بين البوذا وهيراقليطس[*]

مارسيل كونش

 

لو نظرنا إلى الأدب الفلسفي اليوناني نظرةً شاملة، لاستنتجنا أنه، فضلاً عن أعمال الأفلاطونيين المهمة جدًّا، يُعتبَر الفكرُ اليوناني، في مجمله، فلسفة وحكمة للصيرورة. يجسِّد هيراقليطس هذه الفلسفة خيرًا من أفلاطون – وهذا الأخير هو الأقل يونانية بين اليونانيين، بحسب نيتشه. وإذا كانت تلك الفلسفة حيةً لدى فلاسفة زمننا الراهن فبفضلٍ من هيراقليطس. نيتشه، برغسون، الماركسيون (الذخائر الفلسفية للينين)، دولوز، وسواهم، هم، في بعض نواحي فكرهم، هيراقليطيون. ولكن مَن الذي يُعتبَر أفلاطونيًّا؟

أحد معاصري هيراقليطس هو البوذا، الذي نجد لديه فلسفةَ الصيرورة نفسها. وكلاهما موجود في ثقافتنا المعاصرة، حيث أعدنا اكتشاف الهند التي نسيناها. إن هذين المفكرين الأساسيين هما، في الوقت نفسه، متقاربان ومتناقضان جذريًّا – وأعترف بأنني أقف في جانب هيراقليطس. في أثناء شرح أحد رؤساء الأديرة الشريلنكية لجوهر البوذية، استعاد هذا الكاهن جملة هيراقليطس عينها: "كلُّ شيء يجري." "الحقيقة النبيلة الأولى"، بحسب البوذا، هي الألم في معناه المتداول، الذي يعني في لغة الفلسفة البوذية عدم الدوام impermanence: لا شيء يدوم، لا شيء يظل يشبه ذاته للحظتين متتاليتين، ونحن نولد ونموت في كل لحظة. لا يقول هيراقليطس شيئًا آخر سوى "كل شيء يمر ولا شيء يدوم"، و"لا يمكن لنا النزول مرتين في النهر عينه". على الرغم من تعدد السياقات، ما من إله ثابت، ما من أنا دائمة، ما من روح، ما من كيان. تلك هي العدمية الأونطولوجية. يتحول الكائن إلى ظواهر متغيرة لا تخفي وراءها شيئًا. يخطئ ديكارت في قوله: "أنا أفكر، إذن أنا موجود." فالفكرة لا تفترض وجود "مفكِّر".

يبقى أن البوذا لم يتفكر في الصيرورة في قوة تفكير هيراقليطس، وإلا فما كان ليقول "لا أعلِّم سوى شيء واحد: الألم والخلاص منه." فالألم، بحسب اليونانيين وهيراقليطس، ليس سوى واحد من الجانبين، فيما الفرح هو الجانب الآخر. يقول البوذا إن الولادة ألم، وكذلك الانحطاط والحزن واليأس والموت. لكن، في المقابل، يأتي فرح الأبوة، الرضا من تحقيق الذات، القبول الهادئ للموت، الألم المخصب للمبدع، الأمل بعد اليأس.

البوذا ليس "متشائمًا"، تبعًا لأقوال تلامذته. أما أنا فأعتبر أن نظرته إلى الحياة مبتورة. يزعمون أن عدم الثبات يؤدي إلى عدم الرضا والخيبة؛ وأقول بأننا قد نلقى في التغيير الفرحَ بقدر ما نلقى الأسى. لا يتمنى هيراقليطس أن يتوقف الألم إنْ كان سيؤدي إلى حذف الجانب السلبي من العالم والحياة. الإيمان بأننا نستطيع إبعاد السلبي من الحياة – أي البشاعة، الوجع، الشقاء، الشر، الخيبة، الفشل، إلخ – يعني أن نعيش في وهم جهل قانون الصيرورة الذي لا يتقدم إلا في الجمع بين الأضداد.

هيراقليطس متأملاً: تفصيل من لوحة "مدرسة أثينا" لرافائيلو

قانون الوحدة الهيراقليطية وعدم انفصال الأضداد لا يجد مُعادلَه في البوذية. حتى إن البوذا يفكر في الأضداد كما لو أنها متناقضة. لا يسعنا أن نلغي الألم ليبقى الفرح أو التعاسة ولتبقى السعادة إذا كانت هذه التعبيرات المتعارضة بلا معنى إلا من خلال تقابُلها. فلولا الظلم لما وُجِدَتْ كلمة "عدل". كلٌّ من النقيضين يستبعد الآخر؛ إنما لو اختفى أحد تلك التعبيرات في بساطة أمام نقيضه لا يمكن لذاك النقيض أن يُسمَّى. هنا تتعارض حكمةُ البوذا مع حكمة هيراقليطس: فمن ناحية، حكمة الغبطة، ومن أخرى، الحكمة المأسوية. تُدعى الحقيقة البوذية النبيلة الرابعة بـ"الطريق المؤدية إلى وَقْف الألم"، وبالتالي، إلى حال من الهدوء والسلام والسعادة، تمامًا كالتي تظهر على وجوه البوذا المرسومة أو المنحوتة، حيث لا أثر للقلق أو للعذاب. عزل السعادة وتطهير الحياة من جوانبها السلبية كلِّها – إنه ما يراه هيراقليطس أمرًا متعذرًا؛ إذ يبدو له مناقضًا لجوهر الحياة الملتبس.

منحوتة هندية تمثل لرأس البوذا: سكينة النيرفانا

هل الغبطة النهائية ممكنة، وحاد عنها هيراقليطس بطبيعته كفيلسوف؟ صحيح أن البوذا حكيم، لكنه ليس فيلسوفًا حقيقيًّا. الأصعب دومًا أن يكون الإنسان فيلسوفًا من أن يكون حكيمًا. مَن الفيلسوف الحقيقي؟ إنه الذي يؤثر الحقيقة على السعادة، الذي ينشد الحقيقة، حتى لو دفع ثمنها من غياب السعادة. ما يهم البوذا، أولاً، ليس الحقيقة. الحقائق النبيلة الأربع تجسِّد عقيدة البوذا، ويشبِّهها هذا الأخير بطوافة لا فائدة منها سوى عبور النهر، ويسعنا التخلي عنها لدى بلوغنا شاطئ الأمان. هكذا يتغلب المفيد على الحقيقي.

لم يجب البوذا عن أسئلة أحد الكهنة الميتافيزيائية حول خلود الكون أو نهائيته، مبررًا ذلك بانعدام الفائدة من معرفة الجواب، وقائلاً: "جوابي لن يفيد، وهو لا يرتبط في شكل أساسي بقداسة الحياة وروحانيتها، ولن يؤدي إلى التجرد وانقطاع الألم والصفاء والنيرفانا." إن أسلوب تفكير البوذا لا يعير أيَّ اهتمام للشغف الخاص بالفيلسوف، أي الشغف بالحقيقة. ولكن هل سنحصل على الحقيقة المطلقة؟ ربما لا. من دون شك. مهما يكن من أمر، هل كان كريستوف كولومبس يعلم أنه سيكتشف أمريكا؟!

إن خيار الفلسفة وفعلها محمولان بشغف العقل، ويفترضان الحكمة المأسوية. لا يمكن للنقيضين أن ينفصلا. ولأن القانون الهيراقليطي حقيقي فهو يستذكر البوذا نفسه. لو ألغينا الألم لألغينا نقيضه. فماذا ينتج؟ إلغاء السعادة والإحساس بكلِّ شيء آخر.

قال أحد البوذيين لصديقه مرة: "النيرفانا هي السعادة." فسأله صديقه: "ولكن ما هي تلك السعادة إذا لم تتضمن أيَّ حس؟" فأجابه الأول: "إلغاء الحس – تلك هي السعادة بعينها." هذا منتهى طريق البوذية: التخدير.

أنا أفضِّل الـ"نعم" الهيراقليطية، "نعم" مونتيني ونيتشه: "نعم" للحياة ولكلِّ ما تتضمنه (مع أني لا أنسى شيئًا من أشكال الفظاعة والتعاسة المتعددة). أقبلها في امتنان، وبلا شكوى. أما السعادة فلا أؤمن بها إلا من خلال ما أتمنَّاه للآخرين.

*** *** ***

عن Le Nouvel Observateur

ترجمة وتعقيب: ندى الحاج

 

تعقيب

بعد عرض رأي مارسيل كونش، لا بدَّ من الإشارة إلى أن البوذية لا تدَّعي امتلاك الحقيقة. إذ يتمحور جوهرُ فلسفتها حول الاكتشاف الذاتي للحقيقة، بعيدًا عن التكبر. من تعاليمها ذاك القائل:

ليس من اللائق لإنسان مدافع عن الحقيقة أن يتوصل إلى خلاصة أنه هو المؤتمَن على الحق وأن ما سواه ضلال. يمكن لأحدنا أن يؤمن بما يريد ويقول: أؤمن بهذا الأمر، ولا يمكن له أن يحتكر حقيقةً ما ويدَّعي أنها الوحيدة.

لذا لم يعلِّم البوذا شيئًا إلا ضرورة الخبرة الذاتية – وهذا ما يُسمَّى بـ"التعليم الصامت". كما أنه شدَّد على نقطة أساسية، قائلاً:

لا تدعْ نفسَك تنقاد إلى علاقات أو تقاليد أو إلى ما يُقال، ولا إلى سلطة النصوص المقدسة أو المنطق البسيط أو التحليل أو المظاهر أو الاحتمالات، ولا إلى لذة مناقشة الأفكار. أنا تعلَّمت كثيرًا وعلَّمت قليلاً، لكني لم أتصرف كالمعلِّم الذي يحتفظ بسرِّه لنفسه: علَّمتكم الحقائق النبيلة الأربع. ما هو مفيد، مبادئ الـدهرما، ما يقود إلى احتقار العالم، إلى الزهد، إلى السلام، إلى الفهم الأقصى، إلى اليقظة الكاملة والنيرفانا.

إذا كانت البوذية لا تدَّعي الفلسفة، وهي بعيدة عن منهجها التحليلي[†]، فمن المؤكد أنها تقدم للإنسان فلسفةً حياتية لمواجهة صعوبات هذه الحياة، وتفهُّم تقلباتها، والتحكم بمزاجيَّتها، وعدم الانجراف في أوهامها. وهي تساعده، على الأقل، على استيعاب الآخر كي ينجو معه من الغرق.

ن.ح.

*** *** ***


 

horizontal rule

[*] في ملف متميز خصَّصته مجلة Le Nouvel Observateur الفرنسية حول الفلسفة البوذية وتضمَّن مئة صفحة من المقالات الشائعة لمجموعة من الفلاسفة والكتَّاب والباحثين، اقتطفنا هذا المقال القصير للفيلسوف الفرنسي مارسيل كونش يقارن فيه بين هيراقليطس والبوذا ويتساءل عما إذا كانت البوذية فلسفة أم لا. (المترجمة)

[†] كلام كونش، وموافقة ندى الحاج عليه، يفتقران إلى الدقة. البوذية فلسفة بكلِّ الدقة المطلوبة في المنهجية الغربية. وسوف يتبين ذلك للقارئ من خلال إصدار خاص قيد الإنجاز ننوي تخصيصه للبوذية. (المحرِّر)

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود