهب أ.ج. آير إلى أن الفلسفة فارغة حقًّا من دون العلم، وأن على الفلسفة أن تتطور لتكتسب المنطق العلمي في التفكير، حتى تخرج من دوائرها اللفظية المغلقة.

يشير المؤلِّف إلى أن الوضعيين، حين رأوا في العلم الطبيعي نموذجًا للخطاب ذي المعنى، وجدوا أنفسهم في موضع حرج: فإما أن يجعل الفيلسوف الوضعي معياره في التحقيق ضيقًا إلى حدٍّ تُستبعَد فيه تعميماتُ العلم وعباراتُه النظرية، وإما أن يُضعِف معياره إلى حدٍّ يسمح بفتح الباب لتأملات الميتافيزيقيين – إلى أن قال كارل بوبِّر في قابلية الدحض بأن النظرية قابلة للدحض بالتجربة، حتى لو لم يكن بالإمكان التحقق منها. وتابع في ذلك الفلاسفة النسبويون relativists. فردَّ الفيلسوف كواين بأن كلَّ تمييز بين ما هو "تحليلي" وما هو "تركيبي" إنما هو عقيدة غير تجريبية للتجريبيين؛ بل إنها ميتافيزيقا إيمانية محض! – متابعًا هجومه على الفلسفة الاختزالية reductionism أيضًا، منوِّهًا بأن العبارة المفردة ليست هي التي تواجه العالم، بل نظام كلِّي من المعتقدات والنظريات. فالعلم الكلِّي شبيه بمجال قوة يماثل طيف النواة في الذرة؛ أما شروطه فهي التجربة، التي تماثل مدارات الإلكترونات حول الذرة ذاتها.

ومحاجَّات كواين هذه، بحسب كوتنغهام، لا تشكِّل دفاعًا عن العقلانية، لأن نزعته الفلسفية تجريبيةٌ تتحدى التجريبيين الدوغمائيين الذين يدينون العقلانية من دون الاستماع إلى حججها أو مناقشتها من داخلها، وصولاً إلى نقضها وتجاوُزها.

الفيلسوف كريبك وإحياء "الجوهرية"

يشير كوتنغهام إلى المحاولة النموذجية للعقلانية، منذ أفلاطون وحتى عند أرسطو، والمتكررة دومًا فيما بعدهما، لكشف الحقائق "الضرورية" عن الطبيعة الجوهرية للواقع، بمعنى الفهم الفلسفي لما يجب أن يكون، أو ما لا يمكن أن يكون غير ذلك.

وقد حاول كلٌّ من ديكارت واسبينوزا ولايبنتس – بدرجات متفاوتة – بناء أنظمة فلسفية لا تخبرنا مبادئها الجوهرية بما قد "يصادف" أن يكون حقيقيًّا، بل بما "يجب" أن يكون حقيقيًّا – وهو أمر يبدو للفيلسوف التجريبي مضلِّلاً في جوهره، حيث الضرورة، وفقًا لديفيد هيوم، شيء يقتصر على مجال الأفكار أو المفهومات المجردة؛ ولذلك فهي لا تُنتِج معلومة ملموسة، معيارية بالتجربة، عن العالم.

من هنا ينطلق الفيلسوف سول كريبك لإيجاد عبارات حقيقية تصف الخصائص الجوهرية للأشياء في العالم، من حيث يبحث "العلم" في السمات البنيوية الأساسية لطبيعة الأنواع الطبيعية، وصولاً إلى جوهرها – بالمعنى الفلسفي – استنادًا إلى مقولة أرسطو عن "ماهية" الأنواع الطبيعية.

يعلِّق المؤلِّف على نظرية كريبك في "المعنى" و"الماهية" بأنها تمثل إحياءً للعقلانية غير الميتافيزيقية، بتقويضها الفرضية الهيومية (نسبة إلى هيوم) القائلة بعدم وجود حقائق توفِّر المعلومات عن العالم الحقيقي، بينما يراها كريبك متحقِّقة بالبحث العلمي، ومن بعدُ تقوم الفلسفة باكتشاف ماهيتها. وبذلك يبتعد كريبك عن النمط المتطرِّف من العقلانية الذي يهدف على الدوام إلى تجاوُز التجربة الحسِّية، بكلِّ معانيها، بحثًا عن "الواقع الجوهري".

نظرية تشومسكي في اكتساب اللغة

في حين يرى الفيلسوف التجريبي لوك أن الذهن البشري صفحة بيضاء، لوح أملس، ينتظر أن تكتب عليه التجربة، يرى العقلاني أن الذهن البشري قد بُني بطريقة تُعِدُّه مسبقًا لتفسير التجربة على نحو ما، من دون توضيح هذا "النحو" توضيحًا منهجيًّا، كما قال به تشومسكي، من حيث يولد البشر ولديهم معرفة فطرية بالمبادئ، يسميها "القواعد الشاملة" والمشتركة، كما في سائر لغات البشر، من مثل: الفاعل المنطقي، نظام الأصناف والجمل المجردة، الجملة الفعلية، إلخ. ويتابع تشومسكي: "سيكون صحيحًا من الوجهة التاريخية وصفُ آرائي المتعلقة ببنية اللغة بأنها مفهوم عقلاني لطبيعة اللغة، مؤيِّدة للتصور العقلاني في اكتساب المعرفة، حيث إن المعطيات التي يخضع لها متعلِّم اللغة وحدها تنشط: البُنى اللغوية المجردة والمبرمجة وراثيًّا في أدمغة أعضاء نوعنا البشري."

بينما يركز التجريبيون على نظرية "المثير–الاستجابة" في اكتساب اللغة، حيث تأخذ كلُّ كلمة يسمعها الطفل سمة المثير الذي يبرمجه العقل بالتعليم، وبوساطة الحواس الخمس، لتكتسب فيما بعد "استجابة" يُعاد إنتاجُها واستخدامُها، بل وتطويرُ دلالاتها.

ويشير كوتنغهام إلى التماثل الذي يرسمه تشومسكي مع المذهب العقلاني التقليدي، بينما نظريته في القواعد الفطرية اللغوية فرضية تجريبية تُختبَر على حقائق علم النفس والفسيولوجيا، كردِّ فعل على "اللسانيات التجريبية"، مقتربًا إلى ديكارت، الذي يرى في القدرات اللغوية وظيفة الروح غير المادية التي لا تمتد ولا تنقسم، والتي ضمَّها الله إلى أجسامنا، فيحاول تشومسكي اكتشافها في البنية المادية لأدمغة البشر، من حيث هي مبرمَجة سلفًا.

العقلانية والتجريبية والمنهج العلمي

مع التقدم العلمي المتواتر، ظلَّ كثير من العقلانيين متأثرين بالمنهج الاستنباطي للمعرفة، كما عند اسبينوزا، حيث القضايا تُستنبَط خطوة بخطوة من المبادئ الأولى، وحقيقتها مضمونة لأنها استندت إلى تلك المبادئ. بينما يرى التجريبيون أن الاستنباط المنطقي لن يخبرنا إلا بالناتج عن شيء، بينما يكشفه الرصد لنا. وعلى هذا، فإن القوانين العلمية يجب ألا تتأسَّس استنباطيًّا، بل استقرائيًّا.

وقد حاول كارل بوبِّر – العقلاني–التجريبي في آنٍ معًا – أن يتفادى ذلك، باقتراحه "إمكانية الدحض"، من حيث كونها مبدأً للتمييز، يفصل النظريات العلمية عن العلم، حيث تعطي البُنى الاستنباطية للعلم معقوليتَه، في حين أن القدرة على إحداث نتائج متعارضة مع التجربة الفعلية هي التي تمنح العلم منزلةَ الموضوعية.

الثورة الحديثة في فلسفة العلم

ترفض هذه الثورة، في شكلها المتطرِّف، كلاً من النموذج العقلاني والنموذج التجريبي للمعرفة، وتعتبرهما ضالَّين جوهريًّا، حيث يعتبر توماس كوهْن أن النظرية العلمية ما أن تصل إلى حالة الأنموذج السائد المتخندق paradigm حتى يعلن أنها لا تصبح غير صحيحة حتى يحلَّ محلَّها أنموذج بديل!

وهكذا فإن الفلكيين بعد الثورة الكوبرنيكية قد عاشوا في عالم مختلف؛ وكذلك هي الحال مع العلماء إبان اكتشافات أينشتاين وبعده. ويذهب بول فايرَبند أبعد بقوله: "إن العلم الغربي ليس إلا إيديولوجيا مهيمنة؛ إنه تقليد من التقاليد الكثيرة، وليس له حقٌّ خاص في المطالبة بقبولنا إياه." بينما يرى كوهْن أن العالم يُرى، بعد كلِّ نظرية جديدة، بطريقة مختلفة، وليس بحقيقة مختلفة!

ويتساءل المؤلِّف: إلى أي حدٍّ تمثل ثقافتُنا العلمية المعاصرة تقدمًا على ما فعلتْه أنظمةُ الفكر السابقة، من غير أن يصل إلى التقاطع مع فايرَبند الذي يقول: "على المرء أن يقرأ الإيديولوجيات كما يقرأ الحكايات العجيبة التي لديها أشياء مشوِّقة تقولها، لكنها تحتوي على الأكاذيب الفظيعة أيضًا"! أو إلى التقاطع مع الفيلسوف النسبوي بيتر فينتش القائل بأن معايير المنطق ليست هبة مباشرة، لكنها تنشأ في سياق طُرُق لعيش أنماط الحياة الاجتماعية، ولا تكون مفهومة إلا فيها.

ويعترف كوتنغهام، في سياق تعاطُفه مع العقلانية المبثوثة في جنبات كتابه، أنه ثمة مشكلة تعترض العقلاني في تحديده أن نظرية معينة هي بمنزلة تقدُّم على سابقتها، أو أنها أقرب إلى الحقيقة منها، مذكِّرًا بأن أيَّ فيلسوف نسبوي – من ورثة التجريبية – سيرى في ذلك وقوعًا في التفكير الدائري المغلق للعقلانية المثالية، معترفًا بعدم وجود مذهب رسمي يعرِّف بـ"العقلانية"، بل اتجاهات متداخلة تؤلِّف ما يسمى "التراث العقلاني".

يبقى أن نشير إلى أن جهد المترجم، محمود منقذ الهاشمي، بدا واضحًا في انتقاله إلى جملة عربية متناسقة، فيما عدا إكثاره من صيغة المبني للمجهول – قياسًا على كثرتها في النصِّ الإنجليزي – دون أن يجد في كلِّ مرة طريقة مناسبة لتحاشيها، ولاسيما في الصيغة الشرطية.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


* جون كوتنغهام، العقلانية: فلسفة متجددة، بترجمة محمود منقذ الهاشمي، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1997.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود