|
تلك
الأيَّـام (الجزء
الأول) جوهر
التراجيـديـا لا فظـاظـة عاطـفيَّـتهـا! ما الذي
يحدث حين تصبح الذاكرةُ بالذات شاشةَ الوعي،
توجِّه إرادةَ صاحبها، وترسم أمام عينيه
خطوطَ الحياة وألوانَها؟ ثمة إجماع على أن
السنوات الأولى من عمر الإنسان، وما شَهِدَه
في أثنائها من فرح وحزن، من قسوة أو هناءة
عيش، تتكفل بناءَ شخصيته وتحديد نظرته إلى
العالم وكيفية استقرائه للحوادث. إنها
المداميك الأساسية التي ينهض عليها كيانُه
الشخصي كله – فكيف إذا كانت هذه السنوات
الأولى موغلةً في القسوة، متشحة بالسواد؟! خواطر وأفكار تنداح
في الذهن عند قراءة كتاب الناقد الفلسطيني
يوسف سامي اليوسف تلك الأيام، في جزئه
الأول[1]
الذي يكرِّسه لاسترجاع سنين عيشه العشر في
قريته الجليلية لوبيا، التي غادرها فتًى مع
أهله في العام 1948 نازحًا، إلى لبنان أولاً، ثم
إلى العاصمة السورية. يوسف سامي اليوسف يكتب
هذه المرة خارج موضوعه الذي كرَّس له حياتَه،
أي النقد الأدبي، فيأخذنا في رحلة إلى تلك
القرية التي دمَّرها إسرائيل والتي ظلت تنهض
في ذهن أبنائها ومخيلتهم، ومنهم اليوسف، الذي
يستعيدها حجرًا حجرًا، مزرعةً مزرعة،
ليستعيد مع الحجارة والمزارع والحيوانات
والبشر ومفرداتهم صورةَ الحياة نفسها لمجتمع
فلاحيٍّ في قرية اشتهر أهلها بالزراعة (القمح
والزيتون) وتربية المواشي، مثلما اشتهروا
بدفاعهم المستميت عن قريتهم والقرى
المجاورة، وصولاً إلى مدينة صفد. فلوبيا كانت
إحدى القرى الكبيرة نسبيًّا؛ وهي، لهذا السبب
بالذات، حظيت بأهمية خاصة خلال حرب العام 1948،
إذ اعتبر سكانُ القرى المجاورة أن صمودها
يحمي قراهم ويمنحهم الثقة، في حين يعني
سقوطُها سقوطَ كلِّ القرى الأصغر والأقل
سكانًا وإمكانات دفاعية. يوسف اليوسف في تلك
الأيام يذهب إلى الجزئيات والتفاصيل
الصغيرة التي تعكس رؤية طفل يرى مصير وطنه
وأيامه منحدرًا نحو الكارثة. استرجاعٌ فيه
كثير من الاتكاء على حوادث الحياة اليومية،
الخاصة أولاً، بما فيها من انشغالات بسيطة،
ثم العامة، المتصلة بالآخرين. صورة اليهود في
تلك الاسترجاعات جاءت صورةً أولى لفتى لم يكن
قد تعرف إلى الصراع إلا من عناوينه العامة
وحكاياته التي يردِّدها الكبار. صورة اليهود
الأولى، كانت صادمةً ولها وَقْع "الحرب"؛
إذ جاءت من خلال طابور شبه عسكري لمجموعة من
الشبان والفتيات اليهود يخترقون القرية
اختراقًا يستفز الأطفال الذين كانوا
يشاهدونهم للمرة الأولى. تلك السنوات الأولى
من حياة الكاتب كانت أيضًا البدايات الأولى
للمأساة. يعرف يوسف اليوسف كيف يمزج بين
تفاصيل الحدثين: حَدَثِه الشخصي، إذ هو الطفل
العليل منذ البداية، الذي يرى بأمِّ عينيه
رياح المأساة تعصف بأهله ووطنه، والحدث
العام، بأبعاده المحلية والدولية. هنا نقف
على لغتين متناقضتين تتجاوران في سطور الكتاب:
لغة السرد الاسترجاعية، – وفيها الكثير من
السلاسة والرشاقة، – وأخرى تبدو نشازًا ينتأ
من السطور، هي تعليقات الكاتب على اليهود و/أو
الإنكليز التي جاءت فجَّة، إنشائية، وصفيةً
في الغالب، وتحمل طابع الهجاء الذي لا يقدم
أية إضافة فكرية أو جمالية: إن
كائناتٍ من هذا القبيل هي بالضرورة أنفُس
موغلة في السخف والتفاهة والسفاهة وضمور
العقل. والأسخف منهم، بل ذوو الضمائر الأكثر
ترمدًا، هم أولئك الذين دعموهم بجميع أساليب
الدعم المادي والمعنوي.[2] كنت أتمنى أن يأتي
الكتاب خاليًا من أمثال هذا التعليق، وخصوصًا
أنه لا ينتمي إلى سطوره، بل يكسر إيقاعها،
الذي حمل كثيرًا من الجمالية، جماليةِ رسم
صورة القرية الفلسطينية في تلك الفترة من
الأربعينيات التي مهَّدتْ للنكبة. الانفعال
قد يبدو، في حال كهذه، مفهومًا ومبررًا؛ لكني
أجده خارجًا عن السياق، وخصوصًا أن هذه
العاطفية الفجَّة لا تسعف النص الذي أعتقد أن
جدارته الحقيقية تكمن في صدقية تعبيره عن
قضية ناصعة لا تحتاج إلى التعبير عنها إلى شيء
بقدر حاجتها إلى الصدق المؤسَّس على البساطة:
هناك بالذات تكمن قوة الكلمات وتوهجها الصوفي.
فما أبعد المقبوس السابق، أدبيًّا، عن الوصف
التالي للربيع والخريف في فلسطين "تلك
الأيام": فإذا
جاء نيسان، الذي يرث جهود أمطار غزيرة تهطل
بين تشرين الثاني وبين آذار، رأيتَ الحُمرةَ
والصفرةَ، فضلاً عن الخضرة، توشِّي أديم
الأرض السندسي الفينان، ورأيتَ السماءَ تسرف
في الزرقة اللازوردية الصافية؛ إنها الزرقة
المسفوحة من الأفق الأيمن إلى الأفق الأيسر.
فيا للاندياح المترامي الرحيب! ويا للعالم
الذي يغدو وكأنه استحضار أو تجسيد للألطاف
الحسنى، بل حتى للأسرار أو للمستورات نفسها! ويرقُّ
النسيم المسرف في العذوبة والقدرة على
الإنعاش، يرقُّ حتى لكأنه مادة تبث في النفس
شيئًا من الخَدَر والنشوة؛ بل يغدو أشبه
بأنفاسِ ساحرةٍ تعزِّم وتهينم، كأنما هي
تسترضي الأرواح المستورة وتحاول تلبية سؤلها
المنشود! وأذكر أن رقة النسيم المعتل كان من
عادتها أن تعاود حضورها الفاتن في النصف
الثاني من شهر تشرين الأول. وعندي
للخريف مذاقٌ لا يدانيه مذاقُ الربيع؛ بل
إنني لا أبالغ إذا ما زعمت بأن الخريف فصل
صوفي بامتياز. فمن شأن الغموض الخريفي أن ينتج
في النفس شعورًا بأن الزرقة في الفضاء البعيد
ترعش، أو تخفق وتتماوج، وكأنها مفتونة بشيء
سرِّيٍّ مكتوم. كما قد يشعر المرء بأن الأفق
برزخ يتلاحم فيه البر والبحر. ولا يسعني، حين
أتذكر تلك المستورات الجليلة المهيبة التي
عتَّقها الزمن في ذاكرتي، فأحالها إلى ما
يشبه الخمرة الصوفية القديمة، إلا أن أتذكر
الوثنية وأسرارها، فأستوعب كم هي عميقة
الغور، لأنها مختصة بالتهجس لهذا الانبهام
المهيب.[3] مهما يكن من أمر، فإن
كتاب الناقد يوسف سامي اليوسف تلك الأيام
إنجاز مرموق في أدب يحتاج إليه الفلسطينيون،
لا في ما يتعلق بمرحلة النكبة الكبرى فحسب،
لكن أيضًا في ما يتعلق بما جاء بعدها من سلسلة
لم تنقطع من النكبات والأهوال التي تحتاج إلى
تقديمها في سياق استرجاعات أدبية، أرى أنها
أقوى – لأنها أصدق – من كلِّ روايات التأريخ
السياسي التي تسجِّل الحوادث العامة في
خطوطها العريضة، فلا تتسع لتسجيل آلام البشر
العاديين، ضحايا الحروب ووقودها. أولئك
بالذات عليهم أن ينهضوا لتسجيل ألمهم
والتعبير عن حالاتهم الإنسانية الخاصة. فتلك
الخصوصية هي، أكثر من كلِّ عنوان آخر، جوهر
التراجيديا الفلسطينية العاصفة! ***
*** ***
|
|
|