في انتظار عنوان جميل

 

ادريس خالي*

 

ها قد بسطت لك ما يدور في عقلي كشريحة فيلم يحرقها الضوء.
رجاء عالم

1
هات جرحك واتبعني

وقعت الواقعة إذن دون أن يدري أحد لم الفواجع تأتي بغير علم أو استئذان. كنت قد تعرفت عليها دون ترتيب مسبق. قصة ما وضعتها في طريقي. قصة ما وضعتني في طريقها. وسرنا على نفس الطريق نمني النفس بالمستحيل. لم يكن المستحيل في الغرفة السفلى لكلينا سوى أن نجد نفسينا جنبًا إلى جنب على سرير واحد، تحت ملاءة واحدة، أمام مرآة واحدة، خلف نافذة واحدة. ذقني على كتفها اليسرى وكفينا مشتبكتان بينما مرفقيها يستريحان على حافة النافذة. من هناك نراقب حركة سير البواخر، شروق وغروب الشمس. نستمع إلى قلبينا ينبضان بزقزقات عصفورين يطيران لأول مرة.

عند الخيوط الضوئية الأولى للفجر فتحت نافذة شقتها الموجودة في الطابق السابع. تقدمت نحو الحافة مصممة على تنفيذ فكرة القفز التي راودتها منذ مدة بعيدة. على كرسي خشبي وقفت. مدت يديها أفقيًا على شاكلة بطلة التيتانيك. أغمضت عينيها ورأت نفسها تطير عاليًا. تنفست بعمق وهي تجرب لأول مرة الطيران من غير أجنحة.

قبل أسبوع كانت أمام حاسوبها تنقر على لوحة المفاتيح. تحاورنا عبر طريق الرسائل الداخلية.

-       "الرسائل أضمن" قالت.

-       "لا أظن ذلك" قلت.

لا شيء مضمون في العالم الافتراضي ولا حتى في الواقعي. لا شيء مضمون باستثناء الموت. وضعت حدًا لحياتها ولم تكمل بعد عقدها الثاني. ما الذي سرعها لاقتراف الأسوأ؟ لا أحد يدرك على وجه الدقة. لا أحد بمقدوره أن يدري ماذا كان يدور في عمق أعماقها.

في علبة رسائلي في البريد الالكتروني تركت رسائلها كما وصلتني. أعود إليها متى انقبض القلب. إن كان من دواء يصلح لمرضي فهو رسائلها. الدواء الذي كنت أعود إليه بين الفينة والأخرى سيكون الأثر الذي تلمسه المحققون للوصول إلي. دون مقدمات دفع المحقق جهتي ورقة مكتوبة. كانت الورقة الأولى من بين أوراق أخرى سيرمي بها إلي كي أقرأها. وكان علي أنا الذي لم أرتح يومًا في قراءة ما يفرض علي قراءته، ما يكون علي قراءته لخدمة أهداف الآخر. بعينيه أشار إلي بالقراءة. لم يكن صمت المكان في صالحي. كان علي أن أتحمل ثقل الهواء والصمت والفاجعة. أخذت الورقة وشرعت في قراءة بعيني ما كنت أكاد أحفظه عن ظهر قلب:

"صديقي العزيز،
ألا تعرف
أن في الجهة اليسرى من الرئة،

الجهة
حيث يوجد القلب،
لدي أنا مضخة تضخ الدم الى أطراف الجسد؟
ألا تعرف
أنني تخلصت من قلبي
أهديته للريح الجنوبية

ومزقته فاستحال علي استرداده".

أذكر أنني على سبيل البسط كتبت لها:

-       هل قلبك حط في مراكش أم أبعد؟

-       لا أدري. ربما في اغمات.

أحاول الآن أن أفك رموز ما كتبته إلي قبل أسبوع  معتمدًا على رسائلها. من المؤكد أن المحقق لا يعرف مقدار الفقد الذي أعانيه. أنا الآن مطالب بالإجابة على أسئلته المستفزة. هو لا يدرك أنني بدوري أحاول البحث في ما لم تقله الكلمات. أحاول أن أفهم. لو أن رسائلها كانت بخط اليد لكان الأمر عنصرًا مساعدًا على الفهم. إن حركات الخط، تجويفات الحروف، درجة نزولها وصعودها تحت الخط، وضوح الحروف، ابتعادها واقترابها من بعضها البعض قد تساعد على فهم شخصية الفرد.

كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل حين علمت بالخبر. فتحت بريدي الالكتروني كما العادة بعد العاشرة ليلاً. ثمة رسائل في العلبة. رسائل قديمة من نجمة ورسالة وحيدة، وهي الأحدث، من صديقتها. من المؤسف أن لا أكون الوحيد الذي اطلع على رسائلها. ثمة متلصصون موجودون دون إرادتنا، آخرون نصنعهم بجهلنا، بلامبالاتنا، بثقتنا الزائدة في قدرة طيبتنا على غلبة شرور الآخرين.

تقول رسالة الصديقة: "أنا حزينة يا صديق. لقد فارقت نجمة الحياة اليوم. حاول معها الأطباء لكن سدى. كان ارتطامها بالأرض قويًا. كل شيء فيها تكسَّر. فارقت الحياة تلك الجميلة، تلك الحبيبة، تلك النار المتوهجة كما تحب أن تسميها أنت. أرجوك. أنشر الخبر بين أصدقاءك".

لم أتمالك نفسي. ماذا عسى نشر خبر موتها بين الأصدقاء والصديقات أن يفعل لي؟ أية لغة قادرة على نقل الفاجعة، فاجعتي؟ أحسست بدوار غريب. ثمة خيط قد انقطع بداخلي، ثمة شرفة منها كنت أستمد قوتي واصراري على الكتابة انسدت. قبل أسبوع فقط كانت هنا. هنا على الخط. كانت تضحك، تضحك وعيناها مغمضتان. كنت قد طلبت منها أن تسجل الحوار الذي دار بيننا على الوورد. لا زلت أتلمس خطواتي الأولى في عالم الحاسوب والإنترنت. لذلك سجلت حوارنا وبعثته إلي عبر البريد الإلكتروني.

هل كنت أعلم مسبقًا برحيلها؟ هل كنت متيقنًا من أنها يومًا ما سترحل دون سابق إنذار؟ لا أعرف. كل ما أعرفه أنها كانت في غاية انشراحها. وقد بدا لي حينها كما لو أن مسام جلدها مفتوحة لاستقبال كل هبة هواء ممزوجة بنقراتي على لوحة مفاتيح حاسوبي. كل مجرب لمزاج أنثى سيعرف أن لحظات ما تكون المرأة فيها على أتم الاستعداد لاقتراف كل أنواع العشق، كل الأنواع بما ذلك المجنون منه. كانت نجمة اسمًا على مسمى. نجمة ظهرت فجأة في سمائي وغطت على باقي النجمات. كتبت لها:

-       سجلي الحوار. من يدري؟ قد نحتاج إلى كل كلمة كتبناها. أجدك مبدعة واعدة.

أعود الآن إلى الحوار مدفوعًا برغبة عارمة في معرفة ما لم تقله نجمة. ما لم تلتقطه لوحة الحروف. ما كتبته الراحلة ولم يصل إلى علبتي. ما فكرتْ فيه ولم تكتبه. ما كتبته ومحته. أتوقف كثيرًا عند عبارتها "هات جرحك واتبعني". كيف خطر لها أن تكتب لي بهذه الطريقة؟ أي إله أوحى إليها بهذه العبارة الموحية؟ هل كانت تدرك العمق الرهيب للجرح الذي أحدثه غيابها المفاجئ في قلبي؟

-       لماذا فعلت هذا يا صديقتي؟ لماذا فعلت هذا بنفسك؟ لماذا فعلت هذا بي؟ إن مجرد معرفة أني أمسك بيدك ونحن نهوي يجعلني أشعر بأني أفضل.

*** *** ***


 

horizontal rule

* قاص من المغرب. صدرت له مجموعة قصصية بعنوان فوق دارنا بومة.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود