الموت[*]

حبُّ الموت من حبِّ الحياة!

 

سمير كوسا

 

تُعَدُّ سلسلةُ كتب الجيب "ماذا أعرف؟"[†]، الصادرة عن المطبوعات الجامعية الفرنسية، من كبريات الموسوعات العالمية وأشملها: فقد صدر منها حتى الآن ما يزيد عن 3000 كتاب في شتى ميادين المعرفة والنشاط البشري. ويُعهَد بمهمة تحرير كتب الجيب هذه إلى نخبة من المؤلِّفين، كلٍّ في مجال اختصاصه؛ كما يعاد إصدار القديم منها تباعًا في طبعات منقحة ومزيدة لمواكبة ما يستجد معرفيًّا في سائر المجالات. وتكمن أهمية هذه السلسلة في أنها تنجح دائمًا، عِبْر صفحات قليلة (حوالى 125)، في اختيار المفيد والأساسي من حقل معيَّن وتقديمه إلى جمهور واسع من القراء. وقد حقق كتاب لوي فَنْسان توما – وهو باحث وأستاذ أنثروپولوجيا فرنسي قدير – هذه الأعجوبة على أكمل وجه.

لا يخص الموتُ الإنسانَ والأحياءَ فقط؛ فهو يطال كلَّ ما يندرج في الزمن: المجتمعات تنهار، والنظم الحضارية والعرقية تنحط، والأشياء تتحلَّل، وحتى النجوم تموت. ويُسمَّى العلم الذي يدرس ظاهرة الموت والممارسات الاجتماعية المواكبة له بالثاناتولوجيا Thanatologie (من كلمة thanatos اليونانية التي تعني "موت"). ويمكن تقسيم هذا العلم، بحسب ما يورد المؤلِّف، إلى ثلاثة فروع:

يدرس الفرع الأول ظاهرة الموت ذاته. فهناك الموت الجماعي بسبب الحروب والكوارث. يقول توما بهذا الصدد: "قد تكون الحرب هي أكثر أسباب موت البشر درامية، وهي تلبي، في آنٍ معًا، دوافع عدوانية ودورَ منظِّم ديموغرافي." وهناك الموت الفردي. يقول توما: "كلما ازدادت معرفتُنا العلمية بالموت، ضعفتْ إمكانيةُ تحديد متى يحصل وكيف."

والحقيقة أن الموت سيرورة بطيئة، تتم على مراحل، وتشمل أقسامًا مختلفة من الجسم. وإذا علمنا أنه، منذ سنِّ العشرين، نفقد يوميًّا مئة ألف خلية عصبية neuron، وتزداد الفضلات، ويطرأ انحطاطٌ عام متزايد على القدرات الجسمانية والذهنية لدى الفرد، لقلنا إن الحياة هي الوقت الذي تستغرقه سيرورة الموت!

أما ما نسمِّيه "الـ"موت، فهو أيضًا يتم على أربعة أشواط: الموت الظاهر (تيبس، إلخ)، ويمكن العودة منه إلى الحياة؛ الموت السريري: توقف نشاط القلب والتنفس، ويمكن العودة منه إلى الحياة إذا لم يتخطَّ انقطاع تروية المخ 5 إلى 8 دقائق؛ الموت المطلق: يتوافق، بحسب معلوماتنا الحالية، مع موت المخ؛ الموت التام: عندما لا تتبقى خلايا حية. ويشرح المؤلِّف التحولات التي تطرأ على الجسم الميت، ويدرس مشكلة تعريف الموت: كيف نتأكد من حصوله، وما هي الأفكار اليوم حول عدم إمكانية الرجوع في تشغيل المخ، إلخ.

لماذا نموت إنْ لم يتسبب حادثٌ أو مرضٌ خارجي في موتنا؟ يورد توما سريعًا نظريةً تقول بأن فينا ساعة بيولوجية تكفل – لدى انتهاء الفترة المخصَّصة لنا من الحياة – تصنيع مواد إيقاف الحياة وإفرازها.

يدرس الفرع الثاني المعايشات الداخلية للمشرفين على الموت والممارسات الاجتماعية من حولهم. فقد تبيَّن أن الذين يعلمون بموتهم القريب يمرون بحالات نفسية يمكن تقسيمها كالتالي: الرفض ("أنا؟! مستحيل!")، الغضب ("لماذا أنا؟!")، المساومة ("إذا شُفيتُ سأغيِّر حياتي أو سأقوم بهذا أو بذاك...")، الانهيار ("ليس للحياة معنى، كل شيء تافه، لا أمل لي...")، ثم القبول: ويرافق المرحلة الأخيرة شعورٌ عميق وحضور تام في كلِّ لحظة يعيشها المشرف على الموت. ويقول العديدون ممَّن بلغوا هذه المرحلة إنهم يعيشون في غبطة كلَّ لحظة وأنهم يتنبهون إلى أشياء لم يسبق أن لفتت أنظارهم. (غني عن الذكر أن بعضهم قد يبدأ من المرحلة الثانية أو غيرها، وأنه في بعض الأحيان يحدث تداخُل بين بعض المراحل ونكوص إلى مرحلة أخرى سابقة.)

وتموت غالبية الناس، في البلاد المتقدمة، معزولةً في مستشفيات أو دُور للعجزة تفتقر إلى العاطفة والألفة. فكأننا نقول للمريض: "ماذا تنتظر؟! هناك آخرون في حاجة إلى سريرك!" وقد تنبَّه العديد من الجمعيات إلى هذا الإهمال، وبات هناك بعض المستشفيات المتخصصة في مرافقة الموتى في أيامهم الأخيرة، حيث يُحاطون بكلِّ عناية ومودة، وحيث يتمكن الأهل من زيارتهم في أية لحظة، حتى إن الموت يصبح طبيعيًّا جزءًا من الحياة (وهو كذلك في الحقيقة). أخيرًا، يهتم الباحثون في هذا الفرع بما يرويه بعضٌ ممَّن اعتُبِروا أمواتًا ثم عادوا إلى الحياة عن تذكُّرهم لحياتهم بكاملها في حضرة كائن نوراني، إلخ.

يدرس الفرع الثالث الموتَ من وجهة نظر الأحياء، حيث نجد الشعائر الخاصة بالموت والمعتقدات حوله. يقول توما إنه، في صورة عامة، تُعَد الشعائرُ ممارساتٍ لراحة نفوس الأحياء، وليس الأموات! وهو يدرس أشكالَها بحسب الحضارات والأزمنة، كما يدرس تطور مفهوم الحداد ومراسم الدفن (أو الحرق)، ويتعرض سريعًا للمعتقدات حول حياة ما بعد  الموت، فيلاحظ وجود أربعة نماذج أساسية:

1.     الآخرة قريبة من دنيانا وتتشابه معها، مع إمكانية الاتصال بينهما؛

2.     الآخرة ذهاب لا عودة منه إلى عالم مختلف وبعيد؛

3.     القيامة؛ و

4.     عَوْد الكائن الواعي نفسه للتجسد في أجسام مختلفة (التقمص).

ويتحدث المؤلِّف عن المؤلَّفات والأفكار الحديثة في هذا الخصوص.

يستحق هذا الكتاب، كسائر كتب توما، الدراسةَ والترجمة. (نذكر من كتبه: أنثروپولوجيا الموت، الجثمان، شعائر الموت لراحة الأحياء، إلخ.)

الموت والسلطة

الموت قيد النظر

من كتب لوي فنسان توما

الموت حليف للحياة، بل هو جزء منها. فماذا لو بقيتُ حيًّا، بكلِّ تعلقاتي وأفكاري وإشراطاتي؟! هل كان من الممكن للحياة إذ ذاك أن تتطور؟

وها نحن في انتظار اليوم الذي سيمكن لنا فيه أن نعيش متجدِّدين في كلِّ لحظة – وذلك موت في كلِّ لحظة عن الماضي وحياة في "الآن"، كما يؤكد كريشنامورتي. ويبقى قول توما صحيحًا دائمًا: "من الصحيح قولُنا إنه إذا كنَّا نحب الحياة ولا نحب الموت، فذلك لأننا لا نحب الحياة حقًّا."

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


 

horizontal rule

[*] Louis-Vincent Thomas, La mort, Coll. « Que sais-je ? », Presses Universitaires de France, Paris, 1988, 123 pp.

[†] شرعت دار عويدات ببيروت في ترجمة بعض كتب هذه السلسلة إلى العربية منذ عقود، لكن المشروع تعثَّر، على ما يبدو. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود