حلم الجينوم وأوهام أخرى

الخروج من أفق الجدل الفلسفي إلى ميدان العلوم الطبيعية

 

غادة علي كلش

 

يجمع كتاب حلم الجينوم وأوهام أخرى[*] للباحث ريتشارد ليونتين (أستاذ البيولوجيا في جامعة هارفرد) بين "النقد الحاد للادعاءات العلمية المبالَغ فيها وبين العرض الصافي لأهم مسائل المعرفة العلمية الحالية ولأكثرها إثارة للجدل". ويغطي هذا الكتاب تاريخ البيولوجيا الحديثة، من داروِن إلى النعجة دوللي، داحضًا أيَّ ميل للنظر إلى البيولوجيا على أنها "السبيل إلى معرفة كلِّ ما نريد معرفته عن حياتنا البدنية والعقلية والاجتماعية"، متضمِّنًا، في الوقت ذاته، كلَّ المقالات التي كتبها ليونتين على مدى سبعة عشر عامًا والتي كانت أصلاً عروض كتب نُشِرَتْ في دورية New York Review.

لقد عالجتْ هذه المقالات نواحي متنوعة من البيولوجيا – البيولوجيا البشرية بصفة خاصة؛ وقد قدَّم لها المؤلِّف في صيغة شرح مسهب، متناولاً الهدف الرئيسي منها، شارحًا التحولات التي طرأت على أسُس البحث في طبيعة العالَم، حيث خرجتْ بؤرةُ التساؤل عن هذه الطبيعة "من أفق الجدل الفلسفي إلى ميدان العلوم الطبيعية، بدءًا من القرن السابع عشر، وصولاً إلى منتصف القرن العشرين، حين أُعلِنَ التتويجُ النهائي للفيزياء كعلم منتصر". ومما قاله ليونتين في إحدى فقرات المقدمة:

بدأ الفيزيائيون والكيمياويون الهجرةَ إلى البيولوجيا في ذروة مكانة العلوم الفيزيائية ونجاحها في خمسينيات القرن الماضي، ليؤسِّسوا البيولوجيا الجزيئية الحديثة. كانت هذه الحركة المتناقضة ظاهريًّا، في بعض منها، انعكاسًا لغطرسة الفيزيائيين الذين أسكرهم نجاحُهم في التحطيم، فلم يشكُّوا لحظةً في أن العلم الذي استُخدِمَ في شَطْرِ الذرة قادرٌ على حلِّ المشكلة الأعقد لتشريح الپروتوپلازما. لكن هذه الحركة قد جاءت أيضًا عن إحساس متنامٍ بأن نجاح العلوم الفيزيائية ذاته إنما يعني أن جميع المشكلات التي تستحق المعالجة حقًّا قد حُلَّتْ بالفعل، ولم يتبقَّ للعلماء من العلوم المثيرة إلا البيولوجيا. بدأ في الوقت نفسه تقريبًا، وتسارَع إلى أبعد حدٍّ بعد نجاح سپوتنيك، تزايدُ إنفاق الدولة على العلوم الأساسية تزايدًا أُسِّيًّا، ليوفِّر للأبحاث البيولوجية مَبالِغَ ضخمةً لم تخطر قبلاً على بال [...].

ويشير الباحث في فقرة أخرى إلى نجاح برنامج فَيْزَقَة (إضفاء الصفة الفيزيائية) البيولوجيا، الذي كان المشجِّع لبرنامج بَيْلَجة (إضفاء الصفة البيولوجية) النفسيِّ والاجتماعي، البرنامج الذي ورثناه أيضًا – يقول – عن القرن الثامن عشر. ويتابع:

فإذا كانت الأفكار والمواقف والمزاج والثقافة هي، على الرغم من كلِّ شيء، تجلياتٍ لنشاط عضو جسدي، هو المخ، ألا يتبع ذلك منطقيًّا أن تكون أسبابُ الأفكار والمواقف والمزاج والثقافة متطابقةً مع الأسباب التي حددت هذا العضو الجسدي؟ وبشكل أكثر تخصيصًا، من السهل الاعتقاد أنه إذا كانت الكائنات الحية هي، إلى حدِّ كبير، نتاجَ الجينات التي ورثتْها، فستكون التماثُلات والاختلافات فيما بينها نتيجةً للتماثُلات والاختلافات في جيناتها؛ وتصير بذلك الأنثروپولوجيا وعلوم الاجتماع والنفس والسياسة والاقتصاد واللسانيات والفلسفة الأخلاقية فروعًا للبيولوجيا التطبيقية، ولعلمَي الوراثة والتطور بصفة خاصة. لقد شاع في القرن التاسع عشر الاعتقادُ بأن شخصية الإنسان موجودة في دمه؛ ومع تراجُع الأفكار المبهمة عن "الدم" أمام نظريات الوراثة الواضحة، بدتْ نظريات وراثة الشخصية في الظاهر أكثر علمية.

ولم يغبْ عن ذهن الباحث التصريح بأن

الفحص عن المجتمع البشري ليس هو المجال الوحيد الذي لا تُتاح فيه الحقيقةُ أحيانًا. لقد وصل الأمرُ بعلماء الطبيعة – بكبريائهم المتعجرفة – إلى الاعتقاد بأن كلَّ ما يتعلق بالعالم المادي أمورٌ يمكن لنا معرفتُها، وبأننا سنعرف في نهاية المطاف كلَّ ما نريد أن نعرفه. وهذا ليس صحيحًا؛ إذ إن هناك أمورًا لا يتوافر لها ما يكفي من بشر أو وقت. قد لا نتمكن أبدًا من أن نعرف أكثر من تفهم بدائي للجهاز العصبي المركزي، بالنظر إلى القيود الضرورية على الزمن والمواد المتاحة للعلوم الطبيعية. وفي غير هذه من أشياء، لن نجد تقنيةَ قياس ممكنة للرصد، وبخاصة في مجال البيولوجيا، حيث يعمل كثير من القوى، كلٌّ بمفرده ضعيف. لا توجد في البيولوجيا التطورية، مثلاً، إمكانية لقياس القوى الانتخابية التي تعمل على معظم الجينات، لأن هذه القوى ضعيفة للغاية؛ وعلى الرغم من ذلك فهي التي تتحكم في التطور النهائي للكائنات الحية. والأدهى أنه ليس ثمة وسيلة لتأكيد أو رفض ما يُروى عن القوى الانتخابية التي عملت في الماضي لتصل بالخصائص إلى ما هي عليه الآن.

ويضيف ليونتين:

لقد حاولتُ مرارًا وتكرارًا في المقالات التي أعيد نشرها هنا أن أترك انطباعًا بمحدودية إمكانات معرفتنا. فالعلم نشاط اجتماعي يمارسه جنس بشري فذ [...]، ولكنه إطلاقًا ليس قادرًا على كلِّ شيء [...].

نقرأ من مقالات الكتاب بعضَ ما جاء في المقالة المندرجة تحت عنوان "ماذا إذًا بعد الجينوم؟" (ص 174):

في يوم الاثنين الموافق في 12 شباط من العام 2001 نشرت الـNew York Times على صفحتها الأولى فوق الثنية خبرًا مفاده أن المشروعَين المتنافسَين لسلسلة الجينوم البشري على وشك أن يُعلَنا. [...] وفي يومَي الخميس والجمعة ظهرت الأوراق العلمية التي تعرض التفصيلات، تحيط بها ظلالٌ خفيفة من التعليقات والتحليلات والوعود بمستقبل ورديٍّ لصحة الإنسان ومعرفته لنفسه. وقد يبدو أمرًا مشهودًا أن يُنجِزَ مشروعان، واحد بتمويل عام والآخر تجاري، كلٌّ على حدة، أهدافَهما في سلسلة الثلاثة بلايين نوتيدة التي تشكِّل الجينوم البشري، وأن يتمَّ تحليلُ التتابع ونشرُ النتائج في يومين متتاليين. لكن هذا لم يكن مجرد مصادفة؛ لقد كان في الواقع نتيجة الهدنة التي رُتِّبَ لها سلفًا ونُسِّقَتْ في عناية بين المتنافسَين.

كان قرارهما بأن تتابُع الـDNA البشري قد تمَّ بالفعل تحديدُه قرارًا تعسفيًّا. فثمة اعتراف بوجود فجوات لم تُستكمَل بعد، تصل إلى نحو 6% من التتابُع [...].

وفي تحريكه الجوهري والأساسي للأهمية التي حقَّقها الإعلان عن تتابُع الجينوم، يتساءل ريتشارد ليونتين:

ما هو الشيء المهم الذي تحقَّق في تتابُع الجينوم البشري؟ إن الغريبة الرئيسية في سلسلة الجينوم البشري هي أن النتيجة لا تقدم الإجابة عن السؤال الرئيسي الذي حرَّك المشروع. ها قد سَلْسَلْنا الآن الجينوم البشري بالكامل، لكننا – يا للأسف – لا نعرف شيئًا أكثر مما كنَّا نعرف عن معنى كوننا بشرًا [...].

لقد كانت الاستجابة – يقول الباحث – لاكتشافنا بأننا نحن البشر لا نحمل معلوماتٍ وراثيةً تزيد كثيرًا عما تحمله النباتات والديدان هي أن

نستدعي مشروعًا جديدًا أكبر بكثير. لقد وافق علماء البيولوجيا الجزيئية الآن على أن الجينوم لم يكن هو الهدف الصحيح، وأننا نحتاج الآن إلى دراسة الـProteum، أي المجموعة الكاملة للبروتينات التي يصنعها الكائن الحي.

كتاب حلم الجينوم وأوهام أخرى ضربة قوية مسدَّدة إلى العلم الاختزالي الذي يتوهم أنه يستطيع التوصل إلى تعريف "فيزيائي" بالإنسان وإلى تقديم حلول لمشكلاته كافة.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


 

horizontal rule

[*] ريتشارد ليونتين، حلم الجينوم وأوهام أخرى، بترجمة أحمد مستجير وفاطمة نصر، المنظمة العربية للترجمة، كانون الأول 2003.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود