صورة الإنسان المغترب

في التحليل النفسي - الجديد[1]

إريــش فــروم

 

قيم التحليل النفسي الفرويدي وغاياته:

مثّل التحليل النفسي تعبيرًا مميزًا عن أزمة الإنسان الحديث الروحية ومحاولة لإيجاد حل لها في الوقت ذاته. ويتجلى هذان الجانبان على نحو واضح في التطورات التي شهدها التحليل النفسي باتجاه ما أُطلق عليه اسم التحليل النفسي "الإنسانوني" أو "الوجودي". غير أنني قبل أن أعرض لمفاهيمي "الإنسانوية" الخاصة، أريد أن أبين أن منظومة فرويد، على النقيض من الافتراض الشائع، هي منظومة تتعالى على مفهوم "المرض" و"المداوة" وتُعنى بـ"خلاص" الإنسان، لا بعلاج المرضى الذين اختلت عقولهم وحسب. فحين ننظر نظرة سطحية، يبدو فرويد بوصفه مبدعًا لعلاج جديد للمرض العقلي، ويبدو وكأنه قد كرَّس لهذا الأمر اهتمامه الأساسي وجُلَّ جهوده. أما حين ننظر عن كثب، وبمزيد من التمعن، فإننا نجد خلف مفهوم المعالجة الطبية الهادفة إلى شفاء مرض العُصاب اهتمامًا مغايرًا تمامًا، نادرًا ما عبر عنه فرويد، وربما نادرًا ما كان واعيًا حتى بالنسبة له. وهذا المفهوم الخفي، أو الضمني، لا يُعنى في المقام الأول بمداواة المرض العقلي، بل بشيء يتعالى على مفهوم المرض والمدواة. فما هو هذا الشيء؟ وما هي طبيعة "الحركة التحليلية النفسية" التي أسسها فرويد؟ وما هي رؤية فرويد لمستقبل الإنسان؟ وما هي العقيدة أو "الدوغما" التي قامت عليها حركته؟

لعل أوضح إجابة يقدمها فرويد عن هذه الأسئلة هي في قوله:

حيثما يكون الهو ينبغي أن يكون الأنا.

فما يرمي إليه فرويد هو سيطرة العقل على الأهواء الواعية واللاواعية؛ أي تحرير الإنسان من سيطرة اللاوعي بما يمتلك الإنسان ذاته من قدرات وإمكانات، ولكي يسيطر الإنسان على ما في داخله من قوى حقة، أي معرفة الواقع؛ فهذه المعرفة هي بالنسبة له ذلك النور الهادي الذي لا يملك الإنسان فوق هذه البسيطة سواه. والحق أن هذه الغاية هي الغاية التقليدية التي سعت وراءها العقلانية، وفلسفة الأنوار، والأخلاق البيوريتانية. إلاَّ أن الدين والفلسفة طرحا هذه الغاية المتعلقة بضبط النفس والتحكم بها على نحوٍ يمكن وصفه بالطوباوي، في حين كان فرويد- وكما عبر هو نفسه- أول من أقامها على أساس علمي (من خلال اكتشافه اللاوعي)، وكان بالتالي أول من بين طريقة تحقيقها. ومع أن فرويد يمثل ذروة العقلانية الغربية، فإن عبقريته تكمن في تغلبه على ما في هذه العقلانية من أوجه زائفة ونزوع تفاؤلي سطحي، كما تكمن في توليفه بين العقلانية والرومانسية، تلك الحركة التي وقفت في القرن التاسع عشر في تعارض مع العقلانية من خلال اهتمامها بالجانب العاطفي اللاعقلاني لدى الإنسان وإجلالها له[2].

وحتى فيما يتعلق بمعالجة الفرد، فإن فرويد كان مهتمًا أيضًا بهدف فلسفي وأخلاقي أكثر مما نظن. فهو في محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي يتحدث عن تلك المحاولات التي تقوم بها بعض الرياضات الصوفية لإحداث تحول جوهري في الشخصية، ويتابع قائلاً:

علينا أن نعترف أن الجهود العلاجية التي قام بها التحليل النفسي تنصبُّ على هذه النقطة ذاتها، فهي ترمي إلى تعزيز الأنا وتقويته، وجعله أكثر استقلالاًُ عن الأنا الأعلى، فضلاً عن توسيع المدى الذي يسيطر عليه، بحيث يمكن أن يضم إليه أجزاء جديدة من الهو. فحيثما يكون الهو ينبغي أن يكون الأنا. وهذا عمل ثقافي شأنه شأن استصلاح خليج زويدرزي[3].

وبهذه النبرة ذاتها يتحدث فرويد عن العلاج التحليلي النفسي بوصفه يقوم على

تحرير الكائن البشري من أعراضه العصابية، ومن حالات الكفِّ والشذوذ في طبعه[4].

وهو يرى أيضًا أن دور المُحلِّل يتعالى على دور الطبيب الذي "يداوي" المريض. فالمحلل، بالنسبة لفرويد،

ينبغي أن يكون في موقع سامٍ بمعنى ما، إذا ما أراد أن يعمل بوصفه قدوة ومثالاً للمريض في وضعيات تحليلية معينة، أو بوصفه معلِّمًا في وضعيات أخرى[5].

ويقول فرويد أخيرًا:

علينا ألا ننسى أن العلاقة بين المحلل والمريض قائمة على حب الحقيقة، أي على الاعتراف بالواقع، مما يضع حدًا لكل أنواع الخجل والخداع[6].

وثمّة جوانب أخرى في تصور فرويد للتحليل النفسي تتعالى على الفكرة التقليدية الخاصة بالمرض والمداواة. والمُطَّلعون على الفكر الشرقي، وعلى بوذية زِنْ بصورة خاصة، سيلاحظون أن الجوانب التي أُزْمِعُ على ذكرها قريبةٌ من مفاهيم العقل الشرقي وأفكاره. وأوَّلُ ما ينبغي ذكره هنا هو مفهوم فرويد الخاص بالمعرفة وما تفضي إليه من تحوّلٍ وتغيّرٍ، وبضرورة عدم الفصل بين النظرية والممارسة، وتحويل المرء نفسه في فعل المعرفة ذاته. ولا حاجة هنا للتأكيد على المسافة التي تفصل هذا المفهوم عن مفاهيم علم النفس العلمي سواء في زمن فرويد أو في زمننا، حيث تبقى المعرفةُ معرفةً نظريةً دون أن يكون لها أي دور تحويلي تمارسه على العارف.

والجانب الآخر من جوانب الصلة الوثيقة بين منهج فرويد و"الفكر الشرقي"، وخاصة بوذية زِنْ[7]، يتمثل في أن فرويد لم يشاطرنا ذلك التقييم الرفيع لمنظومتنا الفكرية الواعية، وهو التقييم الذي يميز الإنسان الغربي إلى حد بعيد. وعلى العكس، فقد اعتقد فرويد أن فكرنا الواعي ليس إلا جزءًا يسيرًا من السيرورة النفسية الجارية في داخلنا، بل الجزء الأقل شأنًا بالمقارنة مع القوة الهائلة التي تمتلكها تلك المصادر العمياء واللاعقلانية واللاواعية الموجودة في داخل كل منا. وحين كان فرويد يسعى للتوصل إلى الطبيعة الفعلية لشخص ما، كان يضع نصب عينيه اختراق منظومة الفكر الواعي، من خلال تقنية التداعي الحر التي جاء بها. فالتداعي الحر هو تقنية تلتفُّ على الفكر المنطقي، الواعي، التقليدي وتفضي إلى مصدر جديد من مصادر الشخصية هو اللاوعي. وبصرف النظر عن النقد الذي يمكن توجيهه إلى محتويات اللاوعي الفرويدي، تبقى الحقيقة أنَّ فرويد بإلحاحه على التداعي الحر مقابل التفكير المنطقي قد تخطى طريقة التفكير الغربية العقلانية والتقليدية في نقطة أساسية، وخطا باتجاهٍ كان الفكر الشرقي قد شقه وسار فيه أشواطًا بعيدة.

وتبقى هناك نقطة أخرى من نقاط التمايز الجذري بين فرويد والموقف الغربي المعاصر. فقد كان فرويد مستعدًا للانخراط في تحليل شخص ما على مدى سنة، أو اثنين، أو ثلاث، أو أربع، أو خمس، بل وأكثر. وكان هذا الأمر سببًا لكثرة من النقد الذي تعرض له. ولا حاجة للقول هنا إن على المرء أن يسعى إلى جعل التحليل فعالاً قدر الإمكان ومهما كلَّف الأمر، وما أودُّ التشديد عليه هو أن فرويد قد كانت لديه الشجاعة للقول إن المرء قد يقضي سنوات عديدة بلا طائل مع شخص واحد وحيد وهو يساعده على فهم نفسه ليس إلاّ. فلو نظرنا إلى ذلك من منظار المنفعة، والخسارة والربح، لَبَدا ضربًا من العبث بلا معنى، في حين أن الزمن الذي يستغرقه مثل هذا التحليل المديد لا يعود جديرًا بالذكر إذا ما قورن بالأثر الاجتماعي المترتِّب على تغير يطرأ على هذا الشخص الواحد. وهكذا فإن منهج فرويد لا يكتسي كامل معناه ودلالته إلا حين نتعالى على مفهوم "القيمة" الحديث، وعلى المفهوم السائد عن العلاقة بين الوسائل والغايات؛ فحين نعتبر أن من غير الممكن مقايسة الكائن البشري مع أي شيء آخر نستخدمه، وأن انعتاقه، وكينونته الحقّة، واستنارته، أو ايّ مصطلح آخر نستخدمه، هي بحد ذاتها أشدُّ الأمور أهمية، لا يعود من الممكن أن نربط ربطًا كميًا بين هذه الغاية وأي قَدْرٍ من الوقت والمال، إذ تصبح هذه الغاية أسمى بما لا يقاس. وهكذا، فإن تلك الرؤيا والشجاعة اللتين دفعتا فرويد إلى ابتكار منهج يشتمل على مثل هذا الاهتمام المديد بشخص ما كانت بمثابة تجلٍّ لموقف يتعالى على الفكر الغربي في جانب من جوانبه المهمة.

بَيْدَ أن الملاحظات السابقة لا تعني أن فرويد كان قريبًا في مقاصده ونواياه الواعية من الفكر الشرقي أو من فكر بوذية زن على وجه الخصوص. فكثير من العناصر التي أشرت إليها هي في فكر فرويد عناصر ضمنية أكثر منها صريحة، ولا واعية أكثر منها واعية. وفرويد هو ابن الحضارة الغربية بالمعنى العميق للكلمة، وهو ابن فكر القرن الثامن عشر والتاسع عشر خاصةً، الأمر الذي يبعده عن الفكر الشرقي كما تعبر عنه بوذية زن، حتى ولو كان مألوفًا لديه. وصورة الإنسان عند فرويد من ملامحها الأساسية تلك الصورة التي قدمها اقتصاديو القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وفلاسفتهما، حيث رأوا في الإنسان ذلك الكائن التنافسي، المنعزل، الذي لا تربطه بالآخرين سوى ضرورة التبادل بغية إرضاء الحاجات الاقتصادية والغريزية. والإنسان عند فرويد هو آلة يدبِّرها الليبيدو، وينظمها مبدأ الإبقاء على إثارة هذا الليبيدو في حدها الأدنى، وهو أيضًا متمركز على أناه، فلا يرتبط بالآخرين إلا بضرورة إشباع الرغبات الغريزية المتبادلة. واللذة، تبعًا لفرويد، تعني التخلص من التوتر، وليس تجربة المتعة. وهكذا تم النظر إلى الإنسان بوصفه منشطرًا بين فكره وعواطفه، فالإنسان ليس الإنسان الكلي بل الذاتُ المفكرة لدى فلاسفة الأنوار، أما الحب الأخوي فحاجة غير معقولة، تناقض الواقع، وتجربة صوفية تعبّر عن نكوص إلى النرجسية الطفلية.

ما أريد قوله هو أنه على الرغم من هذه التعارضات فإن في منظومة فرويد عناصرُ تتعالى على المفاهيم التقليدية الخاصة بالمرض والمداوة، وعلى المفاهيم العقلانية التقليدية الخاصة بالوعي، وهي عناصر تفضي إلى تطور التحليل النفسي باتجاه مزيد من الألفة المباشرة والإيجابية مع الفكر البوذي الزِنِّي.

لقد كان التغيّرُ في نوعية المرضى الذين يلتمسون التحليل النفسي والتغييرُ في نوعية مشاكلهم واحدًا من الأسباب الهامة لما طرأ على التحليل النفسي من تطور. ففي بداية القرن العشرين كان من يأتون إلى الطبيب النفساني أُناسًا يعانون من أعراضٍ معينة، كذراع مشولة، أو عَرَض وسواسي مثل الاغتسال الإجباري المتكرر، أو أفكار هُجاسية لا يستطيعون التخلص منها. وبعبارةٍ أخرى، فقد كانوا "مرضى" بالمعنى الطبي لهذه الكلمة؛ أي أن لديهم ما يَحُول دون أدائهم لوظائفهم الاجتماعية على النحوالذي يؤديها به من نَصِفُه بالشخص السوي. ولما كانت معاناتهم هي هذه المعاناة، فإن مفهومهم عن المداواة كان متماشيًا مع مفهومهم عن المرض، فكانوا يريدون التخلص من الأعراض، وكان مفهومهم عن "الصَّحة" يعني غياب المرض. وهكذا كانت بغيتهم أن يكونوا سليمين مثل الشخص العادي، أو ألاَّ يكونوا أكثر تعاسة واضطرابًا من هذا الشخص العادي في مجتمعنا.

ولا يزال هؤلاء المرضى يأتون إلى المحلل النفساني اليوم طالبين عونه. ولا يزال التحليل النفسي بالنسبة لهم نوعًا من العلاج الهادف إلى إزالة أعراضهم وتمكينهم من أداء وظائفهم الاجتماعية. إلا أنهم ما عادوا يشكِّلون الغالبية بين زبائن المحلل النفساني، فَهُمُ الأقلية اليوم - ليس لأن عددهم المطلق أصبح أقل من السابق، بل لأن عددهم أقل نسبيًا من عدد "المرضى" الجدد الذين لم تتعطل وظائفهم الاجتماعية وليسوا مرضى بالمعنى العادي للكلمة لكنهم يعانون من "مرض العصر" أو التوعك، أو المَوَات الداخلي. وهؤلاء المرضى الجدد يأتون إلى المحلل النفساني دون أن يعرفوا ما الذي يعانون منه حقًا. إنهم يشكون من الهمود، أو الأرق، أو التعاسة في الزواج، أو انعدام المتعة في العمل، أو غير ذلك من الاضطرابات الكثيرة الأخرى. وهم يعتقدون في العادة أن هذا العَرَض المحدد أو ذاك هو المشكلة التي إذا ما تخلصوا منها عاد وضعهم إلى ما يرام. وهم لا يَرَون في العادة أن مشكلتهم ليست الهمود، أو الأرق، أو الزواج، أو العمل، ولا يرون أن شِكاياتهم الكثيرة هذه ليست سوى الشكل الواعي الذي تتيح ثقافتنا من خلاله التعبير عن شيء أعمق من ذلك بكثير، شيء مشترك بين مختلف البشر الذين يعتقدون على مستوى الوعي أنهم يعانون من هذا العرض أو ذاك. وهذه المعاناة المشتركة هي الاغتراب عن الذات، وعن الأقران، وعن الطبيعة؛ وهي الإحساس بأن الحياة تتسرب من بين الأصابع كالرمال، وأن الموت سيأتي قبل أن يكون المرء قد عاش حقًا، وأن الوفرة التي يعيش فيها لا توفر له البهجة.

أيُّ عونٍ، إذًا، يمكن أن يقدمه التحليل النفسي لأولئك الذين يعانون من "مرض العصر"؟ لابد لهذا العون من أن يكون مختلفًا عن "المداواة" التي ترتكز على إزالة الأعراض والذي يُقَدَّم لأولئك العاجزين عن القيام بوظائفهم الاجتماعية، ذلك أن "المداوة"، بالنسبة لمن يعانون الاغتراب، لا تقوم على غياب المرض وإنما على حضور الكينونة الحقّة.

بيد أنّ مصاعب جمة تعترضنا في تعريف الكينونة الحقّة. فإذا ما بقينا في إطار المنظومة الفريدوية، وجدنا أن هذا التعريف يتوسل مصطلحات نظرية الليبيدو، فتبدو هذه الكينونة بوصفها القدرة على أداء الوظيفة الجنسية أداء كاملاً، أو بوصفها، من زاوية أخرى، إدراك الوضعية الأوديبية الخفيّة. وهذان التعريفان لا يتجاوزان، باعتقادي، سطحَ المشكلة الحقيقية التي ينطوي عليها الوجود البشري وسعي الإنسان الكلي خلف كينونته الحقة. وأية محاولة في تقديم إجابة حذرة على مسالة الكينونة الحقة لابد لها أن تتعالى على الإطار المرجعي الفريدوي وتفضي إلى مناقشة مفهوم أساسي هو الوجود الإنساني الذي يشكل أساس التحليل النفسي الإنسانوي، وذلك بصرف النظر عن مدى كمال هذه المناقشة، فبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تضع أساسًا للمقارنة بين التحليل النفسي وفكر بوذية زن.

الكينونة الحقة واتجاهات التطور النفسي للإنسان:

يمكن أن نعرِّف الكينونة الحقة مبدئيًا بأنها كونُ الإنسان في انسجام مع طبيعته. وإذا ما مضينا إلى أبعد من هذه الصياغة الشكلية فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي الكينونة، في شروط الوجود البشرية؟ وما هي شروط الوجود البشرية؟

فالوجود البشري يطرح مشكلة، ذلك أن الإنسان مقذوفٌ في هذا العالم دون إرادته. وبخلاف الحيوان، الذي تشتمل غرائزه على آلية "أساسية وجوهرية" للتلاؤم مع بيئته، والعيش ضمن الطبيعة على نحو كُلّي، فإنَّ الإنسان يفتقر إلى مثل هذه الآلية الغريزية، ولذا فهو مضطر لأن يعيش حياته، لا أن يعيش من خلالها. فهو في الطبيعة، لكنه يتعالى عليها؛ ذلك أنّ لديه إدراكًا لذاته، وهذا الإدراك لذاته بوصفه كيانًا منفصلاً أو مستقلاً يدفعه إلى الشعور بأنه وحيد، وضائع، وعاجز على نحو لا يُطاق. كما يشعر أن مجرَّد ولادته هي بمثابة المشكلة. ففي لحظة الولادة، تطرح الحياة على الإنسان سؤالاً، وعليه أن يجيب على هذا السؤال في كل لحظة؛ ومن يجيب ليس عقله، وليس جسده، بل هو، الشخص الذي يفكر ويحلم، ينام ويأكل، يبكي ويضحك، الإنسان الكلي. فما السؤال الذي تطرحه الحياة؟ إنّه: كيف يمكن لنا ان نتغلب على ما تخلقه تجربة الانفصال من معاناة، وحجز، وخجل، وكيف يمكن لنا أن نجد نوعًا من الوحدة في دواخلنا، ومع أقراننا، ومع الطبيعة؟ هذا هو السؤال الذي لابد للإنسان من أن يجيب عليه بصورة من الصور؟ حتى في حالة الجنون حيث يكون ثمة جواب من خلال الاستنكاف عن الواقع الخارجي، والعيش ضمن قوقعة الذات بصورة كليّة، مما يوفّر نوعًا من التغلب على رعب الانفصال.

والسؤال هو ذاته على الدوام، أما الأجوبة فعديدة. ويمكن القول إنهما جوابان بصورة أساسية. الأول هو التغلب على الانفصال وإيجاد الوحدة من خلال النكوص إلى حالة الوحدة التي كانت قائمة قبل نشوء الإدراك، أي قبل ولادة الإنسان. والثاني هو الولادة الكاملة، وتطوير الإدراك، والعقل، والقدرة على الحب، إلى حد يتعالى عنده المرء على الانشغال الأناني بالذات، ويبلغ حالة من الانسجام والتوحد مع العالم.

ونحن نتحدث عن الولادة، نشير عادة إلى حدث الولادة الفيزيولوجية التي تحصل بعد أشهر تسعة من الحمل. إلا أننا نبالغ بأهمية هذه الولادة من نواحٍ شتى. فحياة الطفل خلال الأسبوع الأول من الولادة هي في عديد من الجوانب المهمة أشبه بالحياة داخل الرحم منها بحياة الرجل الراشد أو المرأة الراشدة. لكن الولادة تشتمل على جانب فريد، هو قطع حبل السُرَّة وشروع الطفل بممارسة فعاليته الأولى: التنفس. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، لا يعود من الممكن القيام بأيّ قطعٍ للروابط البدئية إلا إذا ترافق هذا القطع مع فعالية أصلية.

الولادةُ، إذًا، ليست حدثًا واحدًا، بل سيروة. وغاية الحياة هي الولادة الكاملة، على الرغم من المأساة المتمثلة في أن معظمنا يموت قبل أن يولد هذه الولادة الكاملة. فأن تحيا يعني أن تولد في كل لحظة. أما الموت فهو يأتي حين تكفّ عن الولادة. ومع أن خلايانا هي في سيرورةٍ من الولادة الفيزيولوجية المستمرة، إلا أن معظمنا يتوقف عن الولادة النفسية عند نقطة محددة. بل إن بعضنا يموت في لحظة الولادة ذاتها؛ فهم لا يواصلون الحياة إلا على المستوى الفيزيولوجي، أما ذهنيًا فهم يتوقون للعودة إلى الرحم، إلى الأرض، إلى الظلام والموت، وهم مجانين أو يكادون. وثمة غيرهم ممن يقطعون شوطًا طويلاً على درب الحياة، لكنهم لا يستطيعون أن يقطعوا حبل السُرَّة قطعًا كاملاً؛ فيظلون على ارتباط تعايشي أو تكافلي مع الأم، أو الأب، أو العائلة، أو العِرْق، أو الدولة، أو المكانة، أو المال، أو الآلهة، الخ؛ ولا يظهرون أبدًا بوصفهم أنفسهم ولذا لا يولدون ولادة كاملة أبدًا[8].

ويمكن لمحاولة النكوص، بوصفها إجابة على سؤال الوجود، أن تتخذ أشكالاً عدة، وما هو مشترك بين هذه الأشكال جميعًا هو أنها تُخفق بالضرورة وتؤدي إلى مزيد من المعاناة. فما إن يغادر الإنسان تلك الوحدة قبل الإنسانية والفردوسية مع الطبيعة حتى يصبح عاجزًا عن الرجوع من حيث أتى، ذلك أن ثمة ملاكين بسيفين من نار يقطعان عليه طريق العودة، فلا يمكن لهذه العودة أن تتم سوى بالموت أو بالجنون.

وثمة مستويات عدة يمكن للإنسان أن يجد عندها تلك الوحدة التي نكص باتجاهها، وهي مستويات عدة من المرض وغياب العقل. فقد يتملكه هاجس العودة إلى الرحم، إلى الأرض الأم، إلى الموت، حتى إذا ما استغرقه هذا الهدف بكليته دون أن يعوقه شيء كانت النتيجة هي الانتحار أو الجنون. أما الشكل الأقل خطرًا ومرضًا من أشكال هذا البحث النكوصي عن الوحدة فهو السعي إلى الارتباط الدائم بصدر الأم، أو يدها، أو بأوامر الأب. ويشير التباين بين هذه الأهداف المختلفة إلى تباينٍ بين شخصيات مختلفة، فالذي يظل مرتبطًا بصدر الأم هو الرضيع الاتكالي الأبدي، الذي يغمره شعور بالغبطة إذا ما أحبه أحد، أو عُنيَ به، أو حماه، أو كان محطّ إعجابه، فإذا ما تهدده الانفصال عن الأم المفعمة بالحب غمره القلق الذي لا يطاق. أما الذي يبقى مرتبطًا بأوامر الأب فقد يتميز بقدر كبير من النشاط والمبادرة، لكنه لا يبديه إلا في ظرف تَحْضُر فيه السلطة لتملي عليه الأوامر، وتثيبه وتعاقبه. وثمة شكل آخر أيضًا من التوجه النكوصي يتمثل في السعي إلى التغلب على الانفصال من خلال هوى التدمير الذي يطال كل شيء. وقد يأخذ هذا السعي شكل الرغبة بالتهام واجتياف كل شيء، أي اختبار العالم بوصفه طعامًا، أو تدمير كل الأشياء تدميرًا كاملاً باستثناء شيء واحد هو ذاته. وبالطبع فإن هنالك شكلاً آخر، بعدُ، لمحاولة الشفاء من معاناة الانفصال يتمثل في بناء المرء أناه الخاص، بوصفه" شيئًا" منفصلاً وحصينًا لا يمكن دكّه. وعندها يختبر المرء ذاته بوصفها ملكيته الخاصة، وسلطته الخاصة، وهيبته الخاصة، وفكره الخاص.

أما خروج الفرد من هذا التوجه النكوصي صوب الوحدة فيترافق مع تغلب تدريجي على النرجسية. فالطفل المولود حديثًا لا يدرك الواقع الموجود خارج ذاته، ولذا فإنه يشكل مع حلمة ثدي الأم وصدرها كلاً واحدًا، ويكون في حالة سابقة على أي تفريق بين الذات والموضوع. وبعد فترة، تتطور لدى الطفل هذه القدرة على التمييز بين الذات والموضوع، لكنها لا تذهب في هذه المرحلة أبعد من إدراك الاختلاف بينه وبين ما هو غيره. أما بالمعنى العاطفي والوجداني، فإن التغلب على الموقف النرجسي الطاغي يحتاج إلى نضج كامل، إذا ما كان بالإمكان بلوغ هذه المرحلة أصلاً.

ويتجلى الموقف النرجسي واضحًا في سلوك الأطفال والأشخاص العُصابيين، لكنه موقفٌ واعٍ لدى الأطفال بخلاف العصابيين. فالطفل لا يقبل الواقع كما هو، بل كما يريد له أن يكون. فهو يحيا في رغباته، ونظرتُه إلى الواقع هي ما يريد لهذا الواقع أن يكون عليه. فإذا لم تتحقق رغباته حَنَق، ووظيفة حنقه هذا هي إجبار العالم ( بتوسط الأب والأم) على الاستجابة له. ويتحول هذا الموقف تحولاً بطيئًا وتدريجيًا في حالة التطور السويّ ليحل محله موقف ناضج يدرك الواقع، ويقبل قوانينه، ويخضع للضرورة. أما العُصابي فلا يبلغ هذا الحد، ولا يتخلى أبدًا عن تفسيره النرجسي للواقع. فهو يلح على ضرورة توافق الواقع مع أفكاره، وحين يدرك أن الأمر ليس كذلك، فإنه إما أن يرتكس بنزوةٍ تهدف إلى إجبار الواقع على التماشي مع الرغبة (أي إلى اجتراح المستحيل) أو بشعورٍ بالخَوَر والعجز لأنه لا يستطيع تحقيق المستحيل. وفكرةُ هذا الشخص عن الحرية هي فكرة القدرة الكلية النرجسية، سواء كان يعي ذلك أم لا يعيه، في حين أن فكرة الحرية لدى الشخص الناضج تمامًا هي فكرة معرفة الواقع وقوانينه والعمل من ضمن قوانين الضرورة، بربطِ الذات بالعالم ربطًا مثمرًا عبر فهم هذا العالم بالقوى الذاتية الفكرية والعاطفية الخاصة.

وهذه الغايات المختلفة وسبل تحقيقها ليست منظومات فكرية بالدرجة الأولى، وإنما سبل للكينونة مختلفة، وإجابات مختلفة يجيب بها الإنسان الكلي عن السؤال الذي تطرحه عليه الحياة. وهي الإجابات ذاتها التي قدَّمتها المنظومات الدينية المختلفة التي عرفها تاريخ الأديان. فمنذ أكل البدائيُّ اللحمَ الآدمي وحتى بوذية زِنْ، لم يقدِّم الجنس البشري سوى بضع إجابات على سؤال الوجود، هي الإجابات التي يقدم كل منا في حياته واحدًا منها. والاعتقاد السائد في ثقافتنا الغربية هو أننا نقدم إجابة الديانة المسيحية أو اليهودية، أو إجابة الإلحاد والتنوير، لكننا لو استطعنا التقاط صورة شعاعية لذهن كلٍّ منّا، لوجدنا الكثير من أنصار أكل اللحوم الآدمية، والكثير من عَبَدة الطواطم، والكثير من عبدة الأوثان على اختلاف أنواعها، والقليلَ من المسيحيين، واليهود، والبوذيين، والتاويين. إن الدين هو الإجابة المصوغة والرصينة عن سؤال وجود الإنسان، ولأنَّ من الممكن التشارك به في الوعي ومن خلال الشعيرة مع آخرين، فإن من الممكن حتى للأديان الدنيا أن تخلق شعورًا بالمعقولية والأمن لمجرد المشاركة مع آخرين. أما حين ينتفي هذا التشارك، وتتعارض الرغبات النكوصية مع الوعي ومع المتطلبات الثقافية القائمة، فإنَّ العُصاب هو "الدِّين" السرِّي، والفردي، الذي يسيطر.

ولكي نفهم المريض الفرد- أو أي كائن بشري- لابد أن نعرف الإجابة التي يقدمها عن سؤال الوجود، أو بعبارة أخرى، لابد أن نعرف دينه الفردي، السرِّي، الذي يكرس له كل جهوده وأهوائه. فمعظم ما نعتبره "مشاكل نفسية" ليس إلا عواقب ثانوية لهذه "الإجابة" الأساسية، ولذا فإن من العبث "مداواة" هذه العواقب قبل أن نعرف هذه الإجابة، أي دينَه السري الخاص.

والسؤال الآن هو كيف يمكن لنا أن نعرف الكينونة الحقة في ضوء ذلك؟

الكينونة الحقة هي تطور العقل تطورًا كاملاً. والعقل هنا ليس بمعنى الحكم الفكري المحض، بل بمعنى القبض على الحقيقة بـ"ترك الأشياء تكون" ما هي عليه (كما يقول هيدغر). والكينونة الحقة لا تكون ممكنة إلا بقدر ما يتغلب الإنسان على نرجسيته، وبقدر ما يكون منفتحًا، ومستجيبًا، وحساسًا، ويقظًا، وفارغًا (بالمعنى الذي لهذه الكلمة في بوذية زن).

والكينونة الحقة تعني الارتباط العاطفي التام بالإنسان والطبيعة، والتغلب على الانفصال والاغتراب، والتوصل إلى حالة من التوحُّد مع كل الموجودات، في الوقت الذي أختبر فيه ذاتي بوصفها كيانًا مستقلاً هو أنا الفرد. والكينونة الحقة تعني الولادة الكاملة، وأن يصير المرء ما تتيح له قدراته وإمكاناته أن يصير؛ وهي تعني امتلاك القدرة على الفرح والحزن، وتعني، بعبارة أخرى، الاستيقاظ من نصف النوم الذي يغُطّ فيه الإنسان العادي، أي الاستيقاظ الكامل. وإذا ما كانت الكينونة الحقة كل ذلك، فهي تعني أن أكون مبدعًا؛ أي أن أستجيب لذاتي، وللآخرين، ولكل ما في الوجود، أي أن يستجيب الإنسان الكلي، الواقعي، الذي هو أنا لكل شخص وكل شيء على النحو الذي هو عليه. أما الإبداع فيكمن في فعل الاستجابة الصحيحة هذا في رؤية العالم كما هو واختباره بوصفه عالَميْ، العالم الذي أبدَعه وغيَّره فهمي المبدع له، بحيث يكفّ عن كونه عالمًا غريبًا "خارجيًا" ويصبح عالمي. وتعني الكينونة الحقة أخيرًا إسقاط الأنا، والتخلي عن الطمع، والتوقف عن الجري وراء الحفاظ على الأنا وتضخيمه، وأن أكون ذاتي وأختبرها في فعل الكينونة، لا أن أتملك، وأحافظ، وأطمع، واستعمل.

لقد حاولت في ملاحظاتي الأنفة أن أشير إلى ذلك التطور المتوازي لدى الفرد وفي تاريخ الدين. وقلت إن سؤالاً يُطرح على الإنسان لمجرد وجوده، وأن هذا السؤال نابع من التناقض القائم داخل الإنسان نفسه، نظرًا لكونه في الطبيعة من جهة وكونه في الوقت ذاته من طبيعة متعالية لأنه نوع من الحياة التي تدرك ذاتها. وكل من يصغي لهذا السؤال وهو يطرح عليه، ويجعل من الإجابة عليه محط "اهتمامه الأقصى"، ويجيب عليه كإنسان كلي وليس بالأفكار وحسب، هو شخص "متديّن"؛ وكل المنظومات التي حاولت أن تطرح مثل هذا السؤال، أو تعلِّمه، أو تنقله، هي منظومات "دينية". ومن جهة أخرى، فإن كل من يصم أذنيه حيال سؤال الوجود "سواء كان شخصًا أو ثقافة" لا يمكن أن يكون متدينًا. ولعل أفضل مثال نضربه لأولئك الذين يصمون آذانهم حيال هذا السؤال هو نحن أنفسنا الذين نعيش في القرن العشرين ونحاول التهرب من هذا السؤال بالسعي خلف المُلكية، والهيبة، والسلطة، والإنتاج، واللهو، ومحاولة نسيان أننا موجودون. وإذا ما أصم الإنسان أذنيه حيال سؤال الوجود، ولم يكن لديه جواب عليه، لا يعود مُهمًًا كم يذكر الله أو يواظب على الكنيسة، أو مقدار اعتناقه أفكار الدين، فهو يعيش ويموت مثل ملايين الأشياء التي ينتجها، ويمضي الوقت وهو يذكر الله بدلاً من أن يختبر أن يكونه.

إلا أن من الضلال أن نحسب أن الأديان تشترك بأكثر من هذا الاهتمام بتقديم جواب على سؤال الوجود. فحين يتعلق الأمر بمحتوى الدين، لا نجد ما هو مشترك بين الأديان، بل نجد على العكس جوابين متعاكسين تمامًا، هما الجوابان اللذان ذكرناهما من قبل عند الحديث عن الفرد: أحدهما يقضي بالعودة إلى وجود قبل - إنساني وسابق على الوعي، والإطاحة بالعقل والتحول إلى حيوان، والتوحّد مع الطبيعة مرة أخرى على هذا النحو الحيواني. أما أشكال التعبير عن هذه الرغبة فكثيرة جدًا. فمن جهة أولى ثمة ظواهر كتلك التي نجدها لدى جمعيات الـ bearserker (وتعني حرفيًا: "قمصان الدب") الألمانية السرية التي يتماهى أعضاؤها مع الدب، فيكون على الشاب عند انتسابه إليها أن يمسخ إنسانيته في سَوْرة من الغضب العدواني والإرهابي المنفلت من عقاله، يكون فيها أشبه ببهيمة من بهائم البرية الهائجة[9]. (ولأن نزوع العودة إلى حالة التوحد قبل الإنساني مع الطبيعة ليس مقتصرًا على المجتمعات البدائية بأي حال من الأحوال، فإن من الممكن ومن المُهمّ أن نقيم صلة بين "قمصان الدب" و"القمصان البنية" الهتلرية. ففي حين كان القسم الأوسع من أنصار الحزب الاشتراكي القومي مكوَّنًا من علمانيين، وانتهازيين، ورعاع، وسياسيين ساعين وراء السلطة، ويونكرز، وجنرالات، ورجال أعمال، وبيروقراطيين، فإن نواة هذا الحزب، الممثَّلة بالثلاثي هتلر وهملر وغوبلز، لم تكن تختلف في جوهرها عن "قمصان الدب" البدائية المدفوعة بالهياج" المقدس" والسعي وراء التدمير بوصفه التحقق النهائي لرؤياهم الدينية. فقد أعاد هذا الثلاثي إحياء أسطورة "القتل الشعائري" في القرن العشرين، ومارسوا هذا القتل فعلاً على الشعوب الأخرى، ومن ثم على الشعب الألماني ذاته، وأخيرًا على زوجاتهم وأطفالهم وأنفسهم في آخر طقس من طقوس الدمار الشامل). وهناك كثير من الأشكال الدينية قريبة العهد التي تكافح من أجل التوحد مع الطبيعة توحُّدًا حيوانيًا. وهي أشكال نجدها في العبادات التي تتماهى فيها القبيلة مع حيوان طوطم، وفي المنظومات المكرسة لعبادة الأشجار، والبحيرات، والكهوف، الخ، وفي العبادات الشهوانية التي تهدف إلى الإطاحة بالوعي، والعقل، والضمير. وما تقدسه هذه الأديان جميعًا هو ما يتيح المجال لرؤيا انمساخ الإنسان وتحوله إلى جزء من الطبيعة قبل- إنساني؛ و"الإنسان المقدس" (كالشامّان مثلاً[10]) هو الشخص الذي يبلغ أبعد مدى في تحقيق هذا الهدف.

وبالمقابل فإن ثمة جانبًا آخر للدين تمثله كل تلك الأديان التي تلتمس إجابة على سؤال الوجود البشري بالخروج خروجًا كاملاً من الوجود قبل- الإنساني، وتطوير القدرة على العقل التي هي قدرة إنسانية نوعيًا، والتوصل بذلك إلى انسجام جديد بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان. ومع أننا نجد مثل هذه المحاولات لدى بعض الأفراد في مجتمعات بدائية نسبيًا، إلا أن الخط الفاصل الأساسي على صعيد البشرية ككل يقع كما يبدو في الفترة الفاصلة بين 2000 ق.م وبداية حقبتنا على وجه التقريب. فالتاوية والبوذية في الشرق الأقصى، وثورات أخناتون الدينية في مصر، والزرداشية في بلاد فارس، وديانة موسى في فلسطين، وديانة Quetzal coatl في المكسيك[11]، تمثل شوطًا كاملاً قطعته البشرية.

وما تسعى إليه كل هذه الأديان هو الوحدة، لا الوحدة النكوصية المنشودة في العودة إلى انسجام الفردوس السابق على الفرد، والسابق على الوعي، بل الوحدة على صعيد جديد والتي لا يمكن بلوغها إلا بعد أن يختبر الإنسان انفصاله ويمرَّ بمرحلة اغتراب عن ذاته وعن العالم، ويكون قد وُلِدَ تمامًا. أما الأساس الذي ترتكز إليه هذه الوحدة فهو تَطور عقل الإنسان تطورًا كاملاً، مما يفضي إلى مرحلة يكف فيها العقل عن فصل الإنسان عن القبض المباشر والحدسي على الواقع. وهناك الكثير من الرموز التي يتخذها هذا الهدف الجديد المطروح علينا الآن، وليس في الماضي: التاو، النيرفانا، الاستنارة، الخير، الله. وما الاختلاف بين هذه الرموز إلا بسبب الاختلاف الاجتماعي والثقافي بين البلدان التي نشأت فيها. ففي التراث الغربي كان الرمز الذي تم اختياره لهذا "الهدف" هو الصورة السلطوية للملك الأعظم، أو زعيم القبيلة الأعظم. أما في زمن العهد القديم فقد تحولت هذه الصورة من صورة الحاكم التعسفي إلى صورة الحاكم المرتبط بالإنسان بعهد ووعود يشتمل عليها هذا الكتاب المقدس. ونجد في كتب الأنبياء أن الهدف قد أصبح الانسجام الجديد بين الإنسان والطبيعة. وفي زمن المخلص المسيحي، تجلى الله بصورة إنسان، وفي فلسفة موسى بن ميمون[12]، وكذلك في الصوفية، زالت عناصر التجسد والتسلط بصورة تكاد أن تكون كاملة، مع أنها بقيت في الأشكال الشعبية من الأديان الغربية دون كثير من التغيير.

وما هو مشترك بين الفكر الديني الغربي وبوذية زن هو إدراك ضرورة التخلي عن "الإرادة" (بمعنى الرغبة في قهر العالم الخارجي والداخلي، وتوجيهه، وليِّ عنقه) والانفتاح التام، والاستجابة، واليقظة، والحيوية. وهذا ما يعبر عنه مصطلح زن "إفراغ الذات"، لا بالمعنى السلبي، بل بمعنى الانفتاح والتهيؤ للاستقبال. أما في المصطلحات المسيحية فغالبًا ما يدعى ذلك "قتل الذات وقبول مشيئة الله". والاختلاف بين هاتين الصيغتين ليس إلا اختلافًا طفيفًا يعكس الفارق بين التجربة المسيحية والبوذية. ولكن حين يتعلق الأمر بالتجربة والتأويل الشعبيين، فإننا نجد أن الصيغة المسيحية تعني أن يترك الإنسان القرار والتقدير للأب كُلِّي القدرة والوجود، الذي يراقبه ويعرف ما هو الخير بالنسبة له، بدلاً من أن يقرر ويقدر بنفسه. ومن الواضح أن الإنسان في هذه الحالة لا يصبح منفتحًا ومستجيبًا، بل خاضعًا ومطيعًا. ولعل أفضل ما يقام به إن لم يكن ثمة مفهوم عن الله هو الخضوع لمشيئة الله بمعنى الاستسلام الحقيقي للأنا ونزعاتها. والمفارقة هي أنني أخضع لمشيئة الله حقًا حين أنسى أمر الله ولا أهتم له. والحقيقة أن مفهوم زن عن الفراغ ينطوي على المعنى الحقيقي للتخلي عن الإرادة، هذا التخلي الذي يتم بعيدًا عن خطر النكوص إلى مفهوم وثني عن الأب المُعِين.

- الوعي واللاوعي- الكبت وإزالة الكبت:

تلك، إذًا، هي الأفكار العامة عن الإنسان والوجود الإنساني التي تشكل أساسًا للغايات التي يضعها التحليل النفسي الإنسانوي نصب عينيه. وقد وجدنا أن هذا التحليل النفسي يشاطر هذه الأفكار تصورات دينية وفلسفية إنسانوية أخرى، مما يرتب علينا أن نتطرق إلى المقاربة النوعية المميزة التي يحاول التحليل النفسي من خلالها تحقيق غايته.

إن العنصر الذي يميز المقاربة التحليلية النفسية أكثرَ من غيره هو من دون شك تلك المحاولة التي يقوم بها لتحويل اللاوعي إلى وعي- أو، بتعبير فرويد، لتحويل الهو إلى أنا. غير أن هذه الصيغة التي تبدو بسيطة واضحة، ليست كذلك في الحقيقة؛ ذلك أن كثيرًا من الأسئلة تطرح نفسها مباشرة: ما هو الكبت؟ كيف يمكن تحويل اللاوعي إلى وعي، وما هو الأثر الذي يُخلِّفه ذلك حين يحصل؟

وينبغي أولاً أن نأخذ في الحسبان أن ثمة معاني مختلفة يُستخدم بها مصطلحا الوعي واللاوعي. ففي واحد من هذه المعاني، والذي يمكن أن نصفه بأنه معنى "وظيفي"، يشير "الوعي" و"اللاوعي" إلى حالة ذاتية داخل الفرد. وحين نقول إنه واعٍ لهذا المحتوى النفسي أو ذاك فذلك يعني أنه مدرك للعواطف، والرغبات، والأحكام، الخ، المتعلقة بهذا المحتوى. أما اللاوعي الذي يُستخدم على هذا النحو، فيشير إلى حالة عقلية لا يدرك فيها المرء تجاربه الداخلية؛ فإذا ما كان بعيدًا كل البعد عن إدراك هذه التجارب جميعها، بما فيها الحسية منها، قلنا على وجه الدقة إنه شخص لاواعٍ. وهكذا فإن قولنا عن شخص ما إنه واعٍ لعواطف معينة أو غيرها يعني أن هذا الوعي متعلق بهذه العواطف تحديدًا؛ وقولنا إن عواطف معينة ليست واعية يعني أن هذا اللاوعي متعلق بهذه المحتويات على وجه الضبط. ويجب ألا ننسى أن "اللاوعي" لا يشير إلى غياب النزوات، أو المشاعر، أو الرغبات، أو المخاوف، الخ، وإنما إلى غياب إدراكها وحسب.

أما المعنى الثاني للوعي واللاوعي فيختلف تمامًا عن معناهما الوظيفي ويشير إلى مواقع معينة داخل الشخص وإلى محتويات معينة مرتبطة بهذه المواقع. فالوعي هنا هو جزء من الشخصية، له محتوياته النوعية، في حين يمثل اللاوعي جزءًا آخر من هذه الشخصية بمحتويات نوعية مختلفة. وتبعًا لفرويد، فإن اللاوعي هو موقع اللاعقلانية بصورة أساسية. أما عند يونغ، فينقلب المعنى تمامًا، ويصبح اللاوعي موضع المنابع العميقة للحكمة، في حين يشكل الوعي ذلك الجانب الفكري من الشخصية. وهكذا يصبح اللاوعي بمثابة مستودع سفلي في منزل، يتدكس فيه كل مالا يجد مكانًا في المبنى العلوي؛ وفي حين يشتمل مستودع فرويد على رذائل الإنسان بصورة أساسية فإن مستودع يونغ يشتمل على حكمة هذا الإنسان بصورة أساسية.

أما هـ.س. سوليفان فيؤكد أن استخدام "اللاوعي" بمعنى الموقع هو استخدام عاثر، ينطوي على تمثيل بائس للوقائع النفسية التي يشتمل عليها. ويمكن أن أضيف من جهتي أن تفضيل هذا الاستخدام المادي على الاستخدام الوظيفي يتماشى مع ميل عام في الثقافة الغربية المعاصرة يتم فيه بناء التصورات بلغة الأشياء التي نمتلكها، وليس بلغة الكينونة. فنحن نمتلك أرقًا، ونمتلك همودًا واكتئابًا، ونمتلك محللاً نفسيًا، مثلما نمتلك سيارة، أو منزلاً، أو طفلاً. وبهذا المعنى فإننا نمتلك "لاوعيًا" أيضًا. وليس مصادفة أن الكثيرين راحوا يستخدمون مصطلح "ما قبل الوعي" بدلاً من "اللاوعي"، ذلك أنه يتلاءم أكثر مع المفهوم الموقعي؛ حيث يمكنني القول إنني" لست واعيًا" بهذا الأمر أو ذاك، ولكنني "ما قَبْلُ واعٍ" به.

وثمة استخدام ثالث أيضًا لهذين المصطلحين، يؤدي في بعض الأحيان إلى نوع من الخلط، حيث تتمُّ مطابقة الوعي مع التفكير التأملي ومطابقة اللاوعي مع التجربة غير التأملية. ولا اعتراض، بالطبع، على مثل هذا الاستخدام، شريطة أن يكون المعنى واضحًا ولا يختلط مع المعنيين الآخرين، خاصة بوجود مشكلة تعترض سبيل هذا الاستخدام وهي أن التأمل الفكري عملية واعية على الدوام في حين لا يكون كل ما هو واعٍ تأملاً فكريًا. فحين أنظر إلى شخص ما، فإنني أدرك هذا الشخص، وأدرك ما يحدث في داخلي حياله، لكن هذا الإدراك أو الوعي لا يتطابق مع التأمل الفكري إلا حين أفضل نفسي عنه بمسافة هي المسافة بين الذات والموضوع. وينطبق الشيء ذاته على إدراكي أو وعيي لتنفسي، الذي يختلف تمامًا عن تفكيري به؛ ذلك لأنني ما إن أبدأ التفكير بنفسي حتى أَكُفَّ عن إدراكي له. وهذا ما ينطبق أيضًا على جميع أفعالي التي أقيم من خلالها علاقتي بالعالم.

لقد عزمنا، إذًا، على الكلام على الوعي واللاوعي بوصفهما حالتين من الإدراك وعدم الإدراك على التوالي، وليس بوصفهما "جزئين" من الشخصية يشتمل كل منهما على محتوياته الخاصة المميزة، ولذا فإن علينا أن ننظر إلى ما يحول دون وصول تجربةٍ ما إلى إدراكنا، أي إلى ما منعها من أن تصبح واعية.

قبل الإجابة على هذا السؤال، هناك سؤال آخر يطرح نفسه وينبغي أن نجيب عليه أولاً. فحين نتكلم على الوعي واللاوعي في سياقٍ تحليلي نفسي، يكون ثمة إيحاء بأن الوعي أرفع قيمة من اللاوعي، وإلا فما الذي يدفعنا لأن نكافح كي نوسع من مجال الوعي؟ والحقيقة أن الوعي ليس له أية قيمة خاصة؛ ومعظم ما يحمله البشر في عقولهم الواعية ليس سوى تخييل وضلال؛ لا لأنهم عاجزون عن رؤية الحقيقة بل بسبب الوظيفة والأثر اللذين يخلفهما المجتمع. فالتاريخ البشري بمعظمه (باستثناء بعض المجتمعات البدائية) يتميز بحقيقة أن أقلية صغيرة قد حكمت الأكثرية من أبناء جلدتها وعملت على استغلالها. ولكي يتم لهم ذلك، فإن هذه الأقلية لجأت إلى القوة إلا أن القوة ليست كافية. فعلى المدى البعيد، كان ثمة ضرورة لأن تقبل الأكثرية استغلالها طواعية، الأمر الذي لا يكون ممكنًا إلا إذا امتلأت عقولها بكل أنواع الأكاذيب والاختلاقات التي تبرر قبولها لحكم الأقلية وتسوغه. ومع ذلك، فإن هذا ليس بالسبب الوحيد الذي يجعل معظم ما يدركه البشر أو يعونه عن أنفسهم، وعن الآخرين، وعن المجتمع ضربًا من التخييل. ففي سياق التطور التاريخي يقع كل مجتمع في شراك حاجته للبقاء بالشكل الخاص الذي تطور به، وهو يتمكن عادة من تلبية هذه الحاجة بتجاهله الأهداف الإنسانية العريضة التي تتشارك بها الإنسانية جمعاء. وهذا التناقض بين الغاية المجتمعية والغاية الكونية يفضي أيضًا إلى اختلاف ضروب شتى من التخييلات والأوهام (على مستوى المجتمع كلِّه) تقوم وظيفتها على إنكار الانفصام بين الغايات الإنسانية وغايات مجتمع معين.

ويمكن القول، إذًا، إن محتوى الوعي تخييلي وضلالي بمعظمه، وإنه لا يمثل الواقع بدقة. وحَرِيٌّ بنا، إذًا، ألاّ نرغب بمثل هذا الوعي. ومع ذلك فإن من غير الممكن تحقيق أي شيء له قيمته إلا بانكشاف الواقع المخبوء (اللاواعي) وكفِّه عن أن يكون مخبوءًا (فيصبح واعيًا). ولنا عودة لاحقًا إلى هذا الأمر، أما الآن فأود أن أؤكد على أن معظم ما يشتمل عليه وعيننا هو "وعي زائف" وأن المجتمع أساسًا هو من يملؤ عقولنا بهذه الأفكار التخييلية غير الواقعية.

ولا يقتصر تأثير المجتمع على صبِّ التخييلات في وعينا، بل يمتد أيضًا ليَحُول بيننا وبين إدراك الواقع. وإذا ما تعمقنا هذه الفكرة نجد أنها تفضي بنا إلى المشكلة الأساسية المتعلقة بكيفية حدوث الكبت أو اللاوعي.

يتمتع الحيوان بنوع من الوعي بالأشياء من حوله يمكن أن نطلق عليه صفة "الوعي البسيط". أما بنية دماغ الإنسان، والتي هي أكبر وأعقد من بنية دماغ الحيوان، فتتعالى على هذا الوعي البسيط وتشكل أساسًا للوعي الذاتي، أي لإدراك الإنسان ذاته بوصفها مادة تجربته. والإدراك البشري، ربما بسبب تعقيده الهائل[13]، منظم بعديد من الطرائق الممكنة، ولكي يتم إدراك أية تجربة معينة لابد أن تكون الإحاطة بها ممكنة عن طريق المقولات التي ينظم بواستطها الفكر الواعي. وبعض هذه المقولات، مثل الزمان والمكان، قد تكون مقولات كونية، مشتركة بين البشرية جمعاء في بنائها لتصوراتها، في حين أن ثمة مقولات أخرى، مثل مقولة السببية، قد تصلح لكثير من أشكال التصور البشري الواعي، ولكن ليس لجميعها، كما أن هنالك مقولات أقل عمومية وتختلف من ثقافة إلى أخرى. ومهما يكن الأمر، فإن من غير الممكن للتجربة أن تدخل الإدراك إلا إذا أمكن تصورها ضمن منظومة مفاهيمه وربطها بها وتنظيمها فيها وفي ما تشتمل عليه من مقولات[14]. وهذه المنظومة هي نتاج للتطور الاجتماعي، ذلك أن كل مجتمع، بممارسته للعيش وبصيغته في الشعور والتصور والربط بين الأشياء، يطور منظومة من المقولات هي التي تحدد شكل الإدراك، كما تعمل بمثابة مصفاة محدَّدة اجتماعيًا، فلا تستطيع التجربة أن تدخل الإدراك ما لم تتمكن من اجتياز هذه المصفاة.

والمهم، إذًا، هو أن نفهم على نحو ملموس كيف تعمل هذه "المصفاة الاجتماعية"، وكيف تسمح لتجارب معينة أن ترشح من خلالها في حين تحول دون وصول تجارب أخرى إلى الإدراك.

ينبغي أن نعلم أولاً أن كثيرًا من التجارب لا تمنح نفسها بسهولة بحيث يتم تصورها في الإدراك. وعلى سبيل المثال، فإن الألم تجربة جسدية يمكن تصورها على نحو واعٍ بسهولة، شأنها شأن الجوع والرغبة الجنسية، الخ؛ الأمر الذي ينطبق على كل الأحاسيس المتعلقة ببقاء الفرد أو الجماعة. أما حين يتعلق الأمر بتجربة أكثر دقة أو تعقيدًا، كرؤية برعم في الفجر، وقطرات الندى تبلله، ولسعة برد يحملها النسيم فتسري في الأوصال، وبزوع الشمس، وتغريد عصفور؛ فهذه تجربة تمنح نفسها للإدراك بسهولة في بعض الثقافات (كاليابان مثلاً)، أما في الثقافة الغربية المعاصرة فمثل هذه التجربة لا تصل إلى الإدراك في العادة لأنها ليست "مهمة" بما يكفي لأن تلفت الانتباه. كما أن وصول التجارب الوجدانية أو عدم وصولها إلى الإدراك يتوقف على الدرجة التي بلغها صقل هذه التجارب في ثقافة معينة. وثمة الكثير من التجارب الوجدانية التي لا تشتمل لغة معينة على أية كلمة تعبر عنها، في حين قد تكون لغة أخرى غنية بالكلمات التي تعبر عن هذه المشاعر. ففي اللغة الإنكليزية مثلاً، هناك كلمة واحدة، هي كلمة LOVE، تغطي تجارب تتراوح من الود وحتى الهوى الإيروسي مرورًا بالحب الأخوي والأمومي. وفي لغة لا يتم فيها التعبير عن التجارب الوجدانية المختلفة بكلمات مختلفة، يكاد يكون من المستحيل وصول تجارب المرء إلى مستوى الإدراك، والعكس بالعكس. ويمكن القول بصورة عامة إن من النادر أن تصل تجربة ما إلى مستوى الإدراك ما لم تكن ثمة كلمة تعبر عنها في اللغة المعنية.

غير أن هذا ليس سوى وجه واحد من أوجه وظيفة التصفية أو الترشيح التي تقوم بها اللغة. فاللغات المختلفة لا تختلف في تنوع الكلمات المستخدمة في الإشارة إلى تجارب وجدانية أو عاطفية معينة وحسب، وإنما تختلف أيضًا في نحوها، وقواعدها، وجذور كلماتها. كما تنطوي اللغة ككل على موقف من الحياة، هو تعبير جامد عن الحياة التي تم اختبارها على نحو معين[15]. ومن الأمثلة على ذلك أن هنالك لغات يتم فيها تصريف الفعل "تمطر"، مثلاً، على نحو يختلف تبعًا لما إذا كنت تقول إنها تمطر لأنني في الخارج وتبللت، أو لأنني أراها تمطر من داخل كوخ، أو لأن أحدًا ما قال لي أنها تمطر. ومن الواضح تمامًا أن إلحاح اللغة على هذه المصادر المختلفة لاختبار واقعة ما (وهي في هذه الحالة أن السماء تمطر، يمارس تأثيرًا عميقًا على الطريقة التي يختبر بها البشر الوقائع. ففي ثقافتنا الحديثة مثلاً، والتي تلح على الجانب المحض من جوانب المعرفة، لا يوجد سوى فارق طفيف بين معرفتي لواقعة ما من خلال اختبارها مباشرة أو بصورة غير مباشرة، أو عن طريق السماع. وفي اللغة العبرية يتمثل المبدأ الأساسي في تصريف الأفعال في تحديد ما إذا كان الفعل مكتملاً (تامًا) أو غير مكتمل (غير تام)، في حين أن الزمن الذي يحصل فيه الفعل - ماضٍ-، حاضر، مستقبل- لا تعبر عنه إلا بصورة ثانوية. أما اللغة اللاتينية فتستخدم المبدئين كليهما (الزمن والتمام) معًا، في حين أن الإحساس بالزمن هو الموجه والمسيطر في اللغة الإنجليزية. وغني عن القول أن هذه الفروق في التصريف تعبر عن اختلاف في التجربة[16].

ونجد مثالاً آخر في اختلاف استخدام الأفعال والأسماء باختلاف اللغات، أو حتى باختلاف البشر الناطقين باللغة الواحدة. فالإسم يشير إلى "شيء" والفعل يشير إلى نشاط. وثمة عدد متزايد من البشر الذين يفضلون التفكير بلغة تملك الأشياء بدلاً من لغة الكينونة أو الفاعلية؛ ولذا فإنهم يفضلون الأسماء على الأفعال.

إن اللغة، بكلماتها، وقواعدها، ونحوها، وبالروح الكلية المتجمدة فيها، تحدد كيفية اختبارنا وتجربتنا، كما تحدد أية تجارب هي التي تنفذ إلى إدراكنا.

أما الوجه الآخر من جوانب المصفاة، الوجه الذي يجعل الإدراك ممكنًا، فهو المنطق الذي يوجه تفكير البشر الذين يعيشون في ثقافة معينة.

فكما يزعم معظم البشر أن لغتهم "طبيعية" وأن بقية اللغات تقتصر على استخدام كلمات مختلفة للتعبير عن الأشياء ذاتها، فإنهم يزعمون أيضًا أن القواعد التي تحدد التفكير السليم هي قواعد طبيعية وكونية؛ وأن غير المنطقي في منظومة ثقافية معينة هو غير منطقي في أية منظومة أخرى، نظرًا لتعارضه مع المنطق "الطبيعي". والمثال المناسب على ذلك هو الاختلاف الأرسطي والمنطق القائم على وحدة الأضداد.

يقوم المبدأ الأرسطي على مبدأ الهوية الذي يقول إن "أ" هو "أ"، وعلى مبدأ عدم التناقض الذي يقول إن "أ" لا يمكن أن يكون "غير أ"، وعلى مبدأ الثالث المرفوع الذي يقول إن "أ" لا يمكن أن يكون "أ" و"غير أ" في وقت واحد. ويعبر أرسطو عن ذلك بقوله:

لا يمكن للشيء ذاته أن ينتمي ولا ينتمي في الوقت ذاته ومن الوجه ذاته... ولذا، فإن هذا المبدأ هو أصح المبادئ جميعًا[17].

وبعكس المنطق الأرسطي فإن هنالك ما يمكن أن نطلق عليه اسم منطق وحدة الأضداد، الذي يقول إن "أ" و"غير أ" لا يستبعد أحدهما الآخر بوصفهما محمولين لـ"س". ولقد كان هذا المنطق سائدًا في الفكر الصيني والهندي، وكذلك في فلسفة هيراقليط، ومن ثم لدى كل من هيغل وماركس تحت اسم "الديالكتيك". وقد عبر لاو- تسي[18] عن المبدأ الأساسي في منطق وحدة الأضداد بعبارة عامة وواضحة حين قال:

إن الكلمات الصحيحة تمامًا تبدو متناقضة[19].

وكذلك عبر تشوانغ تسي[20] بقوله:

الواحد واحد وغير الواحد واحد أيضًا.

ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على الشخص الذي يعيش في ثقافة لا تلقي أية شبهة على المنطق الأرسطي أن يدرك التجارب التي تناقض هذا المنطق، ولذا فهو ينظر إلى مثل هذه التجارب منطلقًا من ثقافته فيراها بلا معنى. ومن الأمثلة على ذلك مفهوم فرويد عن التجاذب الوجداني، هذا التجاذب الذي يقضي بأن من الممكن للمرء أن يشعر بالحب وبالكراهية تجاه الشخص ذاته وفي الوقت ذاته. فهذه التجربة التي يراها منطق وحدة الأضداد "منطقية" تمامًا، ليس لها معنى بالنسبة للمنطق الأرسطي. وهكذا يصعب كثيرًا على معظم البشر إدراك مشاعر التجاذب الوجداني. فإذا ما أدركوا الحب، عجزوا عن إدراك الكراهية، ذلك أن من غير المنطقي أن يتملكك شعوران متناقضان في الوقت ذاته وتجاه الشخص ذاته[21].

وفضلاً عن اللغة والمنطق، فإن ثمة وجهًا ثالثًا من أوجه المصفاة، هو محتوى التجارب. فكل مجتمع يقصي أفكارًا ومشاعر معينة بعيدًا عن التفكير، والشعور، والتعبير، فهنالك أشياء لا يقتصر الأمر على "عدم ممارستها" وحسب، بل يتعداه إلى "عدم التفكير بها" أيضًا. ففي قبيلة من المحاربين يعتاش أفرادها على قتل أفراد القبائل الأخرى وسلبهم، قد نجد فردًا يشعر بردة فعل عنيفة تجاه القتل والسلب، إلا أن من غير المحتمل أن يصل هذا الشعور على مستوى إدراكه، نظرًا لتعارضه مع شعور القبيلة برمتها وما يعرضه له هذا الإدراك من مخاطر الشعور بالعزلة والإقصاء الكاملين. ولذا فإن الفرد الذي يحمل مثل هذا الشعور بالسخط قد يظهر لديه عرض نفسي جسدي، كالتقيؤ مثلاً، بدلاً من السماح للشعور السابق بالنفاذ إلى مستوى الإدراك.

وقد نجد حالة معاكسة تمامًا لدى فرد من قبيلة زراعية مسالمة، فيشعر هذا الفرد بدافع إلى قتل أفراد الجماعات الأخرى وسلبهم. والأرجح إلا يسمح هذا الفرد أيضًا لنفسه بإدراك مثل هذا الدافع، فيظهر لديه بدلاً من ذلك عرض ما، كالخوف الشديد مثلاً. أما المثال الثالث فهو وجود كثير من الباعة في مدننا الكبيرة ممن يأتي إليهم زبون يحتاج أشد الحاجة إلى بذلة دون أن يمتلك من المال ما يكفي لشرائها مهما تكن رخيصة. ولابد أن قلة قليلة من بين هؤلاء الباعة يشعرون بدافع إنساني طبيعي لتقديم البذلة إلى هذا الزبون بالثمن الذي يقدر على دفعه. ولكن كم هو عدد الباعة الذين سيسمحون لأنفسهم بإدراك مثل هذا الدافع؟ لاشك أنه عدد قليل جدًا. أما الغالبية فسوف تكبت هذا الدافع، ولعنا نرى شيئًا من السلوك العدواني تجاه الزبون يخفي الدافع اللاواعي، أو حلمًا يعبر عنه في الليلة التالية.

ثمة سؤالان آخران يطرحان لدى التطرق إلى الرأي القائل بأن من غير المتاح للمحتويات المتعارضة مع المسموح به اجتماعيًا أن تنفذ إلى مجال متعارضة مع مجتمع معين. ويتعلق السؤال الثاني بالسبب الذي يدفع الفرد لأن يخاف من إدراك مثل هذه المحتويات المحظورة.

ولكي نجيب على السؤال لابد من الإشارة إلى مفهوم "الطبع الاجتماعي". فلكي يبقى المجتمع، أي مجتمع، لابد له من أن يصوغ أو يقولب طبع أعضائه على نحو يريدون فيه أن يقوموا بما ينبغي عليهم القيام به، الأمر الذي يعني إضفاء الصفة الذاتية على وظيفتهم الاجتماعية وتمثلها داخليًا وتحويلها إلى شيء يشعرون بأنهم مدفوعون للقيام به دون اضطرار. فالمجتمع لا يمكن أن يسمح بالانحراف عن النموذج الذي يتخذه، لأن فقدان هذا "الطبع الاجتماعي" لتماسكه واستقراره سيدفع كثيرًا من الأفراد إلى التوقف عن القيام بما هو منتظر منهم أن يقوموا به، وسيعرض للخطر بقاء هذا المجتمع بشكله الحالي. ولاشك أن المجتمعات المختلفة تبدي درجات مختلفة من الصلابة التي تفرض بها طبعها الاجتماعي، ودرجات مختلفة من الرقابة التي تحيط بها التابوات التي تحمي هذا الطبع وتحرسه، إلا أن المجتمعات جميعًا تشتمل على تابوات يؤدي انتهاكها إلى الإقصاء والطرد.

ولكي أجيب على السؤال الثاني، المتعلق بخوف الفرد من خطر الإقصاء والطرد إذا ما أتاح لنفسه إدراك الدوافع المحرمة، فإنني أحيل القارئ إلى ما قلته على نحو أتم وأكمل في كتابيَّ الهروب من الحرية والمجتمع السليم[22]. وباختصار، فإن على المرء، ما لم يكن مجنونًا، أن يرتبط بالآخرين برباط ما، أما انقطاع هذه الصلة وبترها فيضعه على مشارف الجنون. وفي حين يخشى الجانب الحيواني في الإنسان من الموت، فإن الجانب الإنساني فيه يخشى من الوحدة المطلقة. وهذا الخوف هو العامل الفعال في الحيلولة دون إدراك المشاعر والأفكار المحاطة بالتابو وبالتحريم، وهو أقوى في فعاليته هذه من خوف الخصاء بخلاف مزاعم فرويد.

وإذًا، فإن الوعي واللاوعي محددان اجتماعيًا، وأنا ادرك وأعي كل مشاعري وأفكاري التي يتاح لها أن تنفذ من المصفاة ذات الطبقات الثلاث (المحددة اجتماعيًا) والتي هي اللغة، والمنطق، التابوات (أو الطبع الاجتماعي). أما التجارب التي لا تقوى على النفاذ من هذه المصفاة فتبقى خارج الإدراك أو الوعي، أي أنها تبقى لاواعية[23]. بيد أن علينا أن نقوم باثنين من التعديلات بخصوص الإلحاح على طبيعة اللاوعي الاجتماعية. ويتعلق التعديل الأول، والأوضح، بوجود ضروب من الترصين الفردي للتابوات الاجتماعية تختلف من أسرة إلى أخرى، فطفل يخاف من أن يهجره والداه، إذ يدرك أو يعي تجارب معينة هي بمثابة التابو بالنسبة لهما، لابد أن يكبت هذه المشاعر فيحول بينها والوصول إلى مستوى الإدراك وذلك عن طريق الجانب الفردي من المصفاة آنفة الذكر، والذي ينضاف إلى الكبت الاجتماعي العادي. ومن جهة أخرى، فإن والدين يتمتعان بانفتاح داخلي واسع و"كبت" بسيط، لابد أن يميلا بتأثيرهما الخاص إلى جعل المصفاة الاجتماعية (والأنا الأعلى) أوسع وأكثر نفاذًا.

أما التعديل الثاني فيتعلق بظاهرة أشد تعقيدًا. فنحن لا نكبت تلك المكابدات المتعارضة مع نموذج التفكير الاجتماعي وحسب بل ننزع أيضًا كبت تلك المكابدات التي تتعارض مع المبدأ الذي يحكم بنية الكائن البشري الكلي ونموه، وتتعارض مع "الضمير الإنساني"، ذلك الصوت الذي ينطق باسم التطور الكامل لشخصيتنا. فالنزوات التدميرية، أو نزوة العودة إلى الرحم، الموت، ونزوة التهام أولئك الذين أو قربهم، وغيرها من النزوات التكوصية، قد تكون متعارضة مع الطبع الاجتماعي أو غير متعارضة معه، إلا لا تنسجم بأي حال من الأحوال مع ما ينطوي عليه تطور طبيعة الإنسان من غايات أصلية. فعندما يريد طفل أن تتم حضانته ورعايته فهذا أمر سوي، أي أنه يتماشى مع الحالة التطورية التي يعيشها الطفل في فترة طفولته هذه، أما إذا وجدنا مثل هذه المطالب أو الغايات لدى شخص بالغ، فذلك يعني أنه مريض، وبقدر ما يكون مدفوعًا بالغاية المتأصلة في بنيته الكلية، وليس الماضي وحسب، فإن هذا الشخص يحس بالفارق بين ما هو عليه وما ينبغي أن يكون. وعبارة "ما ينبغي" لا تستخدم هنا بالمعنى الأخلاقي الأوامري، بل بمعنى الغايات التطورية المتأصلة في الصبغيات التي يتطور منها، شأنها شأن بنيته الجسدية، ولون عينيه، وغيرها من الصفات التي سيتصف بها في المستقبل وتكون "حاضرة" في صبغياته مسبقًا.

لقد سبقت لنا الإشارة إلى أن الشخص حين يفقد صلته بالجماعة الاجتماعية التي يعيش فيها، ينتابه خوف العزلة الكاملة الذي يحول بينه وبين الجرأة على التفكير بما هو "غير مفكر به" إلا أن الشخص يخاف أيضًا من العزلة الكاملة عن الإنسانية، هذه الإنسانية الحاضرة في داخله ويمثلها ضميره. فأن يكون المرء لا إنسانيًا تمامًا هو أمر مرعب، على الرغم من أن ذلك، وكما تشير الأدلة التاريخية، أقل رعبًا من الإقصاء والطرد الاجتماعيين، شريطة أن يتبنى المجتمع كله معايير سلوكية لا إنسانية. وكلما ازداد اقتراب مجتمع ما من المعايير الإنسانية في العيش، قل الصراع بين الانعزال عن المجتمع والانعزال عن الإنسانية. وتعاظم الصراع بين الغايات المجتمعية والغايات الإنسانية، وازداد تمزق الفرد بين قطبي العزلة الخطيرين. وغني عن القول أنه كلما ازداد شعور المرء بتضامنه مع الإنسانية، من خلال تطوره الروحي والفكري الخاص، زادت قدرته على تحمل الإقصاء المجتمعي، والعكس بالعكس. فقدرة المرء على السلوك تبعًا لضميره تتوقف على درجة تعاليه على الحدود التي يفرضها مجتمعه وقدرته على التحول إلى مواطن إنساني وعالمي.

إن الفرد الذي لا يستطيع أن يسمح لنفسه بإدراك المشاعر والأفكار المتعارضة مع النماذج التي تفرضها ثقافته مضطر لأن يكبت هذه الأفكار والمشاعر. ولذا، ومن منطق صوريّ، فإن ما هو واعٍ وما هو لا واعٍ يتوقف على بنية المجتمع ونماذج الأفكار والمشاعر التي ينتجها (بصرف النظر عن العناصر الفردية، المشروطة عائليًا، وعن تأثير الضمير الإنسانوي). بيد أننا لا نستطيع أن نطلق مثل هذه التعميمات بخصوص محتويات اللاوعي.

وكل ما يمكن لنا أن نقوله هو أن اللاوعي يمثل الإنسان الكلي، بجميع إمكاناته المتأرجحة بين الظلمة والنور، وأنه يشتمل على الدوام على أساس الإجابات المختلفة التي يمكن للإنسان أن يجيب بها على السؤال الذي يطرحه الوجود. ففي الحالات المتطرفة من الثقافات النكوصية، الميالة إلى العودة باتجاه الوجود الحيواني، تكون رغبة العودة هذه مهيمنة وواعية، في حين تكون كل المكابدات الرامية إلى الخروج من هذا المستوى والابتعاد عنه مكبوتة. أما في ثقافة تم لها الانتقال من النزوع النكوصي إلى النزوع التقدمي- الروحي، فتكون القوى التي تمثل الظلام هي اللاواعية. غير أن الإنسان، في أية ثقافة كانت، لديه الإمكانات كلها؛ فهو الإنسان القديم، بهيمة البرية، آكل اللحوم الآدمية، الوثني، وهو أيضًا الكائن المحبو بالقدرة على العقل، والحب، والعدل. ولذا فإن محتوى اللاوعي ليس خيرًا أو شريرًا، ليس عقلانيًا أو غير عقلاني؛ بل هو الاثنان معًا، إذ يشتمل على كل ما هو إنساني، إن اللاوعي هو الإنسان الكلي مطروحًا منه ذلك الجزء من الإنسان الذي يتماشى مع مجتمعه. وفي حين يمثل الوعي الإنساني الاجتماعي والحدود الظرفية التي يفرضها الوضع التاريخي الذي يجد فيه الفرد نفسه، فإن اللاوعي يمثل الإنسان الكلي، الكوني، المتجذر في الكون؛ كما يمثل الكوكب في هذا الإنسان، والحيوان فيه، والروح؛ ويمثل ماضيه وصولاً إلى فجر الوجود الإنساني، ومستقبله وصولاً إلى اليوم الذي يصبح فيه الإنسان إنسانًا تمامًا، وتتم فيه أنسنة الطبيعة و"تطبيع" الإنسان.

والآن، إذا ما كان هذا هو الوعي واللاوعي، فما الذي يعنيه جعل اللاوعي واعيًا، وإزالة الكبت؟ إن الوظيفة التي تؤديها عملية تحويل اللاوعي هي، عند فرويد، وظيفة محددة، لأن اللاوعي في المفهوم الفرويدي لا يشتمل إلا على الرغبات الغريزية المكبوت، التي لا تنسجم مع الحياة المتحضرة. كما أن فرويد لم يعن سوى برغبات غريزية معينة مثل نزوات الزنا بالمحارم، والخصاء، والخوف، وحسد القضيب، الخ، مفترضًا أن إدراكها أو وعيها قد تم كبته في السياق التاريخي الخاص بالفرد. كما افترض أيضًا أن إدراك النزوة المكبوتة أو وعيها يفضي إلى سيطرة الوعي من خلال الأنا الظافر. ومن هنا فإن التحرر من المفهوم الفرويدي المحدود الخاص باللاوعي وإتباع مفهومنا المذكور آنفًا، يكسب هدف فرويد المتمثل بتحويل اللاوعي إلى وعي (أو تحويل الهو إلى أنا) معنى أوسع وأعمق. ويصبح تحويل اللاوعي إلى وعي تحويلاً للفكرة المجردة الخاصة بكونية الإنسان إلى تجربة معاشة؛ وتصبح هذه الكونية هي التحقق التجريبي للإنسانية.

لقد رأى فرويد بوضوح كيف يؤثر الكبت على إحساس الشخص بالواقع، وكيف تؤدي إزالة الكبت على فهم جديد للواقع. ولقد دعا فرويد الأثر المشوه الذي تخلفه المكابدات اللاواعية باسم "النقلة" أو "التحويل"؛ أما هـ.س. سوليفان فقد دعا هذه الظاهرة ذاتها باسم "التشويه الناجم عن سوء الربط". وكان فرويد قد اكتشف لدى دراسة علاقة المريض بالمحلل كما هو، بل كإسقاط لتوقعاته، ورغباته، وضروب قلقه الخاصة على النحو الذي شكلتها به في الأصل تجاربه مع أشخاص لعبوا دورًا مهمًا في طفولته. ولا يمكن للمريض أن يتغلب على هذه التشويهات الصادرة عنه هو نفسه كي يرى شخص المحلل، وكذلك شخص أبيه وأمه، كما هم عليه، إلا بعد أن يتلمس لاوعيه.

وإذًا، فإن ما اكتشفه فرويد هنا هو حقيقة أننا نرى الواقع على نحو مشوه، فنحسب أننا نرى شخصًا ما على حقيقته في حين أننا لا نرى سوى إسقاطنا لصورة هذا الشخص دون أن نعي ذلك. والحقيقة أن كشف فرويد هذا لم يقتصر على رؤية التأثير المشوه الذي تمارسه "النقلة"، بل تعداه إلى رؤية كثير من التأثيرات المشوهة التي يمارسها الكبت. فبقدر ما يكون الشخص مدفوعًا بدوافع يجهلها، وتتعارض مع تفكيره الواعي (الذي يمثل متطلبات الواقع الاجتماعي)، يزداد احتمال إسقاطه لمكابداته اللاواعية الخاصة على شخص آخر، فلا يدرك أنها في داخله هو نفسه بل في الآخر، وهذا هو "الإسقاط"، أو أنه يخترع أسبابًا عقلانية لدوافع تنبع من مصدر مختلف تمامًا عن هذه الأسباب، وهذا ما أطلق عليه فرويد اسم "التبرير"، وهو عبارة عن تفسير زائف لأهداف بواعثها الحقيقة لاواعية وهكذا، فإن معظم ما يعيه الشخص من النقلة، أو الإسقاط، أو التبرير، ليس سوى تخيل، في حين أن ما يكبته هذا الشخص (أي ما هو لاواعٍ) هو الواقعي. وإذا أخذنا في الحسبان ما قلناه آنفًا عن التأثير الذي يمارسه المجتمع، وكذلك مفهومنا الواسع عما يشكل اللاوعي، فإننا نتوصل إلى مفهوم جديد لعلاقة الوعي واللاوعي. ويمكن لنا أن نبدأ من القول إن الشخص العادي، في الوقت الذي يحسب فيه أنه مستيقظ، هو في الحقيقة "نصف نائم" وما أعنيه بـ"نصف نائم" هو أن صلته بالواقع صلة جزئية إلى حد بعيد؛ فمعظم ما يعتقد أنه واقعي (سواء كان داخل ذاته أم خارجها) هو مجموعة من التخييلات التي يبنيها عقله. وهو لا يعي الواقع إلا بالقدر الضروري لقيامه بوظائفه الاجتماعية، فيعي أبناء جلدته بقدر ما يحتاج إلى التعاون معهم؛ ويعي الواقع المادي والاجتماعي بقدر ما يحتاج إلى التعامل معه، أي أنه لا يعي الواقع إلا بالقدر الضروري للبقاء. (وبالمقابل فإن إدراك الواقع الخارجي أو وعيه يكون مُرْجًأ في حالة النوم، مع أنه يعود على وضعه العادي عند الضرورة، أما في حالة الجنون فيكون الإدراك الكامل للواقع الخارجي غائبًا وغير قابل للعودة إلى الحالة السوية). وإذًا، فإن وعي الشخص العادي هو "وعي زائف" أساسًا، مؤلف من تخييلات وأوهام، في حين أن ما لا يعيه أو يدركه هو الواقع الدقيق والحقيقي. ويمكن لنا أن نفرق بين ما يعيه الشخص، وما يصبح واعيًا له. فما يعيه، في الغالب، هو التخييل والوهم، في حين أنه يمكن أن يصبح واعيًا للوقائع القابعة تحت هذه الأوهام.

ويفضي ما ذكرناه إلى وجه آخر من أوجه اللاوعي. فبقدر ما يمثل الوعي قطاعًا صغيرًا وحسب من التجربة المنمذجة اجتماعيًا ويمثل اللاوعي غنى الإنسان الكوني وعمقه، فإن حالة الكبت تؤدي في الحقيقة إلى أن أكون، أنا الشخص الاجتماعي، منفصلاً عني، أنا الشخص الإنساني الكلي. فأنا غريب عن نفسي، وكل شخص آخر غريب عني بالقدر ذاته. وأنا منقطع عن مجال التجربة الإنسانية الشاسع، ولا أعدو كوني جزءًا من إنسان، أو عاجزًا لا يختبر سوى جزء صغير مما هو واقعي فيه وواقعي في الآخرين.

بيد أننا لم نتكلم على الآن إلا على وظيفة التشويه التي يمارسها الكبت، ولابد أن نذكر وجهًا آخر لا يؤدي إلى التشويه، بل إلى جعل تجربة ما غير واقعية من خلال الفكرنة. وما أقصده بذلك هو اعتقاد المرء أنه يرى، في حين لا يرى سوى كلمات، واعتقاده أن يشعر، في حين أنه يفكر بالمشاعر. والشخص المفكرن، هو شخص مغترب، قابع في كهف فلا يرى سوى ظلال يظنها الواقع الحقيقي، شأنه شأن رجل الكهف الذي تحدث عنه أفلاطون.

إن عملية الفكرنة هذه مرتبطة بالتباس اللغة. فحالما أعبّر بكلمة عن شيء ما، أكون قد أحللت الكلمة محل التجربة الكاملة التي تكف عن الوجود ما إن يتم التعبير عنها بواسطة اللغة. وعملية الفكرنة هذه اكثر انتشارًا وشدة في ثقافتنا الحديثة منها في أي وقت مضى. والإلحاح المتزايد على المعرفة الفكرية التي هي شرط للمنجزات العلمية والتقنية، وكذلك الإلحاح على التعليم والتثقيف المرتطبين بها، هو السبب في أخذ الكلمات مكان التجربة على نحو متزايد. غير أن الشخص المعني لا يدرك ذلك. وهو يحسب أنه يرى شيئًا ما، ويحسب أنه يشعر بشيء ما، في حين أن ما من تجربة هناك سوى الذاكرة والفكر. فحينما يحسب أنه يقبض على الواقع تكون ذاته- الدماغية وحدها هي التي تقبض عليه، أما هو، الإنسان الكلي، وعيناه، ويداه، وقلبه، وبطنه، فلا يقبض على شيء، والحقيقة أنه لا يسهم في التجربة التي يعتقد أنها تجربته.

مالذي يحصل، إذًا، في عملية تحول اللاوعي إلى وعي؟ كيما نجيب على هذا السؤال من الأفضل أن نعيد صياغته. فليس هنالك شيء هو "الوعي" أو شيء هو "اللاوعي"، بل درجات من الإدراك- الوعي وعدم الإدراك- اللاوعي. ولذا فإن سؤالنا ينبغي ان يكون: ما الذي يحصل حين أدرك ما لم أكن أدركه من قبل؟ والإجابة العامة على هذا السؤال، التي تنسجم مع ماقلناه من قبل، هي أن كل خطوة في هذه العملية هي خطوة باتجاه فهم الطابع التخييلي غير الواقعي لوعينا "السوي". فأن نصبح واعين لما هو لاواعٍ، وأن نوسع بالتالي مجال الوعي، يعني تلمس الواقع والتماس معه، وبالتالي مع الحقيقة (فكريًا ووجدانيًا). وتوسيع مجال الوعي يعني الاستيقاظ، وإزاحة الحجاب، والخروج من الكهف، وإشعال نور في العتمة، وربما كان ذلك قريبًا من تلك التجربة التي تطلق عليها بوذية زن اسم "الاستنارة".

وما أريد أن أناقشه الآن هو طبيعة التبصر والمعرفة التي تؤثر في تحول اللاوعي إلى وعي، وهذا امر أساسي وحاسم بالنسبة للتحليل النفسي. فلا شك أن فرويد، في السنوات الأولى من بحثه، كان لديه ذلك الاعتقاد العقلاني التقليدي بأن المعرفة هي نظرية فكرية. وكان يعتقد أنه يكفي أن تشرح للمريض سبب ما يحدث لديه، وأن تخبره بما تكشفه في لاوعيه. كما افترض فرويد أن هذه المعرفة الفكرية، التي اطلق عليها اسم "التأويل" سوف تحدث اثرًا لدى المريض. غير أن فرويد ما لبث أن اكتشف مع غيره من المحللين حقيقة ما قاله سبينوزا عن أن المعرفة الفكرية لا تؤدي على التغيير إلا بقدر ما تكون معرفة وجدانية أيضًا. وصار من الواضح أن المعرفة الفكرية لاتحدث أي تغيير، اللهم إلا بمعنى أن يصبح الشخص أقدر على السيطرة على مكابداته اللاواعية من خلال معرفته الفكرية بهذه المكابدات، وهذا ما تهدف إليه الأخلاق التقليدية، لا التحليل النفسي. فطالما بقي المريض في موقع المراقب العلمي من بعيد، متخذًا من نفسه موضوعًا للاستقصاء الذي يقوم به، فإنه يبقى بعيدًا عن تلمس لاوعيه والتماس معه، اللهم إلا من خلال التفكير بهذا اللاوعي؛ فلا يختبر الواقع الأوسع، والأعمق، في داخله. فاكتشاف اللاوعي ليس فعلاً فكريًا، بل تجربة وجدانية، لا يكاد يمكن أن نعبر عنها بالكلمات، إذا ما كان التعبير عنها ممكنًا أصلاً. وهذا لا يعني أن التفكير والتأمل قد لا يسبقان فعل الاكتشاف، بل يعني أن هذا الفعل هو تجربة كلية على الدوام. والكلية هنا لها معنى قيام الشخص كله بتجريب هذا الفعل؛ وهي تجربة تتسم بعفويتها وفجائيتها، حيث تنفتح عينا المرء فجأة، لتبدو ذاته ويبدو العالم في ضوء مغاير، فتتم رؤيتهما من وجهة نظر مغايرة. وعادة ما يسبق حدوث هذه التجربة قلق شديد، أما بعدها فيكون ثمة شعور جديد بالقوة واليقين. ويمكن وصف عملية اكتشاف اللاوعي بأنها سلسلة من التجارب دائمة الاتساع يُشْعَر بها بعمق وتتعالى على المعرفة الفكرية النظرية.

تكمن أهمية هذا النوع من المعرفة التجريبية، إذًا، في تعاليه على ذلك النوع من المعرفة والإدراك اللذين تراقب بهما الذات المفكرة ذاتها بوصفها موضوعًا، وبالتالي فإن أهميته تكمن في تعاليه على مفهوم العرفان كما تستخدمه العقلانية الغربية، على الرغم من أننا نجد في الفكر الغربي الذي يعنى بالمعرفة التجريبية بعض الاستثناءات كما في الشكل الأرقى من العرفان، أو الحدس، عند سبينوزا؛ أو في الحدس الفكري عند فيخته؛ أو في الوعي الخلاق لدى بيرغسون. وكل المقولات عن الحدس تتعالى على المعرفة المنشطرة بين الذات والموضوع.

ترجمة: ثاثر ديب

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] مصدر هذا البحث هو: Psychoanalysis and Buddhism, Eric Fromm لندن طبعة عام 1986.

[2] للمزيد من التفاصيل عن الطابع شبه الديني لحركة التحليل النفسي التي أسسها فرويد، انظر كتابي رالة فروي، 1959 (فروم). انظر الترجمة العربية لهذا الكتاب بعنوان فرويد، ترجمة مجاهد مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، سلسلة إعلام الفكر العالمي. (م)

[3] خليج قديم في البلدان الواطئة تم سده بحاجز صخري وتحول إلى بحيرة داخلية استصلح منها 22 ألف هكتار من الأراضي عظيمة الخصوبة. (م)

[4] فرويد، تحليل منته وتحليل غير منته، مقالات فرويد الكاملة، مطبعة هوغارت، 316.7. (فروم)

[5] المصدر السابق، ص 351.

[6] المصدرالسابق، ص352، (والتشديد في كل هذه الاستشهادات). (فروم)

[7] حول بوذية زن وعلاقتها بالتحليل النفسي، انظر: د.ت.سوزوكي، التصوف البوذي، والتحليل النفسي، ترجمة ثائر ديب، دار الحوار، اللاذقية، ط 1، 1996. وكذلك: غريك فروم، فرويد وبوذا: التحليل النفسي وبوذية زن، ترجمة ثائر ديب، دار نون، اللاذقية، ط1، 1996. (م)

[8] لقد وصف المعلم إيكهارت تطور الإنسان من التثبت على الأم والأب إلى مرحلة الاستقلال الكامل والاستنارة وصفًا جميلاً، حيث قال: في المرحلة الأولى يسير الإنسان الجديد مسار البشر الصالحين والاطهار، كما يقول القديس أوغسطين. فهو لا يزال رضيعًا على صدر أمه. وفي المرحلة الثانية يكف عن الاقتداء الأعمى حتى بالصالحين. وينطلق في سعي محموم لنهل من علوم الله ونصحه وحكمته. فيذيز ظهره للإنسان ووجهه للرب، تاركًا حجر أمه ومبتسمًا لأبيه السماوي. وفي المرحلة الثالثة ينفصل أكثر فأكثر عن أمه، ويبتعد أكثر فأكثر عن صدرها ورعايتها وينتزع عنه الخوف. ومع أن بمقدره أن يعامل الجميع بفظاظة وظلم دون قصاص إلا أنه لا يرتوي من ذلك ولا يرضى، فهو منشغل في حب الله ومنهمك معه في فعل الخير: فقد أنشأه الله على البهجة والقداسة والحب، ولذا فإن كل ما هو بغيض وغريب عند الله يبدو له منفرًا وغير جدير بالوجود. وفي المرحلة الرابعة ينمو أكثر فأكثر يمد بجذوره أعمق فأعمق في الحب، والله. ويكون مستعدًا على الدوام للاحتفاء بأي صراع، وأية تجربة، أو ألم أو معاناة، بكل إرادته، والبهجة والحبور يغمرانه. وفي المرحلة الخامسة يكون في سلام، مستمتعًا باكتمال الحكمة السامية التي يصعب التعبير عنها بالكلمات. وفي المرحلة السادسة تحوله طبيعة الله السرمدية. ويكون قد بلغ الكمال التام، ويتجه إلى صورة الله ويصبح طفل الرب، ناسيًا الأشياء الزائلة والحياة العابرة، ولا توجد بعد هذه المرحلة مرحلة أخرى أو أعلى، بل راحة ونعمة أبديتان. ونهاية الإنسان الجديد هي الحياة الأبدية. (فروم)

[9] مرسيا إلياد، الولادة والولادة الجديدة، نيويورك، هاربر، 1958، ص 84. (فروم)

[10] الشامان: شخص يشتغل بالتطبيب والكهانة والسحر عند الشعوب البدائية، وخاصة في شمال آسيا، كما أن الكلمة ذاتها تعني "ذاك الذي يعرف". (فروم)

[11] لوريت سيجورني، المياه المحترقة، لندن، Thames and Hudson، 1957. (فروم)

[12] موسى بن ميمون (1135 - 1204)، طبيب ولاهوتي وفيلسوف يهودي حاول التوفيق بين العقل والإيمان، بين أرسطو والكتاب المقدس. (م)

[13] أفدت كثيرًا في هذا من اتصالي الشخصي مع الدكتور وليم وولف وأرائه حول الأساس العصبي للوعي. (فروم)

[14] لقد عبر إ. شنيشتل عن هذه الفكرة ذاتها (في مقالة لماحة عن "الذاكرة وفقدانها في الطفولة"، نشرها في مجلة الطب النفسي، المجلد X، العدد(1)، 1947). وواضح من عنوان هذه المقالة أنها تعنى بمشكلة أكثر تحديدًا هي فقدان الذاكرة في مرحلة الطفولة والفرق بين المقولات التي يستخدمها الطفل وتلك التي يستخدمها البالغ. وهو يصل على استنتاج مفاده أن "عدم توافق تجربة الطفولة الباكرة مع المقولات في ذاكرة البالغ وتنظيم هذه الذاكرة ينجم إلى حد بعيد عن عملية إخضاع ذاكرة البالغ للأعراف والتقاليد". وأنا أرى ما يقوله عن ذاكرة الطفل والبلوغ هو صحيح، لكن ما نجده لا يقتصر على الفروق بين مقولات الطفولة ومقولات البلوغ، بل يطال أيضًا تلك الفروق بين الثقافات المختلفة، بل عن المشكلة ليست مشكلة الذاكرة وحدها، وإنما هي مشكلة الوعي بوجه عام. (فروم)

[15] انظر مساهمة بنجامين ورف الهامة في كتابه، المقالات الكاملة في الميتاألسنية، واشنطن، 1952. (فروم)

[16] تظهر أهمية هذا الاختلاف واضحة تمامًا في ترجمات العهد القديم الانجليزية والالمانية؛ فحين يستخدم النص العبري الزمن التام للتعبير عن تجربة وجدانية مثل المحبة، فإن المترجم يسيء فهم ذلك ويستخدم صيغة الماضي البسيط. (فروم)

[17] أرسطو، الميتافيزيقا، ترجمة ر.هوب، جامعة كولومبيا، نيويورك، 1952. (فروم)

[18] لاو-تسي: من أعظم فلاسفة الصين. عاصر كونفوشيوس وأسس "التأوية"، أي السبيل أو الطريق أو المنهج. واسمه يعني حرفيًا "المعلم العجوز". وتقول الروايات إنه ولد في عصر تشو، وعمل حافظًا للوثائق الملكية في العاصمة لوهيانغ. لكنه راح يتساءل عن قيمة الحكم والحكومة. وأفضى به ذلك إلى التخلي عن وظيفته واعتزال العالم. وسرعان ما تبين له أن البحث عن المعرفة باطل، لأنه يحرف الناس عن بساطتهم وطبيعتهم. وقد كتب لاو-تسي كتابًا اسمه تاوتي تشنغ أو مقالة في التاو وسلطانه. وقد عبر عن أفكاره بجمل قصيرة وملغزة في كثير من الأحيان. (م)

[19] لاو-تسي، ملك التاوته، كتب الشرق المقدسة، تحرير ف. فاكس مولر، المجلد XXXXIX، جامعة اكسفورد، لندن، 1972، ص 120. (فروم)

[20] تشوانغ تسي: من كبار فلاسفة التاوية، بل يعتبر المؤسس الثاني لهذه المدرسة. وقد أثر تأثيرا كبيرًا في تطور بوذية التأمل في الصين. وضع كتابًا يحمل اسمه يجمع بين النوادر والحكم والأمثال والروايات وحوارات متخيلة بينه وبين نقاده. وذهب تشوانغ تسي إلى أن الإنسان يجب أن يعيش وفقًا للطبيعة تاركًا الأمور تجري كما هي. فهذا يمنحه الراحة والسعادة. وهذا يعني أن المعرفة هي التلقي المنفعل لتحولات التاو في الأشياء. والهدف الأخير للمعرفة والحياة هو السكون التام والاستغراق في الحقيقة الكلية للتاو. (م)

[21] انظر المناقشة التفصيلية لهذه المشكلة في كتابي، فن الحب، نيويورك، 1956، ص 72 وما يليها. (فروم)

[22] انظر الهروب من الحرية، نيوريوك، 1941، والمجتمع السليم، نيويورك 1955. (فروم).

[23] يفضي بنا تحليل الوعي إلى الاستنتاج ذاته الذي توصل إليه كارل ماركس عندما تناول إشكالية الوعي:"ليس وعي البشر ما يحدد وجودهم وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم"، مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود