|
سيرة السيرة
نستطيع أن نوصف السِّيرة كأقدم أنواع السرديات، بل قد تكون من الشرارات والدوافع الأولى التي حملت الإنسان على الكتابة بعد دافع التواصل؛ فالسيرة، بجمعها الطابع التوثيقي التاريخي محاذيًا للطابع التعبيري الشخصي، تخلق قالبًا مغريًا يجمع بين الذات المبدعة في محاولتها لتحقيق ذاتها من جهة والواقع بكل إفرازاته وقيوده وعقباته من جهة ثانية. جميع الشعوب المتمدنة والحضارات الكبيرة بلا استثناء حاولت تدوين سيرة ملوكها، مؤسسي دياناتها، أبطالها القوميين لتمجيدهم والتباهي بهم وببطولاتهم ومآثرهم. سنذيل هنا الفاصل بين السِّيرة الذاتية Auto Biography وهي تدوين شخص لحياته الخاصة، والسّيرة الغيرية Biography وهي أن يدوّن شخص سيرة آخر، وذلك لأن هذين المصطلحين الأدبيين، الحديثين نسبيًا، وظيفتهما التمييز بين الأجناس الأدبية، ونحن نحاول أن نستدرك دوافع تدوين وقراءة السِّيرة بعيدًا عن القيمة الأدبية.
السيرة: مِنْ سار أو من السير، والسِّيرة بكسر السين: السُنَّة والطريقة والهيئة، يُقال: سيرة فلان، أي: طريقته وسُنَّته في الحياة، وهي بمعنى آخر ترجمة لحياة شخص فذّ في محاولة لجلاء جوانب النبوغ فيها، ومن هنا فإن ما قد يدفعنا إلى قراءة سيرة شخص ما إنما هو بحث مستتر عن الأسباب والدوافع والظروف الكامنة وراء تميّز هذا الشخص ونبوغه، رصد التباين بين الإنسان المبدع والإنسان العادي، نبش عن مصادر قوته ومنابع تفوقه. من الجدير بالذكر أن ما يكسب السيرة مصداقيتها كحقل لبحث كهذا هو الهامش الكبير للواقعية فيها. ولأن الكشف عن أسرار هذا النبوغ هو أهم مكوِّن من مكونات السيرة يمكننا أن نرصد ثلاثة مستويات أو مراحل تم خلال كل مستوى منها إيعاز تلك الأسباب لعوامل مختلفة وفقًا للتسلسل الزمني وتطور مسيرة الفكر البشري، بدءًا من العصور القديمة التي كانت السيرة فيها تتخذ شكل أسطورة مشبعة بالخرافات من شأنها تعظيم وتمجيد الأبطال إلى وقتنا الحاضر الذي تلاشى فيه دور الخرافة وهي كالآتي: 1- المستوى الأول نلمس فيه تواصلاً جسديًا مع القوى الغيبية الماورائية، إما على الصعيد الشخصي مثل سركون الآكادي مؤسس بابل الذي تقول أسطورته إنه كان بستانيًا حتى مال قلب عشتار إليه فأصبح بذلك ملكًا، أو على صعيد أحد الوالدين فيكون الشخص سليل الآلهة أو نصف إله مثل جلجامش الذي تقول أسطورته إن والدته هي الآلهة نينسون ووالده بشر. لقد كان السومريون أول من كتبوا سيرة أبطالهم وملوكهم، وتفننوا في صياغة تلك السير بملاحم مؤثرة مشحونة بالأحداث والوقائع الخرافية المبهرة والملكات فوق الطبيعية حتى ارتقوا بهم إلى مصاف الآلهة رادمين بذلك الفجوة بين الواقع والمجاز والنبوة والتاريخ. نلاحظ في هذا المستوى إيعاز أسباب التفوق والنبوغ، بشكل أو بآخر، إلى منحة إلهية محصورة بمن اختارته الآلهة وخصته بهذه المنحة. في هذا المستوى العوامل الفردية الذاتية للإنسان تكاد تكون مهمشة، فالتفوق قد يكون محض صدفة نابعة من عوامل خارجية وبذلك تتلاشى قيمة العوامل والملكات الفردية للإنسان. 2- في المستوى الثاني يخف التواصل المباشر مع العالم الماورائي فينتقل التواصل الجسدي إلى تواصل أثيري فكري يتجلى في الغالب كإلهام أو وحي سواء بالاتصال المباشر أو عبر وسيط. نلاحظ هذا التوجه عند الأشخاص الذين تفوقوا في مجال الإبداع الفكري والمكاشفات، مثل حمورابي صاحب أول شريعة إنسانية، فعلى خلاف ملوك فترته لم يزعم أنه سليل آلهة أو أنه ذو ذات إلهية بل وصف نفسه بخليل الآلهة. في المستوى الثاني تبدأ أهمية الصفات الفردية بالبروز تدريجيًا. شخصيات هذا المستوى تمتاز بأخلاقياتها وصدقها وابتعادها عن الماديات، فأغلبهم وصفوا بألوان من الزهد والترفع عن الماديات والبحث المستمر عن الحقيقة. في هذا المستوى نجد نقطة تحول فاصلة أسسها السيد المسيح والتي بفضلها انتقلت السلطة من خارج الإنسان إلى داخله، وذلك بترجيح وإعلاء الأخلاق على الطقوس ممهدًا بذلك لمنظومة أخلاقية إنسانية جديدة حين يقول: ليس ما في الخارج إذا دخل فيه يستطيع أن ينجسه لكن الأشياء التي تخرج منه هي التي تنجس الإنسان، لأنه من الداخل، من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة. 3- في المستوى الثالث نلاحظ الغياب التام للماورائيات والخرافات الأسطورية. وبذلك تبدأ مرحلة جديدة من البحث بأدوات جديدة في مناطق جديدة عن دوافع وأسباب التميّز والنبوغ، المرحلة الأكثر نضجًا في مسيرة الفكر الإنساني، مرحلة أكثر عمقًا تم فيها الانتقال من البحث عن الأسباب إلى البحث عن مسببات الأسباب، فسؤال «هل القائد يخلق أم يصنع؟» يعكس جوهر هذا التحول. فعلى سبيل المثال إن كان الإصرار سببًا من أسباب النجاح، ففي هذه المرحلة لم يعد الإصرار موضع الاهتمام بل دوافع هذا الإصرار وأسبابه. لم تعد الملكات الفردية في هذه المرحلة هبة توهب بل موهبة تصقل. لم يعد هناك بحث عن الاتصال بالماورائيات بل بحث عميق عن العناصر المكونة لشخصية المبدع. بخلاف المستويين الأول والثاني الذين كان الإنسان فيهما بحاجة إلى شرعنة سلطته بإسناد تفوقه وتميزه إلى إرادة الغيب الذي اختاره واصطفاه وبالتالي أضاف نوعًا من الوثوقية المقدسة إلى إرادته وأفعاله، يستقي الفرد في المستوى الثالث شرعيته من نتاجه ومدى تقبل هذا النتاج. وبذلك أصبحت الذات المبدعة تأخذ الشرعية من الغير لا تفرضها عليه. ما قد يدفعنا إلى مطالعة سيرة إنسان هو مقدار العظمة التي حققها في وظيفته، وهنا نكون قد محونا الفاصل بين الإنسان ووظيفته، مع أن ما يهمنا في الشاعر هو مدى تمكنه من وظيفة الشعر، لكن لو كان ينحصر اهتمامنا في هذا المجال لم نكن لنخرج من رصد نتاج المبدع (العام) إلى رصد حياته الشخصية (الخاص)، لكننا نبحث عن ملامح الصلة بين الخاص الفردي مع العام المبدع، عن القيم التي أثرت بالخاص الفردي فأنتجت العام المبدع. كما أن التاريخ هو سيرة البشرية فإن السيرة هي تاريخ شخص، لذلك فإن مطالعتها تقود غالبًا إلى شرك التنميط. فمحاولة التمثل بالمثل الشخصية للشخص الذي نطالعه وانتهاج نهجه وطريقة حياته من المحتمل أن توصلنا إلى ما قد وصل إليه من عظمة، لكن ليس كل محتمل صحيحًا كما ليس كل صحيح محتملاً دومًا، لأن التحرر من النمطية والإيمان بالذات الفردية، أكثر من أي شيء آخر، هو أهم أسباب الإبداع. إن الخوض في السيرة الذاتية إنما هو بحث مستتر عن الذات واكتشافها باستحضار تجارب الغير، وهو محاولة لاستعارة حياة ما لممارسة نوع من ميكانيزم الإسقاط. *** *** *** |
|
|