الجزء الأول

الحكمة الخالدة 2

محاولة في تفهُّم مصادر وأصول الحكمة والعرفان

كمال جنبلاط

 

واعلمي، يا نفسُ، أنَّ الإنسان لم يُخلَق لمعنًى من المعاني إلاَّ للعلم والعمل به.

– هرمس

 

الله قِبلة الدنيا، والنيَّة قِبلة القلب.

– سهل التستري

 

التوحيد ووحدة الوجود: وفي ضوء هذا التقييم والإيضاح والاسترسال، تبرز لنا حقيقتان في خصوص مفهوم التوحُّد أو وحدة الوجود وفي خصوص الحلول أو التجسُّد: كيف يمكن، أولاً، للمتغير الفاني – و"الفناء" هو في هذا التغيُّر الدائب – أن يتوحَّد أو يتحد بالباقي الأزلي–الأبدي، وفي الوقت نفسه أن يبقى؟! – وهو الذي لا يتغير ولا يتبدل، لا يبدأ ولا يزول. وقديمًا اتُّهِمَ الشيخُ محيي الدين بن عربي – قدَّس الله سرَّه – خطأً بـ"وحدة الوجود" أو بشيء من هذا القبيل. إنما هذه التعبيرات كلها هي في لغة المجاز ومعنى الدلالة وقصد الإشارة، لا أكثر – وهو القائل:

شمسُ الهوَى في النُّفوسِ لاحتْ       فأشـرَقَتْ عندَهـا القُـلـوبُ

الحـبُّ أشـهَـى إلـيَّ مـمَّـا      يقُـولُـهُ العَـارِفُ اللَّـبيـبُ

يـا حُـبَّ مــولايَ لا تُــوَلِّ      عـنِّـي فالعيـشُ لا يَـطيـبُ

لا أُنْـسَ يَـصـفُـو للقَـلبِ إلاَّ     إذا تَـجَـلَّـى لَـهُ الحَـبيـبُ

وله هذه الأبيات المعبِّرة الجميلة أيضًا:

النَّارُ تضـرمُ في قَلبي وفي كَبدي     شَوقًا إلى نورِ ذاتِ الواحد الصَّمَدِ

فجُـدْ عليَّ بنُـورِ الذَّاتِ مُنـفرِدًا     حتَّى أغيبَ عَنِ التَّـوحيدِ بالأحَـدِ

جادَ الإلَهُ بِهِ في الحَـالِ فارْتسمتْ    حقيقةٌ غيَّـبَـتْ قلبي عن الجَّسَـدِ

فصرْتُ أشـهدُهُ في كـلِّ نـازِلَةٍ     عنايةً منهُ في الأدنى وفي البُعُـدِ

* * *

بطلان الحلول والتجسُّد: أما عن الحلول أو التجسُّد، فلا يمكن للأحد السرمدي القائم الثابت أن يحلَّ أو أن يتجسد في المتنوِّع الذي من طبيعته وإبداعه التبدل والتغير والزوال. فهذا من منطق المحال!

التنزُّل والتجلِّي: لذا نرى الموحِّدين يؤثرون فكرةَ التنزُّل أو التجلي. ويحصل ذلك عندما المتحقِّق الحكيم

[...] يتخلَّص من تلك الآدميَّة، فتفيض عليه الصفاتُ الربَّانيَّة وتتجلَّى فيه الأنوارُ الإلهيَّة.

ومشهد هذه الحقيقة وشهودها واختبارها لا يتم إلا عندما تموت هذه النفس الأنانية الفردية في الإنسان، فيعود قبسُ الجمر، بشكل من الأشكال، إلى الشعلة التي انطلق منها. ألم تقل آية الحديث: "النَّاس نيامٌ، فإذا ماتوا انتبهوا"، أو الآية القرآنية: "وتَحْسَبُهُمْ أيقاظًا وَهُمْ رُقُودٌ" [الكهف 18]؟ أي، على حدِّ تعبير بعض الصوفية، إذا امَّحت هذه النفسُ الأنانية الفردية وماتت قبل الموت – وهو الموت الصحيح، أي فناء الفناء، أي بداية الحياة الحقيقية منذ عتبة هذا الوجود الظاهر.

سُئل أبو يزيد: "هل يقع للعارف عن الله حجبة؟" قال: "لا، لأن حجابه هويَّته." وكان يقول: "الناس يقولون به، وأنا أقول منه."

وسُئل الشبلي: "متى يكون العارف بمشهد من الحق؟" قال: "إذا بدا الشاهدُ وفني الشواهدُ وذهب الحواسُ واضمحلَّ الإحساس."

وسُئل أبو يزيد البسطامي عن صفة العارف، فقال:

لونُ الماء لونُ إنائه: إنْ صببتَه في إناء أبيض خلتَه أبيض، وإنْ صببتَه في إناء أسود خلتَه أسود؛ وكذلك الأصفر والأحمر وغير ذلك. يتداوله الأحوال، ووليُّ الأحوال وليُّه.

– كالنَّاظر إلى ذاته في المرآة!

وقيل للنوري: "بِمَ عرفتَ الله تعالى؟" فقال: "بالله!" قيل: "فما بال العقل؟" قال: "العقل عاجز، لا يدل إلا على عاجز مثله."

لمَّا خلق الله العقل قال له: "مَن أنا؟" فسكت. فكحَّلَه بنور الوحدانيَّة، فقال: "أنت الله!"

فلم يكن للعقل أن يعرف الله إلا بالله!

ومن أروع الآيات أنْ

سمع أبو يزيد رجلاً يقول: "عجبتُ ممَّن عرفَ الله كيف يعصيه!" فقال – رضي الله عنه –: "عجبتُ ممَّن عرفَ الله كيف يعبده!"

– أي لا يعشقه، فيفنى شهودُه في معرفته وحبِّه، فيضمحل حجابُ الثنائية، ويزول العبدُ ويبقى الرب. وتكون الطاعة، إذ ذاك، ولايةً بدهية وطبعًا ملازمًا وكرامةً لا تنقطع، يتصرَّف بإرادته – تعالى – لا بإرادة نفسه. وقال أبو يزيد مرة لخادمه ووليِّه:

"يا أبا موسى، إن المؤمنين بلا نفس." ثم قرأ الآية: "إنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أنْفُسَهُمْ" [التوبة 111]. "فمَن باع نفسَه فكيف تكون له نفس؟!"[1]

فسبحان ذي الجلال والإكرام مِنْ أن تدركه العقول والأبصار – وهو المنزَّه عن الوصف والتعريف. وسبحانه مِن أن يوصف أصفياؤه دون ذواتهم وأولياؤه دون أنفسهم – وتعالوا عمَّا يذكر العباد في وصفهم، وتعالى الله عمَّا يصفون.

ولا بدَّ هنا من العودة إلى الإمام أبي حامد الغزالي – رحمه الله – الذي نتبنَّاه لتوضيح القصد:

من هنا ترقَّى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجَهم، فرأوا، بالمشاهدة العيانيَّة، أنْ ليس في الوجود إلاَّ الله – تعالى – وأن "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ" [القصص 88]: لا أنَّه يصير هالكًا في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلاً وأبدًا، لا يُتصوَّر إلاَّ كذلك. فإنَّ كلَّ شيء سواه، إذا اعتبر ذاتَه من حيث ذاته، فهو عدم محض؛ وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأوَّل الحق، رُؤِي موجودًا لا في ذاته، ولكن من الوجه الذي يلي موجِده. فيكون الموجودُ وجهَ الله – تعالى – فقط. فلكلِّ شيء وجهان: وجه إلى نفسه، ووجه إلى ربِّه؛ فهو، باعتبار وجه نفسه، عدم، وباعتبار وجه الله، موجود. فإذن لا موجود إلاَّ الله – تعالى – ووجهه. فإذن "كل شيء هالك إلا وجهه" – أزلاً وأبدًا. ولم يفتقر هؤلاء إلى يوم القيامة ليسمعوا نداء الباري – تعالى –: "لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّار" [غافر 16]، بل هذا النداء لا يفارق سمعَهم أبدًا.[2]

العارفون – بعد العروج إلى سماء الحقيقة – اتفقوا على أنَّهم لم يروا في الوجود إلاَّ الواحد الحق. لكن منهم مَن كان له هذه الحال عرفانًا علميًّا، ومنهم مَن صار له ذلك حالاً ذوقيًّا، وانتفت عنهم الكثرةُ بالكلِّية، واستغرقوا بالفردانيَّة المحضة، واستُوفيت فيها عقولُهم، فصاروا كالمبهوتين فيه، ولم يبقَ فيهم متَّسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضًا. [...]

وهذه الحالة، إذا غَلَبَتْ، سُمِّيتْ بالإضافة إلى صاحب الحالة فناء، بل فناء الفناء، لأنه فني عن نفسه، وفني عن فنائه: فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال، ولا بعدم شعوره بنفسه؛ ولو شعر بعدم شعوره بنفسه لكان قد شعر بنفسه! وتُسمَّى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرَق به بلسان المجاز اتحادًا أو بلسان الحقيقة توحيدًا.[3]

ويعني الإمام الغزالي بـ"العرفان العلمي": الكشف عن الحقيقة في صلة الشيخ بالمريد؛ ويعني بـ"الحال الذوقي": الاستقرار في هذا الكشف والتثبُّت فيه بعد أن يكون الوهم الحسِّي قد زال واضمحل تمامًا وكمالاً.

* * *

حقيقة العالم الحسِّي: والحقيقة هي أن هذا الوجود الظاهر هو عالم حسِّي أو "عالم حواسي" sensorial world، على حدِّ تعبير كبار العلماء الفيزيائيين؛ إذ إن الإنسان لا يستطيع إدراك هذا الوجود الظاهر إلا من خلال الحواس[4]. فنحن لا نعرف شيئًا عن حقيقة الأشياء؛ بل كل ما ندركه هو هذه الصور الحسية التي تعكسها حواسُنا والتي هي من طبيعة حواسنا وتكوينها وإبداعها، لا تنفصل عنها. أما الشيء في حقيقته، وراء هذه الشاشة من الصور الحسية، فإنه يظل مجهولاً، محجوبًا، لا يرتقي الإدراكُ إليه، ولا تتوصل إليه المعرفةُ العلمية الموضوعية. وحتى هذه الذرات أو القُسَيمات الكهربائية التي تنفلق عنها المادةُ إنما هي صور حسية لا أكثر، رموز يصعب علينا – بل يتعذر – تفسيرُ محتواها وجوهرها.

نحن نعيش، في الواقع وفي الحقيقة، وسط عالم من الرموز symbols تؤلِّفه جميع هذه المدرَكات الحسية والمعقولات الفكرية، تمامًا كما هو وضع كلمات اللغات وعلامات الموسيقى. وهذا الكون، إنْ هو إلا نشيد عجيب هائل يزخر بكينونة الإبداع الدائم، تتلقَّفه عيونُنا وآذانُنا وحواسُنا كافة بعد أن تكون هي أبدعتْه، فتتأوَّب أصداؤه في سماوات عقولنا من حيث يتنزَّل وينصبُّ النورُ اللطيفُ العارف الذي به ندرك جميع المحسوسات والمعقولات ونضفي عليها الأشكالَ والصورَ والمعاني:

وليعلم الموحِّدون أن المبدعات [التي تحصل] من مولانا العقل – صلوات المهيمن عليه – في مرآة الظاهرة الحسيَّة هي ملزمة وفيها فيضُه.

ووراء ذلك كلِّه ألف سرٍّ لا يرتفع عنه النقاب، ولا يتلاشى فيه الرمز ولا تشرق الدلالة، إلا عند الكشف التحقُّقي الثابت الأخير. فسبحان مَن أبدأنا وذرأنا من نور يقظته وفيض سعادته ومعدن جوهر وجوده!

الوجود الحسِّي هو كالحلم: ويكفي التنبيه والتنويه والتشبيه بأن يكون هذا الوجود الظاهر، بوصفه عالَمًا حسيًّا لا أكثر، تمامًا كعالَم الحلم بالنسبة إلى النائم الحالم الذي يراه حقيقةً ووجودًا قائمًا – وإنما يكون ذلك كله من إبداع تصوير حواس حلمه؛ أو بأن هذا الوجود الظاهر هو، على حدِّ المثال التوحيدي الفيدنتي الشهير: يرى الإنسان شكلاً متلوِّيًا ومتعرِّجًا في الليل البهيم، فيحسبه حيَّة، فيخشاه وينتفض قليلاً إلى الوراء؛ ثم إنه يُمعِن النظرَ في الشيء، فيدرك – وهو تمام المعرفة – أن هذا الغرض الحسِّي الذي بدا له حيَّةً إنما هو حبل ممدود لا أكثر! ولكن جهله لحقيقة الأمر جعله يتصور الحيَّة في الحبل. فأين هو وهم الحيَّة إلا في خيال الرَّائي عن خطأ؟ وهل للثعبان المتصوَّر من وجود إلا في جهل الناظر إليه:

فَألْقَاهَا فَإذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. [طه 20] فَإذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ من سِحْرِهِمْ أنَّهَا تَسْعَى. [طه 66]

هذه الحقيقة الأخيرة للوجود على إطلاقه هي التي يسعى العارفون إلى كشف الغطاء عنها، ليتبيَّنوها من خلال خدعة الحواس ووهم الفكر، فيرقون، فعلاً وواقعًا، "من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة"، على حدِّ قول الإمام أبي حامد.

ونكتفي، للمقابلة والمقارنة فقط بهذه النظرة العرفانية إلى الوجود، ولتبيان التقاء وجهتَي النظر في العلم والحكمة على حدٍّ سواء، ما أوردَه العالم الشهير برتراند راسل Bertrand Russel في اختتام أحد الأبحاث:

والآن، بفضل جهود عالِمَين ألمانيين في الفيزياء في المقام الأول، هما هايزنبرغ وشرودِنْغِر، فإن البقايا الأخيرة للمفهوم القديم عن الذرة الصلبة قد تبخرت، فأضحت المادة شبحيَّة، شأنها شأن أيِّ شيء في جلسة استحضار للأرواح.[5]

دنيا الظِّلال: وفي صدد شرح هذه العبارة للحكيم شري رامانا مهارشي:

فيما عدا أن حالة اليقظة طويلة وحالة الحلم قصيرة، لا فرق بين الحالتين[6] [...]

يورد أحدُهم هذه العبارة المدهشة للعالم الفيزيائي د. آرثر إدنغتون في كتابه طبيعة العالم الفيزيائي:

إن التحقق الصريح من أن علم الفيزياء إنما يُعنى بعالم الظلال هو أحد التقدمات الأكثر دلالة: في عالَم الفيزياء نشاهد عَرْضًا في مسرح خيال الظل لدراما الحياة المألوفة. فظل مرفقي يتكئ على الطاولة الظل، بينما يجري الحبرُ الظل فوق الورق الظل.[7]

وقديمًا قيل في الآية العرفانية الكريمة:

ألم يأنْ لكم أن تنظروا بعين بصيرتكم وتلفظوا خرافَ أبصاركم؟

هذه المعرفة الحقيقية الطبيعية التي تتساقط عند كَشْفِها حُجُبُ الاسم والشكل، وصفَها جلال الدين الرومي – قدَّس الله سرَّه –:

تعال، وتعرَّف إلى أن حسَّك وفهمَك وخيالَك هي كالقصبة التي يمتطيها الأولاد.

معرفة الإنسان الروحية ترفعه إلى عَلٍ، ومعرفة الإنسان الحسِّية هي عبء عليه.

"لقد قال الله: مثلهم "كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَارًا" [الجمعة 5]. ثقيلة هي المعرفة التي لا يوحي هو بها.

ولكن إنْ حملتَها لأجل غاية غير أنانية فإن العبء يخفُّ، وستشعر بالفرح.

كيف يمكن لك أن تتحرر من دون خمرته؟ – أنت الذي تطمئن بإشارة منه.

ما الذي يولد من الصفة والاسم؟ – هو الوهم. ولكن الوهم يرشد إلى طريق الحقيقة.

هل تعرف اسمًا من دون حقيقة؟ أو هل قطفت وردةً من الورود؟

لقد لفظتَ اسمًا: اذهب وفتِّشْ عن المسمَّى: القمر في السماء، وليس في الماء.

إن شئتَ الارتفاع إلى ما يتعالى عن الاسم والحرف، فلتكن متطهِّرًا تمامًا،

وأبصِرْ في قلبك معرفةَ الأنبياء كلَّها، من دون كتاب ولا علم ولا مرشد.

العلم الطبيعي اللدنيُّ والتعلُّم: هذا العلم الطبيعي البدهي التنزُّلي – ونقصد به الحكمة والعرفان[8] – هذا العلم الطبيعي البدهي اللدنِّي ("العلم الخامس")، نقول، يهدف إلى معرفة جوهر الأشياء، أي حقيقتها؛ أما العلم "العلمي"، أي علم العلماء، علماء المادة والحياة، فلا يستطيع – باعترافهم جميعًا – الكشفَ عن جوهر الأشياء والأغراض وحقيقتها، بل يكتفي بتحليلها ووصف كيفية صدورها بعضها من بعض، كمثل تجزئة الماء إلى عنصرين غازيين هما الأكسجين والهدروجين (وهما شيئان مجهولان في حقيقتهما وجوهرهما، كالماء ذاته)، ثم تجزئة هذين الغازين إلى العناصر النووية والكهربائية التي تتكون منها الغازات (وهي عناصر نجهلها أيضًا ويجهلها العلماء في جوهرها وحقيقتها) – وهكذا إلى ما لا نهاية. فنحن نعلم كيفية الأشياء، ولكن حقيقتها وجوهر كينونتها يبقى سرًّا مغلقًا وطِلَّسْمًا لا تُحَلُّ رموزُه وحرفًا لا يُقرأ. فسعي علم العلماء، على حدِّ تعبير أحد الحكماء العارفين، هو كمن يكثِّر ويعدِّد المجهولاتِ في تجزئة وتقسيم وتحليل المجهول الأول الذي عاينَه العالِم وانطلق منه في القياس والتحليل. وكل معرفة علمية هي، في النهاية، نسبية لأنها لا تتم إلا بالمقارنة.

الكيفيَّة والجوهر: أما العالِم العرفاني فهو نقيض ذلك، إذ يقصد تبيان جوهر الشيء. وهذا ما كان يقوله هرمس الهرامسة منذ آلاف السنين، ولا يزال حقيقة العلم الراهن:

يا نفسُ، تيقَّني وخذي معرفةَ الأشياء بأنيَّاتها وماهياتها، ولا تحتفلي، يا نفسُ، بمعرفة كيفيَّاتها وقدرها.

وهو يعني بعبارة "لا تحتفلي": "لا تفرحي وتبتهجي". فإنما المعرفة الثابتة والحقيقية والصواب هي في معرفة جواهر الأشياء وماهياتها، لا كيفياتها. وتُبايِن الحكمةُ القديمة وتميِّز بين العلم – وهو العرفان – وبين التعلم:

واعلمي، يا نفسُ، أنَّ الإنسان لم يُخلَق لمعنًى من المعاني إلا للعلم والعمل به.

* * *

"غيبيَّات" العلم: عندما نتحدث عن "الغيبيات" التي تتضمَّنها المعتقداتُ الدينية والمسالك العرفانية والصوفية، ونهزأ بالمتعلِّقين بها، أو نتصور، من وجهة سطحيةِ العلم التطبيقي الدارج العادي، بُطلانَها، من دون تمحيص ولا تدقيق ولا إمعان في المعرفة، يغيب عن بالنا أن العلم الحديث المتقدم، في جميع أنحاء العالم المتمدن، قد حطَّ بنا الرحال ونفذ بنا في مسيرته الأخيرة إلى موطن من الرموز والأحاجي يصعب على الفكر تصوُّرُها أو حلُّها، هي أيضًا أقرب إلى الغيبيَّات الدينية من أية نظرة عقلانية عادية إلى الوجود.

فهل يستطيع أحدٌ أن يتصور، مثلاً، أن هذا العالم الفسيح اللانهائي، إنْ ضغطناه في الخيال وجرَّدناه من كلِّ فراغ يفصل بين أجزائه وذراته وقُسيماته الأولية، لا يملأ نصف قمع الخياط الذي تستخدمه نساؤنا في أصابعهن لدفع الإبرة في الثوب!

أو هل يدرك أحدُنا سرَّ سرعة الضوء، ولماذا هي الحد الأقصى لكلِّ سرعة مادية في الوجود، فلا يتمكن جرمٌ من أن يتجاوزها؟ ولماذا تكون هذه السرعة "ثابتة" constante، لا تتبدل ولا تتغير بالنسبة للذي يقترب من اتجاه انبثاقها ومعين إشعاعها أو يبتعد عنه حتى بسرعة عظيمة أيضًا؟ فتحرُّك الراصد بالنسبة إلى سرعة الضوء سيان في الحالتين. أو هل نستطيع أن نتفهم لماذا تبطئ سرعةُ الضوء عندما تدخل في حاجز من المياه أو الزجاج أو سواه، تبطئ وتنقص وتعتدل وفقًا لنوعية هذا الفاصل، ثم يعود الضوء، من تلقاء ذاته، إلى سرعته السالفة الأصلية بعد مغادرته الحاجزَ الفاصل الذي اخترقه؟

أو هل يمكن لنا أن نتصور أنه لا يوجد في عالم الأشياء المحيط خطٌّ مستقيم واحد خارج عن نطاق تخيُّل فكرنا، وأن شعاع الإبصار، لو قُدِّر له أن يرجع بعد توجُّهه إلى دنيا السُّدُم والمجرات والنجوم في مدى حياة الكائن البشري الناظر به، لآبَ من جديد إلى العين التي انطلق منها؟ أو كيف يكون الكون "محدودًا" وهو في الوقت ذاته "لا نهاية له"، وفق تعبير أينشتاين؟ أو كيف هو منحنٍ كروي الشكل في تكوينه، فيما يُعنى به بـ"انحناء الكون" la courbature de l’univers؟

أو هل نقدر أن نستوضح الأسبابَ لأعراضٍ هي أبسط من ذلك بكثير، كمرض السرطان الذي ينتاب أحيانًا صخر الغرانيت المعروف وينتشر على شاكلة انتشاره في الإنسان والحيوان؟ أو كيف أن بعض الفراش، مثلاً، تعيش ولا تأكل، على غرار بعض الزاهدين القادرين بكرامتهم على ذلك؟ أو أن بعض أنواع النمل، عندما تأوي لتبيض، تفرز ما لا طاقة لها مادية مخزونة فيها لأجل ذلك أو في مقابله من مادةِ أغشيتها وعناصر تكوينها؟ – كأنها تخلق مادةً من غير مادة، أو تحوِّل طاقةً عجيبة فيها إلى البيوض الفائضة عن مادتها. أو كيف ندرك ألف سرٍّ وسرٍّ ينطوي عليه جريانُ الدم فينا وتَحرُّكه وارتفاع حرارته بسرعة هائلة بعد مروره في كبدنا؟ وكيف يسري التيار العصبي، فيحرِّك عضلاتِنا، وكيف تتوالد أنسجتنا، وكيف يصدر العقل من تلافيف دماغنا؟ أو كيف تختزن الذاكرةُ الأشياءَ والحوادثَ الماضية؟ وكيف يبرز حدسُ الأعراض المقبلة علينا من المستقبل المجهول؟ أو ما هو الحاضر في النهاية وما هو المستقبل؟ إلخ، إلخ. ونستطيع هكذا أن نورد عشراتِ الأمثلة العلمية عن أسرار هذا الكون العجيب، مما نعرفه ومما لا نعرفه!

وهل نستدرك أن الصفر، مثلاً، هو من اختراع الفكر، وكذلك سائر الأعداد؛ وأن العلم الذي نفرض شبكاتِ معادلاته وتصوراته الهندسية والجبرية والحسابية على عالم الأشياء هو مِنْ إبداع فكرنا، وهو محض نظريةٍ ليس لها في الواقع الحقيقي اتصال وصلة، وأنه افتراض نسبي تقريبي يقترب من تفسير الواقع بالتدرج ولا يعبِّر عنه، مهما دنا به هذا الاختبار، تعبيرًا كاملاً شاملاً. وقد تنوَّعت العلومُ والنظرياتُ الهندسية ذات الأبعاد الأربعة والخمسة والستة، إلى ما لا نهاية، وتعدَّدت، بحيث إن هذه التفسيرات الشرحية والمعادلات لا يستطيع العقل أن يتخايلها أو يتصوَّرها أو يفهمها، بل يرتضي بتلقُّن نتائجها وتسجيل استنباطها ودلالاتها.

وفي كلِّ حال، هل يدرك إخواننا، فوق ذلك، أن العلم لا يستطيع أن يكشف عن علَّة الأشياء أو ماهيتها وجوهرها؟ – وإنْ تمكَّن أحيانًا من توضيح كيفية تسلسُل الوقائع وتركيبها. والعلم، في كلِّ ما يذهب إليه من قياس وتحقيق، يرتبط في النهاية بالشخص الناظر إلى الأشياء المدروسة وبتفحُّصها؛ أي أنه خاضع لنسبية ظروف هذا الشخص وموقفه ومنظاره وتكوين فكره؛ أي هو خاضع لمدى المكان والزمان وحيِّزهما. ولذا ندور في حلقة مفرغة في تمحيص علاقة الشخص المدرِك بالغرض المدرَك.

أو هل يستوعب أحدٌ من المتهجِّمين على الغيبيَّات قولَ العالِم السير جيمس جينز Sir James Jeans حول ماهية الزمان والمكان؟ لا مكان دون زمان؛ وكلاهما مفهومان ذهنيان نسبيان من مفاهيم فكرنا لا أكثر، لا وجود لهما خارج نطاق هذا الفكر وفعل إدراكه (وكانت مسالك الحكمة والعرفان قد توصلت إلى القرار ذاته منذ آلاف السنين، قبل أن يولد العلم الفيزيائي المعاصر):

لقد وجدنا أن المكان لا يعني شيئًا في معزل عن إدراكاتنا للأغراض، وأن الزمن لا يعني شيئًا في معزل عن اختباراتنا للأحداث. المكان أخذ يبدو كوهم تخلقه أذهانُنا، كاستطالة غير شرعية في الطبيعة لتصوُّر ذاتيٍّ يساعدنا على فهم ترتيبات الأغراض التي نراها ووصفها؛ بينما يبدو الزمن كوهم آخر يخدم هدفًا مشابهًا من أجل ترتيبات الأحداث التي تحدث لنا.[9] (الخلفية الجديدة للعلم)

ثم كيف ندرك أن قاعدة "الحتمية" Determinism لم تعد صحيحة إلا في الظاهر الكثيف العادي، وأنها تبخرت من حقل المعادلات العلمية و"التصرفات" التي تبديها الذرات وقُسَيمات المادة – حتى ليخيل إلينا، على حدِّ تعبير العلامة تِلار دُه شاردان Teilhard de Chardin، أن لهذه القُسَيمات عقلاً، وأن لها حدسًا كحدس عقلنا تمامًا، لا بل تُظهِر بأنها أقدر منا على حدس مسيرتها! وهل يفطن أحدنا إلى أنه، حتى على المستوى الكثيف المنظور ذاته، لا يمكن للاختبار الكيميائي بين مادتين معينتين أن يتكرر تمامًا وتوافقًا كاملاً في الزمن. فما من حادث فيزيائي أو كيميائي يتكرر هو ذاته تمامًا في مساحات الدنيا الواسعة وفي أعماق حُبيبات الأثير (راجع اختبارات بعض العلماء). ونحن هنا أبعد ما نكون عن التاريخ وعن المؤرِّخين!

عند حدود الفكر وارتطامه بصخور النسبية وعقبات الكيفية والأينية ودخوله في مدارات انغلاق العلاقة بين الشخص المدرِك والغرض المدرَك، ينطلق العرفان ليكمل معرفة الأشياء ويكشف عن حقائقها وماهياتها وجواهرها، بأداة مستكشِفة أخرى، أرفع وأرقى وأقرب إلى استيعاب اللطيف الباطن، مكوِّنها، هي العقل الكلِّي أو الأرفع.

ولا نرى أفضل من هذه الأبيات للزمخشري عِبرةً وإشارةً إلى محدودية واقع العلم واستنباطه في تسربل بعض الأفكار المثقفة به والتباسه عليها، في محاولتها العقيمة المحال أن تدرك بالعلم الماديِّ القائم حقيقةَ الأشياء وجوهرَ الوجود، فيرتد إليها الإدراكُ الفكري العلمي عاجزًا كليلاً:

قلْ لِـمَـنْ يَفهـمُ عنِّـي ما أقـولُ           اترُكِ البحـثَ فذا شـرْحٌ يَطُـول

أنــتَ لا تَـعـرفُ إيَّـــاكَ وَلا            تدري مَن أنتَ ولا كيف الوُصُـول

لا وَلا تَـدري صـفـاتٍ رُكِّـبَـتْ             فيكَ حـارَتْ في خفاياها العُقـول

أنـتَ أكـل الخـبـزِ لا تَعـرفُـهُ             كيف يجري فيـكَ أم كيفَ تَبُـول

فـإذا كـانـتْ طَـوايـاكَ الَّـتـي            بينَ جَـنبَـيكَ بها أنـتَ جَهُـول

كيفَ تدري مَن على العَرْش اسـتوَى          لا تقلْ كيفَ استوَى كيف الوُصُول

فـهـوَ لا كـيـفَ وَلا أيـنَ لَـهُ             هـو ربُّ الكيفِ والكيفُ يَحُـول

* * *

هذه الرموز والغيبيَّات التي تتفتَّح عليها نوافذُ العلم المتقدم في متاهة أغوار المادة وفي لانهاية الكون، دفعت بعضَ كبار علماء المادة والحياة في الغرب إلى دراسة مسالك العرفان القديمة في الهند والصين واليونان ومصر وسواها، لكي يتبيَّنوا منها الحقائقَ والنظرياتِ التي توصَّل إليها مجهرُ العقل في ثبات تقصِّيه لحقيقة جوهر الروح، وهل تختلف هذه الحقيقة عن حقيقة جوهر العالم الظاهر المحيط. فعكف، مثلاً، أحدُهم – روبرت أوپنهَيمر Robert Oppenheimer – على تصفُّح كتب العرفان القديمة وتعلُّم اللغة السنسكريتية لكي يتمكن من العودة إلى الأصل الهندي ومن إمعان النظر في الغيبيَّات والإشارات والرموز والحقائق التي تُبرِزها مسالكُ الحكمة عبر العصور.

عودة الدائرة إلى نقطة الفرجار: وبعد، أيصح لنا، فيما تلقَّنَّاه من "ألف باء" الأشياء، أن نظل ننظر إلى العلم بمنظار مدرِكيه في نهاية القرن الثامن عشر أو بدايات القرن التاسع عشر في أوروبا؟ أوَلا ينبغي علينا، نحن أيضًا، إن كنَّا جادِّين مخلصين في تتبُّع الكشف عن حقيقة الأشياء وحقيقة ذواتنا وحقيقة عقلنا – هذه الأداة التي بها نستجلي غوامض التكوين – أن نسعى، على الأقل وعلى قدر كفاءة علمنا وقدرة فكرنا، إلى التوغل قليلاً، على خطى أقدام طليعة المتوغِّلين، فنرى الأشياءَ والأغراضَ كما يجب أن نراها، لا من خلال علوم القرن الماضي المتأخر. وإذ ذاك، يبرز لنا العرفان – بعد أن تقصَّيناه واستكشفناه من خلال مسالك الحكمة الأخيرة ومصادرها – قيمةً ثمينةً وكسبًا عقليًّا ممتعًا في ضوء اختبارات العلم الحديث ونظرياته، بحيث يساعدنا العلمُ الحديث على استيعاب مقرَّرات هذا العرفان ذاته ونتائجه. وبذا أيضًا "تعود الدائرة إلى نقطة الفرجار". وهذا التعبير المعروف إنْ هو إلا تصوير سابق لنظرية علمية حديثة جدًّا تفسِّر انبثاق الكون من الذرة الأساسية الأولى، المتكوِّنة من قُسَيمات جميع الذرات المتفككة والمتداخلة بعضها ببعض كنقطة لا ثخانة لها ولا طول ولا عرض. ويتم هذا الانبثاق والتكوين كانفجار القنبلة في جميع الاتجاهات؛ ثم بعد انقضاء دورة زمن الكون، يعود هذا العالم فيتقلَّص تدريجيًّا وينطوي في النقطة النووية الأصلية – وهكذا إلى ما لا نهاية.

هذا قليل من كثير نورده للإشارة والدلالة فقط على مدى توافق النهجين – نهج العلم ونهج العرفان – في سعيهما إلى الكشف عن أسرار وجودنا الذي لا ينفصل عنه وجودُ الكون ذاته. وإنما نحن، وما نتضمَّنه من عقل وحياة، طاقةٌ مترفعة لهذا الوجود ذاته. وهذه الغيبيَّات والرموز والإشارات الخفية التي يتكشَّف عنها العلمُ الحديث إنْ هي إلا ألوان أخرى من دوافع التسبيح ترتفع بنا إلى سدرة المنتهَى، في كلِّ ما ينطلق فيه عقلنا في تلك التأملات والتعقلات، كما حدث للعالم روبرت أوپنهَيمر ذاته، رئيس لجنة الطاقة الذرية وصانع أولى القنابل النووية، يوم أشرف على تفجيرها في صحراء نيفادا، فاستولت عليه دهشةُ الإبداع وهو ينظر إلى الشمس الاصطناعية الهائلة والكاسحة أنوارها للعيون تنطلق من عقالها، ففطن إلى نفسه، فإذا به يرتِّل آيةَ الحكيم كرشنا في نشيد المولى [الـبهگفدگيتا] الشهير:

إن سطوع ألف شمس طالعة في الفضاء الرحب لا يضاهي تألُّق هذا الكائن القدير.

* * *

ديمومة العرفان واستبطانه في جميع المعتقدات: على مشارف هذه المواجهة، ومن رفعة استطلاعها وعلوِّ كشفها، يتيسَّر لنا أن ندرك وأن نتتبَّع ديمومة العرفان واستمراره الباطني الظاهر خلال جميع المعتقدات والأديان، منذ أن ولد الإنسان على وجه الأرض وتوفَّرت له المشاهدةُ العيانية، بعين البصيرة، لما لا تدركه الأبصار ولكنه "الذي يدرك الإبصار في الأبصار": منذ مصر القديمة التي عمرت في الألف الثالث قبل المسيح بأمثال إمحوتپ Imhotep – عليه السلام – أو "ذي امحت به"، كما ورد اسمُه في بعض المخطوطات العربية، الذي بنى أول هرم مدرَّج من الحجر في مدينة هليوپوليس Héliopolis ("مدينة الشمس") في سقَّارة على مقربة من القاهرة الحديثة، والذي شاد الهيكل الرائع، المدهش فنًّا وعمارة، الذي قصده أفلاطون – عليه السلام – وعاش فيه عدة سنوات؛ وقد أطلق اليونان، فيما بعد، على إمحوتپ لقب "هرمس المثلث بالحِكَم"، وهو ذاته إدريس القرآن – عليه السلام –؛ إلى فتاحوتپ Ptahotep وأمنحوتپ بن حاپو Amenhotep Son of Hapo وسواهم عديدين؛ إلى فيثاغوراس Pythagoras الذي زار مصر وعاش أيضًا في هياكلها سنين طويلة؛ إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو وديموقريطس وپرمنيدس ويمبليخوس وأفلوطين – على جميعهم السلام –؛ مرورًا بجبريل النصرانية ويسوع بن مريم (وقد أخذنا نستوضح وجه الأول من خلال اكتشافات كهوف قمران Afoksha على البحر الميت)، وعبورًا بجبرائيل المحمدية وسلمان الفارسي (وفي الحالتين، كان جبرائيل أي الوحي أو العقل الأرفع – صلوات المهيمن عليه –)؛ ثم توقفًا عند بعض الصحابة والصفوة المتحقِّقين الأبرار من الحكماء والعارفين الصوفية المسلمين – ولا تصوف عرفانيًّا دون رضًا وإسلام وتسليم –؛ إلى أن تأذن ألواح المقادير مجددًا وتبزغ شمس سلمان آخر رائع عجيب – ونعني به حمزة بن علي – سلام الله عليه –؛ وهو، دون ريب، سيد من أسياد المسلك الحِكَمي التالد والطريف، ومن أغزر الشخصيات الفكرية والتنظيمية القيادية والروحية التي تبرز لنا في منعطفات التاريخ وأخطرها.

ولما كنَّا نقرأ له في بعض المخطوطات التي عُثِرَ عليها أخيرًا، كنا نشعر كأن كوَّة منيرةً هائلة قد فُتِحَتْ لنا في مجال معرفة المجهول من الأحقاب المنصرمة، وأننا نسمع زخم نداء الأجيال يتنزَّل علينا، فنصغي، في ذهول التسبيح وانشراح العقل وسكون القلب، إلى ما يبدو لنا صوت هرمس ذاته وأئمة العرفان في مصر القديمة، وإلى تعاليم فيثاغوراس وسقراط وأفلاطون وبعض حكماء إيران والهند السعيدة وسواهم – عليهم السلام – في أطهر وأصفى وأسلم جدول متصل ينقله إلينا، كمن ينصت إلى إذاعة أسرار القرون المطوية الأولى في تضخُّم الصدى المتبقِّي منها في بطون الأثير وتكثُّفه. ولعله اختبارٌ يفيد منه العاكفون على دراسة حكمة اليونان ومصر القديمة والنصرانية والإسلام وسواها من المعتقدات الشرقية.

ومن أغرب ما عثرنا عليه في هذه المخطوطات صلة هذا المسلك التوحيدي بحكماء الهند والسند. وكنَّا نعتقد – ولا نزال – أن الحكمة واحدة في كل مثوى وزمان، لا تتجزأ ولا تختلف في الجوهر، نظرًا لوحدة الحقيقة ووحدة الكشف عنها ووحدة الروح والعقل البشري.

وكنا نعلم ارتباط الموحِّدين بحكماء الهند وتقديرهم إيَّاهم وتنويههم ببعض هذه الوجوه المباركة السالفة المفعمة بالنزلة والتجلِّي الأول العليِّ في بعض أنحاء الهند. وكنَّا تتبَّعنا خاصةً قصةَ كتاب بلوهر الحكيم، المنتشر بين الموحِّدين، وهو من كتب وعظهم؛ وإنما هو رواية لسيرة البوذا السعيد بعد تحريف الاسم، كما أوضح ذلك أحد العلماء المحقِّقين في التسلسل التاريخي (وهذا الكتاب معروف في بلاد الهند أيضًا). ولكن أسماء مثل "هاري" و"شيفا" و"برهمن" و"أرهة كرما"[10] ما كانت لتَرِدَ في صُحُفهم المعروفة. وإذا بالموحدين (الدروز) على حقٍّ فيما يعتقدون من أنهم، في هذه الديار، يمثلون هذا الوجه الباطن الظاهر للحكمة الإنسانية الشاملة.

ومن هذا المرتقى والكشف التاريخي، تبيَّن لنا وجهُ هذا الكائن العجيب الذي لم يبلغ سنُّه السادسة والثلاثين من حياته الظاهرة، وفق بعض المصادر التاريخية، عندما احتجب (أو "غاب"، وفق تعبير الموحِّدين)، وكان لا يزيد عمره على السيد الناصري إلا ثلاث سنوات، وكان انعكاسًا رائعًا أخَّاذًا لتلك الحكمة التاريخية الألوفية ومظهرًا من مظاهر تجلِّيها ونزلتها الكبرى. ولا نبالغ إن قلنا إنه يبدو، من خلال ذلك، بأنه طود لا ترقى إليه قممُ الأبصار. وهو يُكنَّى في الصحف بـ"الحاكم الحكيم" – تقدَّس نورُ علمه –؛ وهي التعبيرات ذاتها التي كانت – ولا تزال – تَرِدُ على لسان العارفين، من قبلُ ومن بعد.

ولا يقدِّر أحد خطورةَ هذا الاستكشاف لوجه تغلُّفه بالسر أجيالاً، إلا إذا قرأ بأيِّ وَجْد سحيق، وبأيِّ عشق روحيٍّ متفانٍ، وبأيِّ جلال ودلال وإشراق متضوِّع ومحبة جاذبة ساحرة، يتوجَّه إليه حمزة بن علي – صلوات المهيمن عليه. وتتوضح صلةُ حمزة بالحاكم الحكيم – تقدَّس نورُ علمه – واتصالُه الوثيق به، وأخذُه عنه مبادئ الدعوة التوحيدية، فتسقط كل دعوى وادِّعاء يحاولان الفصل والتمييز بين هذا وذاك. ثم يبدو لنا كأن الأقنعة الحاجبة التاريخية تتمزق أمام عيوننا فجأةً، فنرى الأشياء في اتصالها التاريخي منذ أقدم العصور، وفي صلتها العرفانية وتسلسُلها الذهبي الروحي ووجهها الحِكَمي المستتر الملازم، كما في واقع روعة تجلِّيها وتشخُّصها.

وتبدو، في ذلك كلِّه، مذاهب الحكمة السرَّانية في مصر القديمة بأنها مصدر جميع المسالك الروحية والدينية التوحيدية في هذا القسم من العالم المعروف القديم؛ ويتبيَّن أن ما ذهب إليه بعض المؤرخين في تأييد ذلك هو حقيقة لا تُستبعَد ولا تُنكَر. ويبدو، في ذلك كلِّه، أن تعاليم إمحوتپ، الملقب بـ"هرمس الهرامسة"، بما أوضحتْه من مفاهيم الإشراق والنور والتوحيد والعقل والموت والأزل، ثورةٌ روحية في تاريخ العهود القديمة، منها استُقتْ جميعُ المعتقدات فيما بعد.

ما قصَّر عنه باعُ فهمنا: لا تزال هنالك، طبعًا، أشياء غامضة واستفهامات طويلة وزوايا محتجبة وتساؤلات أساسية، نعترف بأننا لم نستطع، حتى الساعة، إدراكَها والردَّ عليها وفهمَ سبب قيامها في دراستنا لمسلك الدرزية التوحيدي. نذكر، على سبيل المثال، إقفال باب الدعوة، والموقف، الباطن والظاهر، من بعض الشرائع المكرَّمة من قبل الموحِّدين، ولكن على غير وجه وضعها الزمني في ذلك، وقضية عودة الانبثاق إلى جوهر مصدره، أي مشكلة التحرُّر الكامل أو الجزئي للإنسان، وقضية مَنْح الحقيقة، أي الكشف الذي لا يتم في عِرفنا إلا من طريق حكيم متحقِّق حيٍّ لمريد جادٍّ ومخلص – وقد يكمن في ذلك سببُ إغلاق باب الدعوة وسواها من القضايا. فلعلَّنا نهتدي في مقبل الأيام إلى تفهُّم أوسع وإلى حلول عقلانية ترضى عنها معرفتُنا. وفي كلِّ حال، لا نجادل أصحابَ التوحيد الدرزي فيما هم عليه، ولا نناقضهم فيما هم يعتبرون، حرمةً لهم، وصيانةً لصفاء تطلُّعهم، وحفاظًا على كلِّية إيمانهم ورفعة شوقهم، وخشية أن نرمي الشك والحذر في غير موضعه، دون مبرر وفي غير مجال الصواب. وما ضرَّ "أبناء الكعبة المباركة" – وهي في تأويلهم "الإمام"، أي العقل الأرفع – إنْ هم، في تطلُّعهم إلى مشرق الشمس، على شاكلة المتعبِّدين في هياكل هرمس وفي مدينة هليوپوليس القديمة، لم يتبينوا من "الغزالة"، في وهج الإشراق الكاسح للأنظار، سوى بعض أشكالها المحدودة المتجلِّية الظاهرة.

ونحن، في ذلك كلِّه، نهتدي بتقصير نفوسنا عن اللحاق بالمجال البعيد. وإنما الثابت أن الأصل واحد، حيثما وُجِدَ، كنقطة الفرجار في مدار تخطيط الدائرة التامة. فرحم الله مَن قال:

تفكَّرتُ في الأديـان جدًّا محقِّقًا        فألفيتُها أصلاً له شعبٌ جَمَّـا

فلا تطلُـبَنْ للمَـرْء دِينًـا فإنَّه      يصدُّ عنِ الوَصلِ الوَثيقِ وإنَّما

يُطـالبُـهُ أصـلٌ يعبِّـرُ عندَهُ        جميع المَعالي والمَعاني فيَفهَمَا

يا بنيَّ، الأديان كلها لله – عزَّ وجلَّ – شَغَلَ بكلِّ دين طائفةً، لا اختيارًا فيهم بل اختيارًا عليهم. فمَن لامَ أحدًا ببطلان ما هو عليه فقد حَكَمَ أنَّه اختار ذلك لنفسه – وهذا مذهب القدرية، و"القدرية مجوس هذه الأمَّة". واعلم أن اليهودية والنصرانية والإسلام وغير ذلك من الأديان هي ألقاب مختلفة وأسامٍ متغايرة، والمقصود منها لا يتغيَّر ولا يختلف.[11]

سلسلة الحكماء الذهبيَّة: ولكم كنا نود أن يكون الصديق الكبير، المرحوم الدكتور روجيه غودِل، الأخ المبارك في نعمة التوجُّه والتسليم إلى المعلِّم الحكيم، حاضرًا قائمًا بيننا اليوم – وهو الذي كان يحاول ويجهد، من خلال أبحاثه ودراساته المتعمِّقة المقارنة، أن يعثر على الصلة الخفية، على هذه "السلسلة الذهبية" من الحكماء التي تربط بين حكمة اليونان، القريبة منَّا في الزمن نسبيًّا، وبين حكمة المسالك السرَّانية في مصر الفرعونية وحكمة الهند الخالدة، التي لا تزال تتجلَّى في أروع تحقُّقاتها حتى أيامنا – هذه الحكمة التي كانت له ولنا نعمةُ التعرُّف إليها والاستيطان في بعض أبراجها.

حقيقة الحكيم: وإنني لا أجد، لتقريب الفهم وتمثيل الإدراك والاقتراب في التشبيه والدلالة ما أمكن من وصف حقيقة الحكيم والمتحقِّق العارف، أفضل وأصْوَب من هذا الإعلان والتوضيح الذي جاد به أحدُ كبار حكماء الهند، شري آتمانندا – تقدَّس في إشراق ذاته ونور بهائه – فيما قاله عن الحكيم شري شنكرا Sri Sankara وما نَسَبَ إليه من عجائب وكرامات وانتقالات جسدية:

إن وهم الجسم فيكم هو تمامًا كوهم الحية في الحبل. إن العارف قد رأى حقيَّته بوصفها الحقيقة، تمامًا كما يُكتشَف، في وضح النور، أن الحية ليست إلا الحبل فقط. بعد ذلك، يكون من الحُمق أن نتوقع منه أن يقتل تلك الحية الموهومة وأن يدبغ جلدها ليصنع منه حقيبة جميلة! وأقل من هذا بكثير لكم أن تتخيلوا حكيمًا يتنازل لكي يصنع عجائب بواسطة جسم لم يملكه قط، ولا يملكه الآن حتى، ولم يكن موجودًا قط. هو الوهم وحده الذي يجب أن يفارقكم، وليس أغراضه – الحية أو الجسم. وعندما يتم التعالي عن ذلك الوهم، كما في حالة العارف، لن تظهر أيةُ مشكلة تتعلَّق بتدبُّر هذه الأغراض، لأنكم، باستعلائكم عن الوهم، يتبيَّن لكم أن الأغراض لم توجد قط. لذلك كان جسم شري شنكرا من إيجاد مخيلة الناظرين إليه وحسب، وهم وحدهم كانوا مسئولين عن التصرف الأخير به. كان باستطاعتهم، بكلِّ يسر، أن يخطِّطوا للتصرف بهذا الجسم الذي سمَّوه جسم شري شنكرا بأية طريقة تحلو لهم، إلى أقصى ما تتفتَّق عنه حيلتُهم. لكن جميع هذه القصص ما كانت لتستطيع أبدًا أن تؤثِّر في الحكيم شنكرا، بما أنه كان الحقيقة ذاتها وكان يعدم أيَّ جسم أصلاً.

هكذا نرى أن أيَّ كلام على نشاطات الحكيم الظاهرة، من زاوية نظر دنيوية أو نسبية بحتة، على كونها قد تستدعي أعظم الإعجاب، غالبًا ما يكون من قبيل الضلال والانتحار حتى. لذا فمن الحكمة دومًا أن نترك العارفَ وشأنه فيما يتعدى كلَّ شرح، إلى أن يصبح في مكنة المرء أن يعرفه كما هو. ولكي يعرف العارف، على المرء أن يصبح ذاته عارفًا، وبهذا يصبحان كلاهما واحدًا. إذ ذاك، فإن جميع الشروح تبطل، والحقيقة وحدها تسطع في مجد ذاتها. وفي الواقع، لا يوجد عارفان اثنان، بل عارف واحد فقط؛ وبدقة أكبر، لا توجد إلا المعرفة أو الحقيقة ذاتها وحسب. من هذا المستوى، نرى أن كلَّ مَن يتجرأ أن ينظر إلى الحكيم نظرةً موضوعية نوعًا ما يقف على صعيد الذهن، الذي هو مجرد وهم من منظور الحكيم. إذن لا تطرحوا أبدًا أسئلةً عن الكيفية التي عاش بها حكيمٌ بعينه ولا عن كيفية موته؛ فهذا شأن للتاريخ وحسب، ولا علاقة له بالفيدنتا [اللاثنوية] ولا بالحكيم. إن رواية سيرة حياة حكيم روايةً حقيقيةً أمر متعذر. المؤرخون يسجلون فقط سيرة الجسم الذي يرونه. لكن الحكيم هو المبدأ الذي لا يتغير فيما وراء جميع الأجسام، وهو، بوصفه كذلك، يتعالى عن التاريخ كلِّه.[12] (المحاضرات الروحية، ص 76-77)

ولعل في ذلك شرحًا أو محاولةَ تفسيرٍ لما يذهب إليه الموحِّدون من تنزيه وتجريد وتوحيد.

* * *

توافُق الدين والعرفان وتلازُمهما: ونرى لزامًا علينا، في نهاية هذه الكلمة، أن نوضح تثبُّتنا ويقيننا، الأقوى فالأقوى، من أن الدين والعرفان الذي يبطِّنه ويتضمَّنه هذا الدين في طُرُق الموحدين ومسالك الحكماء والعارفين يتوافقان ويتكاملان دائمًا وأبدًا في جميع الأمكنة وعِبْرَ العصور، إذ هما ينهلان من معين الوحي ذاته؛ أو قُلْ إن الدين وجه منعكس، في معتقد العامة وفي الشريعة، من ذاك العرفان الأصيل، على قدر ما تستوعبه توجُّهات العقول وبصائر القلوب. ولا يتم في الظاهر عرفانٌ إلا بالاستناد إلى محتوى كتب الشريعة، الظاهر والباطن منها، وفي الحفاظ على سُنَنِها وفروضها وتكاليفها المعنوية، حتى الظاهرة منها – لكي يتوافق نهجُ التصرف والتفكير والعاطفة مع واقع الصدق الداخلي – ولا توحيد من دون الصدق. وحتى التكاليف الجسمانية الظاهرة تصح ممارستها، ويجب معنويًّا ذلك، لكي لا يكون الإنسانُ في ذلك على الأقل موضع اتهام أو شبهة أو مثلاً سيئًا للآخرين، مؤمنين وغير مؤمنين.

والويل ثم الويل للدين أو الشريعة الذي ينفصل عن عرفانه في نهج تحقُّق أوليائه وتطهُّرهم، لأنه يصبح حرفًا ميتًا بلا روح، وآيةً جامدة بلا حياة، وطقسًا بلا معنى، وصلاةً بلا قِبْلة. ولا تتضوَّع الشريعة ولا يفوح عبقُ الدين بعرار أزهاره المتكاملة في أمسيات دروب العناية إلا إذا انطلق من صميمه العرفانُ ليحقِّق، اعتبارًا من هذه الأرض ومن انطلاق دفء العيش فيها، الكشفَ الجوهري والشهود العياني الكياني الأخير، حيث تتلاقى الألفُ بيائها ويعود القصدُ إلى القاصد والنظرةُ إلى الناظر إليه.

فسبحان مَن جعل الرسل والأنبياء موضعَ سرِّه، ومقامَ استتار أمانته، وأداةَ نشر هدايته، وأئمةَ تنظيم شؤون جماعته، والقيِّمين بالقسط فيما بينهم على تتميم السنَّة الملائمة الفاضلة، وتنفيذ مضامين الشريعة وما تعلو به من صدق وأخوَّة ومشاركة وطهر ورحمة واستقامة وأمانة، وجَعَلَ المتحقِّقين الحكماء سُرُجًا منيرةً في سماء ظلمة الفكر وجهل كثافة الجسد ومتاهة حُجُب الحواس، بحيث نشهد، من خلال شفافية كثافتهم وضياء وجوههم وبهاء تصرُّفهم ونورانية كشفهم، الحقيقةَ الأزلية التي تقطن في عين أعماق أفئدتنا، من حيث تتنزَّل نفخةُ الحياة، فنراهم ببصيرتنا العقلية وببصائرنا الشحمية، من الداخل ومن الخارج في آنٍ واحد، وعلى التمام، كَمَنْ ينظر إلى عمود نور ونار متوهج، أو كمن يرى ذاته الجوهرية – بعد "فناء فناء" ذاته الظاهرة الفردية – في مرآة كينونة ذاته وفي نعيم وجدانه: "فأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ" [البقرة 115].

وسلام على صفوة المرسلين – وكل رسالة تمَّمتْ ما جاءت به التي سبقتْها – الذي جعل هذا النهر العامر بالإشراق والحكمة والعرفان يقوم في حِمى إسلامه، وكأنهم كواكب منيرة تسبح في أفلاك سماء مقادير الروح.

وقد يجيبنا صاحب الرسالة – صلى الله عليه وسلم – إنما العجب والدهش أن لا يلبِّي أبناؤنا نداءَ هذه الألوف المؤلَّفة من كبار الحكماء والعارفين والزهَّاد والأولياء والمتحقِّقين الذين زخرت بهم الأجيالُ السالفة، فيرفعوا من جديد سُرُج المعرفة الحقيقية ومنارات الفضيلة واليقين في عالم غَزَتْه المادة وكادت أن تُهلِكه وتُفنيه من الداخل، قبل أن تتقوَّض أركانُه الكثيفة، فتنهار بعد غيبة هيكلها اللطيف عنها. وإنما حقيقة الوجود أنْ لا وجود لغير الموجود حقًّا!

ولا نجد لاختتام هذه اللمحة – ونحن إنما نملأ كوبًا صغيرًا من شراب راح العارفين ونغرف إبريقًا من نهر شهودهم وفيض فرحهم – أروع من هذه الآية، عرفانية وقرآنية على التوالي:

إن مولاكم جعل لكلٍّ سبيلاً إليه، في نفسه ومن نفسه. ولذلك اختلفت عقيدةُ كلِّ نفس كما اختلفت الأهواءُ والأرباب – وعين حقيقتها هي الصور للمعبود الواحد في مرآته. ولكن مولاكم الحكيم قد نزَّهكم عن تعدُّد تلك الصور في توحيد ذاته، وجعلكم أمَّةً واحدة، ولذلك أبدعكم. فسيروا ولا تتفرَّقوا شيعًا وأنتم تنظرون، يا أيها الذين وحَّدوا ذواتهم في أنفاسهم.

اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم. [النور 35]

قدَس الله سرَّ مولانا جلال الدين الرومي في مناجاته للمطلق، نردِّدها مؤمنين موحِّدين – وإنما التحقُّق إشرافٌ دائم على الرضا والتسليم:

نحن ووجودنا عدم: أنت هو المطلق المتجلِّي في صفة الفناء.

هذا الذي يحرِّكنا هو عطاؤك: وجودنا هو مِن خَلْقِك.

أنت الذي أظهرتَ جمالَ وجودك في العدم، بعد أن سببتَ بأن يقع [هذا العدم] في عشق ذاتك.

لا تجرِّدْنا من نعيم رحمتك، لا تسلبْنا فاكهتَك وخمرَك وكأسَ خمرك.

ولكن إنْ أخذتَها فمَن ذا الذي يسألك؟ وهل الصورة تعترض على المصوِّر؟!

لا تنظر إلينا، بل انظر إلى عطفك المحبِّ وإلى كرمك.

لم نكن، ولم يكن مطلب منَّا؛ ولكن نعمتك سمعتْ صلاتَنا الصامتة، فنادتْنا إلى الوجود.

وبهذا يتم معراجنا في تخيُّل شهود العارفين، ويتوضح وصفُ الآية:

إنَّهم أهلُ التحقيق، رجالُ الأعراف، شهداءُ الدين، سادةُ الأمم.

وكيف لا يكون ذلك و"الله قِبْلة الدنيا، والنيَّة قِبْلة القلب" (سهل التُّسْتَري)!

المختارة، في 6 تشرين الثاني 1965

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


[1] أبو يزيد البسطامي، شطحات الصوفية.

[2] الغزالي، مشكاة الأنوار، ص 55-56.

[3] مشكاة الأنوار، ص 57-58.

[4] راجع مؤلَّفات أينشتاين وهايزنبرغ وراسل وإدنغتون وجينز وسواهم؛ إذ إن هنالك اتفاقًا عامًّا على تقرير ذلك.

[5] “Now owing chiefly to two German physicists, Heisenberg and Schrödinger, the last vestiges of the old solid atom have melted away, matter has become ghostly as anything in a spiritualist séance.”

[6] “Except that the wakeful state is long and the dream state is short, there is no difference between the two.”

[7] “The frank realisation that physical science is concerned with the world of shadows is one of the most significant advances: in the world of physics we watch a shadow-graph performance of the drama of familiar life. The shadow of my elbow rests on the shadow table, as the shadow ink flows over shadow paper.” (The Nature of the Physical World)

[8] لو لم تكن الحقيقة – أية حقيقة – فينا فكيف يمكن لنا أن نعرفها؟ إن فعل المعرفة يتم في العقل، أي في الداخل (الباطن)، لا في الخارج (الظاهر)؛ ولذا سُمِّي بـ"الباطنية" esotericism في المعنى الحقيقي للكلمة – وكل حقيقة هي "باطنية".

[9] “We find that space means nothing apart from our perceptions of objects, and time means nothing apart from our experiences of events. Space begins to appear as a fiction created by our own minds, an illegitimate extension to nature of a subjective conception which helps us to understand and describe the arrangements of objects seen by us; while time appears as a second fiction serving a similar purpose for the arrangements of events which happen to us.” (The New Background of Science)

[10] Hari, Shiva, Brahman, Arhat Karma.

[11] أخبار الحسين بن منصور الحلاج، ص 70.

[12] The illusion of the body in you is just like the illusion of the snake in the rope. The Jñanin has seen his Reality to be the Truth, just as the snake is discovered in the clear light to be the rope alone. After that, it would be foolish to expect him to kill that illusory snake and to tan its skins to make a beautiful purse! Much less can you think of a sage stooping to do wonders with a body which he never possessed, which he does not possess even now, and which has never existed. It is the illusion alone that has to leave you, and not its objects—the snake or the body. When that illusion is transcended, as in the case of the Jñanin, no problem of the disposal of these objects arises, because on your transcending the illusion the objects are proved never to have existed. Therefore, the body of Sri Sankara was only the creation of the on-lookers’ fancy and they alone were responsible for its final disposal. They could very well plan to dispose of that body they called Sri Sankara’s in any manner they liked, to the height of their ingenuity. But all these stories could never affect the Sage Sankara, since he was Truth itself and had no body at all.

Thus we see that any talk about the apparent activities of a Sage, from a purely worldly or relative angle of vision, even though it may command the greatest admiration, is often erroneous and even suicidal. So it is always wise to leave the Jñanin alone beyond comment, till one is able to know him as he is. And to know the Jñanin, one has to become a Jñanin oneself, and thus both become one. Then all comments cease and Truth alone shines in its own glory. In fact there are no two Jñanins, but only one, and to be more precise, only Jñana or Truth itself. From this level, we see that anyone who dares to view a Sage rather objectively stands only in the mind’s realm, which is mere illusion so far as the Sage is concerned. So never ask questions about how a particular Sage lived and how he died. It is matter for history alone and does not belong to Vedanta or to the Sage. A true life history of a Sage is impossible. Historians record history of only the body they see. But the Sage is the changeless Principle behind all bodies and, as such, the Sage transcends all history.” (Spiritual Discourses, pp. 76-77)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود