العودة إلى الينبوع الأول

 

جورج كعدي

 

ها أنِّي أعود راضيًا مَرْضِيًّا إلى العشق الأول، – السينما، – إلى حضن الصورة والحلم البهيِّ، إلى ما انقطعتُ عنه أو تقطَّع حضوري المنتظمُ فيه. ولطالما كانت السينما، في نقاء عوالمها الحلمية المملوءة خلقًا وعبقرية وفرادةً، بديلاً لي – على هَدْي فرنسوا تروفو – من واقع الحياة وقبحه، ملاذًا من الشرِّ المحيق، من الخيبات والمظالم، من "الوضع البشري" المحبط، من اللؤم والحسد والعقوق. فأي ملجأ لإنسان أعزل أوفر أمانًا من عشقه للفنون ولكلِّ صنوف العطاء المبدع من ساعات الحلم تلك: الانعتاق من دنيا الواقع في صالة مظلمة تضيء شاشتَها البيضاءَ حكاياتُ الجمال، إنسانيةً، عاطفيةً، رقيقةً، متعاطفةً، أو حتى تراجيدية، إنما دومًا في خطِّ السموِّ المتصاعد إلى ذرى الإبداع الإنساني النقي.

كلٌّ يحيا اختباراتِه المتعددة في هذا العمر العابر، المنثور هباءً – نشعر به كذلك أحيانًا! – على دروب الواقع القاسي. المهم أن يخلِّف المرءُ في كلِّ اختبار علامةً وحضورًا خاصين، مميَّزين ربما، ثم يمضي إلى اختبار آخر ومرحلة جديدة، بلا أسى أو أسف. فلا شيء في هذا العالم يستأهل – إلا اللهم الصيت الحسن الناصع، على ما ذهب به قولاً جدودُنا الحكماء. الأمجاد كلها باطلة – باطل الأباطيل كل شيء باطل وقبض الريح – إلا ذاك الذخر الإنساني فينا، وإرث التفاني المتروك، والضمير المرتاح في ما صنع وأنجز وغرس في الأفئدة والنفوس، طوال سنين، من قيم إنسانية وفنية وجمالية، نحتًا في جسد الكلمة بحبر الروح ودم الأصابع.

ولكلِّ مرحلة واختبار مذاقٌ وميزة. بيد أن العودة إلى الينابيع الأولى لها الأثرة ونكهة الحنين والأفضلية. وما الحب إلا للحبيبة الأولى – وهي السينما هنا – بكل ما توفِّر من إشباع وإمتاع ولذة متابعة وتقويم. النقد السينمائي مجالي الأول، ميداني الرحب؛ افتقدت مديدًا جولاتي فيه والصولات، فلِمَ لا تكون هذه العودة منبعَ حبور واطمئنان إلى الحضن الدافئ الذي أؤوب إليه ابنًا ضالاًً؟ – فتستكين الروح، ويهدأ البال من تيهٍ في الشعاب الأوسع التي لا تجلب سوى أحقاد البشر والضياع!

لا أسى، لا أسف، لا حرقة في القلب، ولا ندم أو افتقاد. علامَ كل ذلك وأنا عائد بعد غد مجددًا إلى عالمي الأغلى الأحَب؟! – مشتاقًا فقط إلى أحباء مخلصين كانوا رفاق درب طويلة في محطة العمر السابقة، بذلوا الجهد والطاقة والعصب الحي، فتقاسمنا التعب وسهر الليالي رصدًا ومتابعةً، قراءةً ومشاهدةً وكتابة، مناقشةً وتداولاً، أوقاتَ رفقة طيبة وساعات ودٍّ واسترخاء؛ أحباء هم نخبة وقلَّة نبيلة – ولا أدلُّ على أسمائهم، فهم العارفون والأدرى بالتحية.

ليست مهمة أية فسحة ستكون لعودتي المعلَنة هذه – هنا أو في موقع آخر. المهم أن تظل الأحلام ملك العينين والحواس، ملك الروح العطشى إلى كلِّ خَلْق جميل.

*** *** ***

عن النهار، السبت 20 آب 2005

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود